قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والخمسون

ظل أمين مستيقظا طوال الليل وهو يدور و يتحرك في الشرفة الطويلة، يراقب الطريق المظلم الخاوي بملامح كئيبة متوترة...
مشاعر متناقضة تنتابه، أقواها هو الذنب، مهما كان خطأ بدور، الا أنه متأكد بأنه جرحها حين أوضح لها بطريق غير مباشر أنه لن يقربها ثانية...

كان يحق له هذا أول مرة و لن يلومه أحد، لكن بعد أن استسلم لها و عدل عن الأمر بدا و كأنه يعاملها معاملة دونية و يظهر لها بكل وضوح كم هي رخيصة و لا تساوي أكثر من مجرد نزوة...
وقف أمين ممسكا بحاجز الشرفة بكلتا قبضتيه وهو يزفر عاليا، ثم لم يلبث أن همس لنفسه بصوت أجش غاضب
أنت حتى لم تستطع أن تجب عن سؤالها إجابة شافية، لماذا قمت بذلك؟، دار حول نفسه و كأنه يخاطبها بحنق هاتفا همسا.

إن كنت أنا نفسي لا أعرف الجواب، كل ما أعرفه أن كلامها عن احتمالية بتر ساقها أثارني و اشعرني بالرغبة فيها، استقام ينظر الى البنايات الصامتة بوجوم ثم همس لنفسه بغباء
بتر ساقها يشعرك بالإثارة! هل أنت معتوه! هل تعاني من هوس مريض أو ما شبه! أطرق وجهه وهو ينظر الى أرض الشرفة ماطا شفتيه بقنوط، ثم لم يلبث أن تابع بخفوت كئيب.

نعم أثارني، أثارني مدى غبائها في التفكير بنفسها و تقليلها من حجمها، أثارني تخيل مجرد التفكير في احتمالية اقدامها على أمر مروع كهذا لتشعر بثقة أكبر في نفسها أمام الناس، فاشتعل كياني برغبة مفاجئة في اظهار كم يمكن أن تكون أنثى مرغوبة و شهية، رفع رأسه أخيرا الى السماء القاتمة وهو يزفر عاليا، متأملا النجوم الشاحبة التي تشاركه سهره و همس ببطىء
و قد كانت بالفعل،.

مرت الأيام بطيئة على نفس المنوال من التباعد بينهما، حتى شعر بأنها تحاول تجنبه قصدا حتى و هي جالسة بجواره...
دائما هادئة، مبتسمة ابتسامة لطيفة لكن دون روح...
تجلس بجواره في السيارة صامتة و حين تعود من كليتها تختفي كليا في المطبخ مدعية المساعدة في أي شيء، و تبدأ سلسلة غير ضرورية من تنظيف لا ينتهي أبدا...

في أحد الأيام صباحا كان يراقبها رغما عنه و هي تجلب أطباق طعام الإفطار بهدوء الى الطاولة التي يجلس عليها...
تبدو جميلة أكثر من العادة...
ترتدي قميصا قطنيا ضيقا يحتضن صدرها و خصرها جدا. و بأكمام قصيرة، فوق تنورة طويلة واسعة. وهو يعلم أن هذه هي الملابس التي ترتديها تحت عبائتها السوداء الواسعة...
لكن اليوم كانت أجمل ولو خرجت بهذا الشكل الى الطريق لما استطاع أن يكف عنها أين المارة مطلقا...

(أمين، هل سمعتني؟)
أجفل أمين على صوت أخته الحاد الذي اخترق شروده فجأة، فالتفت اليها سائلا بحيرة
(ماذا قلت؟)
مطت نورا شفتيها و قد لاحظت نظراته الطويلة الى السفيرة بدور، صاحبة الحسن و الجمال، الا أنها قالت معيدة كلامها بنفاذ صبر
(أخبرتك أنني واعدت صديقاتي الليلة للخروج معهن، فقد مللت جدا من الدراسة و أحتاج الى بعض التغيير)
عقد أمين حاجبيه و سألها بخشونة.

(و من كلمة الليلة، هل أستطيع معرفة في أي ساعة تنوين العودة؟)
عضت نورا على شفتيها و أجابته بحذر و ضيق
(التاسعة)
رد أمين قاطعا بجفاء دون أن ينظر اليها
(السابعة، و لا أريد اعتراض)
الا أنها هتفت بإستياء
(لكن يا أمين نحن سنخرج في الخامسة، هل يعقل أن أبقى معهن ساعتين فقط!)
أجابها أمين بهدوء
(أراه أكثر من كافيا)
تأففت بصوت عال و هي تقول بحدة
(أنه حتى لا يستحق تعب المسافة بالله عليك).

لكن أمين لم يجبها، بل نظر الى بدور التي أتت تحمل صينية أكواب الشاي و امرها قائلا
(اجلسي و تناولي فطورك يا بدور، لقد تأخرت و لم تضعي شيئا في فمك حتى الآن، يمكنك الجلوس و من يريد شيئا فليجلبه بنفسه)
لم ترفع بدور عينيها الى عينيه، بل همست بخفوت و هي تسحب كرسيا لتجلس برقة
(حاضر)
وجد عينيه تنجذبان الى نحافة ذراعيها الملفتة، كانتا خمرييتين يعلوهما بعض النمش كجلد ظبي صغير...

و استطاع تذكر أماكن أخرى ينتشر فيها النمش فوق جسدها، مما جعل رشفة الشاي الساخن الذي ابتلعها و كأنها حمم ساخنة سرت في أوردته، فسعل قليلا...
حينها جائت والدته و جلست مكانها و هي تقول ببشاشة
(أنا عندي الحل، فلتصطحبي بدور معك، حينها قد استطيع اقناع أمين بأن يمد الموعد حتى التاسعة طالما أنتما الإثنتين معا).

رفعت بدور وجهها متفاجئة، بينما عبس أمين بشدة رافضا الفكرة، الا أن نورا كانت هي من تكلمت هاتفة بإستياء
(ماذا؟، اصطحبها الى أين؟ هل قلت أنني أريد الذهاب الى دكان البقالة في نهاية الطريق! أنا أريد الخروج مع صديقاتي و هي لا تشبههن و لن تستطيع حتى الكلام، و هي ليست صديقتهن حتى، بالطبع لا، ستخجلني جدا).

احتقن وجه بدور بشدة و عبست أم أمين بشدة و هي تنظر الى ابنتها بنظرة مهددة، بينما أسرعت بدور تقول بخفوت حازم
(أنا في الأساس لا أستطيع يا عمتي، أنا في فترة حرجة جدا و أحتاج لكل دقيقة للدراسة، كما أنني لا أندمج مع من لا أعرف)
عادت أم أمين ترمق ابنتها مؤنبة، بينما أجبتها نورا بنظرة متسائلة غاضبة، أما أمين فقد نظر الى وجه بدور المنخفض الحازم، و لم يفته نظرة الجرح فيه، فوجد نفسه يقول ببساطة.

(بدور ليست في حاجة للخروج مع صديقات نورا يا أمي، فهي ستخرج مع صديقاتها ما أن يقمن بتحديد موعد، و قد أذنت لها)
هذه المرة كانت مفاجأة بدور عبارة عن صدمة و هي تنظر اليه بدهشة بالغة، لثاني مرة ينصرها أمام شقيقته و غيرتها...
و لثاني مرة يفكر فيما تحتاج بعد أن خرج معها المرة السابقة...
فغرت شفتيها للحظات، ثم لم تجد سوى كلمة.

شكرا، غير قادرة على الإستفاضة بكل ما يجيش في صدرها تجاهه، بينما بادلها هو النظر بصمت ملاحظا أنها تبدو أجمل في كل مرة يقدم لها شيئا مهما كان بسيطا...
أما هي فقد كانت تنظر الى سطح كوبها الساخن بشرود و تتسائل، أهي بالفعل لا تستطيع فهم سرعة تغير حاله من لحظة لأخرى، أم أنها ببساطة غير قادرة على استيعاب مدى صعوبة الموقف الذي وضعته فيه أمام رجولته و كرامته...
تكلم أمين أخيرا قائلا بصوت هادىء.

(بدور، كفى شرودا و أسرعي تأخرنا)
رفعت عينيها اليه و ابتسمت ابتسامة قصيرة دون جواب، بينما قالت امه بسعادة
(كملك الله بعقلك يا حبيبي و جعلك سكنا لها و جعلها سكن لك، طيب القلب كوالدك)
تدخلت نورا قائلة بغيرة واضحة عصبية
(مع زوجته فقط على ما يبدو)
ازداد احمرار وجنتي بدور بشدة، بينما أنهى أمين كوبه وهو يقول بحزم
(إن عادت بعد الساعة السابعة، حينها يكون لك الحق في الكلام)
هتفت نورا بنفاذ صبر قائلة.

(تفكيرك غريب جدا، هل تريد أن تقنعني أن ساعتين اضافيتين قد تزيدان من نسبة حدوث الجريمة في الطريق!)
نظر اليها أمين قائلا بجفاء
(طريقة رائعة في اقناعي، بأن الخروج من أساسه محفوف بالمخاطر و لا داعي له)
أسقطت نورا رأسها على سطح الطاولة و هي تصرخ من بين أسنانها استيائا، بينما نهض من مكانه قائلا
(هيا يا بدور).

نظرت نورا اليهما بحقد، مما جعل بدور تبتعد لتحضر عبائتها، شاعرة بنبضات قلبها تتزايد بعنف و محبة متشوقة و يائسة في نفس الوقت...
أما أم أمين فقد ضربت ابنتها على ذراعها بقوة و هي تهمس لها غاضبة
(احترمي أخيك و احسني اسلوب كلامك معه خاصة أمام زوجته)
الا أن أمين تجاهلها و نظر الى والدته قائلا بحزم في نفس اللحظة التي وصلت فيها بدور.

(حضري نفسك يا أمي آخر الأسبوع للذهاب لرؤية البيت الجديد، و إن أعجبكم سأبدأ في اجراءات شراءه على الفور)
ابتسمت والدته و هي تربت على ساعد بدور الواقفة بجوارها قائلة
(على خير ان شاء الله، جعله الله بوابة خير لكما، هذا بيت بدور، و كان يفترض أن تدخل اليه بفستان الزفاف لولا أن أتممنا الزواج بسرعة).

شعرت بدور بتشنج في حلقها، مختلسة نظرة مخزية الى أمين و كما توقعت تلبدت ملامحه وهو يتذكر طبيعة اسراعه في الزواج منها و الصفعة التي أخذها على مؤخرة عنقه بسذاجة...
لكنه اكتفى بالإيماء برأسه صامتا، ثم اتجه الى الباب تاركا بدور التي اخفضت وجهها بحزن تقبل وجنة حماتها هامسة
(ألقاك مساءا حبيبتي، لقد تبلت اللحم ووضعته في المبرد جاهزا، ووضعت الغسيل في الغسالة، اتركيه لا تقومي بنشره، أنا سأفعل لدى عودتي).

مطت نورا شفتيها قائلة تكلم نفسها بإمتعاض
(فلنرتدي ملابسنا برائحة عطنة اذن، لأنك تردين ارضاء حماتك بأي طريقة)
حدجتها أمها بنظرة غاضبة بينما امتقع وجه بدور بشدة، و قالت أمها بصرامة
(نورا، لقد زدت من الوقاحة، )
نهضت ابنتها من مكانها و هي تقول بحدة ناظرة الى عيني بدور دون خجل.

(ليست وقاحة يا أمي، بل صراحة، أنا لا أطيق التملق الأقرب الى النفاق، الا ترين أنها تبالغ بشكل شديد الغرابة و هي لا تزال عروس و غير مطالبة بمثل هذه الخدمة المضنية! إنها تفعل ذلك كي تحظى برضاكما، و يبدو أنها نجحت، انظري كيف يميزها أمين على، بعد أن كان يعاملها بجفاء في بداية زواجهما، و قبل أن تفهماني بطريقة خاطئة و تظنان أنني حاقدة أو حاسدة، بالطبع لا أنا أتمنى سعادة أخي، لكن في نفس الوقت النفاق و التملق يمرضني).

و دون كلمة أخرى، استدارت و تركتهما، والدتها قاتمة الوجه بشدة، بينما بدور تنظر أرضا شاعرة بقبضة تعتصر أنفاسها، لا أحد يعلم، لا أحد يفهم لماذا تغالي في خدمة الأسرة التي احترمتها و الرجل الذي ستظل مدينة له طوال عمرها...
هزت رأسها قليلا و قالت بصوت مختنق
(سأذهب الآن يا عمتي)
لكن حماتها أمسكت بعمصمها قائلة بقلق
(بدور، لا تحزني حبيبتي، للأسف كانت ابنة وحيدة و دللناها، لكننا أخطأنا على ما يبدو).

ابتسمت بدور و هي تربت على كفها قائلة
(بالعكس، ليتني كنت مثلها، نورا مثال الفتاة المحترمة و ذات الشخصية القوية، بينما أنا نشأت بطريقة تختلف عنها، لذا قد ترى في تصرفاتي تملقا زائد، هي معذورة فقط، الآن سأذهب قبل ان أتأخر على أمين أكثر)
تنهدت أم أمين قائلة بحزن
(في أمان الله يا بنتي، حفظكما الله من كل شر).

وصلت بدور الى باب الشقة فاستندت الى اطاره بكفها و هي تشعر بغصة تجرح حلقها بعنف، فأخفضت وجهها الحزين تأخذ نفسا عميقا، قبل أن ترفعه مبتسما بإشراق زائف، كي تذهب الى أمين...

(عفوا، هل يمكنني استعارة دفترك لأصوره، فقد فاتني الجزء الأول من المراجعة)
رفعت بدور وجهها تنظر الى رضوى الواقفة بجوارها، كانت بتبدو و كأنها تضغط على نفسها مضطرة في الطلب، ولولا أنها تحتاج الدفتر فعلا لما طلبت منها بعد أن خاطبتها بإيجاز و فظاظة آخر مرة...
لذا ابتسمت بدور و أغلقت الدفتر و رفعته لها قائلة بمودة
(بالطبع، تفضلي)
بدت رضوى مترددة قليلا، ثم أخذت الدفتر، فسارعت بدور تقول بلطف.

(أنا، أردت أن أعتذر لك عن مدى فظاظتي في الكلام معك المرة السابقة، ربما كنت متعبة فقط من اليوم الطويل)
ظلت رضوى على ملامحها المتحفظة للحظتين فقط، قبل أن تبتسم ببشاشة و كأنهما صديقتين منذ فترة طويلة، فقالت برضا
(لا بأس، أنا أيضا في حالة الإرهاق أبدو كدب بري).

استدارت قليلا لتغادر، الا أن بدور كانت تعض على شفتها تود الكلام معها أكثر، مشتاقة الى صديقة، بل تتمنى أن تحصل على صديقة ولو لمرة واحدة في العمر، فقالت بتردد
(لما لا تجلسي قليلا)
عادت رضوى تنظر اليها بشك، ثم لم تلبث أن جلست بجوارها مبتسمة و هي تقول ببساطة
(هذا أفضل، ذابت قدماي من الجري خلف المواصلات صباحا، و بعد هذا لم أستطع اللحاق ببداية المحاضرة)
أجابتها بدور بخفوت.

(إنها تبدأ في وقت مبكر فعلا، ولولا أن زوجي يقوم بإيصالي لما استطعت اللحاق بها أنا ايضا)
نظرت اليها رضوى قائلة بإمتعاض مازح
(هنئيا لك يا حبيبتي، من أعطاك يعطينا)
ضحكت بدور قليلا و هي تعدل وشاح رأسها قرب فكها بخجل لا تعلم سببه، ثم بدلت الموضوع قائلة تسألها بفضول
(أين تسكنين؟)
تنهدت رضوى عاليا و هي تشير بكفها الى البعيد قائلة بحسرة.

(بعيدا بعيدا بعيدا بعيدا، حتى بدأت أظن أنني أسكن آخر العالم، آآآه حين أتذكر يوم كانت الكلية بجوار البيت و أتجه اليها سيرا)
أثار كلامها فضول بدور فسألتها مهتمة
(صحيح اظن أنك أخبرتني بإنتقالك الى هنا هذا العام، لماذا فعلت ذلك و انتظرت لإنتهاء عام التخرج على الأقل)
ظلت رضوى صامتة و قد تبدلت ملامحها تماما، تتفحص دفتر بدور دون تركيز، فسألتها بدور بفضول أكبر
(هل هو سر؟).

رفعت رضوى وجهها اليها مبتسمة ابتسامة شجاعة على الرغم من بعض الألم الذي ظهر في عينيها و قالت ببساطة.

(ليس سرا على الأطلاق، أنا لا أخجل من الأمر مطلقا، بكل صراحة أنا مطلقة، تزوجت في سن مبكر و اكتشفت فيما بعد اي وضيع هو، فطلقت سريعا لكنه ظل يأتي الى الكلية يوميا و يتعمد افتعال الفضائح، فوجدت نفسي على وشك خسارة العام الأخير و الذي هو بوابة العمل و الإستقلال بحياتي، لذا شجعت أسرتي على الإنتقال و قد كانوا متفهمين جدا، و تركت له البلدة بما فيها).

كانت بدور تنظر اليها متفاجئة من اعترافها البسيط، كانت تظن أن الطلاق فضيحة، لكن رضوى تتعامل مع الموضوع ببساطة جدا، فسألتها بغباء دون تفكير
(ألست محرجة من كونك مطلقة؟)
نظرت اليها رضوى بدهشة و كررت بقوة
(أنا من تحرج! هو من عليه أن يكون محرجا لأنه كان أقل من رجلا، يضرب زوجته و لسانه سليط لدرجة القرف، الحرج الحقيقي هوا بقائي معه و الجميع يرون أي شخص مقزز هو)
أمسكت بدور بمعصمها تقول باسف شديد و تلعثم.

(أنا آسفة، آسفة جدا، سامحيني أرجوك على وقاحتي)
ابتسمت رضوى قائلة بهدوء
(بالطبع أسامحك، لم أشعر بالتجريح حتى، أنا فقط اريد أن أقول لك شيئا، عليك أن تبدأي في تغيير نظرتك لنفسك و للمجتمع و للحياة من حولك، فعلى الرغم من أنني قابلتك مرتين فقط، الا أنني أجيد قراءة البشر، بشخصيتك هذه ستتعبين في حياتك جدا)
ثم نهضت و هي ترفع الدفتر قائلة بإبتسامة عريضة
(سأعيده اليك خلال دقائق، أشكرك يا صاحبة الشهامة).

و استدارت لتغادر الا أن بدور نادتها متسرعة
(رضوى)
عادت رضوى تلتفت اليها متسائلة، فقالت بدور بحرج و قد انتابتها نوبة خجل مفاجئة كالأطفال
(بالنسبة، لو، إن خرجتن معا مجددا، فهل)
قاطعتها رضوى مبتسمة سائلة
(هل وافق زوجك على خروجك معنا؟)
رفعت بدور كتفها و هي تقول بخفوت
(نعم، هو ليس بمثل هذا التعنت الذي أظهرته عليه المرة السابقة)
أومأت رضوى قائلة برضا
(هذا خبر جيد، اذن سنتفق حين أعود).

غريبة هي النفس البشرية، حين تترأجح بين الرغبة في قتل انسان، ثم تترأف به حين ترى ذله و هوانه في أشد حالاته انكسارا...
هذا ما كان يشعر به وهو ينظر الى بدور المنحنية أرضا في المطبخ، تقوم بغسل شبرا شبرا منها بفرشاة خشنة، للحظات لم يستطع الكلام وهو يراقبها بملامح جامدة، و عينين غريبتين، ثم نظر الى ساعة معصمه أخيرا و سألها بصوت ثابت
(ألم تكتفي بعد يا بدور؟).

انتفضت بدور واقفة و هي تنظر اليه مجفلة، لم تسمع صوت قدومه أبدا، منذ متى وهو واقف مكانه يراقبها!
حاولت الكلام بتلعثم الى أن ردت بإرتباك
(مجرد دقائق و أنتهي، هل نامت عمتي؟)
تنهد أمين وهو ينظر الى عينيها نظرة زادت من ارتباكها، ثم قال بهدوء
(منذ وقت طويل، و ليس هذا ما كنت أقصده، بل قصدت مبالغتك في المساعدة بشكل واضح، لما تفعلين كل هذا؟)
تراجعت بدور خطوة للخلف و هي تمتم مدافعة.

(ليس الأمر كذلك، أنا فقط وجدت بعض بقع الطعام على الأرض فخشيت أن يمتلىء البيت بالحشرات على اثرها، لكنني انتهيت على كل حال)
تنهد أمين مرة أخرى و كأنه مل ما يحدث، فاتجه الى أحد الكراسي و سحبها ليجلس مربتا على سطح الطاولة بشرود، الى أن رفع عينيه اليها قائلا بخفوت
(ليس عليك اظهار امتنانك بتلك الطريقة يا بدور).

فغرت فمها، و هزت رأسها نفيا بسرعة هاتفة و هي تخشى أن يتهمها بالتملق المنفر كما فعلت نورا صباحا...
(أنا لا أفعل، لا أظهر امتناني أو أي شيء آخر، أنا كنت سأفعل الشيء نفسه لو كنت في بيتي)
ظل أمين صامتا للحظات ثم قال ببطىء كي تستوعب
(أولا هذا بالفعل بيتك، لذا تصرفي كما تشائين، ثانيا، و لأكن صادقا معك يا بدور فإن فرك الأرض و مسح أسطح الخزائن لن يمحي خطأك في حقي، فلا تبالغي).

كلامه الهادىء البسيط ألجمها و جعلها تصمت تماما و هي تتراجع مرة أخرى حتى ارتطم ظهرها بالخزنة من خلفها، ثم قالت ما أن وجدت صوتها
(اذن ما هو الذي قد يمحو خطأي؟)
هز أمين رأسه ببطىء وهو يجيبها
(ببساطة، لا شيء، هذا النوع من الأخطاء تجاه الزوج، لن يستطيع محوه مطلقا، ربما تجاوزه، لكن محوه! أبدا)
أخفضت بدور وجهها غير قادرة على الكلام، بل لا تريد الكلام من الأساس، و لم يكن أمين ينتظر منها ردا، بل قال متابعا.

(أنت فقط اهتمي بدراستك و احصلي على شهادتك، على الأقل أشعريني بأنني قمت بعملا صائب حين قررت إبقائك معي، اتفقنا؟ )
نظرت بدور اليه بعينين واسعتين قليلا، لقد قال ابقائك معي! و ليس معنا...
ترى هل كان يقصدها؟، أم أنه خطأ في التعبير ليس أكثر؟
الا أنها أومأت برأسها ببطىء و همست
(سأنجح ان شاء الله، لم أكن يوما أكثر اصرارا على النجاح كما أنا الآن، أعدك بذلك)
أومأ أمين برأسه قليلا ثم قال بهدوء وهو ينهض واقفا.

(أتمنى ذلك، الآن اتركي كل شيء و اطفئي الضوء و اذهبي لتنامي على الفور)
تلاعبت أصابعها أعلى عظام صدرها برقة متجولة و هي تجيبه بحذر
(الحقيقة، لقد شربت فنجان قهوة و كنت أنوي أن أدرس حتى الفجر، إن لم يكن لديك مانع)
زفر أمين بغيظ و أجابها
(لو كنت وفرت وقت التنظيف المضني هذا لكنت نلت قسطا أوفرا من النوم، لكن عامة لن أمنعك من الدراسة بأي حال، اتعبي الآن قليلا، و سرعان ما ينتهي العام).

استدار ليغادر، الا أنها نادته بسرعة، فالتفت اليها متسائلا، حينها قالت بخفوت
(بالنسبة لما قلته عن خروجي مع بعض الصديقات، هل كنت جادا به؟ لأنهن يردن التجمع في مكان و الدراسة معا كنوع من التغيير)
أجابها أمين قائلا
(أنا لا أنطق بشيء لست جادا به، فقط أعلميني الى أين ستذهبين و مع من)
ردت بدور بحماس طفولي و هي تشعر بسعادة ضخمة.

(حقا! الحقيقة من تعرفت اليها هي رضوى، انتقلت الى جامعتنا هذا العام فقط بعد طلاقها لكنها)
قاطعها أمين قائلا بصوت أجش
(مطلقة!)
شعرت بدور أنها اكثرت في الكلام فقالت بتراجع و صوت خفيض
(آآآ، نعم، هل هذه مشكلة؟، لقد أبلغتها موافقتي بالفعل، لكن إن كنت رافضا سأبلغها بذلك)
كان أمين شارد الملامح، ترتسم على فمه ابتسامة ساخرة قاتمة، لم تفهمها بدور...

أما هو فقد كان يتذكر شجاراته مع نورا في صداقتها بياسمين، لأنها مطلقة تعيش وحدها و لا يعلم سبب طلاقها أو طبيعة أخلاقها، الى أن نال أقسى درس ممكن أن يأخذه في حكمه على البشر...
مما جعله ينظر الى بدور قائلا بجفاء
(لا مشكلة، بأي وجه احكم على فتاة لا أعرفها بينما سبق و حكمت على فتاة من دمي و تبين أن حكمي ساذجا حد الغباء)
أطرقت بدور برأسها، ها هو موعد ابرة التقريع المسائية، و لا تملك حق الإعتراض...

لكن أمين لم يزد في الموضوع، بل قال بصوت أكثر خشونة
(ليتك تنامين قبل الفجر بوقت كاف، فالإرهاق يبدو على عينيك بشدة)
أومأت بدور برأسها، فنظر اليها طويلا كما اعتاد مؤخرا ثم خرج من المطبخ وهي تعلم أنه لن يذهب الى غرفة النوم هذه الليلة أيضا...

خطت بدور الى البيت بقدمها اليمنى، كاتمة أنفاسها و هي ترى بساطته و قد احتلت قلبها على الفور...
حتى برقت عيناها بشدة، كان قريب الشبه بالدور المتواجدة في البلدة، الا أن بعض الإختلافات العصرية جعلته أكثر عصرية...
سمعت حماتها من خلفها تقول مستبشرة متفائلة
(بسم الله، بارك الله لكما فيه، البيت تبدو ريحه طيبة و قد ارتاح له قلبي من الخطوة الأولى)
تبعهما أمين قائلا بهدوء.

(لا تتسرعي في الحكم يا أمي، تجولي فيه على مهل و فكري جيدا)
أما نورا فقد هتفت متحمسة بجذل
(أمين سأختار غرفتي كما وعدتني، اليس كذلك؟)
ابتسم أمين قائلا
(ليس هناك مجال كبير للإختيار في الواقع، كلهم أربع غرف، لكن اذهبي و اختاري التي تعجبك، الفارق بينهم ليس كبيرا و تقريبا مساحتهم واحدة)
أوشكت نورا على الجري لتختار، الا أن أمها أمسكت بمعصمها و قالت بصرامة
(تعالي هنا، بدور ستختار أولا)
تخصرت نورا قائلة بحنق.

(لماذا إن شاء الله هي من تختار أولا؟)
ردت أمها بحزم
(لأن البيت بيتها في الأساس، أما أنت فمصيرك الى بيت زوجك و حقك محفوظ)
ضربت نورا الأرض بقدمها و هي تقول بعذاب
(هذا ليس عدلا)
أما بدور فقد كانت صامتة و هي تشعر بكلمات حماتها كخناجر تذبح قلبها...

تعطيها قيمة و قدرا غير محسوب كزوجة ابنها الوحيد، و مجددا تشعر بأسى مرير و هي تتذكر كيف أبخست من قدر نفسها أمام راجح، فكان أن باعها في النهاية بلا ثمن، جزاءا لبيعها أهلها أولا...
قال أمين بهدوء
(دعيها تختار التي تريد يا أمي، لا فارق بين الغرف)
تركت والدته معصم ابنتها و هي تنظر اليها نظرة طرفية غاضبة، الا أن نورا لم تهتم بل جرت بسرعة تتفقد الغرف...
فأمسكت والدتها بكف بدور قائلة بإبتسامة حنونة.

(هيا حبيبتي، تعالي و أريني بيتك بنفسك)
ابتسمت بدور برقة و هي تقبلها على وجنتها هامسة
(الدار دارك يا عمتي)
ضحكت حماتها و هي تقول بمحبة
(أكثر ما يزيد حبي لك يا بدور هو بعض كلمات لهجتنا التي لا تزال بلسانك و أسمعها كل حين)
ثم سحبتها خلفها و هي تتحدث بطلاقة عن كل جزء في البيت، عيوبه و مميزاته، بينما بدور صامتة تماما كل ما يشغل بالها، هو الى متى ستظل في هذا البيت؟

و ترى من ستكون سيدته الحقيقية، التي ستملكه و تملك قلب صاحبه!
(بدور، ما رأيك؟)
أفاقت بدور من شرودها على صوت والدة أمين و هم يقفون في احدى الغرف، واسعة جميلة، تدخلها الشمس من نافذتين واسعتين، فتابعت حماتها قائلة بسعادة
(أعتقد أن هذه هي أكثر غرفة مناسبة لكما)
ظلت بدور صامتة ممتقعة الوجه، لا تعلم بما تجيب، تود لو هربت من هذا المكان تحت حصار نظرات أمين الممعنة...
و حين طال صمتها قال أمين ببطىء.

(معك حق يا أمي، هذه الغرفة ستكون مناسبة لبدور و أنا سآخذ المجاورة لها)
للحظات ساد صمت مضطرب فوق رؤوس الجميع، و شعرت بدور و كأن الهواء من حولها قد تقلص و احتقن وجهها بشدة، بينما كانت أمه تنقل عينيها بينهما بذهول مصدومة، الى أن هتفت أخيرا بغضب شديد
(ماذا؟، أي غرفة هذه التي ستأخذها؟ مكانك الوحيد بفراش زوجتك).

ازداد احمرار وجه بدور بشدة و هي تنظر أرضا صامتة، مشبكة اصابعها غير قادرة على النطق، بينما اتجهت والدة أمين الى باب الغرفة تغلقه بقوة كي لا تسمعهم نورا، ثم عادت اليهما قائلة بحدة و صرامة
(و الآن افهماني، لماذا تحتاجان الى غرفتين منفصلتين؟، كنت أظن أن علاقتكما قد استقرت و تحسنت و غاب الحسد الذي ظللكما لفترة، فما الذي حدث مجددا؟).

وضع أمين كفيه في جانبيه وهو مطرق يأخذ نفسا عميقا، ثم قال أخيرا بحسم كي يغلق الموضوع الذي حضر له طويلا
(لم يحدث شيء يا أمي، أنا و بدور اتفقنا أننا نحتاج الى فرصة كي نتأقلم سويا، و لا ضرر ضخم في أن يكون لكل منا غرفة مستقلة، أسر كثيرة الآن تعتمد هذا النظام)
ضربت أمه كفا على كف و هي تهتف بغضب
(ليست أسرة ابني يا قرة عين أمك، هذه النظم الحديثة لا أفهمها و لا أريد فهمها، هذا كلام فارغ).

صمتت للحظات و هي تنظر اليهما بشك، ثم سألته بحذر مهددة
(ماذا تعني بفرصة كي تتأقلما بالضبط؟، هل تعني مجرد انفصال في أسرة النوم، أم أن العلاقة بينكما متوقفة أيضا!)
شهقت بدور عاليا و قد تحول وجهها الى كتلة حمراء قانية، و دون أن تنتظر لحظة كي تسمع جواب أمين
جرت تعرج تجاه الباب ففتحته و خرجت مسرعة...
أما والدته فقد نظرت اليه بقلب مهموم و قالت مصدومة.

(حصلت على جوابي دون الحاجة للكلام، لا حول و لا قوة الا بالله، ما الذي أصابكما! ما بالها تلك الزيجة و كأن الله لم يبارك بها)
كان أمين ينظر الى الباب حيث خرجت بدور للتو مقطب الجبين مفكرا، ثم لم يلبث أن قال بإيجاز حازم
(أنا أدرى بما تحتاجه حياتنا يا أمي، أرجوك، اتركي لي أمر تدبير علاقتي ببدور دون أن زيدي الضغط علينا، بعض الأمور يكون الضغط فيها خطيرا).

ظلت أمه صامتة لا ترد، ليس اقتناعا و انما لعدم وجود كلام آخر تقوله، لقد حاولت عشرات المرات كي تفهم سبب هذا التباعد بينهما و لم تجد جوابا شافيا...
هناك ما يخفياه عنها، لكن اصرار أمين على اعادتها معه من عند أهلها، جعلها تظن أنه متمسك بها و مصمم على ايجاد الحب و التفاهم بينهما...

سامحها الله لقد تلاعب الشيطان بعقلها في بعض الاحيان و صور لها أن تكون الفتاة خاطئة، لكنها سرعان ما توضأت و صلت استغفارا، فتمسك أمين بها خير دليل على طهرها و أخلاقها و أصلها و أصل أسرتها النظيف...
لكن ما المشكلة؟، ما الذي يحدث بينهما؟، هي لا تعلم أبدا...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة