قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والخمسون

نظر أمين الى ساعة معصمه وهو يتأفف للمرة الألف، نصف ساعة اضافية
إنه يمقت تلك الظروف التي تضعه بها السيارات و مشاكلها...
و يكره كل مصلحين السيارات، فها هو اتصل بأحدهم منذ ساعة و لم يصل بعد...
استند أمين الى السيارة المحتضرة وهو يراقب السيارت المغادرة بنظرات مبهمة، مكتفا ذراعيه بضيق
في مثل هذه الظروف كان يتصل بفريد دون أي تفكير...

علي الرغم من أنه كان قادرا على تحمل المشاق، لكن تعطل السيارة تحديدا يفقده أعصابه و جعله يتشاجل مع المصلحين أكثر من مرة، لذا كان فريد هو منقذه في تلك الحالة...
يأتي اليه في أي مكان، و كأن الأرض قد شقت و خرج منها مبتسما تحيط به هالة الإنقاذ السريع...
لدرجة أن أمين كان يترك له السيارة أحيانا و يستقل سيارة الأجرة، فيعيدها اليه فريد آخر اليوم و قد تم حل المشكلة...

كان ذو بال طويل و صبر أطول، هادىء الطباع بعكسه تماما...
في نفس الوقت كان فريد يلجأ الى أمين كلما أراد احراج أحدا و يشعر بالترفع عن فعل ذلك بنفسه...
ابتسم أمين وهو يتذكر المرة التي طلب فريد منه أن يرافقه لشراء أسماك من السوق و كان يأنف من فعل ذلك و لا يجيد اختيارها، كما أن يخشى على بنطاله من اتساخ أرض سوق الأسماك...

و ما أن وصل اليه أمين و أدرك السبب الذي استدعاه لأجله حتى استشاط غضبا وقد كان يظنه أمرا طارئا فجره خلفه جرا الى سوق السمك حتى اتسخ بنطاله بالفعل...
ضحك أمين ضحكة خافتة وهو يتذكر تلك الأيام...
في الواقع لم ينظر الى فريد مطلقا على أنه صديقه المقرب، بل كان بالنسبة له مجرد ابن عمه...
لكن الآن حين فقده، اكتشف وهو يتذكر مواقفهما سويا أنه الصديق الأقرب الذي لطالما وثق فيه ثقة عمياء...

اختفت الابتسامة عن وجهه و حل محلها حزن عميق وهو يدرك الآن فقط...
يدرك أنه قد خسر أخلص أصدقائه، للأبد...
و ماذا ربح عوضا عنه!
و ما كاد السؤال أن ينتهي في تفكيره، حتى انتبه الى سيارة أجرة تقف بالقرب منه مباشرة فعقد حاجبيه قبل أن يرتفعا بدهشة و غضب وهو يرى الباب يفتح لتخرج منه بدور ناظرة اليه بإبتسامة عريضة...

للحظات لم يتكلم وهو يراها تغلق الباب خلفها فتنطلق السيارة مبتعدة، لكن ما أن استدارت اليه قائلة بمودة
(السلام عليكم)
حتى انفجر فيها غاضبا
(هل تتحدين أوامري؟)
توقفت بدور مكانها مجفلة، الا أنها عادت و اقتربت منه لتقول بخفوت رقيق
(لا أبدا، أنا فقط فكرت أنني لن أستطيع التخلي عنك و العودة للبيت بمفردي و تركك هنا)
هتف أمين بخشونة و غيظ.

(و ما الذي سيساعدني فيه مجيئك بالله عليك! لقد أمرتك أن تعودي للبيت و تتصلين بي من هناك. )
اقتربت بدور منه أكثر حتى وقفت بجواره و استندت الى السيارة مثله تماما، ثم قالت بهدوء مستفز
(شعرت بالخوف من العودة بمفردي، و انا احساسي لا يخطىء، ربما حدث لي شيء في الطريق، حينها لن يرحمك ضميرك).

نظر اليها أمين حانقا بطرف عينيه، الا أنها لم تبادله النظر بل كانت مبتسمة ابتسامة جميلة و هي تتأمل الطريق أمامها بشرود...
فنظر أمامه هو الآخر شاعرا بعدم الرغبة في مضايقتها أكثر...
بدا أن تجريحها و ايلامها أصبح يؤلمه هو، و ابتسامتها تشعره أنه فعل شيئا صائبا في حياته يشكر عليه...
مرت الدقائق بينهما في صمت ثقيل لم يتحمله أكثر، حيث أثار أعصابه فاستقام عن السيارة وهو يقول بعصبية ناظرا الى ساعة معصمه.

(لا يعقل كل هذا التأخير، هذا أمر غير محتمل)
نظرت اليه بدور و سألته بخفوت
(من تنتظر؟)
نظر اليها أمين بحنق يكاد أن يخنقها، ثم قال متهكما
(أنتظرك، لتملسي على السيارة باصابعك المبروكة لعلها تتحرك)
لم تجفل بدور هذه المرة و لم يرتسم الهم على ملامحها، بل قالت مبتسمة
(و ها أنا قد أتيت)
فغر أمين فمه على وشك أن يشتمها، الا أنه تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة و استدار عنها وهو يكلم نفسه قائلا بإختناق.

(يا الله، يا ولي الصابرين)
لكن بدور في تلك اللحظات كانت تتأمله مبتسمة بحنان، شيء ما بداخلها كان يشعرها بشعور لذيذ و كأنها تراقب طفل متمرد غاضب، و هي تعذره، تتفهم غضبه و تستوعبه، و لا يمكنها فعل شيء حياله...
انتظرت للحظة حتى يهدأ ثم قالت برقة، قاصدة أن تهدىء من عصبيته
(تعرفت اليوم على فتاة من دفعتي)
تيبست ملامح أمين أكثر و دس كفيه في جيبي بنطاله، ضاغطا على أسنانه، ثم قال بحماس زائف ساخر.

(يا له من إنجاز عظيم)
تظاهرت بدور أنها لم تلحظ سخريته و ملله، فتابعت ببساطة تحكي له
(تصور أنها معي في الدفعة منذ بداية العام، الا أنني لم أعرفها و لم أميز وجهها حتى، الحقيقة أنها هي من جاءت لتتعرف علي)
أغمض أمين عينيه وهو يعد للعشر في داخله، بينما قالت بدور برقة خجولة
(أتدري ما السبب الذي جعلها هي تلحظني؟).

أخذ أمين نفسا ساخنا وهو يراقب الطريق منظرا وصول مصلح السيارات كي يقتله و يلقي بجثته أسفل اطارات السيارات المارة...
لكنه اضطر للسؤال بملل واضح
(ماذا؟)
أجابته بدور بنبرة أكثر خجلا
(أنت)
استدار اليها أمين متفاجئا وهو يسألها عاقدا حاجبيه و قد حصلت على انتباهه أخيرا
(أنا؟، لماذا؟)
حاولت جاهدة سكب أقصى ما تملكه من جمال في ابتسامتها و هي تجيبه ناظرة اليه بحياء.

(لأنك تقلني كل يوم، صباحا و مساءا، فرأته تصرفا عاطفيا للغاية و ظنت، ظنت أننا تزوجنا بعد قصة حب)
شعرت بخجلها يزداد فأخفضت وجهها، داعية الا يرد عليها بفظاظة، لكن أمين كان في حال آخر...
هو أيضا شعر بالخجل، الا أنه كان خجلا من نوع مختلف...
شعر بالحرج من شدة تناقض الواقع مع ظنون الناس، و من المؤكد أن هذا ما ظنته بدور كذلك...
لم يستطع الرد عليها فظل صامتا بحرج، الا أنها هي من تكلمت...

فرفعت وجهها و نظرت اليه هامسة بخفوت
(شعرت أن الله قد أرسلها لي اليوم تحديدا بعد شجارنا صباحا كي ينبهني أنني تماديت كثيرا، ما تشعر به طبيعي و يحق لك تماما و في نفس الوقت يراه الناس بشكل آخر أكثر جمالا، ففكرت لما لا أدع كل شيء للوقت، هو كفيل بالحلول)
ازداد انعقاد حاجبي أمين مع زيادة حرجه أمامها، ربما أرادت فقط أن تلطف الجو بينهما بكلامها هذا، بينما كلاهما يعرفان أن الواقع اكثر قتامة بشكل لا يحتمل...

ظل أمين صامتا وهو ينظر الى الطريق يتمنى أن يتدخل القدر و يخلصه من هذا الضيق، لكن الدقائق استمرت في المضي، فتجرأت بدور و قالت بتردد و هي تختلس النظر اليه بطرف عينيها
(بالمناسبة، لقد دعتني للخروج معها و مع مجموعة من الفتيات في دفعتنا)
انتفض أمين ينظر اليها بقسوة و قد تلبدت ملامحه في شكل عاصفة قريبة، مما جعلها تقول بسرعة متلعثمة
(لكنني رفضت بالطبع، لم أعدها حتى بالتفكير أو سؤالك).

الا أن كلامها لم يخفف من شدة تحفزه، فقال محتدا
(و طالما أنك أجبتها و انتهى الأمر، لماذا تتعمدين استفزازي لتسمعين مني ما لا يرضيك؟)
شحب وجهها على الفور و ارتجفت شفتيها فالتفتت عنه و هي تقول بخفوت مختصر
(كنت أقص عليك تفاصيل يومي ليس أكثر لنقضي الوقت، و لتعلم أنني أحسن التصرف حتى في غيابك).

كلامها أشعره بالذنب و بعض العطف عليها، فظل يراقبها بصمت و هي تلاعب حصاة صغيرة بحذائها الطفولي، مطرقة بوجهها الحزين الشاحب، و أراد أن يستمر في صمته متجاهلا اياها، الا أن قلبه لم يطاوعه رغما عنه، فسألها على مضض وهو يحاول أن يغلف نبرته بالقسوة
(و هل أردت الذهاب معهن؟)
رفعت بدور مجهها اليه متفاجئة واسعة العينين من سؤاله الغريب و كأنه يفتح معها حوارا، فارتبكت قليلا لكنها أجابته بإصرار.

(ثق أنني لن أكسر لك أمرا يا أمين، حتى لو سافرت أو لو أسكنتني في سكن بمفردي، حتى لو أرسلتني الى آخر البلاد، سأظل أحمل جميلك في قلبي و لن أعصي لك أمرا مطلقا)
تأفف امين نافذ الصبر وهو يتطلع الى سماء، ثم سألها مجددا بحدة
(لما كل هذا القدر من المبالغة المسرحية، سألتك سؤالا بسيطا فتحاولين الظهور بمظهر المتفانية ككل مرة).

امتقعت ملامحها أكثر من هول الإحراج، الا أنها أخفضت عينيها مجددا و بدت مترددة قبل أن تجيبه بحذر
(بصراحة، أنا لا أخرج مطلقا، لا أذكر انني خرجت منذ طفولتي)
ظلت ملامح أمين شديدة التعقيد وهو يسمع منها هذا التصريح، فقال بصوت غريب
(هل تتوقعين مني أن أصدق هذا! ألم تخرجي مع راجح الى أماكن فخمة أنيقة من قبل!).

أغمضت بدور عينيها وهي تزفر نفسا بطيئا يائسا، ها هما يعودان الى نفس النقطة السوداوية ذات السم الزعاف، لكنها لم تصاب بالهلع و لن تبكي، إن أراد التطرق لها مرة أخرى فستجاريه لذا أجابت بخفوت و هي تعود للعب بالحصاة أرضا
(لم يحدث أن اصطحبني الى أي مكان مميز، بل لا أتذكر أنه اصطحبني الى أي مكان أساسا)
صدرت عنه ضحكة مستهجنة غاضبة جعلتها تقول بقوة
(لم يحدث يا أمين، ليس أمرا هاما كي أتعمد الكذب به).

نظر أمين الى عينيها طويلا و دون تفكير قال بصوت بارد ساخر
(باستثناء اصطحابك الى شقته اذن)
نظرت بدور الى البعيد و هي تأخذ نفسا عميقا مؤلما، ثم قالت بصوت خال من الشعور
(نعم، باستثناء ذلك)
شعر أمين بنيران الغيرة و التملك المهدور، لكنه يستحق ذلك، هو من سعى لفتح الموضوع من جديد لذا يستحق الإحتراق بتلك النار مجددا...
و مع ذلك لم يستطع منع نفسه من القول بسخرية.

(و نعم من تسلمين له نفسك بهذه البساطة، لم يحاول حتى بذل بعض المجهود في التودد اليك قبلا، لأنه لم يحتاج أصلا، لقد ظننت أنك وقعت ضحية فخ عاطفي كبير لم تستطيعي مقاومه سحره)
كل كلمة منه كانت كنصل حاد يمزق جزءا صغيرا من روحها، فيدميها دون أن يقتلها، حتى باتت روحها مهترئة من شدة الإهانة و الخزي...
أجابته بخفوت.

(لم يكن هناك أي فخ عاطفي، مجرد رغبته في أن يتمم علاقتنا قبل الزفاف أشعرني بوهم كم أنا مرغوبة، فأعمى عيني عن عيوبه و مدى خسته، نعم كنت رخيصة و سهلة المنال يا أمين و لم يحتاج الى الكثير من الإقناع)
حك أمين فكه بقوة يكاد أن يقتلعها من مكانها بغضب حاقد، فأدار ظهره اليها كي لا يتهور أكثر، مما جعلها تنظر اليه بحزن، ثم سألته بخفوت أكبر.

(لماذا تؤلم نفسك؟، كنت تسألني عن رغبتي في الخروج مع زميلات الجامعة فلماذا تحول كل موضوع الى نفس النقطة؟)
لم يرد عليها على الفور، فظنت أنه سيتجاهلها، الا أنه قال بصوت قاتم بعد لحظات
(ربما لأنني أحاول فهمك)
فغرت بدور فمها بدهشة و هي تنظر الى ظهره غير مصدقة ما سمعته منه للتو، فهمست تسأله بغباء
(هل، هل تريد أن تفهمني؟، أنا يا أمين؟)
أجابها دون أن يستدير اليها.

(أريد أن أفهم ما الذي جعلك تسمحين له أن يعاملك بتلك الطريقة، حين ذهبت اليه في المشفى، وجدته انسانا حقير، حقير بطريقة لم أتخيلها فيه، يتكلم عنك بكل دونية ففكرت وقتها، ما الذي أعجبك فيه فسلمت له نفسك و سمحت له أن يذلك و يهينك طويلا الى أن ألقى بك أخيرا دون أي اعتبار لكونك ابنة عمه على الأقل و كانت تحمل اسمه لفترة طويلة)
أغمضت بدور عينيها للحظات و هي تهز رأسها غير مستوعبة، ثم فتحتهما هاتفة برعب.

(هل ذهبت اليه؟، هل قابلت راجح؟، متى كان هذا و أي مشفى تتكلم عنه؟)
استدار أمين اليها أخيرا ينظر اليها بملامح جامدة أشعرتها بأن مكروها قد حدث فازداد الهلع بداخلها، قبل أن يجيبها ببرود مختصر
(لم يستطع زاهر تحمل الخزي الذي شعر به بسببك أمامي و أمام والده، فتهور و سافر الى راجح ليطلق عليه الرصاص)
ضربت بدور يدها على صدرها بقوة و هي تشهق هاتفة
(ياللمصيبة! ياويلي، هل قتله؟).

شعر أمين بالدم يفور في أوردته بعنف مما جعله يتكلم بنبرة تهديد خطيرة وهو ينظر الى عينيها
(أخبرتك للتو كيف كان يتكلم عنك بدونية في المشفى، لذا من الواضح و للأسف أنه لم يمت، فهل أراح هذا قلبك الملهوف عليه.؟)
أسقطت بدور يدها عن صدرها و هي يتنظر اليه فاغرة فمها بملامح باهتة لتكرر بفتور.

(قلبي الملهوف عليه؟، أهذا ما تظنه يا أمين؟، أخي معرض للسجن و ربما الإعدام في حال قتله ليخلف من بعده زوجة و وولد و كل هذا بسبب خطىء ارتكبته و الذنب ذنب هذا الحقير، و بعد كل هذا تتخيل أن قلبي ملهوف عليه! ليته يموت ألف مرة لكن لا يتحمل أخي وزره)
توترت ملامح أمين فأشاح بعينيه عنها و هو يشعر بمدى غبائه و نقص ثقته في نفسه تجاهها، الا أنها سألته بصوت متردد غير مستقر.

(طمئنني يا أمين عما حدث لزاهر أتوسل اليك، هل تم القاء القبض عليه؟)
أجابها أمين بجفاء
(اطمئني، لم يخبرهم راجح أن زاهر هو من أطلق عليه الرصاص، يبدو أنه لم يجد نفعا جديا يعود عليه سوى اكتساب المزيد من عداوة العائلة، و اظن أنه تلقى الرسالة واضحة و بدأ يخاف على حياته بالفعل، فالرصاصة التالية لن تخطىء هدفها بالتأكيد)
ابتلعت بدور ريقها بذعر و لونها يشحب أكثر و أكثر، لكنها سألته بهلع.

(لكن أنت، لماذا قمت بزيارته في المشفى؟، كيف جرى اللقاء و ماذا حدث)
لم يشأ أمين أن يخبرها بشيء، حتى أنه تعمد اخفاء ما حدث عنها طوال تلك الفترة، ساعده في ذلك أنها لم تتجرأ على التواصل مع أسرتها من يوم غادرتهم آخر مرة مطرودة للأبد...
و حتى الآن تكلم رغما عنه بعد أن كان قد قطع على نفسه عهدا أن يقطع عنها كل أخباره...
لكن رغبته في اظهار أي نذل فضلته على كرامة أسرتها تغلبت عليه فقال بخشونة قاتمة.

(الحيوان الذي ائتمنته على نفسك، أخبر تيماء بمنتهى الدناءة بأنه سيبلغ الشرطة عن زاهر و فعلته و بالتالي سيخبر الجميع عن السبب وهو اتمام زواجكما قبل الزفاف، فاتصلت بي تيماء كي أمنع حدوث هذا بأي طريقة).

رفعت بدور يدها الى وجنتها الشاحبة و هي لا تزال فاغرة فمها و قد زاغت عيناها لا تصدق مبلغ رخصها لدى راجح، بل حتى لا تسوى شيئا، ولو من باب الشفقة أو القرابة و الدم، يريد أن يتمم دهسها بحذائه حتى تلفظ النفس الأخير أمامه...
حين وجدها أمين عاجزة عن الكلام تماما، ابتسم بسخرية سوداء و قال وهو يفتح كفيه باستسلام
(نعم، هذا هو راجح الذي أوهمك أنه زوجك فوق أي اعتبار و أنه لا شيء سيمنع زفافكما أبدا).

اسبلت جفنيها أمامه شاعرة بأسى مرير، مرير، مرير...
تتخيل كيف كان حال أمين وهو يتلقى هذا الإتصال التحذيري من تيماء، و كيف تحمل مواجهة راجح و سماع التهديد الدنىء بأذنيه، والله أعلم أي كلام قذر أسمعه اياه عنها بعد أن أصبحت زوجته...

احمرت وجنتاها بعد شحوب مريع، احمرارا قاتم حتى تفصدت قطرات العرق من جبهتها و هي تتخيل ما قد يتفوه به أمام أمين، فمن الواضح أنه وصل الى الدرك الأسفل في الإطاحة بكل من حوله، حتى بات يتصرف بلامنطقية اضافة الى الدناءة...
ساد بينهما صمت قاتل، يقطعه أصوات السيارات السريعة العابرة، الى أن تمكنت من سؤاله بصوت هامس مختنق
(و، و، كيف، تعاملت، معه).

لم تحاول سؤاله عما يمكن أن يكون راجح قد تفوه به من كلام قذر، لكنها لم تستطع تجاهل رغبتها الهاجعة في معرفة تصرف أمين حيال الأمر...
مرتعبة عليه من أن يكون قد تهور، تتأمله بعجز و توسل و هي لا تصدق أنه يقف سليما أمامها مما يعني أنه لم يرتكب تصرفا جنونيا يومها و الا لكان مصابا أو في الحجز الآن...
نظر اليها أمين طويلا بدون تعبير مما زاد رعبها الى أن أجابها أخيرا قائلا بصوت أجش الا أنه هادىء مطمئن.

(أنذرته أنني سأكذب ادعاؤه، و بالطبع سيصدقني الجميع، لأنه من الطبيعي أن يكون للزوج المخدوع تصرفا آخرا غير هذا، و لن يجني من الإبلاغ عن زاهر سوى جلب المزيد من العداء الى نفسه، خاصة و أنه يشهر بزوجتي بالباطل حينها سيبيح دمه دون شك، و يبدو أنه تعقل و لم يفعل، راجح الآن يصارع بإحتضار أخير كمن فقد كل حيله فأصابه الجنون، لذا لا أعتقد أنه سيجرؤ على فعل المزيد، لا تخافي).

لا تخافي، هذا النهي البسيط بصوته الرجولي الدافىء على الرغم من احساسه بالغدر، تسلل الى كيانها كله بلذة غريبة لا تناسب موقفها أمامه...
كلمة أخبرتها أنها في أمان مع هذا الرجل مهما حملت لهما الأيام، حتى إن تزوج، حتى و إن طلقها، ستظل في كنفه و تحت رعايته و كأنه تعهد بذلك أمام نفسه...
بالطبع لن تخاف مطلقا وهو بجوارها، من حولها...

ارتجفت شفتاها في ابتسامة حانية ممتنة، بينما ترقرقت عيناها بالدموع مما جعل أمين يعقد حاجبيه وهو يسألها بعجز
(لماذا تبكين الآن؟)
سارعت بدور بمسح دمعة عن عينها و هي تهز رأسها قائلة بصوت مرتجف
(لا، أنا لا أبكي، لن أبكي أبدا بعد الآن)
ظل أمين يراقبها متشككا للحظة ثم سألها بخفوت
(اذن لماذا تبدين حزينة بهذا الشكل؟، ظننتك ستطمئنين من تهديدي لراجح).

رفعت بدور وجهها الشاحب اليه و بعينيها الحمراوين لاقت عينيه المتفحصتين. فهمست بضعف
(أنا فقط، لا أعلم ما الطيب الذي فعلته في حياتي كي يسترني الله بك بكرم و دون حساب)
شعر أمين بالحرج قليلا، و على الرغم من تعمده الفظاظة معها دائما، الا أنه اضطر للرد عليها قائلا.

(أنت لست فتاة سيئة يا بدور، صحيح أنك أخطأت خطأ كبيرا في حق نفسك و حق والدك، و خطأ آخر في حقي حين حاولت تصليح الأول على حساب الآخرين، لكن هذا لا يجعلك تستحقين التهديد و الإبتزاز بهذه الطريقة طوال عمرك من شخص منحط مثل راجح، و أنا لن أحترم رجولتي مطلقا لو عاقبتك بتركك لمصيرك لعبة بين يديه)
حسنا لقد وقعت في غرامه في تلك اللحظة...

لطالما تسائلت كيف يحدث في الروايات أن تستطيع البطلة تحديد اللحظة التي وقعت فيها في غرام البطل...
و ها هي الآن تعرف الإجابة...
لأنها وقعت في حب أمين في تلك اللحظة تحديدا...
ليس مجرد امتنان أو تقدير، بل انبهار و دقات قلب متسارعة و عينان تلتهمان وسامة تضاعفت عشرات المرات...
ساد بينهما الصمت مجددا، ثم تجرأت و سألته همسا.

(بما أنك تقر شاكرا بأنني لست فتاة سيئة، اذن لماذا لا تثق بي؟، السؤال وقح جدا مني أنا أعرف، لكن أنا لن أخون زوجي أبدا)
هتف أمين بخشونة و غضب
(كفي عن قول تلك الكلمة يا بدور، لا توجد زوجة محترمة تظل تكرر تلك الكلمة و كأنها تناقش أمرا عاديا كما تفعلين أنت)
احمر وجهها قليلا، فأخفضته و هي تقول بصوت أكثر خفوتا...
(حسنا أنا آسفة، لكن، هل هناك أملا في أن تثق بي يوما؟).

نظر أمين بعيدا عنها ثم قال بصوت خافت خشن بعد فترة طويلة
(اتركي هذا للأيام يا بدور، هي كفيلة بتحقيقه)
شردت عيناها بعيدا بحزن و هي تتنهد مفكرة
أي أيام تلك؟، ستكون غبية إن أقنعت نفسها بأن هناك أيام طويلة آتية بينهما...
إن كان يشفق عليها حاليا، فسرعان ما سوف يستعيد حياته يوما ما، و يرغب في الزواج مجددا...
خاصة و أن هناك مشروع خطبة سبق و أقدم عليه و لا تعرف سر فشله حتى الآن...

شعرت بدور بحجر ثقيل يستقر في معدتها و هي تتخيل اليوم الذي سيحادثها فيه أمين بلطف، يخبرها أنه قرر الزواج و أنها ستظل تحت حمايته لكن في بيت آخر ربما...
حتى ليلة أمس، لن تخدع نفسها و تتخيل أنها ستشكل مستقبل ما بينهما...
كانت مجرد امرأة متواجدة بجواره، و حلاله ف...
(بدور، بدور، فيما أنت شاردة الى هذا الحد؟)
انتفضت بدور تنظر اليه مجفلة و أدركت أنها تعض على شفتها محتقنة الوجه، فسارعت تقول بإرتباك و تلعثم.

(لا شيء، لا شيء، لقد تأخر مصلح السيارة جدا، اليس كذلك؟)
نظر أمين الى ساعة معصمه و هم بالموافقة مستاءا، الا أنه و قبل أن ينطق وجد سيارة أجرة تقف أمامها و خرج منها مصلح السيارات مهرولا، فالتفت أمين خلفه ناظرا الى بدور بدهشة بالغة رافعا حاجبيه يسألها
(لماذا لم تسألي عنه في وقت باكر، واضح أن سرك عميق يا مبروكة)
ابتسمت بدور بسعادة بالغة و كأنه يغازلها، الا أن أمين استدار اليه هاتفا بحنق.

(باكرا يا علام، لما العجلة؟، كنت تناول عشائك أولا و تمدد قليلا لتشاهد مسلسلك اليومي قبل أن تأتي)
قال علام مبررا بسرعة
(والله يا أستاذ أمين أنجزت قطعة العمل في يدي بأسرع ما يكون ثم انطلقت اليك من فوري، لكن الطريق مزدحم جدا)
أشار أمين بكفه الى بدور من خلفه وهو يقول بغضب
(واضح أن الطريق مزدحم، بدليل أن السيدة حرمي جاءت من الجامعة الى هنا في عشر دقائق)
نظر اليها علام قائلا بحرج.

(مبارك الزواج يا سيدة، لم أعلم أن الأستاذ امين قد تزوج)
لم تجيبه بدور سوى بإيماءة من رأسها، بينما كانت في عالم آخر و هي تسمع من أمين كلمة
السيدة حرمي، و كأنه منحها وسام الشرف من الدرجة الأولى، فتألق وجهها في أجمل ابتساماته، و تشربت وجنتاها بحمرة لطيفة
مما جعل امين يتدخل قبل أن تجيب بدور منفعلا و كأنه لا يفضل أن يخاطب رجل غريب زوجته أمامه و قال بعصبية.

(كفى ثرثرة فارغة يا علام و شكرا يا سيدي على التهنئة، الان هلا اهتممت بالسيارة من فضلك، إن كان فريد هو من طلبك لكنت وصلت إليه خلال دقائق معدودة)
اجابه علام قائلا بمودة
(اين الأستاذ فريد بالمناسبة، لماذا لم يتصل هو بي؟ بصراحة شخصية ودودة تضحك الإنسان في عز تعبه و تزيل همه، كان دائما يهتم بسيارتك فلماذا لم يفعل اليوم؟)
كان امين يستمع إليه في تلك اللحظات مكتفا ذراعيه وهو ينظر اليه بغباء، ثم قال أخيرا.

(لا بأس يا علام، لا يزال لدينا بعض الوقت و المتبقي من السهرة كي نقضيها معا، خذ راحتك)
ضحك علام وهو يقول مشيرا الى الشمس التي تبدو على وشك المغيب
(أي سهرة يا أستاذ أمين، لم تغب الشمس بعد)
أغمض أمين عينيه وهو يحاول التزام الصبر، قبل أن يستدير الى السيارة، لينزع المفتاح ثم يلقيه الى علام قائلا بنبرة آمرة
(خذ المفتاح و عد بها الى البيت بعد أن تنتهي).

كانت بدور تستمع اليهما بفضول لكنها صدمت و اتسعت عيناها حين وجدت كفها فجأة في كف أمين يمسكها بإحكام ليسحبها خلفه ملوحا لعلام...
و من شدة ارتباكها تعثرت أكثر من مرة، الا أنه كان يسندها مرة بعد أخرى، دون أن يفلت كفها...
و ما أن استقرا في سيارة أجرة، نظرت بدور بذهول الى كفها التي لا تزال مستريحة داخل يده القوية...
حتى سمعت أمين ينطق اسما غريبا الى سائق السيارة، حينها التفتت اليه بدهشة قائلة.

(ألن نعود للبيت مباشرة؟)
نظر اليها أمين نظرة خاطفة، ثم أبعد عينيه قائلا بنبرة عابرة
(بل سنتناول الغذاء خارجا اليوم، فأنا أتضور جوعا)
فغرت بدور فمها كالبلهاء، ثم قالت مرددة بغباء
(من سيتناول ماذا؟، أين؟)
للحظات ظل أمين مشيحا بوجهه عنها جامد الملامح، الا أنه لم يتمالك نفسه فأفلتت منه ضحكة صغيرة...
مما جعل فكها يتدلى أكثر فأسرعت تدير وجهها عنه و هي تقول بتلعثم.

(أقصد، هل تعني أن أعود أنا للبيت أولا مثلا و تخرج أنت مع أصدقائك أو شيء من هذا القبيل؟)
تحولت الضحكة الى ضحكتين منه، فقفق قلبها عشرات الخفقات...
ثم تكلم أخيرا بنبرة مختلفة، مختلفة تماما و كأنها تحوي بعض الحنان
(بل كما سمعت يا بدور، سنتناول الغذاء معا في مكان لطيف، كي لا تظنين في البخل و الدناءة كبعضهم)
هتفت بدور برعب
(كان ليقطع لساني قبل أن أنطقها، لست في حاجة كي تثبت لي مدى كرمك و).

قاطعها أمين مشيرا بعينيه الى السائق محذرا، ثم قال بنبرة آمرة
(هذا قرار نهائي، كفى جدالا)
لكن بدور أجابته بصوت مرتجف و هي لا تزال في حالة الذهول
(لكن يا أمين، رأس الكرنب التي حشوتها مع عمتي بالأمس استعدادا لليوم، من سيأكلها؟)
ضحك هذه المرة ضحكة عالية لم يستطع تمالكها، و قال من بين ضحكاته
(واثق أن أمي ستتصرف التصرف الأمثل، لا تقلقي).

ثم نظر اليها بملامح جميلة سعيدة، تختلف تماما عنها في الصباح، ثم سألها ببساطة
(أتحبين البيتزا؟)
همست بدور بنفس الذهول و كأنها تنطق منكرا أو مكروها
(بيتزا!)
عقد أمين حاجبيه وهو ينظر اليها بحزن، ثم همس برقة دون أن يبتسم
(في يوم آخر سأعد لك شيئا أكثر فخامة، كي لا أرى نظرة العصفور المسكين تلك في عينيك مجددا).

لا تظن أن هناك أمسية ستمر عليها أبدا في جمال تلك الأمسية التي قضياها معا...
كانت تشعر و كأنها تجلس مع شاب مرتبطة به، كما تسمع و ترى في كليتها، ذلك الحب البريء و في نفس الوقت يعتبر جرأة و خطأ، لكنه لذيذ...
كل هذا عاشته الآن مع زوجها، لم يعد خطأ و كان امام الجميع...

تجلس أمامه تأكل بنهم وهو يرمقها بنظرات مختلفة، و كأنه معجبا بها فعلا، و هي في الواقع لا تعلم ما الذي يعجبه فيها بوجه خال تماما من الزينة بعد يوم شاق طويل في الكلية و المراجعات النهائية...
تظن أن علام كان أكثر أنوثة منها، و مع ذلك نظرات أمين اليها أربكتها...
كلمها ضحكت تختفي ابتسامته و تلمع عيناه، ثم يعود و يتجهم للحظة، و هكذا...

لكنه أبدا لم يضايقها بأي كلمة و كأنه يتجنب التطرق الى أي موضوع قد يجرحها...
كانت لا تزال تضحك عاليا وهو يفتح باب الشقة ناثرا الماء المتساقط على قميصه، قائلا بتذمر
(اليوم ليس يوم حظي بالتأكيد)
لم تستطع أن توقف ضحكاتها فنظر اليها شذرا متابعا
(هل تجدين الأمر مسليا الى تلك الدرجة؟)
وضعت بدور يدها على فمها و هي تقول من بين ضحكاتها بصعوبة.

(أنا آسفة جدا، سامحني، لكن كلما تذكرتك و أنت سائرا بجواري تقول بكل رزانة أن الإنسان كرامة ثم فجأة وقع عليك دلوا من الماء البارد قبل أن تتم الكلمة لا أستطيع تمالك نفسي من الضحك)
أغمضت عينيها بشدة و هي تضحك أكثر فأكثر بينما أمين ينظر اليها عابسا، حانقا، حتى قالت متابعة
(و منظرك و أنت ترفع رأسك هاتفا، انتبهي يا حاجة، هل هذا وقت تمسح فيه الشرفات!، لا أستطيع تمالك نفسي)
أجابها أمين بفظاظة آمرا.

(اختصري يا بدور و توقفي عن الضحك الماسخ)
عضت شفتيها بقوة كي تتوقف عن الضحك عبثا دون جدوى، بينما أمين يتأفف عاليا وهو ينظر الى عينيها المنطبقتين كهلالين من شدة الضحك، و لا يعلم ما الذي دهاه اليوم، ضحكاتها تدغدغه فأفلتت منه ضحكة رغما عنه، ثم هز رأسه يائسا وهو يستسلم للضحك الخافت...

جاءت أمه مبتسمة على صوت دخولهما من باب الشقة و نظرت الى ضحكهما مندهشة و عيناها تبرقان بالأمل و السعادة، الا أنها كتمت دهشتها و قالت بمحبة
(ما شاء الله، لو كان التنزه يسفر عن ضحكات حلوة كهذه الضحكات، فلتكرراها كل يوم اذن)
احمرت وجنتا بدور و توقفت عن الضحك، الا أنها لم تقفد ابتسامتها و هي تقول بحرج و أسف
(السلام عليكم يا عمتي، أنا والله خجلة منك جدا لأنني تركتك دون مساعدة و لم نتناول الغذاء معك اليوم).

فتحت أم أمين كفيها قائلة بدهشة
(و هل سأطير يا ابنتي أم سأضل طريقي في البيت! لا أتمنى شيئا سوى أن أرى ضحكاتكما الحلوة هذه كل يوم، و كم ألححت عليكما كي تخرجان و تتنزهان و أنتما تعترضان)
ارتبكت بدور قليلا و اختلست نظرة بطرف عينيها، لكنها لم تستشف شيئا من ملامحه، فقد كانت هادئة بسيطة لا تظهر شيئا...
ثم سارعت تقول بتلعثم
(اعذراني، سأرتاح قليلا، و، أبدل ملابسي، ثم أخرج لأعد لكما القهوة).

ردت عليها والدة أمين رافعة كفها بحسم
(بل ارتاحي أنت و أنا سأعدها، بالله عليك يا فتاة لقد قاربت على نسيان مطبخي منذ خطت قدماك هذا البيت، دعي لي شيئا أفعله)
ابتسمت بدور برقة و هي تنظر الى أمين بفضول هامسة
(أعطاك الله الصحة يا عمتي، عن اذنكما)
ثم جرت قدميها حتى غرفتها فأغلقت الباب خلفها و استندت اليه متنفسة بسرعة تتطلع الى السقف بعينين براقتين متسعتين و شفتان ترتجفان بإبتسامة مترددة...

تلك الأمسية مرت كالسحر، ترى ماذا سيحدث بعدها؟
تحركت بدور ببطىء الى مرآتها، فوقفت تتطلع الى نفسها قبل أن تفك حجابها و تفلت شعرها حتى تحرر تماما على ظهرها، فأخذت تتلاعب بخصلة منه بشرود...
حتى الآن لم يتحدثا ولو لمرة فيما حدث بينهما ليلة أمس! يتصرفان و كأنهما يخجلان من ذكره أو حتى تذكره، لكن هل ستتكرر العلاقة الزوجية بينهما مجددا الليلة؟

رغم معرفتها الحزينة بأنه لابد أن يأتي اليوم الذي يتركها فيه أمين و يتزوج غيرها...
لكن من خبرتها السابقة مع الحيوان راجح فهي تدرك شيئا واحدا، أنه طالما قام بالأمر أول مرة و اجتاز صعوبته فلن يثنيه شيئا عن تلبية احتياجاته الطبيعية، و هي زوجته و من المتوقع أن يفرغ بها هذه الإحتياجات الى أن يتزوج الفتاة التي يختارها بنفسه و تداوي كرامته...

انحنت شفتاها حزنا مع تفكير نبذه المحتوم لها مجددا، لكن دقات قلبها لم تفقد سرعتها المتهورة...
هي، تريد أن، يحدث هذا مجددا...
كانت تجربة لم تعش مثلها من قبل، أبدا...
انتفضت بدور حين وجدت باب الغرفة يفتح و أمين يدخل دون استئذان، فتوقف للحظة مرتبكا...
لكنه دخل و اغلق الباب قائلا بهدوء
(يبدو أنني لم أعتد طرق باب غرفتي حتى الآن، جيد أنك لم تبدأي في خلع ملابسك حتى الآن).

لماذا يمكن أن يكون هذا جيدا! فكرت بدور بصمت...
ساد صمت غريب بينهما و بدور تنظر اليه بملامح غريبة و كأن شيئا ما قد فاجئها ف، أحبطها!
و حين ظلت صامتة تنحنح قائلا بنبرة عابرة...
(عامة يمكنك غلق الباب بالمفتاح، لن أتضايق)
مجددا ظلت صامتة تنظر اليه بنفس الطريقة، فأبعد عينيه عنها متعمدا وهو يسألها بلطف
(لقد أتيت كي أطمئن عليك، حين قلت أنك تودين الراحة، خشيت أن تكون ساقك قد آلمتك بعد أن مشينا قليلا).

للحظات حاولت بدور الكلام و ابتلاع خيبة أملها، لكن لطفه أسرها فرفعت وجهها مبتسمة برقة و قالت بخفوت
(لا اطلاقا، بل على العكس، أشعر أن المشي رائع لي، أشكرك لإهتمامك)
أومأ أمين برأسه، ثم ظل واقفا مكانه ينظر أرضا و كأنه مترددا، يريد الكلام في شيء ما، فتلهفت لمعرفة ما يريد قوله، الا أنه قال في النهاية بصوت أجش
(سأذهب لأجلس مع أمي قليلا بعد هذا اليوم الطويل، و سأبدل ملابسي بعدها، خذي راحتك، ).

ثم خرج دون أن ينتظر منها ردا، مغلقا الباب خلفه بهدوء...
وقفت بدور مكانها ناظرة الى الباب المغلق بقنوط شديد، لا تفهم مقصده بالضبط، لقد ظنت أن...
ابتعدت عن المرآة و اتجهت الى دولاب ملابسها كي تبدل ما ترتديه ببطىء و تخاذل، شاعرة بأنها غير قادرة على الخروج اليهما هذه الليلة، ربما استطاعت المرور الى الحمام كي تنعش نفسها بعد اليوم الطويل دون أن يراها أحد ثم تعود سريعا...

و بالفعل خرجت بحرص دون صوت و سارعت تأخذ حمامها كي تعود الى غرفتها، لكن ما أن خرجت منه حتى كادت أن تصطدم بأمين، و الذي ابتعد للخلف على الفور و كأنه لا يريد أن يمسها، بعد أن كان هو من يسندها دائما كي لا تقع...
رفعت بدور عيناها تنظر اليه بصمت بينما قال بصوت أجش
(آسف).

ثم رفع عينيه يختلس نظرة اليها، الا أن النظرة طالت وهو يتأمل شعرها المبلل المنسدل بإهمال فوق ظهرها، يبلل ظهر منامتها تماما دون أن تهتم لذلك...
و تلك المنامة ذات البنطال الملامس لركبتها، و الأكمام المنتفخة القصيرة، جعلتها تبدو مختلفة تماما...
ابتلعت بدور ريقها بصعوبة و احمرت وجنتاها فأشارت الى الحمام من خلفها تقول مرتبكة
(تفضل، أنا انتهيت).

ثم ابتعدت عنه قبل أن يشكرها، و انتظرت تسمع صوت اغلاق باب الحمام، فلم يحدث حتى عادت الى غرفتها، لكنها لم تجرؤ على الإستدارة و النظر اليه مجددا، فقد تموت خجلا إن فعلت و كأنها خشت أن يقرأ أفكارها إن أطالت النظر اليه أكثر...
حين وصلت الى فراشها أخيرا بعد أن أغلقت الضوء، استكانت تنظر الى سقف غرفتهما بقلب حزين...
لا تعرف لماذا آلمها تصرفه! عليها أن تكون ممتنة لكل ما يقدمه لها، لا أن تتوقع المزيد...

ربما كان عليها محادثته بشجاعة، ستخبره أنها لا تتوقع منه شيئا، ...
لا بل سيفهم أنها لا تقول هذا الا كي تلفت نظره اليها، و ستموت قبل أن يحدث هذا...
فقط ستتظاهر بالنوم و هذا هو كل ما تستطيع فعله...
و مرت الدقائق بطيئة و طويلة و شديدة الثقل على قلبها، حتى قاربت الساعة على الواحدة صباحا
وهي لا تزال متسعة العينين في الظلام واهنة القلب، بينما هو يأبى المجيء الى الغرفة...

و حين بدأت في اليأس، سمعت فجأة صوت مقبض الباب يتحرك، فتوقف قلبها على الفور و أسرعت تطبق جفنيها بشدة محاولة الا يصدر عنها نفس، فسمعت صوت خطواته على البساط يسير ببطىء، ثم توقف للحظات...
مما جعلها تتسائل إن كان يرقبها في الظلام، لكنه تحرك و اتجه الى الفراش. مما جعل قلبها يخفق بعنف متزايد، لكن دغدغة قرب قدميها جعلتها تدرك الحقيقة المرة، و هي أنه يسحب الغطاء الإضافي و يبتعد!

شعرت بدور و كأن دلوا من الماء البارد قد سقط فوقها، فلم تتمالك نفسها و دون تفكير انتفضت جالسة، تضيء المصباح الجانبي، و هي تنظر الى أمين الذي كان يفرش الغطاء على الأرض، فهتفت بذهول
(ماذا تفعل يا أمين؟)
توقف عما يفعل للحظات و قد جمدت ملامحه، فاستطاعت ملاحظة أنه بالفعل قد أخذ حمامه و بدل ملابسه في مكان آخر و بدا مستعدا للنوم، على الأرض!
أجابها أمين بصوت هادىء دون أن ينظر اليها.

(كما ترين، أحضر الفراش الذي سأنام عليه)
ظلت بدور نصف جالسة في السرير ممسكة بغطائها و كأنها تحتاج الى أي دعم بينما هي تنظر اليه فاغرة الفم، ممتقعة الوجه، ثم همست أخيرا بضعف و عدم تصديق...
(لكن، لماذا؟، لقد تشاركنا السرير لعدة ايام، فلماذا تعد للنوم على الأرض مجددا؟).

ظل أمين صامتا لبضعة لحظات، مديرا لها ظهره، ثم تنهد أخيرا قبل أن يستدير اليها و اقترب ببطىء حتى جلس على حافة الفراش بجوار قدميها، ناظرا الى البساط بشرود مشبكا كفيه بينما هي تنتظر منه أي كلمة تطفىء نارها...
الى أن رفع وجهه اليها بملامح غير ثابتة و قال بخفوت
(هناك شيئ أردت سؤالك عنه، حاولت تجنبه طوال اليوم منعا للحرج، لكن لابد من أن نتكلم في الموضوع شئنا أم أبينا).

ابتلعت بدور ريقها بصعوبة و همست بصوت مهتز
(تفضل، أنا أسمعك)
زم أمين شفتيه للحظات اضافية، ثم سألها أخيرا بسرعة كي لا يتردد أكثر
(هل هذه فترة عالية النسبة لحدوث حمل بالنسبة لك من الشهر؟)
تاه السؤال من شفتيه الجافتين حتى وصل الى أذنيها أخيرا، فجعل وجهها يبرد أكثر، على الرغم من سرعة ضربات قلبها، الا أن ملامحها بهتت تماما و ظلت غير قادرة على الرد لفترة طويلة، الى أن قالت أخيرا بحلق جاف متألم
(لا أعلم).

رفع أمين وجهه ينظر اليها و استطاع رؤية أنه قد صدمها و آلمها من طبيعة السؤال الفظ الخالي من المشاعر، لكنه قال بتوتر
(من المؤكد أنك أكثر خبرة في هذه الأمور، فقد تدبرت شأنك طويلا حين كنت)
صمت وهو يبعد وجهه بعيدا قاتم الملامح، بينما همست بدور بخفوت
(يبدو أننا لن نستطيع الا أن نتطرق الى نفس الموضوع مرارا و تكرارا)
تنهد أمين وهو يقول ناظرا الى أصابعه.

(لم أكن أريد ذلك، بل حتى أنني اتخذت قرارا اليوم بعدم تجريحك مجددا، لكن اجابتك اضطرتني لذلك)
لعقت بدور شفتيها الجافتين و هي تومىء برأسها قائلة بصوت أجش
(أفهمك، كنت أستخدم أقراص منع الحمل بإنتظام، و بالطبع توقفت عنها بعد طلاقي)
رفعت عينيها تنظر اليه، فرأت ما توقعته، و كأن الدم في أوردة وجهه و عنقه قد تدافع و ازداد سخونة، مما جعلها تشفق عليه فهمست و هي تمد كفها دون تفكير لتلمس ساعده
(آسفة جدا يا أمين).

الا أنه انتفض و كأن أفعى سامة لمسته فنفض كفها عنه بعنف مما جعلها تقبض على كفها بيدها الأخرى معتصرة جرحها من تلك الحركة...
أما أمين فقد نهض من مكانه قافزا وهو يدور في أنحاء الغرفة محاولا السيطرة على انفعاله، توقف للحظات يضغط على أسنانه و كأنه يحاول منع نفسه من الكلام، الا أنه هتف أخيرا بعذاب
(كرامتي تحترق، تتهاوى أمامي مفتتة كلما سمعت منك كلمة تذكرني بمدى سذاجتي).

كان عذاب بدور يماثل عذابه، الا أنها سألته بحرارة و ألم
(اذن لماذا فعلت معي ما فعلته ليلة أمس؟، طالما أنك تنفر مني الى تلك الدرجة؟)
توقف مكانه و نظر اليها متفاجئا و قد شعر بالحرج يغزوه، ثم قال بخفوت متوتر
(أنا، لا أنفر منك)
هتفت بدور بإصرار أكبر.

(هذا ليس جواب سؤالي، صحيح أنني لا أستطيع مطالبتك بشيء اطلاقا، لكنك ليلة أمس جعلتني أشعر و كأنني عروسا مرغوبة من زوجها، ثم استيقظت بحال آخر و لم تذكر أي شيء عن الأمر، و أول شيء قلته بعد ساعات هو سؤالك الباهت عن الحمل و كأننا ارتكبنا خطئية و تدرس توابعها)
هدر أمين بعصبية أكبر و بدا يرتجف من شدة الغضب.

(هذا لأنك لم تكوني في حاجة كي أقول لك أي شيء، تتصرفين بطبيعية و دون خجل و تتكلمين في كل شيء آخر و كأن شيء لم يحدث، لم أرى منك خجلا أو ارتباكا كأي عروس جديدة و هذا ذكرني كآلاف المرات بمقدار غبائي)
كانت بدور تهز رأسها بيأس وهو يتكلم فصرخت قبل أن يهني حتى كلماته.

(تعمدت عدم اظهار اي خجل لأنك سبق و سخرت من خجلي و أهنتني، حتى بت لا أعرف ما هو التصرف المثالي الذي أتبعه معك كي أرضيك و أفهمك أنني أتمنى فعل أي شيء يخفف من ألمك و احساسك بالغدر)
اختنقت آخر حروف في حلقها و هي ترى الدموع تغرق عينيها فسقط وجهها تدفنه بين كفيها تجهش ببكاء عنيف...

تسمر أمين مكانه وهو يرى الحال الذي أوصلها اليه بعد وقت لطيف قضته، قد يكون الوحيد منذ فترة طويلة عاشتها في حرمان، بل ربما في حياتها كلها...
شعر بنار تحرق ضميره وتنهش مشاعره، فاقترب منها مترددا يغالب الشعور المر الذي يختلجه، الى أن جلس بجوارها على حافة السرير قائلا بخفوت
(كفى يا بدور)
لكنها كانت في حال يرثى له و استمرت تبكي و تشهق بصوت عال دون أن ترفع وجهها عن كفيها...

مما جعله يمد كفيه مترددا ليمسك بكتفيها وهو يقول مجددا
(بدور، الأمر لا يستحق كل هذا)
مجرد عبارته المستهينة بألمها جعلت صوتها في البكاء يعلو أكثر و ارتجافات جسدها تتزايد بعنف، فتنهد بنفاذ صبر وهو يسحبها الى صدره يضمها اليه بذراعين قويتين...
و على الرغم من انهيارها، الا أن ذراعاها وجدا طريقهما الطبيعي في الالتفاف حول خصره و ارتاح وجهها المبلل على صدره دون أن تتوقف عن البكاء...

للحظات استمر في ضمها اليه بكل قوته. ثم بدأ يحرك كفيه على ظهرها بحنان وهو يريح ذقنه على شعرها...
حتى قال أخيرا بصوت هامس
(أنا آسف بدورة)
تجمدت مكانها على الفور ما أن تسللت العبارة الهادئة الى أذنيها فرفعت وجهها المتورم الباكي تنظر اليه بصدمة أكبر من بين دموعها، فرفع احدى كفيه من خلف ظهرها ليمسح الدموع عن وجهها برفق وهو ينظر الى عينيها برقة، ثم تابع قائلا.

(لم أقصد ايلامك، ليس برجل هو من يتعمد اذلال فتاة ضعيفة كل حين لأنها ارتكبت خطأ في حياتها، لكن الأمر يخرج عن ارادتي أحيانا)
سارعت بدور بالأيماء بكل قوتها و هي تقول مواقفة بحرارة
(أتفهمك، والله أتفهمك و أعذرك و أنا أستحق أكثر من ذلك)
تنهد بروح مهمومة وهو ينظر الى عينيها الخاضعتين بحزن، ثم لم يلبث أن عاد و ضمها الى صدره قائلا بخفوت
(لا بأس، لا تبكي).

أغمضت بدور عينيها و هي تتنهد تنهيدة كتنهيدته، الا أنها كانت مختلفة عنها، فقد كانت تنهيدة احتياج، توسل كي لا يبعدها عن صدره، حيث شعرت بحنان لم تعرف مثل قبلا...
اسبل أمين جفنيه قليلا وهو يتأمل نعومة شعرها المبلل و يده لا تزال تتحرك بشرود بطيء فوق ظهرها برفق...
لكن مع مرور اللحظات بدأت مشاعره تتفاعل معها، و جسده يتجاوب مع انوثتها الرقيقة فوق صدره...

في شعور غادر كالذي داهمه ليلة أمس و جعله يلغي عقله و ينال الحلال معها بكل رغبة و نهم...
تحول اسباله الى اغماض وهو يضمها أكثر قليلا، بينما تاهت كفه في طريق سري الى مفاتنها بغير ارادة منه تقريبا، و للحظات تظاهر كلا منهما بأن شيئا لا يحدث، الى أن لفها الخجل بطريقة لم تستطع معها البقاء جامدة بين ذراعيه خاصة و الضوء الجانبي يعري مشاعرهما الفاضحة، فشهقت بصوت مكتوم و هي تعض على شفتها بقوة...

لكن أذن أمين التقطت هذا الصوت، و بدا كصفعة أفاقته مما جعله يتركها و يقفز واقفا حتى سقطت على السرير الا أنها أسندت نفسها و استقامت تنظر اليه بذهول...
رمش أمين بعينيه بقوة ثم قال بجفاء
(خلاصة الأمر هو أنني لا أريدك أن تقلقي من أي شيء، حتى إن حدث حمل، فلن أغضب أو أعاتبك).

فغرت بدور شفتيها المرتجفتين قليلا و هي تنظر اليه. فتراجع ينوي اللجوء اللي الفرش الذي فرشه على الأرض، الا أنه كان في حالة من العصبية جعلته يغير رأيه و يتجه للباب، لكنه قال بفظاظة قبل أن يخرج
(بالمناسبة، هذه الفوضى في أماكن النوم ستحل قريبا، أنا أبحث عن بيت من طابقين لنا، و تقريبا وجدت شيئا مناسبا، أتمنى أن يتم الأمر بخير، حينها ستحظين بخصوصية تامة لك)
كانت تصرخ بداخلها عاليا أقرب الى الهيستيرية...

لا أريد تلك الخصوصية، لا أريدها الا و أن تشاركني اياها، الا أن الكلمات ظلت حبسية حلقها و هي جامدة الملامح، فتهرب منها مبعدا وجهه و خرج من الغرفة مغلقا الباب و حينها عرفت أنه لن يعود مرة أخرى هذه الليلة، و لا أي ليلة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة