قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والثلاثون

(بدور! هل هذه أنت حقا؟، لم اصدق مبروكة حين أتت إلى مهرولة تخبرني بأنك واقفة بدمك و لحمك في منتصف بهو الدار!)
كانت بدور واقفة كالغريبة في بهو دارها، ذاك الدار الذي لم تشعر يوما بأنه بيتا لها...
بل مجرد سجن عقيم، هروبها الأول منه، كان معجزة التحاقها بالجامعة في المدينة و اغترابها بعد رفض والدها لفترة طويلة...

علي الرغم من ضربه لها كلما حصلت على علامات غير مشرفة في المدرسة مما جعلها تظن بأنه يرغب في أن تلتحق بأكبر الجامعات و أصعب الكليات، الا أنه على ما يبدو كان يفعل هذا مع ايمانه التام بأنها لن تصل الى اي مستوى مشرف...
لذا كان ذهولها شديدا حين رفض اغترابها، و كانت تظن بأنه سيفخر بها للمرة الأولى و هي تزف له خبر نجاحها في الثانوية العامة...

نظرت بدور الى صورة مذهبة الإطار ضخمة لوجه والدها تحتل البهو بصرامة ملامحه المتجهمة دائما حتى في لحظة التقاط صورة ستظل تلاحقهم حتى بعد وفاته...
غير قادرة على الجلوس و كأنها ضيفة تنتظر نزول أهل البيت اليها لإستقبالها و هي بكامل حجابها و عبائتها السوداء، لا تريد حتى التحرر من وشاح رأسها...
الى أن وصلها هتاف أمها المذعور من خلفها و الذي لا يحمل ذرة ترحيب أو اشتياق، فقط ذعر طغى على كل شيء آخر...

التفتت بدور ببطىء و بملامح ثابتة ذات نظرات لا تحمل اي مشاعر، فأبصرت أمها التي تنزل على درجات السلم متعثرة و ملامحها مضطربة خائفة الى أن وصلت اليها تلهث بعينين واسعتين...
فبادرتها بدور بإبتسامة لا تحمل أي مرح و لم تصل الى عينيها، و قالت بخفوت
(أهلا أمي حبيبتي، اشتقت اليك)
الا أن والدتها لم تبادلها الإبتسام و لم يختفي الخوف عن ملامحها و هي تمسك بكتفي بدور تسألها متوترة.

(ما الذي حدث و أتى بكما الى هنا و لم تكملا بعد الإسبوعين منذ زفافكما؟، هل حدث مكروه؟، هل أم أمين بخير؟)
زفرت بدور نفسا بطيئا و هي تنظر الى عيني أمها الواسعتين، و قالت تقاطعها بصوت متشنج
(أمي أنا)
الا أن أمها قاطعتها و هي تنظر خلفها و في كل مكان بذعر
(أين زوجك؟، أين ذهب و تركك؟، قلبي كان متأكدا أن هناك أمر جلل كي يأتي بكما الى هنا بعد أيام من زواجكما، يا رب العالمين).

أغمضت عينيها للحظة و هي تضع يدها على صدرها لتلتقط نفسا مرتجفا و هي تبدو على وشك السقوط أرضا، ثم فتحتهما لتسأل بدور بصوت مرتجف يتوقع حدوث مأساة
(من مات؟، هل حماتك بخير؟)
هزت بدور رأسها بيأس ثم قاطعت أمها بنبرة عصبية عالية
(لم يمت أحد يا أمي، و خالتي أم أمين بخير، كما أن أمين لم يأتي معي من الأساس).

صمتت فجأة و قد غادرتها بعض من شجاعتها، و هي ترى عيني أمها تتسعان بعدم فهم، الا أنه عدم فهم مرتاع! فأخذت نفسا مرتجفا و تابعت تقول بصوت أقل حدة...
(لقد سافرت وحدي)
ظلت أنها في حالة من الصمت و الجمود التام و هي تنظر الى بدور و كأنها لم تسمعها، الى أن قالت أخيرا بصوت مصدوم خافت
(سافرت وحدك! بعد أيام من زواجك؟ كيف وافقك أمين على هذا؟، و لماذا؟).

نظرت بدور الى عيني أمها للحظات، قبل أن تخفض وجهها ثم قالت بصوت أكثر خفوتا و اضطرابا
(لم يوافقني، لقد خرجت من البيت دون علمه، الا أنني أخبرته بسفري في اتصال، لقد، لقد انتهى زواجنا يا أمي، أريد الإنفصال عنه)
للحظة ترنحت أمها حتى ان بدور سارعت محاولة إسنادها، الا أن أمها تماسكت و قبضت على ذراع بدور فجأة بمخالب حادة عنيفة، و هي تنظر الى عينيها بفزع ثم سألتها بصوت مرتجف.

(ماذا قلت للتو؟، لا أظن أنني سمعتك بشكل صحيح)
لعقت بدور شفتيها الجافتين و هي تنظر الى أمها دون أن تحيد بعينيها عن تلك العينين المصعوقتين، ثم قالت بصوت مختنق
(لا يا أمي، لقد سمعتني، أنا أريد الإنفص)
الا أن أمها صرخت بجنون و هيستيريا
(لا! لم أسمعك و لن أقف لحظة واحدة لأسمع هذا الجنون الذي تهذين به)
همست بدور بصوت يائس
(أمي)
الا أن أمها صرخت فيها بعنف جديد عليها
(اخرسي، اخرسي لا أريد سماع صوتك).

ثم نفضت كفها عن ذراع ابنتها و هي تستدير حول نفسها ضاربة على صدرها، ثم همست بذعر
(سافرت دون اذن زوجك بعد أيام من زواجك، و دخلت الى البلد أمام الجميع بمفردك، ياللفضيحة! ماذا سيقول الناس عنا؟)
ارتجفت بدور قليلا، الا أنها قالت بخفوت
(لم يرني أحد يا أمي و لا أعتقد أن رؤيتي تهم أحد)
استدارت أمها اليها مجددا و صرخت بجنون و قد بدأت الدموع تفر من عينيها بسرعة البرق.

(بل سيهتمون في ظرف كهذا، ما الذي يجعل عروس جديدة تخرج من القطار بمفردها عائدة الى بيت والدها الذي غادرته منذ أيام بفستان الزفاف، إن لم يهتم بك أهل البلدة طوال عمرك، فسيهتمون بك الآن و تصبحين مثار تساؤل و تكهنات، الله أعلم كم القصص التي سيتم تأليفها عن عودتك، ياللمصيبة، ياللمصيبة)
كانت تضرب على صدرها مع كل هتاف مذعور، فقالت بدور تئن بإختناق
(أمي، أرجوك لا تفعلي هذا بنفسك).

الا أن أمها صرخت و كأنها لم تسمعها
(و زوجك! كيف سغفر لك فعلتك السوداء؟، كيف سنرفع وجوهنا أمامه بعد الآن؟، ياللمصيبة التي لم تكن في البال أو الخاطر)
الا أنها توقفت عن الكلام فجأة و شحب وجهها كشحوب الموتى و هي تحدق في البعيد هامسة
(و ماذا عن والدك؟، ياللخراب الذي هطل على الدار و أهله، هذا حسد، حسد أسود، لقد حسدت منذ الليلة الأولى لزواجك، و كأن البشر يستكثرون الفرحة لك).

رفعت أمها وجهها الشاحب المبلل تنظر الى بدور و همست بقسوة
(عليك العودة حالا، و قبل عودة والدك، حتى إن اضطررت للبقاء في المحطة منتظرة القطار التالي و أنت ترتدين نقاب، و إن اقتضى الأمر سأقبل يد زوجك كي يعفو عنك و لا يخبر والدك و يحتكم اليه في فعلتك السوداء)
ثم جذبتها من ذراعها بسرعة و هي تتحرك بها تجاه الباب دون تفكير أو تخطيط...

بينما بدور تتعثر و قد أرهقتها ساقها من الجلوس لساعات طويلة، ثم الوقوف لفترة طويلة كالأغراب.
الا أنها هتفت بقوة
(أمي، لا يعقل أن تطرديني من بيتي، أنت حتى لم تسأليني إن كانت هناك مشكلة أعاني منها)
توقفت أمها بالقرب من الباب تلتفت الى ابنتها و هي تصرخ بجنون
(و لن أسأل، لن أسأل، هل تسمعين هذا؟، لا أريد معرفة أي شيء).

توقفت عن الكلام فجأة و هي تسمع صوت مفتاح في قفل الباب بالقرب منهما تماما، قبل أن يفتح و يطل منه زوجها بملامحه المتجهمة المخيفة ينظر اليها بنظرة تجمد الدم في العروق ثم صفق الباب بعنف وهو يقول هادرا
(لماذا يعلو صوتك يا امرأة؟، هل فقدت عقلك، لقد سمعته قبل أن أفتح الباب)
تراجعت أم بدور للخلف خطوة واسعة العينين، شاحبة الوجه، فاغرة الفم و كأنها قد نسيت كيف تتنفس...

و لم تجد الفرصة للرد، فقد لمح بدور خلف الباب بالفعل و حدث ما حدث...
للحظات اتسعت عيناه، قبل أن تزداد ملامحه قتامة وهو يسأل بنبرة منذرة بالشر، التوتر واضح فيها
(بدور! ماذا تفعلين هنا يا فتاة؟، ما الذي أعادكما الى البلد بهذه السرعة؟)
ساد صمت مرعب بين ثلاثتهم، و قد فقدت بدور كل شجاعتها في لحظة واحدة و شعرت بنفسها على وشك الموت و كأنه قلبها قد أعلن توقف دقاته...

و للحظات دار في ذهنها شريط طويل من الكذبات التي يمكن أن تتلوها على مسامعه و ربما تنقذ حياتها بعد أن تعود لأمين، و هو لن يطردها كما فعلت أمها بل سيستقبلها لفترة مناسبة حتى يحين وقت طلاقهما...
لكن فجأة، طالعتها نظرة أمين الساخرة وهو يراها واقفة أمامه متخاذلة عائدة بخيبتها...
و فراغ، فراغ غريب جعلها ترفع وجهها الى والدها بملامح جامدة و قد سكنت روحها بعد أن أوشك الفزع أن يفقدها صوابها...

و دون تفكير وجدت شفتيها تتحركان قائلة بهدوء
(أنا أريد العودة الى داري يا أبي، أريد الطلاق و العودة الى داري، لم أكن مستعدة للزواج من البداية، لا أريد سوى متابعة دراستي، أرجوك افهمني قبل أن تنفعل لمرة واحدة في حياتك، أنا)
الا أنها لم تجد الفرصة لتتابع كلامها الخافت الخالي من أي مشاعر، فقد عاجلتها صفعة عنيفة من والدها أسقطها أرضا وهو يهدر بجنون.

(اخرسي، هل جننت يا بنت ال، هل جننت، هل جننت، هل تردين جلب الفضيحة لهذا الدار؟)
صرخت أمها عاليا و هي ترى ابنتها واقعة أرضا و قد شقت شفتيها على الفور و أدميت...
بينما تابع والدها يسألها بصوت مرعب
(هل زوجك هو من أحضرك الى هنا بعد أن هذيت أمامه بهذا الجنون؟، والله كان عليه تكسير عظامك قبل أن يعيدك).

رفعت بدور كفها لتمسح بها طعم الدم الذي سال الى لسانها و هي تنظر الى ملامح والدها الشبيهة بأشرار القصص الخيالية، و كانت تتنفس بسرعة، سرعة غضب عنيف، غضب أسود لم تدرك أنها تملكه أبدا، لكن على ما يبدو أنها قد ورثته عن والدها و ظل قابعا في زاوية عميقة بداخلها دون أن تدري...
هذا الغضب جعل عينيها تبرقان بشراسة و تشفي و هي تصرخ هاتفة في وجهه دون خوف.

(لم يحضرني، أنا أتيت وحدي دون علمه، لذا لن يسامحني و لن يعيدني اليه بعد ما فعلت، لذا لا تتأمل كثيرا)
و لم تدرك أنها تبتسم ابتسامة خفية و هي ترى والدها ذاهلا من وقاحة ردها و جرأتها الغريبة، حتى أنها خشت أن يصاب بنوبة قلبية صدقا...
صرخت أمها قاطعة هذا الصمت المجنون و هي تنتحب بذعر و ذهول
(بدور! ما الذي أصابك؟، أقسم بالله هو عمل شرير و أصابك، حسدونا على فرحتنا).

الا أن زوجها لم يسمع ما قالته، بل هدر بعنف ما أن استرد وعيه من تلك الطريقة التي خاطبته بها ابنته للتو...
(أنا سأريك أيتها ال، سأريك من منا الذي لن يتأمل، الرحمة)
و بحركة واحدة انحنى اليها ممسكا بوشاح رأسها و شعرها و ذراعيها وجرها أرضا بينما هي تصرخ عاليا من شدة الألم، و ما أن حاولت أمها التدخل بينهما حتى رفع زوجها وجهه لها و صرخ بعنف زلزل أرجاء الدار.

(قسما بالله لو تدخلت للدفاع عنها ولو بكلمة فستكونين طالقا بالثلاث)
ضربت أم بدور فمها بكفها وهي تكتم كل الكلمات التي كانت ستتوسله بها بينما انهمرت الدموع من عينيها بقهر غير قادرة على الحركة أو النطق و هي ترى زوجها يجر بدور أرضا كما تجر الذبائح و هي تصرخ بألم، الى أن دخل بها غرفة في الطابق الأرضي أغلق بابها خلهما بالمفتاح الذي أصدر صوتا مرعبا...

و ما هي الا دقائق حتى علا صوت صرخات بدور بنبرة أكثر ألما مترافقة مع صوت ضربات لا ترحم...
فسقطت أمها أرضا و هي تضرب وجنتيها صارخة
(ابنتي، البنت ستضيع مني)
خرجت مبروكة من المطبخ جريا حتى ارتمت بجوار سيدتها ارضا على ركبتيها و صرخت فيها مترجية
(افعلي شيئا يا حاجة، البنت ستموت)
نظرت اليها أم بدور بنظرات مثيرة للشفقة بأبشع صورها ثم هتفت مولولة
(لقد أقسم على بالطلاق، سيطلقني و يرميني خارجا بعد هذا العمر).

صرخت مبروكة فيها
(أقسم بالطلاق إن تدخلت بينهما بكلمة، اذن اتصلي بزاهر وهو من سيفعل، هو شقيقها و سيدافع عنها)
أومأت أم بدور برأسها و هي تمسح دموعها بأصابع مرتجفة و كأنها قد تذكرت ابنها على الفور، فنهضت من فورها و مبروكة تساعدها و كأن ساقاها قد تحولتا الى هلام الى أن وصلت للهاتف فاتصلت بزاهر و هي تبكي هاتفة
(انجدني يا ولدي، انقذ أختك).

(لن تدخلي يا أمي، لقد أقسم عليك بالطلاق)
منعها زاهر هادرا وهو يمسك بكتفيها بكل قوته، فرفعت أمها وجهها و هتفت باكية
(فليطلقني اذن، قلبي لا يحتمل أكثر، ابنتي تصرخ منذ ساعة و أنا التي ظننتك ستتدخل و تنقذها. )
هتف زاهر بصوت شبيه بصوت والده، غاضبا محتدا.

(أنقذها؟، والله لو رأيتها لما استطعت السيطرة على غضبي ولخنقتها بكلتا يداي، دعيه يربيها على فعلتها، أنت لا تدركين حتى الآن حرج موقفنا أمام أمين، و ماذا إن تملكه العناد و طلقها بالفعل؟، من سيلومه حينها؟، نحن فقط من سنتحمل القيل و القال في البلدة، ابنتك تحتاج القتل لا الضرب، و قسما بالله إن حاولت التدخل أنا من سيقف لك)
توقفت امه عن المقاومة للحظات و هي تنظر اليه بعينين واهنتين، عاجزتين و متورمتين...

ثم قالت بصوت ضعيف غير مصدق
(و أنا التي ظننتك ظهري الذي سأشتد به في الدفاع عن أختك!)
الا أن زاهر لم تلن ملامحه، بل ظلت على خشونتها و قسوتها وهو يرد بفظاظة
(أي دفاع هذا عن مختلة مثلها ستطيح بكرامتنا في البلد، فعلا، ناقصات عقل و دين )
اتسعت عينا والدته مصدومة للحظات، ثم تراجعت للخلف و هي تهمس
(هكذا! سامحك الله يا ولدي، سامحك الله).

ثم استدارت عنه و هي تكرر دعائها باكية بإختناق الى أن ابتعدت عنه تماما، و ما أن شعرت بنفسها تكاد أن تسقط حتى انحنت و جلست أرضا تستند الى الجدار محدقة أمامها بعينيها المتورمتين...
تسمع من بعيد صوت ضربات زوجها، و صرخات بدور ذات الإيقاع الرتيب المفزع...
بعد ساعة أخرى...
كان صوت أبا زاهر لا يهدأ وهو يملي على مسامع ابنته ما سيحل بها إن طلقها زوجها، سيحيل حياتها الى جحيم...

ستتوقف عن الدراسة و تحيا في الدار تعمل مع الخادمات و ليس لها قيمة أكبر عنده...
لم يضربها بصورة متواصلة طوال الساعتين، بل كانت يتوقف كل فترة و أخرى، ثم يعاود ضربها و كأنه يتأكد من الا تفقد الوعي...
و الغريب أن بدور كانت تزداد شراسة بطريقة غريبة...
كان صوتها الصارخ يصل الى أذني أمها على فترات متباعدة
(لم أعد أخاف منك، افعل ما تريد)
فيزيد جنون والدها أكثر، و يزداد جنون ضرباته...

أما أم بدور على حالها، مرمية أرضا بجوار الجدار ككم مهمل، و قد تجمدت الدموع في عينيها، منتظرة سماع نهاية حياة ابنتها في أي لحظة...
الى أن جائتها مبروكة على أطراف أصابها و جثت بجوارها تهمس في اذنها
(خذي يا حاجة أتيتك بهاتفك، اتصلي بالسيد أمين)
نظرت اليها أم بدور بوجه ميت و هتفت بإختناق
(هل جننت يا امرأة! بعد ما فعلته بدور هل أجد الجرأة على الإستنجاد به؟)
ردت مبروكة بثقة دون تفكير.

(السيد أمين ابن الحاج راشد رحمه الله مختلف)
ثم أدركت ما تفوهت به للتو بغباء، خاصة و أن أم زاهر أخفضت وجهها بملامح مكتئبة حزينة، فسارعت مبروكة تقول بتلعثم
(لم أقصد يا حاجة، قصدت قفط أنه، أن)
قاطعتها أم زاهر و هي تمد كفها هامسة بإعياء
(هات الهاتف)
انتظرت تستمع الى الرنين الرتيب و كأنه رصاص في أذنها، لا تتخيل كيف ستستجد بأمين!
ترى هل سيغلق الهاتف في وجهها؟
عليها أن تتحمل كي تنقذ ابنتها...

و ما أن وصلها صوته حتى هتفت باكية منتحبة و كأن صوته كان أكثر رحمة من زوجها وولدها، ابن رحمها...
(أمين، أدركنا يا ولدي، بدور ستموت بين يدي والدها، الباب مغلق عليهما منذ ساعتين و صراخها لا يتوقف، ابنتي ستموت على يد والدها)
اتسعت عينا أمين وهو يشعر بأنفاسه تتوقف، حتى أنه نهض من كرسيه ببطىء وهو ينظر حوله و كأنه يحاول ايجاد وسيلة تجعل القطار يزيد من سرعته، ثم لم يلبث أن صرخ بقوة.

(ما بالك تقفين ساكنة؟، اكسري الباب، استدعي الغفر أو اتصلي بالحاج سليمان)
شهقت أم بدور باكية و هي تقول بعويل
(لكن الفضيحة، حين يعرف الجميع بخروجها من بيت زوجها بعد اسبوعين فقط، و عودتها و طلبها الطلاق، فضيحة كبيرة يا أمين)
شعر أمين و كأنه على وشك الإصابة بالجنون فعليا، فصرخ فيها بعنف
(أفيقي يا امرأة، هذه ابنتك و قد تموت، لا تقفي عاجزة هكذا و الا طلبت الشرطة).

ظلت أم بدور تبكي و هي تنظر الى مبروكة بعجز، غير قادرة على الإيتان بأي حركة...
تخاف حد الرعب من زوجي الوحوش في دارها، و حين طال صمتها و هي تبكي بإختناق...
هتف فيها أمين بنفاذ صبر
(اتصلي بزاهر، فليأتي و يكسر الباب و ينقذها من بين يديه)
اغمضت أم بدور عينيها بقوة و الدموع تنهمر من تحت جفنيها المجعدين، ثم قالت بصوت أشد اختناقا و نحيبا
(زاهر هنا، واقف أمام الباب يمنعني من الدخول و يقسم إن رآها فسوف يخنقها).

اتسعت عينا أمين غير مصدقا لما يسمع، و ظل صامتا بضعة لحظات، الى أن أظلمت ملامحه و عقد حاجبيه وهو يهدر بصرامة
(أعطي الهاتف لزاهر، أريد الكلام معه)
اتسعت عينا أم زاهر برعب، ثم هتفت مرتجفة
(لكن لو عرف أنني اتصلت بك فسوف)
قاطعها أمين صارخا
(انه ابنك، اضربيه على رأسه إن اعترض، هل تخافين ابنك؟)
امتقع وجه أم زاهر بشدة و ارتجفت شفتاها و هي تهمس بخزي
(نعم يا ولدي، أخاف ابني).

أغمض أمين عينيه غير مصدقا وهو يزفر بحدة نافذ الصبر، ثم لم يلبث أن أمرها بقسوة
(أخبريه أنني اتصلت بك أسأل عن بدور، و طلبت منك الكلام معه)
ظلت أم زاهر متربعة أرضا مكانها لا تعرف كيف تتصرف و قد غادرتها البقية الباقية من التصرف الحكيم، الا أن أمين صرخ فيها
(هيا).

حينها استندت الى مبروكة التي أوقفتها على قدميها و ساعدتها كي تهرول حتى وصلتا الى زاهر الذي كان يدور حول نفسه امام باب الغرفة المغلقة، مكفهر الملامح، عنيف النظرات حتى أبصرها فإزدادت ملامحه تجهما و تهديدا مما جعلها تمتقع و تتعثر الا أنها سارعت بمد يدها بالهاتف اليه و هي تقول بصوت مرتعش
(هذا، هذا أمين، اتصل يسأل عن بدور و يريد الكلام معك على وجه السرعة)
برقت عينا زاهر بحدة ثم همس ملوحا.

تبا لهذا! ماذا سأقول له الآن؟، بأي عذر سأبرر له تصرف ابنتك الحيوانة، ظلت أمه صامتة تمد له الهاتف غير قادرة على النطق، الى أن اختطف منها الهاتف بقوة وهو يزفر مجددا، ثم لم يلبث أن قال بصرامة دون مقدمات
(مرحبا أمين، أعرف انك غاضب و لك حق عندنا، لكن ثق أننا سنعيد تربيتها و ستكون تحت قدميك منذ اليوم، فقط لا)
قاطعه أمين هادرا.

(اسمعني جيدا يا زاهر، ابعد والدك عن بدور، حتى إن تطلب الأمر كسر الباب، أنا لا أطلب بل آمر، هذه زوجتي و أنتما تتعديان على حقوقي)
ارتبك زاهر ووقف بمنظر لا يحسد عليه، ثم قال غاضبا
(لكنها اخطأت و علينا معاقبتها، لم تقدم واحدة قبلها على تصرفها ال)
قاطعه أمين مجددا بصوت أكثر صرامة.

(أمر معاقبتها عائد الى شخص واحد فقط، هو أنا، و الآن أخرج والدك من تلك الغرفة و الا سأنفذ لها ما تريد و اترك أمرها لكما كما تريدان)
ظل زاهر واقفا ممتقع الملامح وهو ينظر الى وجه والدته المتلهفة بأمل، و، المتشفية في ابنها للمرة الأولى، فزم شفتيه و قال على مضض
(ستكون عندك في الغد على الأكثر)
لكن أمين قاطعه قائلا بقوة
(بل أنا في القطار الآن، في طريقي اليكم، و يجدر بكم الا يمسها أحد لحين قدومي).

أغلق زاهر الهاتف بعنف وهو يلقي به دون اهتمام، حتى أنه وقع أرضا و تفكك الى أجزاء...
لكنه لم ينظر اليه بل اتجه الى باب الغرفة و بدأ يطرق عليه بقوة مناديا
(أبي، يكفي هذا، افتح الباب، افتح يا ابي)
لكنه لم يسمع ردا، بل صرخة واهنة من بدور اثر ضربة من والدها، حينها زفر زاهر بغضب قبل أن يضرب الباب بكتفه عدة مرات حتى كسر القفل فدخل الغرفة...

للحظة توقف مكانه مضطربا وهو ينظر الى بدور التي ربطها والدها في أحد أعمدة السرير الموجود الغرفة، مرتمية أرضا بوجه متورم، ووالدهما يقف بجوارها بأحد الخراطيم السميكة التي يحتفظ بها...
متعبا من شدة المجهود الذي بذله، فسنه لم يعد يسمح بمثل هذه المشقة كالسابق...
بينما اندفعت أمه من خلفه و هي تولول ضاربة وجنتها لترتمي بجوار ابنتها تأخذها بين أحضانها و هي تنتحب هاتفة.

(اسم الله عليك يا ابنتي، ليتني كنت أنا و لست أنت، سامحيني، لم يكن بيدي الوقوف دون مساعدتك، حكم القوي)
تأوهت بدور بصوت ضائع متألم بينما تدارك زاهر أعصابه وهو يقول بخشونة
(هذا يكفي يا حاج، لقد اتصل أمين و)
مجرد سماع اسم امين جعل ملامح وجه والدها تزداد غضبا وهو يرفع الخرطوم في يده مجددا...
لكن زاهر اندفع بسرعة ليمسك بساعد والده يمنعه من ضربها وهو يهتف بقوة.

(كفى يا حاج، لقد اتصل زوجها و طلب الا يضربها أحد، وهو في طريقه ليستعيدها و لن يطلقها، لنغلق الأمر عند هذا الحد، الحمد لله أنه أبرد دما مما ظننا و الا لكنا الآن حكاية على كل لسان في البلد)
ظل والده ينظر اليه متجهما وهو يلهث من شدة الغضب و الإنفعال، ثم سأل بشك
(أليس غاضبا منها؟، الن يطلقها؟)
رد عليه زاهر بنبرة تحمل القليل من الدهشة الساخرة.

(ما لاحظته أنه كان غاضبا لأنك ضربتها، لم يذكر شيء عن سفرها بتلك الطريقة أو طلبها الطلاق و لقد أكد لي بنفسه أنه لن يطلقها)
ازداد انعقاد حاجبي والده و قد ظهر تعجب غريب في عينيه القاسيتين و قال بعدم تصديق
(ألن يطلقها؟، و غاضب لأنني ضربتها فقط؟، اي رجال هم شباب هذه الأيام! بالتأكيد لم تتجرأ على فعلتها الا حين رأت منه ضعف شخصية، أتتجرأ زوجتك على فعل ما فعلته قليلة الأدب هذه؟).

رفعت بدور وجهها المتورم عن صدر أمها لتنظر الى والدها بعينيها المحتقنتين دون أن تصدر صوتا، مجرد نظرة غريبة من عين مضروبة...
بينما ارتفع حاجب زاهر بإستهزاء ساخر وهو يقول بإستنكار غاضب
(زوجتي! سامحك الله يا حاج، والله كنت دفنتها في فناء الدار، المهم عندنا أن ضعفه يناسبنا حاليا، على الأقل ليكن ذو كلمة في عدم تطليقها و لا نريد منه أكثر من هذا)
القى والده بالخرطوم من يده أرضا، ثم قال بعنف.

(ماذا يحدث إن أعادتها مجددا و هربت الى هنا طالبة الطلاق؟)
رد زاهر بصوت مخيف وهو يرمق أخته بنظرة مهددة
(و هل تجرؤ؟)
زادت أمها من ضمها الى صدرها و هي تبكي بشدة، بينما بدور صامتة تماما...
ثم التفت الى والده و قال بخشونة
(لقد نالت ما سيمنعها من الإقدام على أي عمل أحمق المتبقي من عمرها كله، لندعو الله فقط الا يكون قد علم بقدومها أحد من البلد، و لنبدأ في تحضير أي كذبة لنتدارك بها الوضع إن سأل أحدهم).

زمجر والده بغضب وهو ينظر الى بدور المرتمية على صدر أمها ثم هدر بصوت يهز الأوصال
(أنقذك زوجك مني، والله لو كنت مكانه لكسرت عنقك و شربت من دمك، لكن الله عالم أي غبية أنت فرزقك بشخص متساهل، اعتبري ما حدث لك مجرد انذار)
ثم تحرك ليخرج من الغرفة، فاقترب زاهر منها كي يفك وثاقها، الا أن والده صرخ بقوة أفزعتهم.

(ماذا تفعل يا زاهر؟، والله ستظل بهذا الشكل الى أن يأتي زوجها و يستلمها، لا طعام و لا شراب و لن يفك أحد معصميها)
قال زاهر محاولا
(أنا أرى يا حاج أنها نالت ما يكفي، لندعها ترتاح في السرير قليلا)
صرخ والده بصوت أعلى
(لقد أقسمت يا زاهر، لا أريد كلمة واحدة أخرى)
زم زاهر شفتيه وهو ينظر الى أخته متنهدا، ثم استقام ليغادر الغرفة، بينما تابع والده آمرا بقسوة
(و أنت يا امرأة، أخرجي من هنا الى أن يصل زوجها).

رفعت زوجته وجهها المبلل و همست بترجى...
(اسمح لي أن أعد لها لقمة و شيء تشربه. الفتاة لم تضع في فمها شيء منذ الصباح، أرجوك يا حاج)
الا أن زوجها صرخ بصرامة
(انهضي يا امرأة و اخرجي من هذه الغرفة على الفور أو سأتناسى عمرك و مكانتك و أعاملك بالمثل، هيا انهضي)
نظرت أم زاهر الى ابنتها و هي تبكي بحرقة، الا أن بدور أومأت لها ببطىء و هي تحاول الإبتسام بصعوبة، ثم همست بصوت متعب
(اذهبي).

تركتها أمها و هي تنهض من مكانها باكية بصوت مختنق، تلاها زاهر، ثم والده الذي رمق بدور بنظرة محتقرة أخيرة و قال من بين أسنانه بتعب
(حسابك لم ينتهي عند هذا الحد، إن كنت تظنين أنه بزواجك أصبحت حرة و لن تجدي من يكسر لك ضلعا، فأنا لازلت على قيد الحياة، أكسر لك عنقك لا ضلعك فقط، إياك أن تظني ان زوجك المتحضر بشكل يدعو للشفقة عليه سيكون جواز سفرك لعالم بلا قيود).

ظلت بدور مكانها تبادله النظر بصمت عبر عينيها المتورمتين، دون أن يرمش لها جفن...
حتى استدار عنها و خرج من الغرفة تاركا اياها أقوى، أقوى من ذي قبل، أقوى من أي يوم مر في حياتها المهمشة المهينة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة