قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والأربعون

خرج أمجد من الغرفة يليه مصطفى الذي اسرعت اليه زوجته بملامح شاحبة فأمسكت بكفه تهمس سائلة
(كيف جرت الأمور؟)
التفت اليها مصطفى يتأملها ثم مد كفه فجأة يمسك بوجهها و قال ناظرا الى عينيها بصدق
(أنا أحبك، هذا كل ما عليك معرفته و لن يغير شيء من حبي لك مطلقا)
للحظات لم ترد أمينة و هي تستمع الى كلماته بروح متراجعة، و قلب خائف...

ثم ابتسمت ابتسامة مرتجفة لا تحمل شيء من الثقة، و هي ترفع يدها لتربت بها على وجنته، تومىء برأسها موافقة دون كلام، فهي في تلك اللحظة لا تمتلك نفس نبرة التأكيد التي يتحدث بها...

بعد فترة حين جلس الجميع الى مائدة الطعام، لكن و قبل أن يبدأ أي منهم في الأكل
أمسك أمجد بكف مسك الجالسة بجواره فجأة، ثم قال بهدوء
(لدينا خبر مهم، يخصكم جميعا كما يخصنا)
انتبه الجميع له و مسك أيضا بقلق، بينما بادلها النظر بإبتسامة أرسلت رجفة لذيذة الى قلبها، ثم قال متابعا دون أن يحيد بعينيه عن عينيها
(سنكفل يتيما، أي سيكون لنا طفلا، لن نتخلى عنه مطلقا).

فغر أفراد أسرته أفواههم ما بين صدمة و قلق، و ابتسامات مهتزة من الفكرة الجديدة على العائلة...
و بالطبع كان بداخل كل منهم أسباب عديدة لعدم تقبل الفكرة...
لكن مسك كانت بعيدة عنهم تماما، في عالم منفصل يجمعها بأمجد فقط، فهمست بقلق غير مصدقة
(أمجد، لم نتخذ القرار بعد، كنا نناقش مخاطر الفكرة و)
قاطعها أمجد قائلا بخفوت جميل، جميل للغاية.

(هشششش، لا مخاطر للفكرة سوى احتمال انشغالك به عني، حينها قد افصلكما و أحتجزك في قلعة لا يملك مفاتيحها سواي، أما الطفل يمكنك رؤيته في المناسبات فقط)
فغرت مسك شفتيها الجميلتين و هي لا تزال تنظر اليه بذهول، لكنها هزت رأسها قليلا هامسة باختناق
(لكن ماذا لو)
استدار اليها أمجد في كرسيه وهو يمسك بكلتا كفيها بين يديه قائلا بجدية.

(ماذا لو فقدتيني في يوم قريب؟، هل تستطيعين رعاية طفل بمفردك؟، على الحصول على جواب منك في الحال)
شهقت أمه هامسة و هي تغمض عينيها
(اسم الله يحرسك يا ابني، لا اله الا الله)
بينما قالت مهجة و يدها على قلبها
(بعيد الشر عنك يا أمجد، لا تقل هذا، أطال الله عمرك)
أما مسك فقد قالت بصوت هادىء خافت ممتعض
(هذه أغبى طريقة في التاريخ كي تقنعني بها يا حسيني).

و على الرغم من هدوء صوتها و ثبات ملامحها، الا أنها لم تستطع اخفاء ارتجافة شفتيها و اهتزاز حدقتيها في لحظة خاطفة، مما جعله يقول مبتسما برقة وهو يغمزها
(لكنها ناجحة تماما، لا يمكنك الإنكار)
لعقت مسك شفتيها و هي تشعر بأنها على وشك فقدان سيطرتها على نفسها، لذا أخذت نفسا عميقا و انتظرت بضعة لحظات خاطفة، قبل أن تنظر اليه و تسأله بصوت أجش.

(هل أنت واثق تماما يا حسيني؟، لأنه ما أن نخرج من هنا لن يكون هناك عدولا عن قرارك مطلقا)
رفع أمجد قبضتها الى فمه وهو لا يزال ينظر الى عينيها ثم أطبق شفتيه فوق راحتها بقوة متمهلا، ثم قال بصوت واثق مؤكدا دون أي مجال للشك
(كما أنا واثق أنك أمامي الآن و يدك بين أصابعي، كما ستظلين دائما).

ظل كلا منهما ينظر الى الآخر بصمت، بينما كانت أمينة تنظر اليهما بحزن غريب، ثم نظرت الى زوجها الذي كان ينظر اليهما مبتسما وهو يضع قبضته المضمومة على ذقنه...
ترى هل تمتلك تلك الثقة التي يمتلكها هذان الزوجان؟
ترى هل الأطفال هم ضمان استمرار أي زواج؟
أما مهجة فقالت بصوت متردد خافت.

(أعتقد، أن عليكما التفكير في الأمر مليا يا أمجد، سيكون طفلا غريبا، و في نفس الوقت مسؤولية أمام ضميركما، الأمر ليس بمثل هذه السهولة)
علي الرغم من أن العلاقة بين مسك و مهجة تحسنت و أصبحت تسودها المودة، لكن لا يزال حب شقيقها بداخلها و الحسرة عليه أكبر من أي اعتبار آخر، و هذا ما سمعته مسك من نبرتها...
أن يكتفي أخاها بأن يربي طفلا يتيما ليس بطفله لهو أمر فوق احتمال أي أخت، و أي أم...

تكلم أمجد قائلا بصوت خفيض وهو ينظر الى عيني مسك
(لست بحاجة للتفكير في رابط اضافي يربطني بألماس يا مهجة، يكفي أن يكون هناك صوت صغير في البيت يدعوها ب بماما، لأرى ابتسامتها، هذا وحده كفيلا بأن أدفع حياتي ثمنا له)
لم تستطع مسك ايقاف مشاعرها أكثر، فاستدارت اليه في كرسيها ثم ألقت بنفسها على صدره و هي تحيط عنقه بقوة تكاد تكون عنيفة...
رفع أمجد أصابعه ليتحسس بها خصلات شعرها الناعمة، وهو يقول بخفوت مبتسما.

(و هذا أيضا كفيلا كي أدفع حياتي ثمنا لأجله)
ظلت مسك بين أحضانه للحظات، ثم ابعدت وجهها عنه و عن الجميع كي تمسح دمعة متسللة الى طرف جفنها أبت أن يراها...
أما أم أمجد فقد قالت بصوت مرتجف حنون
(عله يكون وجه الخير لكما يا ابني، فجزاءه عند الله عظيما)
التفت أمجد اليها وهو يربت على كفها المرتاحة فوق المائدة دون أن يفلت مسك من بين أحضانه...
فقال مصطفى مبتسما ابتسامة عريضة
(مبارك يا مستكة ).

ضحكت مسك دون كلام و هي تحاول تمالك نفسها بينما عبس أمجد قائلا بخشونة
(ليس مسموحا لأحد أن يدعوها بأي لقب الا أنا)
رفعت مسك وجهها تنظر اليه بإبتسامة ساخرة، ثم قالت بصوت يائس
(من الواضح أن ابتكار الألقاب أمر متوارث في العائلة)
نظر اليها أمجد قائلا بجدية
(لا تسمحي له بالتمادي ألمظ)
قال مصطفى بمكر وهو يباشر بالبدء في تناول طعامه.

(هل تتذكر المثلجات التي كنا نخرج لتناولها معا قرب الفجر! ذات طعم المستكة، تشبه مسك تماما، لذيذة و ذات تكهة لاذعة)
هتف أمجد بغضب
(احترم نفسك يا ولد، لا أحد يشبهها بأي شيء الا أنا)
التفتت مسك تنظر اليه، ثم مدت يدها تدير وجهه الحبيب الغاضب اليها قبل أن تقول بصوت عذب جميل و صادق تماما
(أنت الوحيد المسموح بكل ما يخص مسك الرافعي، أنت الوحيد الذي هزمتها اجمل هزيمة).

نظرت تيماء الى نفسها في مرآة الحمام برضا...
لأول مرة تشعر بنفسها جميلة فعلا، لا ينقصها شيء عن أجمل ما رأتهم من نساء سابقا...
كان وجهها يشع ببريق جديد، و عيناها تلمعان بسعادة و هي تعد نفسها لزوجها...
عضت على شفتها في ابتسامة خجولة مما جعل غمازة وجنتها تظهر أكثر عمقا بشكل خلاب...
زوجها...
مر كل هذا الوقت و لا تزال كلما نطقت بهذه الكلمة بينها و بين نفسها شعرت بشيء يدغدغ كيانها...

مع شعور بالرهبة و الخوف من أن يكون كل ما حدث مجرد حلم، ستستيقظ منه لتجد نفسها مسافرة في مكان بعيد...
تتابع دراستها في جو شديد البرودة، مستقرة و مرتاحة، تحاول اقناع نفسها أن قاصي الحكيم لم يكن سوى مجرد ماض من مراهقتها...
لقد دربت نفسها على هذا الإحساس لسنوات في فراقهما حتى تمكن منها هذا الشعور الوهمي بالإستقرار...
حية بقلب ميت، تمر أيامها دون أن تتذوق لها طعم او تسمع من لحنها أي نغم...

لذا من حقها أن تشعر بتلك الدغدغة كلما نطقت بداخلها
أن قاصي الحكيم هو زوجي، لا ماضي و انتهى...
أغمضت عينيها متنهدة و يدها على صدرها الخافق، تتسائل متى سيزول هذا الإحساس الحلو المخيف في آن واحد...
و إن كانت تشك أن يزول يوما، فما بينهما لم يكن قصة طبيعية على الإطلاق...
بكل فراقها و آلامها و احزانها، ستظل قصتهما حلما بعد عناء و شقاء سنوات...
فتحت عينيها تنظر الى لونهما البراق بإبتسامة غالية...

لا ينقص سعادتهما سوى ان يكللها طفل يعوضها عن ابنها الذي فقدته، حينها فقط قد تصدق أن هذا الحلم هو واقع...
مدت كفها تلامس بطنها بنعومة و هي تتذكر رفيقها الصغير الذي صاحبها لمدة تسعة أشهر كاملة في غربتها عن قاصي، كان نعم العون و أفضل صديق، ثم رحل بهدوء كملاك صغير بعد أن سلمها الى يدي قاصي مطمئنا أنه لن يتخلى عنها هذه المرة و للأبد...
نظرت تيماء الى صورتها في المرآة و همست بنعومة.

(لن أنساك أبدا يا صغيري، حتى قطعة ملابسك الصغيرة، لن يرتديها غيرك، و سترافقني أينما ذهبت)
ضحكت قليلا و هي تشعر بنفسها على وشك الإصابة بجنون لذيذ منذ ساعات...
تحديدا منذ أن اتصلت بها سوار تسأل عنها بعفوية لا تعلم ما حدث لهما مع راجح، و فضلت تيماء الا تخبرها بالأمر، يكفي أنها افسدت نهار أمين و بدور بدافع القلق عليهما مما قد يقدم عليه هذا المعتوه...

فبدت مرتبكة قليلا و متلعثمة، بينما كان صوت سوار رائقا أكثر من المعتاد، و كأنها قد صغرت في العمر عشر سنوات، كشابة خجولة سعيدة...
و مع بضعة كلمات، استطاعت تيماء جرها للإعتراف بحملها، على الرغم من أنها كانت تريد اخفاء الخبر لفترة...
حينها شعرت تيماء بفرحة غريبة، و كأنه خبر حملها هي لا سوار...
فأغلقت الخط معها و هي تشعر بأحشائها تحترق شوقا لجنين يجمعها بقاصي من جديد...
ابن قاصي الحكيم، زوجها...

ضحكت تيماء و هي تشعر بتلك الدغدغة من جديد...
ثم نظرت الى نفسها مجددا يمينا و يسارا، تقيم القميص الذي ترتديه...
صحيح أنه طفولي و لا يمت للإغراء بصلة، لكن يكفي أن قاصي يحبه...
فقد كان أحد أقمصتها القديمة في مراهقتها و الذي كان يراها به، و لا يزال بنفس مقاسها حتى الآن
يصل الى ركبتيها و بأشرطة جميلة على كتفين...
و جيبين على الصدر بشكل قطتين...

ضحكت مجددا و هي تتذكر اليوم الذي أمرها فيه قاصي بخشونة الا ترتدي هذا القميص أمام أحد مجددا...
حينها ردت عليه بسذاجة
لا أحد هنا سواك، لن تنسى أبدا البريق الخاطف الذي ظهر في عينيه، ثم أولاها ظهره سريعا وهو يقول بنبرة صارمة محتدة
حتى أنا، لا ترتديه و البنطال الجينز القصير أيضا، لقد كبرت و أصبحت شابة، يومها أدركت أنها شابة بالفعل، بل امرأة وقعت في حب الرجل الواقف أمامها...

و اليوم، هو زوجها، يحق لهما ما كان ممنوعا عنهما طويلا...
أخذت تيماء نفسا عميقا، ثم خرجت من الحمام حافية القدمين على أطراف أصابعها تتمنى الا تستيقظ ثريا من نومها في اللحظات الحاسمة كالعادة...

حتى وصلت الى غرفتها، لكن ما أن فتحت الباب متنهدة بسعادة، حتى عقدت حاجبيها في اللحظة التالية و هي ترى قاصي نائما في سرير مراهقتها في سبات عميق، و بين ذراعيه عمرو نائما وكلا منهما يرتدي بنطال منامته فقط دون السترة...
يشدد عليه بقوة و كأنه يخشى أن يخطفه احد منه مجددا...
أغلقت تيماء الباب خلفها بهدوء و هي تتقدم منهما...

كان منظرا أجمل من أي لوحة رأتها ذات يوم، لو أرادت رسم لوحة لوالد نائم يحتضن ابنه لما وجدت أجمل من قاصي و عمرو...
شكله الغريب مع شعره الطويل، و ملامح عمرو البريئة التي تناقض القسوة على ملامح قاصي و على الرغم من ذلك تشبهه تماما...
ابتسمت بحب و هي تقترب منهما أكثر حتى وقفت بجوار عمرو، و كان هاتفها موضوعا على الطاولة الجانبية فالتقطته و فتحت الكاميرا قبل أن تلتقط لهما صورة، ثم أعادته مكانه مجددا...

انحنت تيماء الى عمرو و أيقظته برفق هامسة
(عمرو، عمرو، اذهب و نم بجوار جدتك ثريا)
تمتم عمرو قليلا، ثم عاد للنوم وهو يدس وجهه في صدر قاصي، فعقدت حاجبيها و هزته مجددا قائلة
(عمرو، استيقظ)
فتح عمرو عينيه بصعوبة ونظر اليها للحظتين ثم سألها بتذمر
(ماذا تريدين؟)
أجابته تيماء بحزم
(اذهب و نم بجوار جدتك ثريا)
عقد عمرو حاجبيه وهو يقول رافضا
(اذهبي أنت و نامي بجوار أمك، أنا سأنام بجوار بابا).

ارتفع حاجبي تيماء و هي تنظر اليه بغضب، ثم هتفت بقوة
(هذا سريري، ليس سرير والدك حتى، قم يا ولد و نم بجوار جدتك)
أولاها عمرو ظهره وهو يقول برفض قاطع
(لا، سأنام بجوار بابا)
ارتفع حاجبي تيماء أكثر، ثم زمت شفتيها بغضب و نفخت صدرها قبل أن تستدير حول السرير لتقف بجوار قاصي ثم انحنت لتضربه على كتفه منادية بفظاظة
(قاصي، قاصي، استيقظ يا حبيبي)
انتفض قاصي بفزع وهو ينظر حوله هاتفا
(ماذا؟، ماذا؟، من؟، هل أتى راجح؟).

مطت تيماء شفتيها و كتفت ذراعيها قائلة
(راجح ملقى في المشفى، لن يستطيع السير لفترة طويلة، ماذا يفعل عمرو هنا؟)
نظر قاصي الى عمرو النائم بين ذراعيه بعبوس وهو يبدو غير مستوعبا بعد، ثم حك جبهته وهو يقول ناعسا
(أتى لينام بجواري)
قالت تيماء من بين أسنانها بغيظ
(نشكر لك هذه الإفادة العميقة، احمله و اعده الى مكانه بجوار ثريا)
زفر قاصي بقنوط وهو يحك فكه هذه المرة ثم قال متذمرا.

(الولد نائم يا تيماء، اذهبي انت و نامي بجوار أمك)
اتسعت عيناها بصدمة ثم قالت و هي تتنفس بحدة
(حسنا يا قاصي، كما تريد، اشبعا ببعضيكما)
ثم استدارت و هي تضرب الأرض بقوة ذاهبة الى غرفة أمها ففتحت الباب و لحسن الحظ كانت أمها نائمة و الغرفة مظلمة فحشرت نفسها بجوار أمها بصعوبة، ثم قالت متذمرة بعصبية
(أبتعدي قليلا يا أمي، أوووووف).

تمكنت من تشكيل نفسها بصعوبة ثم استلقت تنظر الى السقف بقنوط مكتفة ذراعيها، شاعرة بالتحسر على نفسها...
و لم تكد تمر بضعة دقائق حتى سمعت طرقا خفيفا على الباب و صوت قاصي يناديها بخفوت
(تيماء، تيماء)
نظرت الى الباب بعينين غاضبتين، ثم زادت من تكتيف ذراعيها رافضة أن تجيبه...
الا أنه ناداها مجددا بصوت أكثر صلابة
(تيماء، أعرف أنك مستيقظة، هل ستخرجين أم أدخل أنا بغض النظر عن وضع والدتك أيا كان).

همست تيماء حريصة أن يصله صوتها
(تجرأ على فعل ذلك و ستطردك ثريا من بيتها، حينها تستطيع النوم على السلالم كالقطط التي كنت تربيها)
كانت مسترسلة في كلامها الغاضب و هي تنظر الى سقف محاولة عصر ذهنها كي تجد المزيد من الكلام الحاد، الا أنها صمتت فجأة واتسعت عيناها و هي ترى باب الغرفة يفتح، و أطل منه قاصي الذي سد مساحة الضوء كلها، فنظرت الى ثريا مذعورة، ثم اعادت عينيها اليه و هي تهتف هامسة بذعر و غضب.

(ماذا تفعل؟، أخرج من هنا فورا، لو استيقظت ثريا فسوف)
قطعت كلماتها و حدقتاها تتسعان أكثر بينما هو يدخل الى الغرفة حتى وصل اليها، ثم بدون استئذان انحنى و حملها فوق كتفه و خرج بها بينما هي تهمس شاتمة بكل قاموس الشتائم الذي تعرفه...
لكن قبل أن يخرج توقف لحظة ثم استدار ينظر الى أمها بتوجس، فعقد حاجبيه و هو يسألها بشك
(لماذا تبدو ثريا بهذا الشكل؟).

كان شعرها ملفوف على بكرات ضخمة، و على الرغم من الظلام في الغرفة الا أنه استطاع تبين قناعا أبيض يغطي وجهها و يبدو مضيئا في الظلام...
ضربته تيماء على ظهره بكل قوتها و هي تهتف من بين أسنانها
(ليس من حقك أن تنظر اليها، اعتدل و اخرج من الغرفة قبل أن تستيقظ و تطردنا جميعا من بيتها)
خرج قاصي حاملا تيماء على كتفه ثم اغلق الباب خلفه بمنتهى البساطة و كأنه يحمل طفلا صغيرا...

لكن عوضا عن أن يتجه الى غرفتهما، خرج الى غرفة الجلوس فهتفت به بحدة
(الى أين تذهب؟، أريد النوم في سريري)
قال قاصي ببساطة وهو ينزلها حتى وقفت على قدميها أرضا
(عمرو نائم في السرير)
نفضت تيماء شعرها اللولبي المتناثر في كل مكان و هي تنظر اليه بذهول غاضب، ثم هتفت بغيظ
(اذن احمله الى سرير ثريا)
رفع قاصي يديه مستسلما وهو يقول مبررا بحدة
(إنه يحب سريرك بشكل خاص و لا يرتاح في النوم بجوار ثريا، الولد يشكو يوميا).

رفعت تيماء أحد حاجبيها و هي تنظر اليه بعيني مجرم خطر، ثم قالت ببطىء مشددة على كل حرف
(و ما العمل في رأيك؟، أنام متأرجحة بالمقلوب في أحد الشقوق كالوطاويط!)
رد عليها قاصي بإتزان
(لو وعدت بخفض صوتك، يمكنك النوم بجواري أنا و عمرو في السرير)
اتسعت عينا تيماء و هي تسأله بنبرة غير مصدقة تنذر بالشر
(السرير! تقصد سريري؟، أنت تملي على الشروط كي تسمح لي بالنوم في سريري؟)
رد عليها قاصي ببساطة.

(كنت تنامين في سريري لفترة طويلة قبل أن ننتقل جميعنا الى هنا بسبب عملك و دراستك)
عجزت عن الكلام و هي تنظر اليه و قد اسقط في يدها، ثم قالت أخيرا ببطىء
(أنت عديم الدم يا قاصي الحكيم)
رفع حاجبيها ثم سألها بسماجة
(هل يعني ذلك أنك لن تأتي للنوم بجوارنا؟)
فتحت فمها تنوي الكلام، الا أنها آثرت الصمت، فقالت بحدة و هي تستدير عنه أخيرا
(لا، اذهب أنت و نم بجوار ابنك).

ثم ابتعدت عنه لتتجه الى النافذة شاعرة بالقنوط و اليأس، لكنها سمعت صوت تنهيدة استسلام من قاصي وهو يقول بخشونة
(حسنا، بما أنك تكرمت و أيقظتني من نومي، فلا بديل لدي من الجلوس معك كي نتكلم)
نظرت اليه تيماء بطرف عينيها و هي تقول ممتعضة
(نتكلم!)
رد قاصي عليها ببراءة وهو يذهب اليها فأمسك كفها يجرها معه حتى سحب لها كرسي من كراسي المائدة، ثم جلس بجوارها
(و هل هناك أفضل من الكلام؟).

مطت تيماء شفتيها و هي تكتف ذراعيها فوق المائدة قائلة
(هذا أبعد من أحلامي والله)
بدأ قاصي في تفريق مجموعة الأوراق المتناثرة فوق المائدة، بينما تيماء تنظر اليه بصمت وهو يلتقط نظارته الطبية ليضعها فوق عينيه، ممسكا بإحدى الأوراق...
فأسندت ذقنها الى كفها و هي تقول بملل
(ماذا تفعل يا آخر صبري!).

بدا قاصي عاقدا حاجبيه في تفكير عميق، ثم نظر اليها مما جعلها تبتسم مجددا من شكل النظارة المناقض للشعر الطويل، لكنها عادت و عبست بشدة ناظرة اليه متظاهرة بنفاذ الصبر مما جعله يلقي اليها ورقة وهو يقول بجدية
(انظري الى هذا التصميم، هذه بعض التغييرات التي سنجريها على تصميم بيتنا الداخلي)
لانت ملامحها قليلا و هي تمسك الورقة قائلة بدهشة
(من رسمها؟)
قال قاصي ببساطة.

(استعنت بمهندس و طلبت منه أن يعاين البيت و يجري لي تصميما أولي، لكن موضوع عمرو أخرني)
نظرت تيماء الى المخطط بإهتمام و هي تشعر بسعادة تجتاح كيانها، ثم هتفت بلهفة و هي تنظر بحثا يمينا و يسارا
(أين نظارتي؟، تركتها في مكان ما)
مد قاصي ذراعه و طال نظارتها وهو يقول
(ها هي، كانت فوق كتبك)
وضعت تيماء نظارتها و درست الورقة بملامح تشع حماسا و اهتماما، ثم قالت بمنتهى السعادة
(لا أفهم منها شيئا).

قرب قاصي كرسيه من كرسيها وهو يشير الى الورقة قائلا بجدية
(أنا أيضا لم أفهم منها شيئا، لكن المهندس شرح لي، هاك، تلك المساحة الواسعة في الطابق العلوي، مساحة مصممة أسفل السقف المائل، على الرغم من أنها أكثر مناطق البيت المعرضة للشمس في أكثر أوقاتها الغير مضرة، لذا اقترح أن يتم تصميمها كغرفة الأطفال)
رفعت تيماء وجهها المتلهف المشتاق و همست غير مصدقة
(أطفال من؟).

رد عليها قاصي متجهما تجهم التركيز العميق وهو ينظر الى المخطط
(أطفالنا بالطبع)
قالت تيماء متوسلة
(أنت تقصد عمرو، اليس كذلك؟ قبل أن أتحمس و أفرح)
أجابها قاصي دون أن ينظر اليها
(لا بالطبع، غرفة عمر ستكون هذه هناك، غرفة كاملة مصممة تناسب طفلا من سن السادسة و حتى شابا في الجامعة، ستكون غرفته و لن يغيرها مطلقا، يمكنه تغيير أثاثها فقط)
بللت تيماء شفتيها و هي تقول بهمس حالم مسكين.

(أخبرني مجددا اذن عن مساحة أطفالنا)
رد قاصي بتركيز وهو يشير اليها
(تلك المساحة ستكون غرفة الأطفال في مرحلة المهد فقط، ما أن يكبرون عنها حتى يغادرون الى غرفتهم الأساسية و يتركون تلك المساحة للرضيع التالي، و هكذا)
نظرت اليه تيماء فاغرة فمها و هي تقول
(أتتكلم جديا؟ بالله عليك!)
نظر اليها قاصي وهو يقول بجدية و حيرة
(بالطبع أتكلم جديا، ما رأيك في التغيير الطارىء على غرفة نومنا اذن؟).

أعادت تيماء عينيها الى المخطط مجددا و هي تهمس
(أين؟)
أشار قاصي الى احدى الغرف و قال
(هذه)
أشارت تيماء الى غرفة أخرى و هي تقول
(كنت أظن هذه غرفتنا!)
أجابها قاصي قائلا بإهتمام.

(و أنا كنت أنوي أن تكون غرفتنا، لكن الغرفة الأخرى ذات شرفة واسعة، و تطل على أجمل منظر في الحديقة، لذا فضلت أن تكون لنا، فأنا و أنت سنستمتع ونحن نشرب الشاي وقت المغيب مع بعض قطع الكعك بالزبيب، على منظر الشجرة القديمة التي تصل الى الشرفة، بينما لو أخذها الأطفال فسيتسللون على الشجرة يوميا كالقرود أطفالا، و كاللصوص شبابا)
رفعت تيماء حاجبيها و هي تمط شفتيها قائلة بتفكير.

(وجهة نظر سليمة، لكن هذه الغرفة لا تحتوي على حمام بعكس الأخرى)
رد عليها قاصي وهو يشير الى زاوية قائلا
(انظري الى تلك المساحة، يمكننا تعديل نظام الصرف و نقتطع جزءا من الغرفة ليكون حمام)
ارتسمت ابتسامة واسعة على شفتيها و هي تقول محركة رأسها بحماس
(سيكون هذا رائعا جدا، و ماذا عن تلك المساحة الخالية؟)
نظر قاصي الى ما تشير اليه، فقال دون اهتمام
(هذه مساحتي الخاصة)
نظرت اليه بعدم رضا متوجسة.

(مساحتك الخاصة؟، كيف لك أن تمتلك مساحة خاصة و أنا لا؟)
رد عليها قاصي قائلا بتوضيح
(مساحتي الخاصة أنا أحتاجها، أما مساحتك الخاصة فهي تخصنا سويا بما أننا واحد)
رفعت تيماء حاجبيها و هي تقول
(أبهرتني، لكن أتعشم الا تحتوي مساحتك الخاصة على أي أسلحة أو أدوات خطيرة)
رد عليها قاصي قائلا بهدوء دون أن ينظر اليها
(لن تحتوي على أي شيء خطير، كما أنها ستكون عازلة للصوت على الرغم من أن العزل سيكون مكلفا قليلا).

برقت عينا تيماء بعدم تصديق الا أنها قالت بخبث و هي تبتسم مقتربة منه تداعب ذراعه
(فكرة أن تكون عازلة للصوت توحي لي ببعض الأفكار، ربما تشاركناها في النهاية)
نظر اليها قاصي بجدية دون أن يبتسم ثم قال آمرا
(مساحتي الخاصة تظل مساحتي الخاصة، لديك البيت بأكمله، فلا تقتحمي مساحتي الخاصة من فضلك)
زمت تيماء شفتيها و هي تدفع ذراعه بقوة، ثم أعادت عينيها الى المخطط فقال قاصي متابعا و كأن شيئا لم يكن.

(أما الحديقة فيمكننا أن نحفر بها مكانا لمسبح صغير، مخصص للأطفال، و ليس لك لأنه مكشوف)
مطت تيماء فمها و هي تقول بغضب
(رأيي أن وجودي ثانوي لا أهمية له، لما لا تستثنيني من خططك المستقبلية، أوفر و أفضل)
امسك قاصي ورقة أخرى وهو ينظر اليها بتركيز قائلا دون أن ينظر اليها
(لا تقولي هذا، نحتاجك في موضوع انجاب الأطفال، أو من أين سنحصل عليهم؟)
قالت تيماء بإمتعاض
(الحمد لله أنك اعترفت بفائدتي).

رد عليها قاصي وهو يتابع قراءة الورقة في يده
(فائدتك لا يمكن انكارها يا مهلكة)
ذاب قلبها حين سمعت اسمها الحبيب من بين شفتيه، كانت قد بدأت تشك في موقعها لديه مع انشغاله بعمرو و ما الى غير ذلك من حياته المعقدة، لذا قالت هامسة بترجي
(أريد طفلا يا قاصي).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة