قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع

تسللت سوارخارجة من مكتب ليث ما أن انشغل مع احد موظفيه...
و سارت بأقدام متعثرة حتى وقفت أمام باب مكتب دليلة تنظر اليها بعينين قاتمتين، و كأن دليلة شعرت بأنها معرضة للمراقبة فرفعت عينيها مباشرة تواجه بهما عيني سوار المحدقتين بها...
تراجعت دليلة في كرسيها و هي تنظر الى سوار مبتسمة ببرود، ثم قالت
(سيدة سوار، أنا محظوظة بتكرار زياراتك لشخصي المتواضع، تفضلي).

دخلت سوار الى المكتب و هي تنظر الى مكان ناريمان، فوجدته خاليا، بينما قالت دليلة بنبرة هادئة
(تغيبت ناريمان عن العمل اليوم، من الواضح أنك تريدين الكلام في موضوع شخصي، مجددا)
نظرت اليها سوار بإرتباك ثم قالت بخفوت
(دليلة، أريد الكلام معك قليلا، و أرجو منك أن تتفهمي موقفي)
أشارت دليلة الى الكرسي المقابل لمكتبها و قالت بهدوء
(تفضلي، انتباهي معك).

جلست سوار بعدم ثقة و هي تنظر الى أصابعها المتشابكة في حجرها، ثم قالت بخفوت
(دليلة، أنا)
أغمضت عينيها و أخذت نفسا عميقا، قبل أن ترفع وجهها اليها و تقول بكل شجاعة
(أنا غيرت رأيي في موضوع الزواج، أنا لا أقبل بأن يتزوج زوجي من أخرى، أرجوك سامحيني و اغفري لي وقاحتي معك، فأنت تستحقين أفضل من هذا)
ساد صمت طويل ثقيل بينهما و كل منهما تنظر الى الأخرى، بينما هدوء دليلة يثير الإعجاب، ثم سألت أخيرا بإهتمام.

(عفوا لم أفهمك تماما، هل غير ليث رأييه و صرف نظره عن عرض الزواج؟)
بهتت ملامح سوار و هي تجيب بخفوت
(أنا من)
قاطعتها دليلة قائلة بإدراك مفاجىء
(آآآآآآه، أنت من غيرت رأيك تقصدين، لكن هذا طبيعي جدا و متوقع، المهم عندي هو أن ليث لم يغير رأيه أو يسحب عرض زواجه)
قفزت سوار شاحبة الوجه و هي تميل على المكتب قائلة بحدة و بنظرات نارية
(لكن أنا أرفض، غيرت رأيي و أرفض أن تشاركني به غيري)
قالت دليلة بهدوء و أسف.

(بصراحة يا سيدة سوار، دورك انتهى ما أن عرض ليث على الزواج)
ضربت سوار على سطح المكتب بقبضتها قائلة من بين أسنانها
(دوري لا ينتهي في حياة ليث مطلقا، قد أكون أخطأت فيما فعلت، الا أنني أرفض الإستسلام)
نظرت دليلة اليها ببرود أعصاب تحسد عليه، ثم قالت بهدوء.

(أتعرفين نوعك من النساء سيدة سوار؟، أنا أخبرك، أنت امرأة مدللة، لم تتعود المسؤولية الحقيقية، تعتمد دائما على أحد ما، تتهور فتخطىء، ثم تتوقع من الجميع أن ينحني لها لأنها أقرت بخطأها، على الا تتحمل العواقب أبدا، انفعالية و عاطفية بدرجة تثير الشفقة بصراحة، لذا لن أضيع من وقتي أكثر من هذا جدالا معك، و أي تراجع منك أرى أن محله بينك و بين ليث، أما أنا فكلامي مع ليث فقط منذ عرضه للزواج).

فقدت سوار القدرة على النطق أمام برود دليلة و اصرارها الواضح، لكن قبل أن تتكلم أو أن تعترض
دخل أحد السعاة الى المكتب قائلا
(آنسة دليلة، السيد ليث يريدك في مكتبه)
نظرت دليلة الى سوار المصدومة بخبث، ثم نهضت برشاقة مبتسمة و هي تلوح لها قائلة
(أغلقي باب المكتب بعد خروجك من فضلك)
شعرت سوار بعد خروج دليلة أن قلبها قد سقط متهشما في شظايا بين أضلاعها فمزق صدرها شر تمزيق...

ظلت تنظر حولها بعينين ضائعتين، قبل أن تتملكها روح التمرد، فخرجت مسرعة من المكتب و البناية بأكملها...

جلست دليلة في مواجهة ليث الذي بدا متوترا على غير عادته، ثم رفع وجهه اليها قائلا
(دليلة)
الا أنها كانت هي من بدأ الكلام فسبقته قائلة
(قبل أن تقول أي شيء يا ليث، أنا غيرت رأيي و رفضت عرض الزواج بعد ليلة طويلة من التفكير)
ارتفع حاجبي ليث بدهشة، مما جعلها تتابع قائلة بثقة.

(صحيح أنني لم أطلب حبا، و أنني أستطيع المشاركة دون حرج، لكنني حين توقفت مع نفسي قليلا، و فكرت، و جدت أنني قادرة على القبول برجل لا يحبني، لكن أن يحب زوجته الأولى و يستثنيني؟، لا، أنا أستحق أفضل من هذا)
أجابها ليث بصدق
(بالفعل، حين عرضت سوار عليك أمر الزواج، شعرت بالحرج منك، فأنت ناجحة متقدمة في حياتك العملية، و تستحقين زيجة أفضل، و أي فتاة أخرى في محلك لكانت أهانتها و طردتها).

نهضت دليلة من مكانها و هي تنظر اليه بإبتسامة هادئة ثم قالت
(بالمناسبة، زوجتك كانت في مكتبي للتو، تأمرني أن أبتعد لأنها غيرت رأييها!)
ارتفع حاجبي ليث بدهشة و على الرغم من الحرج الذي ملأه من تصرفات سوار المتخلفة، الا أن شعورا آخر من الرضا ملأه باستحسان متوهج...
أما دليلة فتابعت تقول
(و بصراحة يا ليث، زوجتك تحتاج الى تأديب).

ابتسم ليث بسعادة وهو يوميء اليها موافقا، و كم سيروق له تأديبها، ربما بدءا من الليلة و كل ليلة الى أن يكتفي من تأديبها، و إن كان يشك في هذا...

ظلت سوار حبيسة غرفتها و هي تنظر الى ساعة الحائط، لقد حل المساء و أظلمت السماء بينما لم يعد بعد!
أين ذهب؟، هل ذهب لخطبة دليلة من أهلها؟
لا، لن يذهب بنفس ملابسه منذ الفجر...
نهضت سوار من سريرها و أخذت تدور في الغرفة بجنون و هي تبعد شعرها عن وجهها بجنون، ثم تنفضه، لتعيده خلف أذنيها، قبل أن تتخلله بأصابعها تكاد أن تقتلعه من جذوره...
لقد بكت كثيرا في انتظاره، كيف له أن يكون بمثل هذه القسوة؟

لقد استدعاها في مكتبه، استدعى العروس الجديدة و تركها هي خارجا!
استدارت حول نفسها بغضب و عذاب و هي تهتف بصراخ مدوي بداخلها
لا، والله لن أسمح له بأن يعاملني بتلك الطريقة...
حتى و إن كانت قد أخطئت، فأين العشق الأسطوري الذي لطالما تحدث عنه، إن كان مع أول خطأ لها سيعاقبها بالزواج من امرأة أخرى...
انتفضت سوار فجأة و هي تسمع صوت باب الشقة يفتح، فكتفت ذراعيها و هي تقف متحفزة...

إن كان ينتظر منها اعترافا بالحب، فسوف ينتظر طويلا...
لكن الدقائق مرت ببطىء، وتحولت الى ساعة، بينما لم يحاول الإقتراب من غرفتها...
و حين يئست سوار أخيرا، ارتمت على سريرها تبكي بصوت مختنق، .

كان ليث يقف أمام نافذة غرفته، ينظر الى السماء الحالكة الممتدة، بنظرات داكنة شاردة...
لكن صوت باب غرفته وهو يفتح فجأة جعله ينتبه و ينظر جانبا دون أن يستدير...
في لحظة أغرق عبيرها الخلاب هواء الغرفة فأسكره، الا أنه لم يحاول الالتفات اليها، فنادته بخفوت
(ليث)
لم يرد عليها، . بل ظل صامتا يوليها ظهره، فنادته مجددا بصوت أكثر توسلا
(ليث، بيننا حوار لم يكتمل بعد، هل نسيت؟).

ساد صمت متوتر بينهما، الى أن قالت سوار بخفوت متنهدة
(حتى لو لم ترد النظر إلى، فعلى الأقل استمع لي، ثم سأنصرف)
صمتت للحظة، ثم قالت بوضوح
(أنا أحبك، فقط، هذه هي تتمة الحوار، ليس لدي سواها)
ثم استدارت لتخرج مطرقة الرأس، الا أن صوته هدر بها بقوة و صرامة
(انتظري).

شعرت سوار بقلبها يتوقف. ، الا أنها عادت و التفتت اليه، فنظر اليها، وهو يراها ترتدي احدى غلالات نومها المعذبة، تنوي القضاء على قلبه المسكين مع سابق اصرار...
لكنه تجاهل تأثيرها عليه و قال بنبرة غاضبة مهددة
(إن تجرأت و غادرت بدوني على الملأ كما فعلت اليوم، فلا تكلفي نفسك عناء العودة الى هنا، مفهوم؟)
نظرت اليه سوار مشدوهة و متألمة، لكن نظراته الغاضبة جعلتها تدرك كم هو منفعل حاليا...

لذا أطرقت برأسها و همست بتخاذل
(مفهوم)
و حين ساد الصمت بينهما، قال ليث بجفاء
(هذا كل ما لدي لأقوله، تصبحين على خير)
شعرت سوار بخيط من الثلج يسري في ظهرها احراجا من طرده لها، الا أنها تماسكت و سألته بجفاء مماثل
(لماذا طلبت دليلة في مكتبك؟، ماذا دار بينكما من حوار؟)
رد ليث قاطعا بنبرة لا تقبل الجدال
(هذا الموضوع منتهي، لا دخل لك به).

ارتجفت شفتي سوار و أوشكت على أن تخرج من الغرفة غاضبة، لكن بداخلها كان هناك استسلام يأمرها بالبقاء...
غريزة قوية تخبرها أن الرغبة في قربه ليست اذلالا، بل هي شيء نقي و ساحر...
لذا و قبل أن تتردد أكثر، وضعت كبريائها جانبا و التفتت اليه، تنظر لعينيه طويلا، ثم قالت بصوت مختنق مستسلم
(ليث، أنا أريد البقاء معك الليلة، أرجوك لا تردني).

ضاقت عينا ليث وهو يتأملها مليا، بينما هي ترتجف خوفا من أن يرفضها، الا أنه قال بخشونة
(طلبا للمواساة؟)
هزت سوار رأسها نفيا ببطىء، ثم رفعت عينيها اليه و همست بصوت مبحوح و هي ترفع يديها لتبعد أشرطة القميص عن كتفيها...
(بل شوقا لك).

دموع الغضب لديها لم تتوقف منذ أن أغلقت بابها على نفسها تلك الأمسية المشؤومة...
لم تشعر بالإهانة يوما كما شعرت هذا اليوم، كيف أمكنه أن يفعل هذا؟، و بأي حق؟
رفعت ياسمين قبضتها تمسح بها المزيد من الدموع الحارقة دون أن تبكي حقا، بل كانت ملامحها شديدة البأس، حادة الملامح و عيناها غاضبتان بشدة، بعجز و قهر...
همست بصوت مرتجف من شدة العنف المكبوت
الحقير، الحقير،.

ثم لم تلبث أن رفعت ركبتيها الى صدرها قبل أن تدفن وجهها بينهما و هي تنفجر في البكاء أكثر...
ماذا فعلت؟، ما الجرم الذي ارتكبته كي يهينها بهذا الشكل على الملأ؟
لم تكن تريد سوى بعض الدقائق من الحرية...
كم شعرت بنفسها في مثل عمرهن، لا تزال في الجامعة ترقص و تضحك مع صديقاتها، تنظر للحياة بنظرات كلها حماس و عفوية...
لقد نست كل شيء، نست زواجها البائس و الذي لم تذق خلاله سوى طعم اليأس من كل شيء...

نست طلاقها السريع و الذي أثار حولها عاصفة الغضب و الرفض من الجميع.
نست رفض أمها لكل تصرف تقوم به و كأنها علة ابتليت بها...
حتى أمين نفسه نسته، فهي لم تدعو أخته و صديقاتها الى بيتهما رغبة منها في جذبه للحديث معها...
بل أرادت عن حق أن تعيش تلك الساعات المسروقة من الزمن...
لكنه هجم عليهن كالغراب الحالك و أفسد المرح دون أي عذر أو تبرير منطقي...
نهضت ياسمين من فراشها منتفضة و هي تدور في الغرفة بيأس...

حتى أوشك الصداع على أن يفتك بها، لقد ارتفع ضغطها خلال اليومين السابقين على نحو اقترب من الخطر...
توقفت للحظات تنظر الى نفسها في المرآة، فهالها منظر وجهها الشاحب و عينيها الغائرتين المتورمتين...
رفعت ياسمين كفها تتحسس وجهها بشرود ثم همست بصوت كئيب
يالله! كم أبدو متقدمة في العمر، و كم زاد وزني؟،
اطرقت برأسها للحظات و هي تستدير عن المرآة بنفس تعيسة...

ربما كان أمين محقا في شيء واحد، وهو أنها ليست مناسبة كي تصادق أخته و رفيقاتها، فهي تبدو كأنثى العنكبوت السوداء...
تحركت بساقين متثاقلتين حتى جلست على حافة فراشها بكتفين هابطتين...
و تسائلت، كيف استطاعت منذ يومين فقط أن ترى نفسها جميلة و متألقة ووجهها يشع حيوية و شبابا!
قبل أن تصل نورا و صديقاتها، كانت هي واقفة تنظر الى نفسها في المرآة بإعجاب صارخ...

لقد رأت الفستان الأسود يظهرها اكثر نحافة، و الحمرة القانية تمنحها تهور المراهقة،
أما الآن فقد استفاقت على صورة مغايرة تماما...
الحقيقة التي لا تريد أن تعيشها، و كأنها تتمنى لو اقتطعت من عمرها بضعة سنوات و تعود خالية المسؤولية، و الهم...
نهضت ياسمين مجددا من فراشها و اتجهت الى هاتفها فطلبت رقم أمها، و انتظرت بقلب مثقل...
لكن من أجابها لم تكن أمها، بل كان زوج أختها...
فقالت ياسمين بصوت باهت بلا تعبير.

(مرحبا عادل، أريد مكالمة أمي)
و ساد الصمت قليلا و هي تسمع رده بملامح أكثر برودا، فقالت بصوت جليدي
(طالما أنها في الحمام، لماذا تجيب على هاتفها؟)
رد عليها زوج أختها بطريقة باردة متهكمة
ما الأمر يا ياسمين؟، هل هي احدى تلك النوبات التي تصيبك فتزيدك رغبة في افتعال المشاكل؟،
أغمضت ياسمين عينيها و هي تحاول التقاط نفس يهدئها، الا أنها قالت بعد لحظات بصوت مشتد النبرات.

(كل ما أطلبه منك هو أن تحترم بعض الخصوصية بيني و بين أمي، و الا ترد على هاتفها، خاصة و إن كنت أنا المتصلة)
رد عليها زوج أختها بسماجة
(و ماذا إن كانت صاحبة الشأن موافقة؟، أنت بالفعل مزعجة)
هتفت به ياسمين و قد عيل صبرها، فهو آخر شخص كان في حاجة لأن تسمع استفزازه حاليا...
(أنا لا أسمح لك بمخاطبتي بهذا الشكل)
هتف بها هو الآخر فجأة.

(أنت من لا تسمحين؟، فعلا إن لم تستحي فافعل ما شئت، الا يكفي انك تتصرفين من رأسك دائما مما يوقعنا نحن في المشاكل و نضطر لسماع كلاما لا نطيق بسبب رأسك العنيد، و في النهاية تسمحين و لا تسمحين؟، أنت حقا حصوة مزعجة في هذا البيت، حتى أمك لم تعد تملك من الصحة ما تتحمل بها تصرفاتك)
المزيد من الإمتهان و كأنها في حاجة له...
ابتلعت ياسمين الغصة في حلقها، ثم رفعت وجهها لتسأله بصوت متحد بارد.

(هل تريد إقناعي بأنك تريد أن أعود للسكنى معكم يا عادل؟)
ساد صمت ثقيل، طويل، مما جعلها تبتسم ابتسامة باهتة، جامدة، الى أن قال بحدة
(و هل إن عدت الينا، لن تكوني مطلقة؟، أنت من خربت بيتك بيدك و الآن نحن مضطرين لتحملك)
صرخت به ياسمين بقوة و غضب
(على ما يبدو أنك قد نسيت نفسك يا عادل، أنت لا تتحملني، و لا تنفق على قرشا من جيبك، بل في الواقع أنت تحتل مكاني في بيت والدي، ليس احتلال بل عدوان كامل).

صرخ بها زوج أختها بإنفعال...
(احترمي نفسك يا ياسمين)
ردت عليه بصوت أكثر قسوة و جرأة
(أنا محترمة دون الحاجة لأن تأمرني بهذا، لكنك في حاجة لمن يذكرك بأنك أوهمتنا أن فترة اقامتك في بيت والدي ستكون مؤقتة، لكنك ارتحت و ارتخت عزيمتك و قررت الإقامة به للأبد، أنت تحتل مكاني)
هتف عادل بصوت هجوري منفر.

(أنا زوج أختك، بيننا زواج أولى بأن ينال كل حق، أما أنت فقد سعيت للطلاق و خراب بيتك بيدك، المكان الذي تريدين العودة له، لا لشيء سوى لأنك مدللة و غير مسؤولة، أسرة أختك أولى به)
اتسعت عينا ياسمين و قد عجزت عن الكلام ردا عليه، لكنها لم تجد الفرصة، فقد سمعت صوت أختها يقول بحدة عن بعد.

(هات الهاتف يا عادل، ما الأمر يا ياسمين؟، أكلما أوقعت نفسك في مشكلة تتصلين بنا لتهيني زوجي؟، هذه المرة أنا التي ستقف لك، كفاك ذلا بنا، هذا البيت بيتي كما هو بيتك، و لي حق به، وزوجي مكانه معي أينما أكون، كانت لك شقة كاملة و أنت تنازلت عنها لمجرد أنك لم تتحملي الزواج و رحلت بمحض ارادتك الى سكن مستقل، لذا لا يحق لك الآن التحكم بنا و إذلالنا)
ساد صمت آخر أكثر طولا، و أكبر إيلاما...

الى أن قالت ياسمين أخيرا بصوت قاتم ميت
(هل هذا هو كل ما لديك من كلام لإختك؟)
قالت أختها بغضب
(ماذا تتوقعين مني حين تهينين زوجي كل مرة بكلامك السام، هو رجل و كرامته لا تقبل بهذا)
قالت ياسمين قبل أن تستطيع منع نفسها
(الرجل الذي يمتلك بعض الكرامة، هو من يحترم كلمته، و يوفر لزوجته سكنا كما ادعى)
صرخت أختها بها.

(اخرسي، اخرسي يا ياسمين لم أعد أطيق كلامك أبدا، أنت معقدة و حقودة و تغارين من زواجي الناجح، بينما أنت سعيت الى الخراب بنفسك و على ما يبدو قد ندمت)
ضحكت ياسمين ضحكة ساخرة قاسية و قالت ببرود رغم الألم النابض بداخلها بعنف
(أنا أغار و احقد على زواجك أنت؟، الناجح؟، بالله عليك، أمك تعطي زوجك معاش والدي كاملا)
صرخت بها أختها و قد تحول انفعالها الى ما يشبه الهيستيريا.

(اخرسي، اخرسي، ابتعدي عن حياتي و ابقي في حياتك التي اخترتها)
الا أن ياسمين هي من صرخت هذه المرة بإنفعال أكبر
(أنا لم أتدخل أصلا في حياتك البائسة، كل ما أردته هو مكالمة أمي، فقفز لي زوجك كما يقفز الى كل مكان لا يخصه)
صرخت أختها مجددا و قد تحول الإتصال الى مأساة
(أنا، أنا، أنا أكرهك و أكره حقدك أيتها السوداء القلب).

شعرت ياسمن و كأنها تلقت ضربة في منتصف قلبها تماما، لم تصدق أن من تصرخ بهذه الهيستريا هي أختها بالفعل...
لقد كانتا يوما أقرب الى الصديقتين، لكنه كان يوما بعيدا، بعيدا جدا...
لقد تغير كل شيء، كما أقسمت حياتها على أن يتغير كل ما هو جميل بها الى شيء باهت لا معنى له...
لم تستطع النطق الى أن وصلها صوت أمها و هي تقول بغم و أسى
(ماذا تريدين يا ياسمين؟).

رمشت ياسمين بعينيها و هي تحاول منع نفسها من البكاء، ثم قالت بصوت مختنق
(أمي، هل يرضيك ما سمعته من أختي و زوجها؟)
سمعت صوت تنهيدة أمها المتعبة، ثم أعادت بصوت أكثر غلبا
(ماذا تريدين يا ياسمين؟)
ارتعشت شفتاها و ردت بصوت يائس
(كنت في حاجة لسماع صوتك، لكن على ما يبدو أن اتصالي أصبح غير مرغوب به مثل وجودي)
قالت أمها بصوت مجهد.

(أنت من ابتعدت بكل عناد و فعلت ما لم تفعله أي امرأة محترمة تخشى على نفسها من الأقاويل)
انسابت دمعتان حارتان على وجنتيها بينما ابتسمت ابتسامة مريرة و هي تقول
(كان عليك أن تكوني أكثر ثقة في يا أمي، فأنت من ربيتني، و أنني أكثر احتراما من كل من يعانون من نقص ما و يعيبون على شيئا، هم ليسو بقادرين على فعل مثله)
هتفت أمها بحدة.

(كفى هراء، كفى كلاما لن يجدي، لقد يئست من تعديل رأسك، لكن على الأقل لا تحاولي افساد زواج اختك، والله قد أسقط ميتة إن تطلقت أختك أيضا، تكفيني مأساتي فيك)
ساد الصمت بينهما و قد نفذت الكلمات تماما و لم يعد هناك أي حديث قادر على رأب الصدع بينهما، فلعقت ياسمين شفتها و قالت بصوت لا يشبه صوتها.

(اطمئني يا أمي، أختي لن تتطلق، فهي أذكى مني، آسفة أنني تسببت لكم في كل هذا الإزعاج دون داع، أنا فقط، شعرت أنني في حاجة للإرتماء بين ذراعيك كما كنت أفعل منذ سنوات طويلة، قبل أن تفصلنا أمور دخيلة على حياتنا كهوس الزواج قبل فوات الآوان، و هوس الحصول على لقب مطلقة، و الهوس الأكبر، هو كيف ينظر إلى الناس الآن، أنا آسفة يا أمي، لقد ثرثرت كثيرا، أراك لاحقا و إن احتجت لأي شيء، فقط اتصلي بي).

سمعت صوت أمها يناديها بلهفة، الا أنها تظاهرت بأنها لم تسمع النداء، فأغلقت الخط و ألقت بالهاتف بكل قوتها على السرير قبل أن تضع ذراعها على الحائط و تدفن وجهها به لتبكي مختبئة كما كانت تفعل و هي طفلة، ليتها لم تكبر، ليتها فقط لم تكبر، ليتها ظلت حيث كانت كل فكرتها عن الزواج هي الفستان الأبيض و أذياله الطويلة و باقة الورد التي ستلقي بها الى صديقتها...

حتى تلك الصديقة كبرت و تزوجت و بدأت تتباعد عنها متعللة بالإنشغال الى أن منعها زوجها عنها تماما...

مستلقيا في فراشه و ذراعيه أسفل رأسه محدقا في سقف الغرفة بنفس كئيبة...
لم يشعر يوما بأنه قانط النفس الى هذه الدرجة، لطالما كان واثقا من تصرفاته، يفخر بأن له المقدرة على التفرقة بين الخطأ و الصواب...
وهو لا يزال غاضبا من اقحام اخته في تلك الجلسات، فهو لا يثق بأي مخلوق حين يتعلق الأمر بأخته الوحيدة...
لكن لماذا هذه الخيبة التي يشعر بها؟

حين رأى دموعها، شعر و كأنه شخص دنيء، لكن لماذا هذا الإحساس طالما هو على يقين بأنه محق...
زفر أمين بنفاذ صبر وهو يقول بصوت مكبوت
(تبا، لهذا لا أفضل التعامل مع النساء، هن يبعثن في النفس الشعور بالذنب مهما كن مخطئات)
صمت قليلا و هو يستشعر الطعم الصدىء في حلقه بشكل أقوى، ثم أضاف بغضب
(أنا أتجنبها و هي من تصر على اعتراض حياتي بطريقة او بأخرى، لذا عليها اذن أن تتحمل العواقب. ).

قطع أفكاره فجأة صوت طرق على الباب، فإستقام قليلا ليستند الى ظهر السرير وهو يقول
(تفضلي يا أمي)
دخلت أمه مبتسمة بطيبة و هي تقول
(كيف عرفت أنها أنا؟)
رد أمين مبتسما دون مرح
(بالتأكيد لن تكون نورا، فلقد أقسمت على أن تقاطعني أبد الدهر)
تنهدت أمه و هي تجلس بجواره مشبكة كفيها في حجرها مطرقة الرأس و قد بدا عليها الهم و الضغط، فسألها أمين بخشونة
(الا تزال رافضة للأكل؟)
رفعت أمه وجهها و نظرت اليه قائلة بنكد.

(وضعت في فمها لقمتين بالقوة، و هذا كل ما دخل معدتها منذ يومين)
قال أمين بجفاء و حدة
(فلتضرب رأسها بالحائط، إن كانت تظن بهذه الطريقة الطفولية أنها تستطيع أن تملي علينا إرادتها فهي مخطئة، لست أنا من يخدع بهذه السبل التافهة، حين يقرصها الجوع ستأكل)
عقدت أمه حاجبيها و قالت بدهشة
(لم تكن قاسيا بهذا الشكل من قبل يا ولدي، خاصة على أختك نورا!)
رد أمين بقوة وهو يستقيم جلسا دون تردد.

(لأنها تمادت، و عليها أن ترى وجها آخر منذ اليوم)
لم ترد أمه بل ظلت تنظر اليه بطرف عينيها و بعدم رضا، فعقد أمين حاجبيه و سألها بتحدي
(لماذا تنظرين إلى بهذا الشكل يا أم أمين؟، هل ترينني مخطئا فيما فعلت؟)
قالت أمه بدفعة من الشجاعة قبل أن تتردد أكثر.

(بصراحة يا ولدي لم يكن هناك داع لكل ما فعلت، لقد أعطيت الأمر أكبر من حجمه، حسنا، أختك أخطأت، لكن كان يكفي أن تأخذها معك و تنصرفا بهدوء، و عاقبها في البيت كما تشاء، الا أنك أحرجتها أمام صديقاتها، و الأفظع من هذا أنك فضحت المسكينة ياسمين أمامهن و هي التي فتحت بيتها لهن)
هتف أمين بحدة.

(هذا ما كنت أنتويه، أن آخذ نورا بيدي و نخرج، أقصى ما قررت فعله هو رمقها بنظرة تجعلها تمتنع عن أختي فيما بعد، لكن حين رأيت ابنتك و هي ترتدي فستانا قصيرا و تعقد وشاحا حول خصرها كالراقصات، ثارت الدماء في عروقي و لم أستطع السيطرة على أعصابي)
وضعت أمه كفها على معصمه المتحفز و قالت بحزم.

(أقريت بنفسي أنهن أخطئن، لكن خطأك كان أكبر، لماذا رفعت بصرك و نظرت الى داخل الشقة و أنت تعلم أن بها فتيات؟، كيف كان الحال إن رأيت فتاة أخرى غير أختك؟، حينها ستكون أنت المخطىء الوحيد)
بدا وجه أمين و كأنه قد ارتبك و تراجعت رأسه قليلا، بينما قال بصوت متوتر
(أنا لم)
الا أن أمه شددت من قبضتها على معصمه و هي تقول بحنان.

(أعرف، أعرفك أكثر من نفسك، أعرف كيف ربيت ولدي الوحيد، و أعرف أنك ورثت النخوة عن والدك رحمه الله، لكنك أخطأت بدون قصد، و لا يمكنك محاسبتهن بناء على خطأ أنت ارتكبته، لو لم تكن رفعت عينيك سهوا، لما كنت رأيت أختك، و لكانت قد خرجت اليك بحجابها و لم تحدث كل تلك الفضيحة)
هتف أمين بحدة على الرغم مما شعر به من إجفال و شيء آخر لم يعهده في نفسه، شيء بغيض، و كأنه كلام أمه قد نبهه الى خطأه بالفعل...

(لكن حدث ما حدث، و رأيتها، يا أمي أنا لا أثق فيمن لا أعرفه، ماذا لو قامت احدى الفتيات بتصويرها و نشر تلك الصور، كيف سيكون الحال حينها؟، هل هذه هي الأمانة التي أمنني عليها والدي؟)
ردت عليه أمه قائلة بهدوء
(و لقد استوصاك بها أيضا، و أمنك أن تحميها دون أن تقسو عليها)
تجهم وجه أمين أكثر و أطرق بوجهه، ثم قال بصوت خافت خشن.

(و أنا أحاول جاهدا تنفيذ الوصية، لكن هناك خطوط حمراء، سأقف لها بنفسي إن حاولت تجاوزها)
تنهدت أمه بضيق و وضعت كفا على آخر و هي تقول بحسرة
(على الأقل أنت و أختك ستتصافيان قريبا، لكن ما يوجعني أكثر هي المسكينة ياسمين، والله الفتاة طيبة و لم نرى منها سوء، أشعر بالحزن على ما أصابها من إحراج، كسر الخاطر ليس بالأمر الهين يا ولدي).

شعر أمين بالطعم الصدىء في فمه أكثر و أكثر، و كأن هذا هو ما كان ينقصه من كلام ليسمعه فيزيده هما و قنوطا...
أطرق بوجهه و قال بصوت باهت خافت
(ربما ستبتعد عن نورا أخيرا، الأمر استحق بعض القسوة)
لم تجبه أمه فرفع وجهه اليها مختلسا النظر، لكن نظرتها اليه جعلته يتهرب بعينيه منها، فزفر بغضب و قال بإنفعال مفاجىء.

(كل هذا بسبب ابنتك، لو كانت تسمع الكلام، لجنبتنا و جنبت غيرنا الإحراج، متى تتزوج؟، أشعر بأن شعر رأسي سيشيب قبل أن أطمئن عليها في حماية رجل أثق به و أجد من يشاركني حمل هذه المسؤولية)
تنهد مثقل الفكر، ثم قال محدثا نفسه
(فريد لم يفاتحني في الأمر حتى الآن، و أنا لن أستطيع أعادة الكلام من نفسي مجددا، فربما هو لا يشعر بالقبول تجاهها، لا يمكنني فرضها عليه)
رفع وجهه الى أمه و قال بحدة.

(بصراحة لو شعر بالقبول تجاه ابنتك ستكون معجزة، و أنا آسف لحاله من الآن في حال موافقته)
أمسكت أمه بكفه و قالت بلهجة جادة
(دعك من نورا و زواجها الآن، فنصيبها سيأتيها دون أن تسعى أنت اليه، هناك ما هو أهم)
عقد أمين حاجبيه و سألها بقلق
(ما هو الأهم؟)
بدت أمه أكثر ارتباكا، الا أنها قالت في النهاية بسرعة
(بصراحة، لقد لمحت أم زاهر لي برغبتها أن تخطب بدور)
ارتفع حاجبي أمين و هو يسألها بعدم فهم
(أخطبها لمن؟).

ردت عليه أمه بتردد
(لنفسك يا حبيبي)
تراجع رأس أمين للخلف وهو ينظر الى أمه مصدوما، ثم سألها
(بدور؟، بدورة الصغيرة؟، هل خطبتني لبدورة الصغيرة؟)
قالت أمه بقوة مستنكرة
(اسم الله عليك يا ولدي، أنت زين الرجال، تخطب بنفسك لنفسك من تشاء، لقد فاتحتني في الأمر من باب التمني، كي أنبهك الى بدور ابنة عمك)
ارتفع حاجبي أمين أكثر وهو يقول بعدم تصديق
(بدورة الصغيرة؟)
ردت عليه أمه بصراحة لكن مع بعض التردد...

(هي لم تعد صغيرة يا ولدي، لقد استوت شابة جميلة لكن، بصراحة و أرجو أن يسامحني الله، حين فاتحتني أم زاهر في الأمر، شعرت برفض مفاجىء بداخلي، فقد كنت أتمنى لك فتاة لم تخطب من قبل، بينما بدور كما تعرف، قد سبق و عقد راجح قرانه عليها، و كانا على وشك الزواج، قبل أن يحدث ما حدث، لكن بعد أن فكرت ووعدتها بالتلميح لك عن بدور، وجدت أن خطبة الفتاة السابقة لا تضيرها في شيء، ففي النهاية ابنة عمك مهذبة و تربيتها متحفظة و لا غبار عليها، كما أنها مطيعة و طيبة، و في نفس الوقت تتم تعليمها الجامعي، فوجدتها تناسبك كشخصية من كل الجوانب، أنا أعرف تماما طلبك في زوجة المستقبل، لذا، ما هو رأيك يا ابني؟).

بدا أمين معقود اللسان، غير مستوعبا لما سمعه للتو من والدته، فرفع حاجبيه وهو يحاول إيجاد الكلمات المناسبة، الا أن أمه تطوعت و سألته بخفوت
(الا تجدها جميلة؟، يمكنك أن تكلمني بصراحة، فأنا أمك و أتمنى لك أن تجد الزوجة التي تسعدك العمر كاملا)
هز أمين رأسه وهو يقول بجدية
(بالطبع بدور جميلة، لكنني لم أفكر بها يوما الا كأخت جميلة، لا شيء آخر)
أمسكت أمه بكفه و قالت بلطف.

(تعرف عادات بلدنا يا أمين، و جميعنا كنا نشعر بنفس الشيء، الى أن يخط النصيب كلمته، و الآن أصدقني القول، الا تشعر بالرفض لفكرة عقد قرانها السابق)
عقد أمين حاجبيه قليلا، ثم قال بعد بضعة لحظات من التفكير.

(أنا أرفض أن أرتبط بفتاة كانت لها علاقة بآخر، لأنني أريد زوجة أثق في أخلاقها، فمن سبق و خانت ثقة والدها من السهل أن تخون ثقة زوجها، لكن الخطبة السابقة لا تضر أخلاقها في شيء، ليس لها ذنب في فشلها، و أنا أعرف تربية عمي زاهر جيدا على الرغم من رفضي لقسوته أحيانا)
اتسعت عينا والدته و سألته بدهشة
(هل يعني هذا أنك موافق يا ولدي؟، هل أخبر أم زاهر برغبتك في خطبة بدور؟)
نظر أمين اليها مصدوما و قال.

(ماذا؟، أنا كنت أتكلم فقط يا أمي و أوضح لك وجهة نظري، لم أقل أنني وافقت على زواجي من بدور)
بدت أمه محتارة و هي تنظر اليه، ثم قالت
(أنا لا أفهمك يا ولدي، كلمني بصراحة يا أمين، فهذه الأمور لا يجوز فيها الشك مطلقا، عليك أن ترد على ردا قاطعا)
ضاقت عينا أمين و بدا أكثر ترددا من أمه وهو يقول بخفوت
(الأمر، صعب يا أم أمين)
عقدت حاجبيها و سألته بخفوت
(أتعني أنك غير موافق؟، لكن لماذا يا ابني؟).

بدا أمين أكثر شرودا و عدم مفهما لما يدور بداخله، الى أن قال في النهاية بصوت باهت
(بدور أختي، لم أنظر اليها يوما بشكل مخالف).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة