قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والأربعون

ذاب قلبها حين سمعت اسمها الحبيب من بين شفتيه، كانت قد بدأت تشك في موقعها لديه مع انشغاله بعمرو و ما الى غير ذلك من حياته المعقدة، لذا قالت هامسة بترجي
(أريد طفلا يا قاصي)
لم يرفع قاصي نظره عن الورقة وهو يقول بجدية بسيطة
(أنا أبذل قصارى جهدي)
نظرت اليه بيأس، ثم لم تلبث أن ضحكت على الرغم منها، حينها نظر قاصي اليها وهو يقول عاقدا حاجبيه
(ماذا تعني هذه الضحكة بالضبط؟، التقصير ليس مني بالمناسبة).

أسندت تيماء ذقنها الى كفها و هي تنظر اليه بحب قائلة
(ممن اذن يا روح المهلكة؟)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول آمرا
(الظروف تعيقنا، نقضي حياتنا مشردين من بيت لآخر، من مدينة لأخرى، و دائما معنا فردين أو ثلاثة اضافيين)
لم تفقد تيماء ابتسامتها و هي تتأمله هامسة في داخلها
زوجي، قاصي الحكيم هو زوجي
أسبلت جفنيها و هي تستشعر تلك الفراشات في معدتها، ثم نظرت اليه و قالت بتعاطف.

(انت غير مرتاح هنا، لأنه بيت سالم في البداية، تشعر و كأنك تتجاوز حدودك مع ابنة سالم الرافعي، اليس كذلك؟)
نظر اليها قاصي مقطبا بشدة، فابتسمت أكثر و هي تهمس له بحنان
(أنا محقة، لا تنكر، أستطيع فهمك أكثر من نفسك)
زم قاصي شفتيه وهو يقول منكرا كذبا
(سريرك ضيق).

ضحكت تيماء و هي تنخفض بوجهها، لتطبع شفتيها على كفه بقوة، و ابقتها هناك، فنظر اليها قاصي وهو لا يزال عابسا، ثم رفع يده الأخرى ليداعب بها شعرها اللولبي بحركة تسكرها دائما...
ثم لم يلبث أن هتف متأوها فانتفضت تيماء تنظر اليه بهلع و هي تمسك بذراعه هاتفة
(ماذا، ماذا بك؟)
رد عليها قاصي مازحا بمرح
(شعرك وخز اصبعي، ربما علينا استخدامه لتوصيل الكهرباء في غرفة الجلوس للبيت الجديد).

زفرت تيماء بجنون و هي تمد يديها تشعث بهما شعره بجنون و هي تصرخ
(كف عن هذا، كف عن هذا، عسى أن يسقط شعرك بالكامل يا قاصي و تصبح أقرعا و بكرش ضخم، و لا تنظر اليك ذبابة مارة أمامك حتى)
ضحك قاصي عاليا وهو يمسك بمعصميها قائلا
(يؤسفني اخبارك أنه طالما وصلت الى هذا العمر دون أن يتساقط شعري فلن أصاب بالصلع، أما بالنسبة للكرش فهو لن يشكل عائقا، ساظل جذابا).

نظرت تيماء اليه بإجرام تنوي أن ترتكب جريمة متخيلة كم فتاة تنظر اليه مرتين في اليوم...
و ماذا حين يملأ الشعر الأبيض رأسه؟، سيكون أجمل!
أراحت تيماء جبهتها الى كفها و هي تهمس بإعياء متخيلة جماله تبا له...
لكن قبل أن ترد عليه غاضبة، سمعا سويا صوت أمها يهتف بغضب من الداخل
(أنتم يا بهائم، نريد أن ننام، كفى ضحكا و هتافا).

غطت تيماء فمها تكبت ضحكة مجنونة، بينما نظر قاصي تجاه غرفة ثريا، ثم أعاد عينيه الى تيماء قائلا من بين أسنانه بغضب
(سأقتل أمك يا تيماء)
كبتت ضحكتها و هي تقول
(بيتها، لا يمكننا الإعتراض، متى ننتقل الى بيتنا؟، لا مانع لدي من الإنتقال اليه أثناء العمل به، يمكننا تدبير أنفسنا)
رد عليها قاصي متجهما
(ما أن نطمئن على أمك و نزوجها، يمكننا بعدها أن ننتقل الى البيت أيا كانت حالته)
سألته تيماء بدهشة.

(هل تنوي فعلا أن تزوجها للعم ابراهيم؟)
رد عليها قاصي متذمرا وهو يعيد عينيه الى الأوراق قائلا
(هذا لو ظل راغبا في الزواج منها، كل يوم أدعو الله الا يغير رأيه)
صمت للحظة، ثم رفع عينين غاضبتين اليها وهو يقول متذكرا
(ثم تعالي الى هنا، من هذا الذي كان يجلسك على ركبتيه فتبللين ملابسه! إنه يقول عنك حلوة و حمراء كالبطيخة! والله لولا أنه الزوج المحتمل الوحيد الذي وجدناه لكنت ضربته دون احترام لسنه).

عقدت تيماء حاجبيها قليلا و هي تسأله بدهشة
(من هذا الذي كنت أجلس على ركبتيه و أبلل ملابسه؟ هل العم ابراهيم هو من أخبرك بهذا؟ يا خيبتي! إنه غير قادر على تمييز متى تعرف الى المرأة التي يريد الزواج منها و متى عرف ابنتها، كيف سيتزوج أمي وهو بهذا الحال؟)
رد عليها قاصي محتدا
(تيماء، هل هذا الرجل متداخل معكما كما أوحى لي؟)
قالت تيماء بصدق.

(والله لم أعرفه سوى في شبابي، أنا أعرفك قبل أن أعرفه، لقد أخطأ بيني و بين فتاة أخرى على ما يبدو! قاصي الرجل يعاني من ضعف في الذاكرة أعانه الله، لكنه لن يصلح لأمي أبدا)
رفع قاصي اصبعه محذرا بنبرة شرسة مهددة
(ضعف ذاكرة، أو حتى فقدان ذاكرة كامل، ستتزوجه أي ستتزوجه، هذه فرصة لا تعوض)
تنهدت تيماء و هي تقول بخفوت مفكرة
(هل ستقبل به أمي بعد كتلة العضلات الذي كانت متزوجة منه؟)
رد عليها قاصي بجفاء قائلا.

(و بماذا أفادتها كتلة العضلات سوى أن عجنتها عجنا ما أن أوقفت الإنفاق عليه)
همست تيماء بقلق
(هششششش، أرجوك أخفض صوتك، لا نريدها أن تسمعك فنقضي الليلة بين عويل و شتائم)
تأفف قاصي قائلا بصوت منخفض
(عامة أنا أتفقت مع الرجل على موعدا بعد غد، لو تم الأمر على خير، سيتم عقد القران بعد يومين، و الدخلة آخر الاسبوع، كي يلحقا الحصول على طفل قبل فوات الأوان).

ضحكت تيماء عاليا و هي تضرب ذراعه غير قادرة على السيطرة على نفسها و هي تهتف
(احصل أنت أولا على طفل، ثم اهزأ من أمي بعدها)
عقد قاصي حاجبيه وهو يقول بحدة
(التقصير ليس مني)
أجابته تيماء ضاحكة
(من أمي)
سمعا فجأة صوت أمها يصرخ من الداخل بعنف
(والله لو لم تصمتا فسأخرج و أضربكما معا بخف الحمام، و أخبري اللوح زوجك أنني سأضربه قبلك).

زم قاصي شفتيه و فكه يتشنج بشدة بينما غطت تيماء وجهها غير قادرة على ايقاف ضحكها المجنون، أما قاصي فقال بخشونة
(نست على ما يبدو الخف الذي ضربتها به ذات يوم)
هتفت تيماء من خلف كفيها و هي لا زال تضحك بجنون
(اخرس يا قاصي و دع الليلة تمر على خير)
زم شفتيه و هو يتمتم بحنق، بينما عاد للنظر الى أوراقه، أما تيماء فأخفضت كفيها بعد انتهاء موجة ضحكها العاتية، و أخذت وقتها في تأمله مبتسمة وهو يبدو شديد التركيز...

ثم سألته بخفوت ناعم
(و ما باقي تلك الأوراق؟)
نظر قاصي الى ورقة ملقاة جانبيا، ثم ناولها لها وهو يقول بعدم اهتمام
(هذه صورة من الحكم بالحبس لمدة سنة مع ايقاف التنفيذ، في قضية تزوير ورقة للسفر)
اختطفت تيماء الورقة و هي تنظر اليها بذهول هاتفة
(حقا! ايقاف تنفيذ؟، كيف لم تخبرني بهذا الخبر المفرح من قبل؟)
رد عليها قاصي بصوت أجش
(موضوع عمرو أجل كل شيء، كنت أريد اخبارك في البيت حين ذهبنا للمرة الأولى).

أغمضت تيماء عينيها و هي تقبل الورقة بكل قوتها حتى كادت ان تخرقها، ثم نظرت اليه قائلة بلهفة
(لكن كيف؟)
رد عليها قاصي وهو يشير بيده اشارة مبهمة
(هذا عمل الأستاذ فاروق، كانت بضعة أوراق مزورة بنيت على واحدة في الأساس، لذا قام احتسابها بورقة واحدة مزورة)
كانت تيماء تنظر اليه غير مصدقة
(ياللهي، هذا الرجل نعمة)
أجابها قاصي قائلا بهدوء
(سيكون نعمة بحق لو ربحنا قضية ضم عمرو الى الحاج سليمان).

نظرت اليه تيماء قليلا بتفحص، ثم مدت كفها تريحها على ذراعه قائلة بخفوت
(أنت قلق على نفسية عمرو بعد أن اختطفه راجح، اليس كذلك؟، تكاد الا تفارقه أبدا، حتى في نومه)
بدا قاصي صامتا قليلا، ثم قال بجفاء دون أن ينظر اليها
(هذا طبيعي، عمرو كان مخطوفا)
مسدت ذراعه أكثر، ثم همست برفق
(أعرف، لكن عمرو لم يتأثر كما تتخيل، في الواقع صدمته الأكبر كانت حين رأى راجح يصاب أمام عينيه).

تصلبت ملامحه حتى بدت كقناع مخيف، ثم سألها بصوت جاف دون أن ينظر اليها
(ما الذي تريدين قوله بالضبط يا مهلكة؟)
أخذت نفسا عميقا، ثم قالت برفق، تحاول انتقاء كلماتها.

(ما أريد قوله، هو أنك ستظل والد عمرو العمر كله، و لن يستطيع أحد مجادلة حقك فيه، لكن أرى أنه قد آن الأوان ليستوعب أن راجح هو والده، بكل مساوئه يظل والده، لو حاولت أن تزرع فيه مشاعر الكره لوالده، قد ينقلب هذا الى كره لك حين يصل الى مرحلة المراهقة، تلك المرحلة عليك الإعداد لها من الآن في حالة كحال عمرو)
ظل قاصي صامتا و كأنه لم يسمعها، لكن بدت ملامحه أكثر قسوة بدرجة مخيفة. مما جعلها تناديه بخفوت و حذر.

(قاصي، هل سمعتني؟)
ضرب الطاولة فجأة وهو يقول بحدة
(ماذا تريدين بالضبط يا تيماء؟)
انتفضت بقوة و هي تتراجع للخلف بخوف، ثم لم تلبث أن امتقع وجهها و هي تقول بخفوت مكسورة الخاطر
(لا أريد شيئا، سأذهب لأنام بجوار أمي، تصبح على خير)
و نهضت بالفعل، لكن قبل أن تتحرك، مد قاصي كفه ليمسك بمعصمها يمنعها دون أن يلتفت اليها...

فوقفت تيماء تنظر اليه بحزن دون أن تتكلم، وجهه منخفض صلب دون تعبير، ينظر الى أوراقه دون هدف، ثم قال أخيرا بصوت أجش
(لا تتركيني يا تيماء)
ارتفع حاجبيها قليلا، ثم استدارت اليه و معصمها لا يزال في كفه و قالت بخفوت حنون
(لن أتركك أبدا، آن الأوان لتصدق هذا يا قاصي).

تحرك في مقعده حتى استدار اليها فدفن وجهه بمعدتها وهو يحيط خصرها بكفيه، فأخفضت وجهها لتقبل جبهته بقوة، ممشطة شعره بأصابعها ببطىء الى أن قال أخيرا بصوت أجش
(أتظنين أنني لم أتخيل أن يأتي يوم، يختاره عمرو بكامل ارادته و يتركني!)
ضمت رأسه الى صدرها بقوة و هي تهمس من قلبها تعده بصدق.

(لن يحدث هذا، لن يحدث أبدا، لو زرعت فيه الحب، سيختار طريق الحب في النهاية، أما إن زرعت به الكره سيقتفي أثره، هي نبتة و أنت تزرعها و ترعاها كما تختار، مهما كانت جذورها ضعيفة، لكن تغذيتك لها و رعايتها يقومانها)
رفع قاصي وجهه اليها دون أي تعبير، ثم قال بصوت أجش
(يوما ما ستكونين أما رائعة)
ابتسمت تيماء بحنان، الا أنها هتفت فجأة بصدمة.

(يوما ما! يوما ما! اسمعني يا قاصي يا ابن رابحة، أمامك تسعة أشهر لا أكثر لأحصل على طفل أو سألقي نفسي من النافذة و سيكون ذنبي معلقا بعنقك)
ابتسم قاصي وهو ينظر الى ساعة معصم وهمية في ساعده الخالي ثم قال مشدوها
(هذا يعني أننا تأخرنا بالفعل، ربما علينا البدء من الآن دون تأخير)
ضحكت تيماء و هي تنحني اليه لتقبل وجنته محيطة عنقه بذراعيها هامسة في أذنه
(يمكنني الانتظار حتى ننتقل الى بيتنا، لا أمانع).

رد عليها قاصي هامسا بصوت أجش
(اذن فلنزوج أمك في أسرع وقت ممكن، ثلاث أيام على الأكثر يا تيماء، فأنا أعاني حرمانا مزمنا)
تألقت ابتسامتها برقة و هي تهمس
(قل يا رب)
رفع عينيه لأعلى وهو يهمس
(يا رب، لا نريدها معنا يا رب)
ضربته تيماء بقوة و هي تضحك قائلة
(أنا لن أتحمل استهزائك بها أكثر من هذا)
رد عليها قاصي ببؤس
(أنا لا أستهزىء بها، أنا أقول الصدق)
ضحكت تيماء و هي تنظر الى أوراقه مجددا، ثم سألته بإهتمام.

(لم تخبرني عن هذا الملف هناك؟)
التفت قاصي ينظر الى الملف الذي تقصد، فقال بعدم اهتمام وهو يلتقطه
(هذا؟، إنه دراسة جدوى)
ثم ألقى به على الطاولة بينما اتسعت عينا تيماء و هي تسأله بدهشة
(دراسة جدوى؟، لأي شيء؟)
قال قاصي مترددا
(لمشروع صغير بالمبلغ المتبقي)
اتسعت عيناها أكثر و أكثر، ثم انخفضت أمامه حتى جثت على عقبيها و هي تختطف الملف لتفتحه بلهفة هاتفة.

(دراسة جدوى! مشروع! عشت اليوم الذي أراك فيه ممسكا بدراسة جدوى! اللهم لك الحمد و الشكر، من الذي حضره لك؟)
رد عليها قاصي بتردد.
(هناك مكتب خاص لإعداد مثل تلك الدراسات، لكن لا تتأملي كثيرا فهو مشروع بسيط)
رفعت تيماء وجهها اليه و هي تهتف بحرارة و اختناق من شدة لهفتها
(بل هو في نظري أهم من أكبر مشروع في البلد، هو مشروع حياتنا، المهم الا تفقد حماسك له)
هز رأسه وهو يقول بلا تفاؤل
(لنرى).

ثم خلع نظارته وهو ينظر اليها قائلا بنبرة خافتة
(يا مهلكة، لا أرغب سوى في شيء واحد، أن يكون لنا بيتا، دارا كدور الرافعية، فلا نصبح غرباء، تعبت و أشقيتك معي)
أحاطت تيماء وجهه بكفيها و هي تهمس من بين دموعها بإختناق
(الشقاء كان فراقي عنك، يا غريب الدار، يا ساكن القلب)
أخفض قاصي وجهه يتنعم بشهد ثغرها بينما هي تهمس له برقة بين شفتيه
(لن أغنيها لك الا في بيتنا).

همس قاصي بصوت أجش وهو يقبل وجنتيها وشامة وجهها الوردية بنهم
(لا تغنيها من الأساس، لأن صوتك نشاز كرقصك تماما، قبليني فقط).

(ما رأيك؟، وحش الليل، أنا أكلمك يا كبير)
استدارت سوار مبتسمة من شرودها و هي تنظر من نافذتها حالمة الى ليث الذي كان واقفا يفض أغلفة ما اشتراه لطفله المرتقب
هزت رأسها و هي تقول ضاحكة بيأس
(لقد ابتعت كل ما في محلات الأطفال يا ابن الهلالي)
قال عاقدا حاجبيه بثقة.

(و ماذا إن ابتعت كل ما في المحلات، ها أنت نطقتها بنفسك، ابن الهلالي، و الطفل سيكون ابن ابن الهلالي، و حفيد وهدة الهلالي، أي أنه خلاصة الأصل و النسب و كل شيء جميل)
ردت عليه سوار بغيظ
(الا تلاحظ أنك قمت بإختذال فرع الرافعي تماما من تكوين طفلي!)
نظر اليها للحظة، ثم قال متنازلا
(نعم، و هذا أيضا)
ثم تابع ترتيب الملابس الصغيرة، الا أن سوار لم تتهاون، بل قامت من مكانها و هي تقول متخصرة.

(أسمعني ماذا تقول يا هلالي، و هذا أيضا! ابني سيظل رافعي دائما)
رفع ليث وجهه قائلا بفخر مبتسما
(لكن لقبه هلالي)
أرادت أن تعترض، لكنها لم تملك الإنكار، لذا زمت شفتيها للحظة قبل أن تقول بميوعة
(اللقب هلالي، لكن الحلاوة رافعية، و انظر الى أمه لتحكم بنفسك)
نظر اليها ليث بطرف عينيه ثم قال مبتسما وهو يحاول كبت نفسه
(لا تحاولي اغوائي يا وحش الليل، لقد أوصت الطبيبة بالتريث في هذه المرحلة).

ارتفع حاجبها بخبث و هي تقول ببراءة
(أمهاتنا و جداتنا حملن و وولدن دون زيارة أي طبيبة ولو لمرة، و هن بالتأكيد لم يتريثن أبدا)
ترك ليث ما في يده ثم اقترب منها و ملامحه تعلوها الغيظ ليمسك بذقنها يرفعه اليه وهو يقول من بين أسنانه.

(أسابيع و أنت تنامين كالدب في البيات الشتوي، و كلما اقتربت منك تنوحين و تولولين تعبا، الى أن زرنا الطبيبة و نصحتنا بالتريث قليلا، من وقتها و حالة من النشاط دبت بك فجأة كفرقع لوز، ماذا أفعل بك الآن؟)
ابتسمت بمكر و هي تقول ناظرة لعينيه بنعومة
(الممنوع مرغوب)
للحظات تجاوب مع ابتسامتها فابتسم فمه لعينيها العسليتين بلون الشهد، الا أنه لم يلبث أن هز رأسه بقوة وهو يبتعد عنها متذمرا يقول بصرامة.

(لا لا، تعقل يا ابن الهلالي، سلامة طفلك أهم من مجرد وحش ليل جميل، أنثوي، بشعر خلاب طويل، طويل جدا)
زمت سوار شفتيها و هي تقول بلامبالاة
(كما تريد يا ابن الهلالي، من الواضح أن ابنك سيحتل مكانتي لديك)
التفت ليث ينظر اليها بطرف عينيه مبتسما. ثم قال بصوت أجش
(لا عاش و لا كان، لا أحبه الا أنه طفلك أنت و الذي ادخره لي القدر ليكون من رحمك، لا غيرك).

ابتسمت سوار و هي تقترب منه تميل برأسها فمال شعرها معها مغطيا كتفها و هي تتأمل ما ابتاعه...
ثم التقطت قطعتين، إحداهما بلون وردي، بينما الأخرى بلون السماء...
رفعت القطعتين أمام وجهه و سألته ضاحكة
(ولد أم فتاة، اثبت على قرار)
اختطف ليث القطعتين من يديها و أعادهما الى مكانهما وهو يقول برزانة
(ولد أو فتاة، أيا كان، سيرتدي ما يناسبه و الباقي للطفل الجديد ان شاء الله).

نظرت سوار الى الدراجة الصغيرة، و قالت بهدوء
(أنت حقا تعاني من هوس أبوي مستعصي)
نظر اليها ليث و قال بصوت أجش
(وصلت لسن الأربعين، من حقي أن أعاني بعض الهوس)
ابتسمت سوار و همست له بألم لا تملك الا أن تشعر به، تعاطفا معه...
(أطال الله عمرك يا غالي)
أحاط خصرها بذراعه وهو يقبل جانب وجهها بعمق هامسا لها
(و عمرك يا مليحة).

لفت سوار ذراعيها حول خصره و هي تنظر الى تلك الأشياء الجميلة التي ملأت غرفتهما، ثم قالت بصوت دافىء حنون
(أكاد أعد الأيام حتى يصل ولي العهد، لا أتمنى سوى أن يكون سالما معافى)
قبل ليث جبهتها برفق وهو يقول بصوت أجش...
(إن شاء الله، إن شاء الله)
ربتت سوار على صدره و هي تقول
(بدل ملابسك، و أنا سأعد لك الطعام، لكن اجمع هذه الأشياء جانبا أولا، أخشى أن أتعثر بالألعاب لدى دخولي).

ظهر القلق على ليث وهو يقول بإهتمام
(التزمي الحرص يا سوار بالله عليك، انظري أمامك و أنت تمشين بأي مكان)
توقفت سوار مكانها ثم نظرت اليه قائلة و هي تمط شفتيها كعجائز الفرح
(لم أسمع منك تنبيها كهذا قبل حملي)
رد عليها ليث وهو يتابع جمع الألعاب جانبا دون أن ينظر اليها
(هذا لأنني كنت أحملك بنفسي كل ليلة قبل دخولك الى الغرفة حتى كسر ظهري، لكنك ناكرة الجميل، تحسدين طفلي المسكين و الذي لم يرى نور الحياة بعد).

انحنت سوار لتلتقط أحد الألعاب ذات الفراء، ثم استقامت و رمته بها فضربته في منتصف وجهه مما جعله يهتف بها غاضبا
(والله لو لم تكوني حامل لكنت ضربتك بمضرب الذباب)
ضحكت سوار و هي تجري منه خارجة من الغرفة، الا أنه صرخ بها من داخل الغرفة
(لا تجري)
أبطأت سوار خطواتها و هي تمط شفتيها قائلة بنفاذ صبر
(لقد جن الرجل على كبر).

دخلت سوار المطبخ، و بدأت في تحضير طعام الغذاء، لكن رنين هاتفها جعلها تجفف يديها بالنشفة لتنظر اليه، ثم لم تلبث أن عقدت حاجبيها و شعرت بصدرها ينقبض بشدة...
ظلت سوار تنظر للرقم قليلا قبل أن تمسك بالهاتف و ترد بخفوت
(السلام عليكم، كيف الحال يا أم سعيد، بالطبع أحفظ الرقم، كيف الحال؟)
وصلها صوت أم سعيد تقول بتوتر أقرب للرعب.

(الحال لا يسر عدو أو حبيب، لا يسر الا العقرباء منها للذي خلقها، حسبي الله و نعم الوكيل)
شعرت سوار بساقيها تتحولان الى اسفنج رخو، فجلست على أقرب كرسي و هي تهمس بصوت باهت
(لجأت اليه، اليس كذلك؟، هل هذا ما أبلغك اياه ابن خالك؟ )
ردت أم سعيد تقول بحدة.

(راقب مدخل هذا الدجال ليل نهار، الى أن رآها تدخل عنده متخفية، في البداية شك أن تكون هي حتى بعد أن أخبرتنا نسيم عن الطريقة التي تتبعها تلك الحرباء في التسلل اليه، لكنه فعل كما أمرت تماما بكشف عمله، بعد أن هدده لساعات طويلة حيث احتجزه مع مجموعة من أبناء أعمامه، و ذهب بنفسه للمكان الذي نطق به الدجال أخيرا ووجد العمل مدفونا في المقابر، بجوار)
صمتت غير قادرة على المتابعة، فهمست سوار تسألها بصوت يرتجف.

(بجوار ماذا، انطقي يا أم سعيد)
ردت أم سعيد بصوت مختنق شبه باكي...
(لا حول و لا قوة الا بالله، بجوار قبر السيد سليم رحمه الله)
شهقت سوار بعنف و هي تضع يدها على صدرها بينما أغروقت عيناها بالدموع بسرعة البرق...
أما أم سعيد فتابعت منتحبة
(الحية أبت أن يرتاح حبيبي رحمة الله عليه في قبره، فأرسلت من دفن سحرها الأسود بجوار قبره ليتقلب معذبا في راحته).

شعرت سوار بالعالم يدور من حولها و غثيان بشع يقلب كيانها، الا أنها همست في النهاية بمعجزة
(هل معك هذا العمل؟، إياك أن تكوني قد تخلصت منه قبل أن أراه، لقد أوصيتك يا أم سعيد)
ردت أم سعيد مترجية و هي تبكي
(يا ابنتي لماذا تعذبين نفسك برؤيته، لنتخلص منه و ننهي الأمر)
قاطعتها سوار و هي تقول بصوت مختنق الا أنه صلب عنيف، تتسلح بقوة واهية
(صوريها يا أم سعيد كما علمتك و ابعثي لي بالصور على الفور).

قالت أم سعيد مختنقة تتوسل
(يا ابنتي)
الا أن سوار هتفت بصرامة
(الآن يا أم سعيد، حالا، كما علمتك كيف تصورين و ترسلين الصورة الى صورتي المسجلة لديك مباشرة. )
ردت عليها أم سعيد تقول بصوت مرتجف باكي...
(حاضر يا سيدة سوار، حاضر)
أغلقت سوار الهاتف ووضعته بجوارها على الطاولة و جلست تنظر أمامها بعينين لا تبصران شيئا و ملامح جامدة شاحبة، مدعية الصلابة و القوة، بينما في داخلها شعور بالضيق يكاد ان يخنقها...

و لم تكد تمر دقيقتين حتى سمعت صوت وصول رسالة ثم صمت الهاتف من جديد...
نظرت سوار الى الهاتف بجوارها و شعور غريب عليها بالخوف يعتريها، و كأن الهاتف ينتوي قتل سعادتها و أغلى من لديها...
فسحبت نفسا عميقا، و هي تقوي نفسها، ثم فتحت الرسالة ببطىء و بأصابع مرتجفة...
في الواقع كانت عدة صور متتالية لا تقبل الشك...
نهضت سوار من كرسيها ببطىء و هي تنظر الى الصور بشفتين مرتعشتين فاغرتين و عينين واسعتين...

كانت الصور كلها تمثل مجموعة واحدة محكمة الربط معا...
صورتها، مغطاة بعلامات متقاطعة كعلامة خطأ، لونها أحمر كلون الدم، و لقب ابنة وهدة مرافق للصورة، و قطع قماشية من ملابس قديمة خاصة لها...
صورة سليم، ضحكته البشوشة و ملامحه الجميلة مشوهة بنفس العلامات المتقاطعة، مع كلمات غريبة لم تفهم منها سوى كلمة، موت، موت...

ثم صورة ليث، مغطاة بنفس العلامات، و طلاسم غير مفهومة و بقعا من دم مجهول و كلمة موت، موت الطفل، موت أمه، موت والده، موت موت موت موت...
ظلت سوار تمعن النظر في تلك الصور بذهول والعالم يضيق من حولها ضاغطا على رئتيها...
حتى شعرت بنفسها تهوي ببطىء الى عالم سحيق بعد أن صرخت عاليا بفزع...

و في أثناء سقوطها ضربت يدها الإناء الزجاجي المسطح الذي أخرجته منذ قليل من الموقد، فسقط أرضا ليتحطم بشكل كارثي و قد تناثر كل ما بداخله...

(سوار، سوار حبيبتي، أفيقي يا قمري، أنت بخير، أفيقي)
كانت سوار تسمع هذا النداء من بعيد فتحاول التمسك به دون جدوى، و كأنه زئبقا كلما اقتربت من الإمساك به، أفلت من بين يديها...
بكت سوار بقوة و هي تهز رأسها يمينا و يسارا الى أن صرخت في النهاية بعنف
(لييييييييييث)
شعرت بنفسها تضم بقوة الى صدر رحب حنون و صوت مألوف يهمس في أذنها بقلق
(لا بأس، أنا هنا، أنا هنا بجوارك و لن أتركك).

فتحت عينيها ببطىء و هي تحاول استيعاب مكانها، فوجدت نفسها مستلقية في سريرها و ليث بجوارها يضمها الى صدره بقوة...
رمشت سوار بعينيها و هي ترفع يدها لتبعد بها الشعر عن وجهها، الا أن ألما حارقا جعلها تنظر الى كفها فوجدته ملفوفا برباط طبي خفيف...
نظرت سوار الى ليث متفاجئة و قالت بخفوت
(ماذا حدث؟)
رد عليها ليث بهدوء دون أن يحررها من بين ذراعيه...

(أصبت بالإغماء في المطبخ، فضربت إناء الطعام الساخن و أحرق يدك أثناء سقوطك)
تذكرت سوار ما حدث في لحظات فحاولت أن تستقيم هاتفة بجزع
(المطبخ، هاتفي، أريد هاتفي)
الا أن ليث منعها وهو يعيدها الى الوسائد من خلفها بقوة، قائلا بصرامة
(انسي كل شيء الآن و ارتاحي، لن تتحركي الى أي مكان)
نظرت اليه سوار بنظرة أوجعت قلبه، ثم قالت بصوت مترجي حاد النبرات
(أريد هاتفي يا ليث، أحتاجه).

الا أن ملامح ليث بدت أكثر صرامة وهو يقول بصوت قاطع
(لن تفعلي شيئا الآن، أنسي كل شيء)
ضاقت عيناها قليلا و هي تنظر اليه، ثم همست بصوت خافت
(لقد رأيت الصور)
كانت تقر أمرا واقعا و هي تراقب كل تعبير من تعابير وجهه، لكن ملامحه لم تتغير سوى أن ازدادت صلابة و انعقد حاجبيه، فهتفت حينها بشدة
(لقد رأيت الصور)
أجابها ليث بجدية و هدوء
(رأيتها، انسيها تماما و ارتاحي الآن)
قاومت سوار ذراعيه بقوة و هي تهتف.

(كيف أنساها؟، زوجتك تقوم بأعمال السحر تجاه أسرتي)
أجابها ليث بصوت متفاجىء مصدوم
(زوجتي! و هان عليك أن تنطقي بها يا مليحة)
رمشت سوار بعينيها المجهدتين و هي تقول بصوت متداعي ضعيف بعد لحظات
(نعم، لقد طلقتها، ما الذي يحدث لي؟)
رفعت يدها الى جبهتها و هي تحاول استجماع تركيزها فأمسك ليث بكفها ليقبلها برقة هامسا.

(ربما كان هذا من تأثير المهدىء الذي أخذت منه، على الرغم من أنه خفيف جدا ليناسب الحمل، لكن أثره لا يزال واضحا)
نظرت اليه سوار بعدم فهم و سألته
(هل أعطيتني مهدئا؟)
أجابها ليث بتردد وهو يمشط شعرها برفق
(لست أنا من وصفه لك، لقد جائت طبيبة لتعاين وضعك ووضع الجنين، ووصفت لك المهدىء بعد أن أصبت بحالة مفاجئة من الفزع، أنت نائمة منذ أربع ساعات تقريبا)
اتسعت عينا سوار و هي تهتف غير مصدقة
(اربع ساعات!).

اومأ ليث برأسه ببطىء ثم قال وهو ينظر الى عينيها بصوت خفيض
(لقد ارتعبت جدا، و ارعبتيني معك، حتى الآن لم أتمالك أعصابي تماما و أنا أرى الحالة التي أصابتك. كنت تهذين و لا تسفيقين ابدا)
قست ملامح سوار و اشتدت و هي تقول بقوة
(الصور يا ليث، العمل كان مدفونا بجوار قبر)
لم تستطع المتابعة فاختنق صوتها و اغروقت عيناها بالدموع، مما جعل ليث يهمس لها بصوت أجش
(انسي الأمر حبيبتي، كل هذا مجرد دجل و شعوذة).

ظلت سوار صامتة، يعلو وجهها ملامح غريبة غير مريحة مما جعل ليث يعقد حاجبيه قائلا
(سوار! بماذا تفكرين؟ و ما سبب هذا الرعب الذي أصابك؟)
هزت رأسها قليلا و هي تحاول أن تمنع نفسها من الكلام، الا أنها لم تستطع فهمست بصوت متردد مختنق
(كانت، كانت تقوم بتلك الاعمال قبل زواجنا، منذ سنوات طويلة، و حين أنظر الى موت سليم المفاجىء رحمه الله و ظروفه فأنا أ)
قاطعها ليث هاتفا بقسوة و ذهول.

(سوار! استغفري ربك! لا أصدق أنني أسمع هذا الكلام منك)
عضت سوار على شفتيها المرتجفتين لكنها هتفت بقوة
(لكن لماذا تحديدا بعد فترة قصيرة جدا من. بعد أن أصبحنا)
صمتت كي لا تتفوه بالكثير، لكن ليث هتف بها بحدة
(لا أصدق أن انسانة متعلمة مؤمنة مثلك تتفوه بمثل هذه التفاهات)
أغمضت سوار عينيها و هي تهمس بإختناق رافعة يدها الى عينيها
(استغفر الله العلي العظيم).

ثم عضت على شفتيها و هي تحاول التغلب على ذلك الرعب الذي انبعث بداخلها فسألها ليث بجدية عاقدا حاجبيه
(أين تلك المرأة القوية، التي أمسكت برأس حيوان ميت صباح زواجنا و ألقت به دون أن تجفل أمام من أقدمت على هذا التصرف المقرف)
ظلت سوار على حالها تغطي جبهتها بأصابعها المرتجفة، ثم همست أخيرا بصوت مختنق دون ان ترفع عينيها اليه...

(إنها تنجح في اشياء غريبة يا ليث ليس لها تفسير، تستطيع الحصول على صور لي و للمرحوم سليم، و قطعا من ملابسي الخاصة، إنها تستطيع الوصول الى غرفة نومي)
أمسك ليث بذقنها يرفع وجهها اليه وهو يقول بصرامة.

(هذا هو عمل المشعوذين، خدعهم التي يجيدونها ليربحون منها بالباطل، الأمر لا يتعدى المهارة في النصب و الخداع كي تصابين بنفس تلك الحالة، أما سليم رحمه الله، فقد آن أوان صعود روحه الى بارئه، و لكل منا أوان، لا يؤخره أو يقدمه، لست أنا من سيعلمك هذا يا سوار يا ابنة الحاج غانم!)
همست سوار بإختناق
(استغفر الله العظيم، استغفر الله العظيم)
أمسك ليث بكفيها وهو يقول بجدية آمرا.

(اتركي الأمر لي، أنا سأقوم بالإبلاغ عن هذا الدجال و منعه من دخول البلدة للأبد، الآن انهضي معي سأساعدك لتتوضأي، ثم نصلي سويا)
تحركت سوار بضعف حتى وصلت الى حافة السرير، لكنها توقفت و رفعت وجهها تنظر اليه بضعف ثم همست و هي تضع يدا على لحيته، و اليد الأخرى على بطنها
(هناك من يتمنى الموت لأسرتي، بل و يسعى لذلك يا ليث)
أجابها ليث بهدوء وهو يغطي كفها فوق بطنها
(و هل يملك أن يغير ما كتبه الله؟).

هزت سوار رأسها نفيا ببطىء، فسألها ليث بنبرة أكثر قوة
(هل يملك الروح غير خالقها؟)
عادت سوار لتهز رأسها نفيا مجددا، فقال ليث بحزم
(اذن تعالي معي، لنتطهر من تلك الخرافات قبل أن تدنسنا بالكلام عنها أكثر، و اتركي الباقي علي).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة