قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والثلاثون

(ماذا تفعلين يا خالتي؟، لن ألبس هذا الشيء مطلقا)
هتفت بدور همسا بهلع و هي تنظر إلى تلك القطعة الصغيرة الشفافة بين كفي حماتها و هي تتفرج بأريحية و البائعة تريها كل التصميمات، و كلها أكثر جرأة من بعضها...
بينما كانت بدور تقف بينهما ناظرة الى كل منهما بذهول لا تصدق أنها سمحت لحماتها بأن تجرها الى محل ملابس العرائس الخاصة، الخاصة جدا...

أجابتها أم أمين مبتسمة دون أن تنظر اليها بل كانت أكثر تركيزا على ما تتفحصه بعناية
(بل ستفعلين لزوجك، هذا جميل جدا، أريد أن أرى منه الأزرق و الوردي القاتم من فضلك)
أغمضت بدور عينيها و هي تستدير عنهما غير قادرة على متابعة هذه المحاولات عديمة الفائدة...
الا أن أم أمين سألتها بإهتمام قائلة
(ما رأيك بهذا يا بدور؟، سيليق بك جدا).

لم تستطع بدور مقاومة النظر الى قميص نوم شفاف بين يدي حماتها حتى أنها رأت وجهها من خلاله، بلون وردي قاتم و شريط من الحرير الخاص، أما صدره فكان من الدانتيل الرقيق...
كان رقيقا و شديد الوقاحة في نفس الوقت مما جعل بدور تتنهد هامسة بيأس
(مستحيل، لن أرتدي شيء كهذا)
تجاهلتها أم أمين و نظرت الى البائعة قائلة بلطف
(نريد هذا أيضا مع الأحمر، و سنأخذ الخمس الآخرين، و البسة داخلية كذلك).

ذهبت البائعة لتجمع ما طلبته أم أمين بينما استدارت هي الى بدور و أمرتها بنبرة حازمة
(ابسطي وجهك يا زوجة ابني، لم أخرجك معي كي تلوين فمك هكذا)
ردت عليها بدور بنبرتها اليائسة
(يا خالتي أنت تكلفين نفسك دون أمل، أنا لن أرتدي هذه الأشياء و حتى و إن ارتديتها فهي لن تجدي نفعا أبدا، كل شيء نصيب و أنا و أمين س)
قاطعتها أم أمين محذرة بغضب
(لا أريد سماع المزيد، كفاكما عبثا، و انضجا).

ثم لانت ملامحها قليلا و هي تضم بدور اليها قليلا هامسة بحنان
(انتظري الى أن يراك في مشترياتك الجديدة، سيطير عقله و هذا ما أريده، أن تفقدي ابني عقله حبا فيك)
نظرت اليها بدور بتعاطف ثم سألتها بمرارة
(هل هذه الألبسة هي ما ستفقده عقله حبا في؟، بالله عليك يا خالتي، لو كان هذا حقيقيا فأمي سبق و اشترت لي)
قاطعتها حماتها قائلة بإستنكار.

(و هل ذوق أمك هذا ذوق؟، عشرات الأشياء التي لا معنى لها مغطاة بالريش لا تظهر منك شيئا، و ليته ثابتا، بل يتطاير و يتساقط أيضا، لقد انتابتني حساسية عطس و أنا أرتب لك ملابسك داخل الدولاب لكنني امتنعت عن ابداء رأيي، بصراحة الولد له الحق، يريد امرأة فاتنة، لا وسادة ريش محشوة)
ضحكت بدور و هي تغمض عينيها، فضحكت حماتها أيضا ثم قالت برقة.

(أنا سعيدة لإعترافك لي بما سمعت، و آسفة كذلك لأنه آلمك، لكن يا حبيبتي لا تصدقي كلمة واحدة مما يقول الرجل في بداية الزواج، سرعان ما سيهيم بك و سيكون كل ما قاله مجرد ذكرى مضحكة تستخدميها كنقطة ضعف ضده لمقايضته بعد أن تقرب بينكما الأيام)
ظلت بدور صامتة دون رد...
ليت كل مشاكل الحياة كانت سهلة الحل كما تتخيل حماتها، تنتهي بمجرد ارتداء قميص وردي...
(لا أفهم، كيف تتحداني و تخرج رغم ارادتي و دون اذن مني؟).

جلست نورا على الأريكة تنظر الى أخيها الذي كان يدور غاضبا و ملامحه تنذر بالشر بعد أن عاد مساءا ليفاجأ بأن والدته و بدور قد خرجتا دون علمه و لم يعودا حتى الآن...
تكلمت نورا قائلة و هي تمط شفتيها
(حين اتصلت بأمي قالت أنهما ستصلان الى البيت خلال دقائق، و أنهما أمضيا يوما سعيدا)
برقت عينا أمين بغضب مجنون وهو يقول ساخرا
(يوم سعيد، كم هذا رائع، هي تخرج و تتنزه و تقضي يوما سعيدا بينما أنا أكاد أموت قهرا).

تجرأت نورا على القول بتردد
(لماذا تشعر بالقهر؟، صحيح أنني لا أحب بدور و أشعر بها دخيلة في هذا البيت كسحابة ثقيلة قاتمة، لكن الا ترى أنك تبالغ قليلا في رد فعلك؟، لقد خرجت مع أمي و ليس وحدها، ما الضير في هذا؟)
نظر أمين اليها و قد ازدادت ملامحه قتامة و عجز عن الرد، فاكتفى بأن دار في أرجاء المكان شاعرا بالرغبة في القتل...

و ظل على هذا الحال الى أن سمعا صوت المفتاح في باب الشقة فتوقف مكانه و كل عصب في جسده ينتفض بضراوة...
دخلت أمه أولا ثم تبعتها بدور التي ما ان التقت عيناها بشعلتي الغضب في عيني أمين حتى تسمرت مكانها و هي تبتلع ريقها بصعوبة، أما والدته فقالت ببشاشة
(السلام عليكما، هل تناولتما الطعام الذي تركته لكما؟ أرجو أن تكون نورا قد سخنته دون ان يحترق، أما نحن فقد أكلنا في الخارج).

حين نقلت عينيها بين ولديها و ملامحهما الغاضبة، تابعت قائلة
(شكرا على السؤال)
ثم التفتت الى بدور و أمرتها بلطف
(ادخلي لتبدلي ملابسك و ترتاحي يا بدور)
تحركت بدور بخوف و حذر و هي تنظر الى أمين متوقعة أن يهجم عليها في أي لحظة، الا أنه ظل ينظر اليها بطرف عينيه القاتلتين حتى أسرعت الخطى و هي تعرج حتى وصلت الى غرفتهما حاملة الأكياس متمنية أن تخفيها قبل أن يدخل للغرفة...

وضعت الأكياس على السرير و هي تخلع الحجاب عن شعرها الذي انساب تلقائيا بسبب تصفيفه الحار لدى صالون التزيين و قصه لتدريجات صعبة الجمع و الثبات...
ثم تراجعت لتفتح الدولاب كي تدسهم داخله، الا أنها توقفت و هي تسمع صوت أمين يهدر قائلا
(أنا حر يا أمي، هي زوجتي و أنا أمرتها الا تخرج من باب البيت، وحيدة أو معك أو مع أي مخلوق)
شحب وجه بدور و هي ترهف السمع، بينما قلبها يدق في صدرها كأرنب مذعور...

فوصلها صوت أمه و هي تهتف بصرامة
(اخفض صوتك يا ولد و لا تنسى أنك تكلم والدتك)
رفعت بدور يدها الى وجنتها و هي تتخيل شكل أمين حاليا و أمه تعنفه كولد صغير، و هي السبب...
حينها تدخلت نورا و هي تهتف بعصبية
(يا أمي هذه الفتاة تدخل بيننا و تقلبنا تجاه بعضنا، لا تسمحي لها بهذا)
قاطعتها أمها بصرامة أكبر قائلة
(حين تتكلمين عن زوجة أخيك تحدثي باحترام يا بنت)
ردت عليها نورا بغضب.

(إن كان زوجها نفسه لا يحترمها، هل تريدين مني أنا أن أحترمها؟)
شعرت بدور بطعنة من قسوة كلمات نورا، الا أن أمها قالت بحدة
(هل سمعت؟، لا يمكنني لومها، فحين يحترم الرجل زوجته فإنه يجبر الجميع على احترامها، و العكس صحيح)
هتف أمين بحنق بدا واضحا أنه يغلي حتى من خلف الأبواب
(أنا لا أريد سماع المزيد، فقط لا تتحديني يا أمي فيما يخصها، رجاءا).

ساد الصمت بضعة لحظات و بدور واقفة مكانها منتظرة ما سينتهي به الحوار، الا أن باب الغرفة فتح فجأة و اقتحم أمين المكان قبل أن يصفقه بقوة و يحكم غلقه بالمفتاح...
ثم تقدم خطوتين وهو يقيمها بعينيه، كانت واقفة بجوار السرير تتنفس بسرعة و توتر...
ترتدي عبائتها السوداء، الا أن شعرها الطويل منسدل على ظهرها و كتفيها في تدرجاته الجديدة...
و على السرير العديد من الأكياس...

ارتفع حاجبي أمين وهو يسألها بنبرة ساخرة ذاهلة و غير مطمئنة...
(هل ذهبت الى صالون تزيين؟، لا أصدق)
ابتلعت بدور ريقها و هي تتراجع خطوة مشبكة أصابعها هامسة بترجي
(خالتي هي من أصرت، صدقني أرجوك، لم أملك الإستمرار في الرفض)
رفع امين اصبعه الى شفتيه وهو يهمس بتهديد.

(هشششش أخفضي صوتك، لا نريد ازعاج أمي بالمزيد من مشاحناتنا، كفاها ما تراه من ابنها الضال القاسي الذي يسيء معاملة زوجته دون سبب، ابنها الحقير الذي لم تربيه كما يجب)
هزت بدور رأسها نفيا و هي تهمس و كأنها تنتحب
(لم أنطق بكلمة مما تقول، بل كنت أحاول أن أفهمها أن سبب ما يحدث بيننا مني أنا)
ابتسم أمين ابتسامة عنيفة، ثم قال ببطىء متعمد.

(الجزء الأروع من الخطة الأكثر مهارة، تتعمدين انساب الخطأ الى نفسك كي تزيدي من تعاطف أمي معك، و أظل أنا الدنيء بينكما)
أغمضت بدور عينيها و هي تعلم أن أي كلام منها حاليا لن يفيد، الا أنها انتفضت بعنف و هي تسمعه يقول بحرارة
(و ماذا اشتريت اذن؟، ما هي مكافئتك على تحمل زوجك النذل؟، ها)
لكن قبل أن يسمع ردها اتجه الى السرير و بدأ في فتح الأكياس، مما جعلها تهجم عليه و هي تهتف
(لااااااا).

الا أن قيد معصميها بقوة ليهمس أمام وجهها بينما هي تحاول مقاومته كي لا يفتح أكياس مشترياتها، ستموت لو رآها...
(اخرسي يا بدور، اخرسي)
ثم دفعها عنه حتى اصطدم ظهرها بالدولاب من خلفها بينما بدأ هو في فتح الأكياس ليخرج ما بها واحدا تلو الآخر مذهولا...
كان يفرد كل قطعة مخزية أمام وجهه الذاهل بجنون، ثم قبض على اثنين منهما في كلا من قبضتيه وهو يستدير اليها وهو يهمس بجنون
(هل هذا فعلا ما أراه؟، حقا؟).

بكت بدور محملرة الوجه بشدة و هي تهمس كي لا يصل صوتها للخارج
(أقسم لك أنني حاولت و رفضت، لكن خالتي أصرت، كنت أريد مجاراتها فحسب لكنني كنت سألقي بهم للتو في أرض الدولاب و أخفيهم للأبد، أقسم لك، أقسم لك)
ضحك أمين فجأة بصوت عالي مجنون و استمر ضحكه طويلا و هي تبكي أمامه هامسة بخزي
(أرجوك اخفض صوتك)
و حين انتهى من ضحكاته أخيرا نظر اليها لاهثا متنهدا، ثم قال بنبرة تفيض بالغل و الكره...

(تظن أمي المسكينة أن بضعة من القطع العارية ستجعلني أفقد عقلي، بينما تساعدك للتغلب على خجلك!)
صمت للحظات ثم مال اليها وهو يهمس بنبرة خفيضة مخيفة و أصابعه تزيد من انقباضها على القطعة الشفافة الصغيرة بجنون
(لا تعلم أنك سبق و عريت نفسك بالكامل لرجل آخر)
اطبقت بدور كفيها على اذنيها بقوة و هي تغمض عينيها الباكيتين بشدة، لكن كفاها لم يمنعا صوته من الوصول الى أذنيها بوضوح.

(حسنا، لماذا لا نحقق لوالدتي ما تريد)
فتحت بدور عينيها على أقصى اتساعهما و هي تحاول استيعاب ما همس به، بينما رفع القطع أمام وجهها و بدأ يمزقها واحدا تلو الآخر قائلا بنفور
(لكن لا حاجة لنا بمثل هذه الأشياء السخيفة، يكفيني أن أخلع عنك ملابسك فهذا هو كل ما تحتاجينه كي تسلمين نفسك).

ثم اقترب منها و هي لا تزال متسمرة مكانها تنظر اليه بغباء غير قادرة حتى على الهرب، ثم حاول فتح عباتها بالقوة الا أنها شهقت و هي تتمسك بها بكل قوتها هاتفة
(لاااااااااا)
لكنه أمرها هامسا
(اخرسي، لا نريد أن يصل صوتك الى والدتي فهي تظننا الآن نحاول تجربة ما اشتريته)
بكت بدور بعنف و هي تحاول مقاومته دون جدوى ثم همست بتوسل
(أنا لم افعل شيئا صدقني، خالتي هي من أصرت، أرجوك اتركني).

ضحك أمين بصوت خافت ثم سألها بصوت مزدري
(ليس المهم من الذي أصر، فالنتيجة واحدة، اليس هذا هو ما تريدين؟، الا تريدين أن تكوني أم أولادي؟، الا تعرفين كيف يأتي الأولاد؟).

تلوت بقوة لكن ساقها لا تساعدها على الهرب فبدأت تسقط للأسفل لكنه لف خصرها بذراعه مما جعله يحمل وزنها المتساقط بسهولة بينما كشف الجزء العلوي من جسدها مما جعلها تختبىء منه به، فدفعت نفسها الى بين أحضانه و هي تحمي نفسها من عينيه المتفرستين بها، و تعالى صوت بكائها المختنق...
ظل أمين واقفا مكانه يتنفس بغضب و هي مندسة به تطلب منه أن يحميها من غضبه...
فأعاد على مسامعها بصوت مهتز من شدة انفعاله.

(اليس هذا هو ما تريدين؟)
هزت رأسها نفيا بسرعة و هي تقول بإختناق من بين بكائها القوي
(لا، ليس هذا ما أريد، لم يكن ما أريده أبدا، حتى أنني لم أفعله سابقا لأنني أريد، لم أفعله لأنني لم أستطع السيطرة على شهواتي، أنا أريد أن أكون أم أولادك لكنك لن تسمح بهذا، أنت تريد أن تهينني ثم تطلقني، و أنا لا أريدك أن تفعل هذا و أنت تكرهني، أرجوك).

ساد صمت طويل بينهما لا يقطعه سوى صوت نحيبها المختنق في صدره، حاول ابعادها عنه بعد فترة طويلة، الا أنها زادت من تشبثها به رافضة أن تبتعد، فقال بصوت أجش متعب
(اتركيني، هيا حالا)
ترددت بدور للحظة ثم أبعدت كفيها المتشنجتين باصابعها المتيبسة بصعوبة و هي تجمع طرفي العباءة لتحيط بهما جسدها و هي تبكي بخفوت مطرقة برأسها...
أما هو فقد استدار عنها مبتعدا، و ظل صامتا طويلا قبل أن يقول أخيرا ببطىء.

(ابتعدي عن أمي، لا تمنحيها أملا كاذبا، لمرة واحدة تصرفي بضمير)
و دون انتظار رد منها، خرج من الغرفة و ما هي الا لحظات حتى سمع صوت باب الشقة يصفق بعنف...
حينها فقط سمحت لنفسها بأن تهبط ببطىء الى الأرض حتى جلست عليها تبكي بقوة و هي تدفن وجهها بين ركبتيها و هي ترتجف بشدة...
سمعت طرقا على الباب و صوت أم أمين ينادي بقلق
(بدور، هل أنت بخير حبيبتي؟، بدور).

رفعت بدور وجهها و مسحت دموعها ثم نادت بصوت حاولت جعله متزنا قد الإمكان
(أنا بخير يا خالتي، أنا فقط أريد البقاء بمفردي قليلا، أرجوك يا خالتي)
مرت بضع لحظات من الصمت، ثم قالت حماتها بحزن
(كما تريدين حبيبتي، كما تريدين، ارتاحي)
لكن بدور لم ترتاح بل أرجعت رأسها للخلف و هي تنظر الى السقف بعينيها المتجمدتين...
لقد انتهى كل شيء و عليها الإعتراف بذلك...

بينما هو في عمله مرهق الذهن مجهد الملامح، وصله اتصالا من أمه و التي كانت تهتف قلقا
(أمين، بدور ليست في البيت، طلبت مني أن تنام قليلا فتركتها لكن طال الوقت و شعرت بالقلق عليها، دخلت الى غرفتها فلم أجدها)
نهض أمين من مكانه وهو يقول بصوت متشنج محتد
(خرجت وحدها دون اخبار أحد؟، والله لن يمر هذا على خير مطلقا، منذ متى خرجت؟)
ردت أمه بصوت متعثر.

(لا أعلم، فأنا لم أعرف بخروجها الا حين دخلت للغرفة، لقد مر بي الوقت و قمت بتشغيل عدة أجهزة من المؤكد لم أسمعها و هي تخرج)
كان أمين يقبض كفه بشدة، و كل ذرة منه توشك على أن تتدمر ذاتيا من شدة الضغط الذي يعانيه مؤخرا...
و ما أن أغلق اتصال والدته حتى بدأ يطلب رقم بدور وهو يهمس من بين أسنانه بعنف كلمات غير مفهومة...
مر وقت ظن به أنها لن ترد عليه، لكنها فعلت، ردت في النهاية قائلة بصوت خافت
(مرحبا أمين).

أخذ نفسا عميقا ثم قال ببطىء من بين أسنانه
(أريدك أن تكوني في البيت خلال عشر دقائق، و حسابك سيكون عسيرا)
ساد الصمت للحظات ثم قالت بخفوت
(للأسف هذا ليس ممكنا)
اتسعت عينا أمين وهو يتمنى لو كانت أمامه حاليا كي يزهق روحها، الا أنه سألها آمرا بتوجس
(أين أنت؟)
ردت بدور بهدوء ميت خالي من المشاعر
(أنا في القطار، في طريقي لبيت أبي)
تسمر أمين مكانه وهو يقول ببطىء غير مستوعبا
(ماذا؟، أي قطار؟).

ردت بدور بصوت مرتجف قليلا
(أنا عائدة الى البلدة، و سأخبر أبي أنني أريد الطلاق منك، و أنت سيكون معك العذر في تطليقي، كي لا تبقيني رغما عني)
صرخ أمين فيها غاضبا بجنون
(أيتها الغبية، انزلي في أول محطة، أين أنت تحديدا؟)
لكن بدور ردت عليه و كأنها لم تسمعه
(لكنني لن أستطيع اخباره السبب الحقيقي، في كل الأحوال سيكون رد فعله واحدا، لكنني أجبن من أخبره بالحقيقة، سيظل التشفي الذي اخبرتك عنه مجرد خيال).

أغمض أمين عينيه وهو ينادي بنفاذ صبر
(بدور، اسمعيني، اياك و فعل هذا، حسنا اذهبي و ادعي انك ذاهبة في مجرد زيارة عادية والله اعلم كيف سنفسر سفرك بمفردك بعد ايام من زواجك، لكن لا تنطقي بشيء من هذا الهراء، هل فقدت عقلك؟، هل تريدين اخبار والدك أنك تريدين الطلاق بعد أقل من شهر من الزواج!)
ردت عليه بدور بصوت اكثر خفوتا.

(هذا يمنحك العذر لتطلقني، و هذا أقل شيء أستطيع تقديمه لك، لن أسمح بأن تكون الوغد في القصة جددا، الى القاء يا أمين، أتمنى لك السعادة من كل قلبي و أن تنسى تلك التجربة المريرة، لكن لا تكرهني أرجوك)
هتف أمين محتدا...
(بدور، بدور، اياك و اغلاق الخط)
لكن صوته راح في فراغ كئيب و هي تغلق الخط بكل بساطة...
نظر أمين الى الهاتف مصدوما، ثم هتف بقسوة
(تبا، تبا، تبا لغبائك، ماذا أفعل الآن؟، ماذا أفعل؟).

و دون أن يضيع المزيد من الوقت بدأ رحلة البحث عن أي تذكرة متوفرة للسفر على الفور، لكن للأسف لم يجد طائرة خلال اليوم بأكمله...
و أول تذكرة قطار بعد ساعات من الآن، قضاها وهو يكاد أن يفقد عقله بسببها...
ثم ساعات و ساعات في القطار وهو يحاول تخيل ما قد تتعرض له، لا يمكنه استنتاج ما يحدث الآن مهما حاول، فكل الإحتمالات متاحة...

لكن الصدمة جائت على حين غفلة، فقد سمع صوت رنين هاتفه وهو يجلس في القطار يهز ساقه بعصبية و يعض على أصابعه، فأخرج الهاتف بسرعة علها تكون هي المتصلة تخبره أنها خافت من مواجهة والدها...
لكنها لم تكن المتصلة، بل أمها...
كانت أم بدور تهتف عبر الهاتف باكية بعنف، حتى استطاع تفسير ما تقول بصعوبة بالغة...

(أمين، أدركنا يا ولدي، بدور ستموت بين يدي والدها، الباب مغلق عليهما منذ ساعتين و صراخها لا يتوقف، ابنتي ستموت على يد والدها)
اتسعت عينا أمين وهو يشعر بأنفاسه تتوقف، حتى أنه نهض من كرسيه ببطىء وهو ينظر حوله و كأنه يحاول ايجاد وسيلة تجعل القطار يزيد من سرعته، ثم لم يلبث أن صرخ بقوة
(ما بالك تقفين ساكنة؟، اكسري الباب، استدعي الغفر أو اتصلي بالحاج سليمان)
شهقت أم بدور باكية و هي تقول بعويل.

(لكن الفضيحة، حين يعرف الجميع بخروجها من بيت زوجها بعد اسبوعين فقط، و عودتها و طلبها الطلاق، فضيحة كبيرة يا أمين)
شعر أمين و كأنه على وشك الإصابة بالجنون فعليا، فصرخ فيها بعنف
(أفيقي يا امرأة، هذه ابنتك و قد تموت، لا تقفي عاجزة هكذا و الا طلبت الشرطة).

(بيتك يا مهلكة، الدية التي دفعها جدي عن أمي)
وقفت تيماء مكانها تنظر الى البيت الشامخ أمامها بشفتين فاغرتين ترتجفان بشدة، تحاول استيعاب ما يحدث...
بينما كان قاصي ينظر اليها مبتسما بحنان و عشق محتجز خلف عينيه البراقتين...
التفتت تيماء بسرعة ما أن استردت وعيها و همست بصوت مرتعش
(هل تحاول القول أن هذا البيت، هو بيتنا؟)
أومأ قاصي برأسه ببطىء ناظرا الى عينيها ثم قال بصوت أجش.

(هذا البيت دفعت أمي ثمنه بدمها، فهل يخيفك هذا؟)
عضت تيماء شفتيها معا و هي تحاول تحمل ألم الغصة التي مزقت حلقها فاستدارت اليه بالكامل و رفعت يدها تلامس بها ذقنه و همست بإختناق
(أنا بخير، أنت المهم، كيف تشعر؟)
كانت ملامحه هادئة جامدة، كقناع غير مقروء، لكن عيناه لا، عيناه متقدتان و حلقه تحرك بصعوبة تحت يدها وهو يحاول ابتلاع الغصة مثلها تماما، ثم قال أخيرا بصوت متحشرج.

(سأكون بخير فقط حين تدخلين و تنظرين الى كل جزء فيه بنفسك)
أعادت تيماء عينيها الى البيت مشدوهة و همست و كأنها تحدث نفسها
(أتعني أنه لنا؟، أي هل قمت بدفع ثمنه بالفعل؟ و العقد؟، هل وقعت عقدا؟)
أمسك قاصي بكفها و كان يرتجف بين راحته الخشنة القوية، مما جعله يغلق أصابعه على كفها برفق، ثم قال بصوت أجش قوي
(اهدئي يا مهلكة، البيت لنا و انتهى الأمر، هل تودين الدخول أم ستقفين هنا المتبقي من اليوم؟).

نظرت اليه بلهفة و هتفت بحرارة
(هل تمتلك مفتاحا؟)
ضحك قاصي بصوت خشن وهو يسألها ساخرا
(اطمئني يا مهلكة، لن أسمح بأن تتسخ ملابسك الثمينة بالجير الأبيض و الغبار فيما أنت تتسلقين السور و تقتحمين البيت دخولا عبر النافذة.؟)
ثم مد أصابعه ليخرج من جيب بنطاله المهترىء سلسلة مفاتيحه، لينتقي أحدها و فتح باب البوابة الموجودة في السور، ثم مد يد لها داعيا وهو يقول بمشاغبة
(تفضلي).

خطت تيماء بقدمها اليمين و هي تشعر بصدرها ينبض بشعور غريب غير قادرة على وصفه...
كانت حديقة البيت عبارة عن غابة من الأشواك المتناثرة، و الأعشاب الطويلة المهملة...
فتحركت في الممر الوحيد بينها و قاصي خلفها، تجيل رأسها في كل مكان، ثم همست بجذل
(حديقة كبيرة!)
أجابها قاصي خلفها بصوت متكاسل لكن يحمل بريقا ذو رنة مختلفة
(تحتاج عملا طويلا).

لم ترد عليه تيماء، بل تابعت طريقها و هي تميل برأسها ناظرة الى كل زاوية، ثم هتفت بصوت مختنق يشع حرارة
(تلك الزاوية سأضع بها أرجوحة كبيرة للأطفال)
لم يرد قاصي وهو يشعر بالغصة في حلقه تتجدد، فاستدارت تيماء و سألته برجاء و عدم تصديق هاتفة
(هل هذا بيتنا حقا يا قاصي أم أنه أحد مقالبك؟، أرجوك أصدقني القول الآن أو اصمت الى الأبد).

ظل قاصي صامتا طويلا وهو ينظر الى عينيها المتوسلتين مبتسما بنظرة عميقة مما جعلها تفقد ابتسامتها و هي تصرخ بهلع
(ليس بيتنا؟)
رفع قاصي كفيه ليحيط بهما وجهها يرفعه اليه ثم مال اليها حتى لامست شفتاه شفتيها فهمس فوقهما ببطىء مشددا على كل حرف
(هذا، بيتنا، و سيظل لنهاية عمرنا، و الثمن مدفوع)
أغمضت تيماء عينيها و هي تتجاوب مع قبلته التي تشكلت مع كلماته ثم همست بصوت مرتجف.

(اقتنعت، يمكنك تركي الآن كي لا يتخذ الجيران عنا فكرة سيئة)
لم يتركها قاصي على الفور، بل قبلها مجددا وهو يهمس بصوت أجش
(سيحدث هذا عاجلا أو آجلا، لا نملك منع أنفسنا)
ابعدت تيماء وجهها عنه بالقوة و هي تقول حازمة على الرغم من الرعشة في صوتها
(بل سنفعل، أنا أريد احترام هذا البيت المبجل بكل ما أستطيع، هيا اتبعني فأنا لا أطيق الإنتظار لحظة واحدة اضافية)
مد قاصي كفه لها و قال بلباقة لا تليق بمظهره الرث.

(بعدك يا مهلكة)
تحركت أمامه قافزة كالفراشة من حجر لآخر من أحجار الممر المرصوف الى أن صعدت أربع درجات و هي تقف أمام باب حديدي مزخرف و مغطى بالزجاج من خلفه، فغطت وجهها بكفيها منتظرة الى أن أتى قاصي من خلفها و همس في أذنها بصوت أجش خفيض
(ابتعدي قليلا).

تحركت لليمين فمد يده يفتح الباب بمفتاح آخر ثم دفعه بقوة، أصدر الباب صريرا عاليا و بدا ثقيلا الا أنها لم تلحظ كل هذا، بل كان كل اهتمامها منصبا على النظر للداخل...
أشعة الشمس كانت تغرق المكان عبر فتحات النوافذ الزجاجية التي تغرق البهو كخطوط حادة مستقيمة، لكنها لم تتبين شيئا من الغبار الذي يتطاير عبر تلك الخطوط فيجعلها وهمية و براقة أكثر، و منعها من رؤية واضحة للداخل.

تقدمت تيماء تنوي الدخول الا أنها شهقت فجأة و هي تشعر بنفسها تطير في الهواء عاليا حتى حطت بين ذراعي قاصي و هي تحيط عنقه بذراعيها فتقابل وجهيهما، فابتسم لها قائلا
(وعدت نفسي الا تدخلي هذا البيت الا محمولة بين ذراعي)
ابتسمت تيماء و قلبها يخفق بعنف و انفعال شديدين، الا أنها همست مبتسمة
(و أنا لا يرضيني الا تفي بوعدك لنفسك، لذا تفضل).

تحرك بها قاصي ليدخل من باب البيت، الا أنه ضرب رأسها غي الإطار المعدني دون أن ينتبه، فأمسكت تيماء برأسها و هي تتأوه عاليا مما جعل قاصي يقول مجفلا
(ياللهي! هل أنت بخير؟، لقد ارتج الباب من شدة الضربة)
رمشت تيماء بعينيها اللتين دمعتا من الألم و هي تقول
(لا بأس، شعرت أن رأسي تفتت لكن لا بأس، حاول فقط أن تتأكد من ادخال رأسي أولا).

دخل قاصي بجانبه حتى يطمئن الى دخول رأسها ثم خطى الى داخل البيت بينما تيماء تنظر حولها مبهورة...
ثم وقف كي يمنحها الفرصة لتنظر الى المكان بدقة، و همس يسألها بترقب
(ما رأيك؟)
ظلت تيماء تنظر حولها بنوع من الرهبة أو السحر، ثم قالت بصوت مختنق...
(هلا أنزلتني من فضلك)
أنزلها قاصي ببطىء حتى حطت قدماها أرضا فاستقامت و هي تبتعد عنه لتدور حول نفسها في المكان...
كان خاويا، لكن بطراز كلاسيكي قديم...

الأرض من الرخام، بعض مربعاته مقتلعة، لكن معظمه متواجد و ظاهر جماله على الرغم من الغبار الذي يغطيه، و هناك عمود في المنتصف من الأرض و حتى السقف المرتفع، ملتف و مزخرف بنحت بسيط و قديم للغاية...
السلم من بعيد رخامي و له حاجز من المعدن المشغول كذلك...
و جدران البهو جميعا من الزجاج المموه و المزين بالمعدن المشغول...
كانت تشعر بنفسها و كأنها قد عادت الى فيلم قديم، في زمن آخر...

توقفت مكانها و رفعت يديها الى فمها، ثم همست مذهولة
(بيانو!).

ابتسم قاصي و همس من خلفها بصوت أجش
(أراد صاحب البيت بيعه بثمن عال و كاد أن ينقله قبل أن يبيع البيت لي، لكنني أصريت على شرائه كذلك، فكرت أنه قد يعجبك)
اتجهت تيماء الى البيانو ببطىء ثم ضغطت على أحد مفاتيحه فأصدر صوتا غير متزنا، مما جعل قاصي يقول مبررا
(فقط يحتاج الى صيانة و تعديل أوتار، لكنه بحالة رائعة، كما أنه يعتبر أثري لقدمه).

لم ترد تيماء، بل عضت على شفتيها و هي تترك البيانو ثم استدارت الى قاصي و همست بصوت مختنق
(الا يمكنك العزف عليه؟، لا أتذكر أنك عزفت على بيانو من قبل)
قال قاصي ببطىء خافت
(بلى يمكنني، ابتعدنا لسنوات طويلة عزفت خلالها القليل)
نظرت تيماء الى عينيه و همست تطلب منه برجاء
(هل يمكنك أن تعزف لي؟).

ذابت عينا قاصي وهو ينظر الى وجهها المستدير ثم اتجه الى البيانو و بدأ في العزف ببطىء، فأغمضت تيماء عينيها و هي تدور تاركة لساقيها التراقص بحرية...
رمت من قدميها الحذاء، ثم الآخر، و تابعت رقصها و هي تخلع وشاح رأسها و تلقي به بعيدا...
و رقصت، رقصت، دارت حول العمود و كأنها راقصة باليه فوق المسرح...

سمعت فجأة صوت الباب يغلق بإحكام، ففتحت عينيها لتجد أن قاصي قد توقف عن العزف و اتجه الى الباب ليغلقه فأصبحا في عزلة تامة عن العالم بأكمله...
ثم استدار اليها و عيناه على عينيها، يقترب منها ببطىء، فتوقفت تترنح قبل أن تهمس بلهفة
(في عينيك نوايا مخيفة)
لم يرد قاصي على الفور، ثم قال بصوت متحشرج
(و في قلبي عواصف رعدية تهدد بإقتلاعك).

افتر ثغرها عن ابتسامة مسحورة و هي تنظر اليه الى أن وصل اليها فأحاط خصرها بكفه، و أمسك بيدها الأخرى، ثم تقدم بها مما جعلها تتراجع للخلف تلقائيا في خطى واسعة تحفظها جيدا...
و تابعا رقصهما دون عزف أو لحن، يحركهما لحن واحد ينبعث من أذنه الى أذنيها...
دار بها حول العمود عيناه بعينيها، ثم ابعدها عنه لتدور حول نفسها و تعود اليه، تنورتها الواسعة دارت و ارتفعت مظهرة ساقيها الجميلتين...

ملابسها شديدة الأناقة رغم بساطتها، تتناقض بشدة مع بنطاله المهترىء و بقايا القميص القديم الذي يرتديه...
لكنهما مثلا معا أجمل لوحة متناسقة، لم يكن هناك في هذا العالم أكثر منه ليليق بها...
فغرت تيماء شفتيها مبتسمة بروعة و سلساله حول عنقها يدور بسرعة مع رقصها ذو الخطوات الواسعة...
و ما أن دارت مرة أخيرة حتى ارتطمت بصدره فتلقاها بين ذراعيه و استبقاها هناك...

بللت تيماء شفتيها و هي تنظر الى تلك النظرات في عينيه و همست بإختناق
(الطابق العلوي)
ابتسم قاصي و أجابها بخفوت
(ليس به أي أسرة، لذا يمكننا البقاء هنا)
رفعت تيماء حاجبيها و همست محذرة بإرتباك، على الرغم من زواجهما الذي طال، لا تزال ترتبك من تلك النبرة التي يخصها بها قبل أن يصهرها معه روحا قبل الجسد...
(قاصي، لا يمكنك فعل هذا، تعقل)
أجابها قائلا بنفس النبرة دون أن يبعد عينيه عن عينيها.

(لم يكن عليك الرقص أمامي اذن، فكلما رقصت أمامي يمر شريط حياتنا سويا أمام عيني، يدور مع دورانك، فأرى كم مرة أوشكت فيها على فقدانك من رقصة لأخرى، هذا يجعلني راغبا في دمغك على صدري وشما لا يزول مطلقا)
أغمضت تيماء عينيها و همست متوسلة تئن بغير حزم
(قاصي، لا تفعل)
الا أن رجائها ذهب أدراج الرياح و هي تطير مجددا بين ذراعيه وهو يغلق كل توسلاتها بقبلة عنيفة جعلتها تغمض عينيها و تضمه الى صدرها وهو يدور بها...

حتى انخفض بها أخيرا و هي تشعر بالدوار فلم تفتح عينيها، لكنها أحست ببرودة الرخام من تحتها وهو يميل بها و شفتاه تسافران الى عنقها هامسا بصوته الأجش المنفعل
(لو كان هناك أكثر من جسدك و قلبك و روحك، لطالبت به، لكن للأسف لا أكتفي منك أبدا)
تأوهت تيماء برقة و يداه يتعزفان لحنا من نوع آخر، نوعا جنونه في مدى رقته...
بعد فترة طويلة استلقى كلا منهما على الأرض ذات الغبار الكثيف و الذي غطى جسديهما بالكامل...

غير قادرين على الكلام أو الإشاحة بأعينهما عن السقف ذو اللوحة القديمة المرسومة عليه...
ثم همس قاصي بصوت أجش أخيرا
(حين خرجت للعمل اليوم، لم اتخيل أن ينتهي النهار بهذه الطريقة، ربما لا أحتاج للعمل المضني و أنت موجودة معي، يكفيني أن ألقي بنفسي في دوامة محمومة لا تنتهي)
ابتسمت تيماء بألم و عشق، ثم التفتت تنظر اليه طويلا، ثم مدت أصابعها ترسم بها على كتفه و ذراعه ببطىء قبل أن تهمس بخفوت.

(و حين خرجت خلفك اليوم كنت أعرف أن شجارا عنيفا سيدور بيننا، لكنني لم أتخيل أن تسقطني أرضا بين أحضانك)
أفلتت منه ضحكة خشنة كزمجرة متسلية، فهمست تيماء تسأله بضعف و ذهول
(قاصي، هل هذا بيتنا حقا؟)
استدار اليها فجأة حتى استند بمرفقه الى الأرض وهو يعلوها لينظر الى وجهها المغبر و الذي لم يخفي احمراره، ثم لمعت عيناه وهو يسألها بنبرة مشتعلة
(هل لديك المزيد من الطاقة كي أثبت لك مجددا؟).

رفعت تيماء كفيها و غطت بهما وجهها و هي تضحك بإنفعال شاعرة بنفسها تتمنى أن تنزل تحت الأرض من شدة خجلها، ثم هتفت بجنون
(أنت مجنون، لا أصدق أنني أفعل هذا معك)
ضحك قاصي هو الآخر، لكن الإنفعال في عينيه كان أبعد ما يكون عن المرح ثم قال لها بصوت يرتجف
(مع من اذن إن لم يكن معي؟، معي ستفعلين كل شيء، اعتادي على هذا، أريدك أن تحيين كل ما لم تتخيليه أبدا).

أبعدت كفيها عن وجهها ببطىء و هي تنظر الى وجهه الذي يعلو وجهها بإنشات قليلة...
ثم رفعت كفها تلامس به وجهه و همست بصوت بطيء
(و أنا أريدك أن تحيا حياة طبيعية فقط، هذه هي أقصى أحلامي، أن تهدأ نفسك و يتراخى جسدك و يزول عنفك)
أظلمت عينا قاصي بشدة وهو يشيح بوجهه عنها، الا أنها استقامت نصف جالسة لتحيط عنقه بذراعيها تمنعه من الإبتعاد قائلة بحرارة.

(لا تبتعد عني مطلقا بعد الآن، لن أسمح لك، سنحل هذا سويا و ستشفى روحك من جروحها)
ابتسم قاصي بقسوة و دون أن يدري حفرت أصابعه في ذراعها دون أن يبعدها عن عنقه، ثم قال بنبرة ساخرة
(أي حل و أي شفاء؟، لم يعد في العمر أكثر مما راح، دعينا نحيا كل الجنون الذي نتمناه سويا و انسي نوازعك الأمومية يا مهلكة)
أمسكت تيماء بوجهه بين كفيها و نظرت الى عينيه قائلة بجدية و ثقة.

(ولو كان عمرك تسعون عاما، لن أيأس، أريد لوالد أطفالي أن يربيهم بنفسه، لا أن يخشى أشباح روحه، أريدك أن تعلمهم الصبر و الثقة و الإيمان، أريدك أن تطمئنهم أن هذا العالم لا زال بخير، ليس شديد القتامة، أريدك أن تعلمهم معنى العائلة، أريدك أن تتعلم كيف تكون أبا فيهم، هل فهمتني؟)
لم يرد عليها، لكنها اكتفت بأن كل جوارحه معها، فشددت على وجهه و هي تهمس.

(لأجل هذا البيت سنحاول سويا، كي نعمره معا كما ينبغي. لا مزيد من تعذيب نفسك بكافة الأشكال)
أبعدها قاصي عنه برفق وهو يعود الى الإستلقاء أرضا و يداه أسفل رأسه، فقالت تيماء بقوة
(ستعمل عمل جاد يا قاصي أو والله سوف)
صمتت للحظة فأدار عينيه الى عينيها و سألها ساخرا
(أو ماذا، تهجرينني؟)
زمت شفتيها، ثم قالت بجفاء صارم.

(لا تكن متفائلا الى هذا الحد، لكنني لن أنتقل الى هذا البيت الا و أنت تقدم لي عملا معه، عملا يليق بوالد أطفالي، سأنجب طفلا بعد طفل و نظل في شقتنا القديمة الى أن تعمل بشيء مستقر، اريدك مستقرا لا مجنونا، مستقرا نفسيا و جسديا و اجتماعيا، هل ما أطلبه صعب؟)
ضحك قاصي و قال بجفاء
(لا يمكنك التخيل، لو طلبت النجوم لكانت أسهل)
مدت يدها و أحاطت بها جانب وجهه لتعيده اليها ثم همست قائلة
(لا أريد النجوم، أريد مهري).

رفع قاصي كفه ليحيط بها عنقها وهو يجذبها اليه، الا أن صوت طرقا مدويا على الباب الزجاجي الخارجي جعلهما يفترقان بسرعة قبل أن تشهق تيماء هاتفة بهمس
(ياللهي! من يمكن أن يكون هذا؟)
نظر قاصي الى ظل رجل بدين من خلف الباب الزجاجي المموه، و قال عابسا بحدة
(على الأرجح أحد غفر المنطقة)
ضربت تيماء على وجنتها و هي تهمس بذعر
(هل رآنا؟، هل فعل؟)
نهض قاصي مسرعا ليلتقط ملابسه و يرتديها بكل سرعة قائلا.

(اهدئي يا مهلكة، الزجاج مموه بالكامل، لا يمكن لأحد أن يرانا)
الا أن تيماء هتفت برعب
(البيت قديم و مهجور، ماذا لو كان هناك كسرا في الزجاج بأي مكان منه؟، ياللفضيحة، كنت بإحترامي حتى تبعتك الى هنا، لا أصدق أن تفعل بي هذا)
وقف قاصي ينظر اليها ثم قال بخشونة
(أكره أن أحرمك من فقرة عويلك اليومي على كل شيء و اللاشيء، لكن أليس من الأفضل أن ترتدي ملابسك أولا؟).

شهقت تيماء و هي تنهض مسرعة تجمع ملابسها، ثم هتفت بهلع
(أحتاج الى عشر حمامات، سيكون من الواضح جدا ما كنا نفعله، كلانا مغطى بالغبار و الجير الأبيض)
زفر قاصي وهو يقول بحدة
(تيماء، انتهي مما تفعلين بسرعة، الرجل سيقتلع الباب)
كانت تيماء قد انتهت بالفعل، مشعثة و فوضوية المظهر تماما، ثم أخذت نفسا عميقا قبل أن تومىء له بأن يفتح الباب...
ذهب قاصي الى الباب ليفتحه عابسا وهو يقول بحدة.

(ماذا؟، أهذه طريقة لطرق الأبواب؟)
رمقه الرجل الضخم بتوجس وهو يرى ملابسه المهترئة الممزقة و شعره الطويل المغطى بالجير الأبيض
ثم سأله بحد
(هل أنت عامل هنا؟)
عقد قاصي حاجبيه بينما تقدمت تيماء من خلفه و هي تقول بحدة
(اي عامل هذا؟، إنه زوجي)
رفع الرجل ذو الجلباب حاجبيه و هتف بغضب...
(الله الله الله، و من هذه خادمة من تعمل لديهم؟، نهاركم لن يمر على خير).

فغرت تيماء فمها بذهول ثم هتفت و هي تحاول نفض ملابسها من الغبار
(أنا خادمة! هل أنت عديم النظر؟، من أنت من الأساس؟)
رد الرجل بخشونة
(أنا غفير الأرض المجاورة، و ما يحدث في هذا البيت لن يمر على خير)
هتف قاصي بصرامة وهو يقبض على مقدمة جلباب الرجل
(لقد تجاوزت حدودك، هذه زوجتي و هي استاذة جامعية، و نحن أصحاب البيت الجدد)
قال الرجل ساخرا.

(و أنا المحافظ أمر للإطمئنان على المكان، أخرج أنت و هي من هنا حالا قبل أن تكون فضيحة لكما سويا)
أوشك قاصي على ضربه، الا أن هاتف تيماء أصدر رنينا مفاجئا مما جعلها تخرجه من جيب كنزتها الخفيفة، و ابتعدت قليلا لتسمع بإهتمام، بينما قاصي يصرخ في الرجل
(ابتعد عن أملاكي حالا)
فيجيبه الرجل بهمجية
(أي أملاك يا جربوع، ألم تنظر الى نفسك في المرآة مؤخرا، قم بقص شعرك على الأقل).

رفع قاصي قبضته ليضربه فعلا، الا أن تيماء عادت اليه جريا و أمسكت بذراعه هاتفة بجزع
(قاصي، ثريا اتصلت بي للتو و أخبرتني أن راجح كان عندها و أخذ عمرو بالقوة).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة