قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس

يوم آخر طويل عليها أن تخوضه بكل مضايقاته و روتينه الممل الثقيل...
لم تضع أيا من زينتها و هي ترتدي ملابسها استعدادا للخروج للعمل القاتل و المحاربة بين جموع المواطنين ذوي الشكاوى، بل أنها لم تهتم حتى بتمشيط شعرها كما يجب، فتركته فوضويا مجموعا في برطة غير منسقة واقعة على جانب عنقها...

كتفاها هابطتان و تجر حقيبتها التي تكاد أن تلامس الأرض، بينما رفعت خصلات شعرها المتقصفة بنظارة النظر فوق رأسها بعدم اهتمام...
ضغطت على زر المصعد ووقفت في إنتظاره بلا حياة، الى أن فتح أبوابه أخيرا، و أوشكت على الدخول، الا أنها لاحظت وجود أحدهم بداخل المصعد، فرفعت عينيها اليه تلقائيا لتتسمر وهما تلتقيان بعيني أمين المحدقتين بها...

وقفت ياسمين مكانها تنظر اليه دون تعبير، بينما هو يبادلها النظر بتعبير غريب على العكس منها...
عيناه تحدقان مصدومتين في عينيها الغائرتين المتورمتين بشدة، كان منظرها يثير الهلع لمن يعرفها عن قرب...
بدت و كأنها قد تحولت الى تمثال و هي تنظر اليه فأوشك المصعد على أن يغلق أبوابه، الا أنه مد كفه في اللحظة الأخيرة و منع انغلاقه ليقول بصوت قاتم، خافت...
(هل ستدخلين؟).

حثتها قدماها على الهرب الى باب شقتها من خلفها و أوشكت على فعل هذا، الا أن البقية الباقية من كرامتها و قوتها رفضتا السماح لها بالهرب بتلك الطريقة المخزية...
فظلت واقفة تنظر اليه بصمت، فعقد حاجبيه و كرر بنبرة أكثر خشونة
(سألتك، هل ستدخلين؟)
فتحت ياسمين فمها و قالت أخيرا بصوت خافت ميت دون أن تحيد بعينيها عن عينيه
(من تظن نفسك؟)
ارتفع حاجبي أمين و أجفل قليلا قبل أن يقول بجفاء و دهشة
(ماذا؟).

ردت ياسمين دون تراجع و هي تنظر اليه بنفس النظرة الخالية من الحياة...
(سألتك، من تظن نفسك؟، من تظن نفسك كي تأتي حتى شقتي و تهينني علنا و كأنك ضبطت أختك في مكان مشبوه؟، من تظن نفسك كي تصرخ في وجههي؟، من أنت أساسا كي توجهني و تنتقدني و تحاسبني على صداقة أختك بي؟، لماذا لم تمنعها هي بالقوة طالما أنك تمتلكها؟، لكن ان تحاسبني أنا و تهينني علنا؟، فمن تظن نفسك؟).

كان أمين يستمع اليها و هي تلقي اليه بأسئلتها الخافتة الباترة و التي ظهرت من العدم، و لم يرد بكلمة واحدة...
و هي لم تنتظر منه ردا، بل تابعت بصوت اكثر حدة
(من أنت كي تحاكمني و تحكم علي؟، ما أدراك بحياتي لتفعل؟)
ساد الصمت بعدها للحظتين فقط قبل أن يرد أمين بصوت هادىء وهو ينظر اليها متجهما و دون انفعال
(أنا لم أحاكمك، و لم أحكم عليك بشيء)
صرخت ياسمين فجأة.

(بلى فعلت، بينما أنت لا تمت لي بأدنى صلة، تمنحك الحق لتفعل)
قاطعها أمين قائلا بصوت متوتر
(أخفضي صوتك، نحن في ساعة مبكرة و البناية هادئة و قد يسمعك أحد)
الا ان ياسمين صرخت به دون إهتمام...
(لا أكترث ولو للحظة بمن قد يسمعني، أتعلم لماذا؟ لانني انسانة حرة، ولدت حرة و ليس لك أو لأي مخلوق أن يوجه تصرفاتي، أنا أكثر إحتراما من أغلبكم، مدعين المثالية و المتباهين بالأدب و كأنه حكر عليكم فقط).

توقفت قليلا و هي ترتعد من فرط الإنفعال الذي تمكن منها بعد كبت اليومين السابقين، فقال أمين بصوت قلق
(أنت لست بخير)
ارتفع حاجبيها و هي تضحك فجأة عاليا ساخرة، ثم نظرت اليه بعينيها الغائرتين بإرهاق مخيف و هتفت بقسوة
(لست بخير! يالك من مراع لمشاعر البشر، أنت أكثر شخص منافق قابلته في حياتي)
قاطعها أمين بنبرة هادئة الا أنها متسلطة غاضبة
(توقفي عندك، أنت تتمادين).

ضحكت مجددا، ثم هتفت به بنبرة عنيفة أكثر و قد بدأت سيطرتها تنهار تماما...
(و إن فعلت، فماذا سيكون عقابك لي؟، لما لا تصفعني كما تصفع أختك؟)
رد أمين بنبرة هجومية عنيفة
(لم أضرب أختي يوما)
صرخت به ياسمين دون تردد
(أنت لا تحتاج الى ضرب كي تقهرها، أنت تبلي حسنا دون الحاجة لرفع يدك حتى)
كان هذا دور أمين ليصرخ بها و قد فقد صبره
(هذا يكفي و انتبهي الى ما تقولين).

الا أن ياسمين كانت قد وصلت للمراحل الأخيرة من الإنفعال المتهور و هتفت به بطفولية حادة و مجنونة
(شيء واحد قبل أن أكتفي، أنت وغد رجعي و متأخر الفكر و، و، و أنا أكرهك من كل قلبي)
اشتعلت عينا أمين بالغضب، و دون أن يدري خرج من المصعد اليها منفعلا لا يدرك ما يريده، أو ما سيفعله، فأغلق المصعد أبوابه و ابتعد هابطا، بينما تابع هو خطواته اليها...

لكنه توقف حين وجدها ترفع يدها الى وجهها و دون سابق انذار انفجرت في بكاء حاد مرير...
تسمر أمين مكانه تماما وهو يرى تلك الصدمة الكارثية أمامه...
كانت ياسمين تغطي وجهها بأصابع ترتعش بشدة بينما تبكي بشدة و تشهق دون أن تجد القدرة على إيقاف نفسها...
بهت وجه أمين تماما و هو يدرك أنها المرة الأولى التي يتسبب فيها في انهيار امرأة بتلك الصورة المؤلمة...
و هذا بالتأكيد ما لم يتخيله أو يتمنى حدوثه...

اقتربت منها ببطىء، بل أجبر نفسه على الإقتراب، ثم توقف على بعد خطوتين منها و قال بصوت متوتر أجش، و خافت
(ياسمين، لا تفعلي هذا، لم أقصد أن أهينك الى هذه الدرجة، بل لم أقصد أن أهينك أصلا، لقد ثار غضبي في لحظة و لم أستطع تمالك نفسي، بل لم أفكر قبلها)
لم يبدو عليها أنها قد سمعته، لأنها ظلت تبكي بشدة، فزادته ارتباكا و صدمة من نفسه، فاقترب منها خطوة أخرى، و قال بخفوت أكبر.

(ياسمين، توقفي عن البكاء رجاءا، الأمر لا يستحق كل هذا الإنهيار).

لكنها أبعدت يدها و استدارت عنه دون أن تتكلم كلمة اضافية، عائدة الى باب شقتها و هي تفتح حقيبتها بحثا عن مفتاحها الذي سبق و ألقته بداخلها بإهمال، و ما أن أمسكت به حتى أخرجته و فتحت باب شقتها بأصابع مرتجفة، بينما هو يقف خلفها ناظرا اليها بيأس، غير مصدق أنه السبب في كل شهقات البكاء تلك و التي لم تتوقف، بينما بدا وجهها مريعا في تورمه و احتقانه...

و ما أن دخلت و استدارت تنظر اليه بتلك الطريقة المؤثرة في القلب، حتى همس لها بصوت أجش
(ياسمين، أنا آسف، لم أجرح امرأة من قبل كما فعلت معك)
بدت صدمته من اعتذاره لها أكبر من صدمته ببكائها، و صدمتها هي بإعتذاره كانت أكبر من الصدمتين معا...
يبدو أنه يوم الصدمات...

وقفا كلا منهما ينظر الى الآخر، لكن صوت خطوات قريبة تنزل على السلم بإتجاههما جعلته يتسمر مكانه و يرفع رأسه ليرى أحد جيرانه يستخدم السلم وهو على بعد بضعة درجات منهما...
وهما واقفين على هذا الوضع المريب...
و دون لحظة تفكير، التفت اليها و اشار اليها بإصبعه على فمه، ثم تحرك تجاهها مسرعا، بينما تراجعت هي تلقائيا غير مستوعبة ما يحدث الى أن دخلت لشقتها وهو معها ليغلق الباب خلفهما...

استندت ياسمين الى الجدار المجاور لباب شقتها بينما حجزها أمين، دون أن يلامسها...
احدى كفيه على باب الشقة المغلق عليهما، و الأخرى على الجدار بجانب وجهها، و هي تنظر اليه بعينين واسعتين ذاهلتين و شفتين مفتوحتين...
مرت بضع لحظات وهما يستمعان الى صوت ابتعاد الخطوات عنهما الى أن اختفت تماما و ابتعد صاحبها...
بضعة لحظات، فقط بضعة لحظات من التهور، كانت زلة وقع بها ووقعت هي بها معه...

كان كلا منهما ينظر للآخر بذهول...
و كلاهما يسأل نفسه عما فعله!
بضعة لحظات مرت عيناه خلالهما على وجهها المتورم و عينيها الحمراوين و شفتيها المرتعشتين و عنقها الطويل، فاشتعلت بداخله مشاعر محمومة متهورة و غريبة...
مما جعله ينتفض مبتعدا عنها وهو يبعد خصلات شعره بأصابعه، هامسا لنفسه بارتياع
(ياللهي! ما هذا الذي فعلته؟)
أما هي فقد كانت عاجزة عن النطق تماما، و نفس السؤال يدور في كيانها المذعور...

ما هذا الذي فعلته؟، و كيف سمحت له بالدخول؟،
كان أمين يلهث بسرعة و ذهول وهو ينظر اليها، و في لمح البصر، اندفع ليفتح باب الشقة ثم خرج و أغلقه خلفه دون صوت...
بينما بقيت هي مستندة الى الجدار شاحبة الوجه حد الموت...
أما هو فقد نزل السلالم جريا، و ما أن وجد المصعد مفتوحا في أحد الطوابق حتى دخله هربا و اغلق أبوابه على نفسه، لكنه ما أن استدار حتى واجه صورته في المرآة...

و هاله ما رأى، رأى رجلا خائفا، رأى نفسه يقع تحت فخ الخطأ للمرة الأولى...
فهو لم يكن خائفا من جارهم بالفعل، بل انتابته لحظة ضعف و هوى اليها دون تفكير...
مجرد لحظات، لكنها كانت كفيلة بأن تشعره كم كان قريبا من الخطأ، من النزوة، من فعل شيء قد يندم عليه العمر بأكمله...
رفع أمين وجهه الشاحب لينظر الى نفسه في المرآة مجددا، ثم همس بصوت ذاهل
(أولست نادما بالفعل؟، ماذا دهاك؟، ماذا دهاك لتفعل ما فعلت؟).

حين عاد من عمله هذا اليوم، دخل الى البيت بنفس لا تزال مرتبكة مما حدث صباحا، الا أنه حاول ارتداء قناع الهدوء كي لا تشعر أمه أو أخته بما يجول بداخله...
و كم تمنى الا يرى إحداهما حاليا، فالنظر اليهما يعد جريمة، لكن للأسف لم تتحقق أمنيته، فقد خرجت امه من غرفتها مبتسمة تحييه
(مساء الخير يا حبيبي، عدت باكرا اليوم)
رد أمين بصوت أجش، خافت.

(مساء الخير أمي، لقد، لم يكن لدي الكثير من العمل اليوم لذا قررت العودة باكرا كي أرتاح قليلا)
بدا القلق على وجه أمه و هي تسأله
(هل أنت متعب حبيبي؟، وجهك شاحب جدا)
أجبر أمين نفسه على الإبتسام و قال بصوت لم يخلو من الإرتباك
(كلا حبيبتي، مجرد اجهاد، سأرتاح قليلا)
ثم أسرع الى غرفته متمنيا الهرب من عينيها المتفحصتين، الا أنها نادته تقول بحسرة
(ألم تعلم ما حدث اليوم يا أمين؟).

توقف أمين وهو يغمض عينيه، ثم أخذ نفسا عميقا قبل أن يستدير اليها، سائلا بهدوء،
(ما الذي حدث يا أم أمين؟)
ردت والدته بنفس النبرة و هي تهز رأسها بأسف...
(أخبرني البواب اليوم أن ياسمين قد تركت شقتها خلال الظهيرة و عادت الى بيت أمها).

شعر أمين في تلك اللحظة بأن العالم قد توقف من حوله وهو يسمع تلك المعلومة البسيطة تماما و التي كان من الممكن أن تكون خبرا سعيدا له لو حدثت منذ أسابيع قليلة، و إذا بروحه تهبط بين جنبات أضلعه...
الا أنه سأل والدته بصوت لم يستطع تفسيره، أجش و متباعد، و قاتم جدا
(ألم يخبرك عن السبب؟)
ردت أمه و قد زاد الأسف نبرتها عتابا و هي تضع كفها فوق الأخرى.

(لست في حاجة لأن يخبرني، من المؤكد أنها قد رحلت بسبب ما فعلته معها)
لم يرد عليها أمين على الفور، بل شردت عيناه بعيدا، و شحبت ملامحه أكثر، ثم همس لنفسه
(نعم، لقد رحلت بسبب ما فعلته، للأسف).

دخلت أم بدور الى غرفة ابنتها حاملة معها طعام العشاء، فرفعت بدور وجهها عن الكتاب لتنظر الى أمها ثم ابتسمت بضعف و قالت بصوتها الخافت الذي بات لا يعلو أبدا و كأنه لا يعرف سوى الإنكسار حاليا
(شكرا لك يا أمي، لم يكن عليك أن تتعبي نفسك، كنت سأنهض بنفسي و أعد العشاء لكلينا)
الا أن أمها قالت بلهفة و حنان
(إن لم أعد العشاء لطفلتي الصغيرة، فلمن أعده اذن).

ابتسمت لها بدور ابتسامة واهية رغم التأثر الذي ظهر في عينيها السمراوين، الكحيلتين بالفطرة...
ثم قالت بصوتها المتردد
(تعديه لوالدي، عليك العودة الى البلد يا أمي، فوالدي لن يصبر على ابتعادك أكثر و قد يبدأ في الغضب على كلينا)
سحبت أمها كرسيا لتجلس في مواجهتها عند مكتب الدراسة، ثم قالت بجدية
(لقد أخذت الإذن من والدك كي أبقى معك هنا الى أن يحين أوان عودتي للبلد)
قالت بدور و هي تنظر الى أمها بعدم راحة.

(و متى يحين موعد عودتك يا أمي؟)
نظرت اليها أمها بدهشة و قالت
(من يسمعك يظن أنك قد مللت من بقائي معك يا بدور)
مدت بدور يدها و تركت الشطيرة من يدها لتمسك بيد أمها و هي تقول بحرارة
(لا تقولي هذا يا أمي، أنا لم أعرف معنى الراحة و القدرة على المذاكرة الا بعد أن بقيت معي، أنا فقط خائفة من غضب والدي، تعرفينه أكثر مني و من المؤكد أنه لن يتحمل هذا الوضع طويلا)
ربتت والدتها على كفها قائلة بابتسامة حلوة.

(سيتحمل من أجل ابنته الصغيرة المدللة، فمن لديه سواها)
ابتسمت بدور بحزن دون أن ترد، فهي تعلم جيدا بأنها لم تكن مدللة والدها أبدا...
و أن والدها ينتظر الفرصة فقط كي ينفجر بها على أي شيء و كل شيء، ووجود أمها معه لخدمته أكثر أهمية بالتأكيد من بقائها مع ابنتها خلال دراستها في المدينة...
و هي متأكدة من أن طول اقامة والدتها معها لن يمر على خير أبدا...

لكنها تكفلت بإبتسامة رقيقة و تشبثت بكف والدتها و هي تسألها بمداعبة
(و ماذا عنك يا أمي؟، ألم تشتاقي لأبا زاهر؟)
احمرت وجنتا أمها أمام عيني بدور المندهشتين، بينما ضحكت بخجل لا يتناسب مع عمرها أو الحزن الذي حفر في ملامحها خطوطا عميقة، و قالت بنبرة طفولية طريفة
(تأدبي يا بدور، لقد كبرنا على هذا الكلام)
لم ترد بدور، بل ظلت تنظر الى أمها بشفقة...

مسكينة يا أمي، لم تعرفي للحب معنى أبدا، لم تتذوقي الدلال مطلقا و كأنه عملة نادرة، لست أهلا لها،
نظرت اليها أمها أخيرا مبتسمة، ثم تابعت قائلة بسعادة
(عامة، والدك لديه مبرر قوي يجعله يسامحني في بقائي معك)
عقدت بدور حاجبيها قليلا، ثم سألتها بقلق و خفوت متوتر
(ما هو هذا المبرر؟)
رفعت والدتها كفها و ربتت بها على وجنة بدور قائلة
(هناك احتمال كبير، على قدوم فرحة كبيرة لنا جميعا).

علي الفور انسحبت الدماء من وجه بدور تماما، فهي تعرف جيدا الفرحة التي تقصدها والدتها، و ماذا تكون سوى خاطب جديد؟، من المؤكد الفرحة لا تخص زاهر فقد تزوج و زوجته حامل ايضا...
أفلت نفس بارد مرتجف من بين شفتي بدور و هي تنتظر الخبر السيء...
لكن في كل الأحوال ستتعمد السقوط أمامه و أمام أسرته و لن يقبل بها، الا أن كلام والدتها جاء على رأسها كالصاعقة، و هي تقول بسعادة.

(لقد فهمت من أم أمين، أنها ترحب بزواجه منك)
اتسعت عينا بدور بذعر و ذهول، قبل أن تقفز صرخة برعب
(من؟)
انتفضت والدتها من ردة فعل ابنتها المخيفة، و قالت بحيرة
(أمين يا ابنتي، و من غيره؟، أكثر أبناء عمك طيبة و شهامة، وهو الوحيد الذي لن يشعرك بالخجل من سقوطك أمامه ان حدث هذا، لقد حملك على ذراعه و أنت صغيرة و كبرت أمامه، وهو أكثر من يليق بك، ليته تقدم لخطبتك قبل التعيس راجح، حاسبه الله)
صرخت بدور بهلع.

(كفى يا أمي كفى أرجوك)
ابتلعت أمها باقي كلماتها، و قالت بندم
(آسفة، آسفة حبيبتي، لن أذكر اسمه مجددا، منه لربه، حسبي الله و نعم الوكيل)
لكن بدور لم تسمعها، بل كانت ترى أمامها صورا مرعبة
أمين؟، أمين؟، هل ستفضح أمامه؟، الشخص الوحيد الذي كان يحسن معاملتها؟
أمين الأكثر شهامة من بين أبناء أعمامها، ماذا سيكون رد فعله إن تزوجا بالفعل؟

شعرت بدور بالدماء تسحب من جسدها بالكامل، فسقطت جالسة على كرسيها مجددا، بينما عينيها عمياوين، لا تبصر بهما الا الكارثة المقبلة...
لا، لن يحدث هذا مطلقا، ولو على جثتها...

نظرت الى المائدة التي اعدتها بنفسها مبتسمة ابتسامة باردة، ابتسامة غير مقتنعة...
ثم رفعت وجهها تنظر الى نفسها في المرآة الضخمة المقابلة و المرفقة بمائدة الطعام الأنيقة...
و احتل السكون المحيط كيانها و هي تتسائل بصمت عن طبيعة ما تقوم به؟
ما تلك المائدة التافهة؟، و ما هذا الذي ترتديه؟، بل ما تلك الزينة التي تغطي وجهها بكثافة؟

توقفت أسئلتها فجأة و هي تسمع صوت مفتاحه في باب الشقة. فنظرت تلقائيا الى ساعة الحائط...
متأخرا كعادته كل ليلة، حتى باتت الساعة المتأخرة هي موعده الثابت، و هي من منحته الإذن بنفسها...
فلماذا تحتلها تلك البوادر من الغضب كل ليلة...
وضعت مسك أجمل ابتساماتها على شفتيها و هي تحاول اخفاء ما تشعر به، بينما وقفت ممسكة بظهر أحد كراسي المائدة، تراقبه في دخوله...

و بالفعل دخل أمجد الى الشقة، ثم توقف لينظر الى تلك اللوحة المرسومة أمامه...
حيث كانت مسك تقف عن المائدة بطلة خلابة، و هي تبتسم له بأناقة، تلك الإبتسامة المدروسة...
و على ما يبدو أنها قد أعدت له العديد من الأطباق الخاصة و قد زينت المائدة بشمعتين طويلتين، لهما وهج ذهبي، بينما أغلقت باقي الأنوار...

و على ضوئهما الشاحب، بدت أكثر جمالا في قميصها الطويل الحريري المنسدل حتى الأرض بألوان تتغير مع تحركها و كأن خيوط نسيجه الشفاف مزيج من الذهبي و الأرجواني الداكن...
أما عيناها المعبرتان، فقد اختفى تعبيرهما خلف ظلال سوداء كثيفة، الا أنها جميلة، تماثل اللون القاني على شفتيها جمالا...

و شعرها، آه من شعرها و قد استطال عن كتفيها و انسدل على كتفيها مصففا بعناية، و هو يعلم أنها لا تصففه حراريا الا احتفالا بمناسبة معينة...
في لحظة تشاؤم عنيفة تخيل أمجد أن يسقط هذا الشعر مجددا، حينها فقط شعر بقلبه يسقط من مكانه و الرعب يجتاحه من أن يفقد تلك المخلوقة الماسية الباردة دون أن يدري...
كيف له أن يفقدها؟، لكن من يكون هو ليعترض على القدر...
أغمض أمجد عينيه للحظات، بينما قالت مسك بخفوت.

(الن تلقي التحية حتى؟)
فتح أمجد عينيه و نظر اليها و الى المائدة، ثم ابتسم دون مرح أو سعادة حقيقية قائلا بهدوء
(بل أجمل تحية، هل لدينا مناسبة خاصة اليوم؟)
تألقت عيناها و هي تقول بسعادة
(يمكنك قول هذا)
اقترب منها أمجد و قال بجدية و فضول وهو يضع يديه على خصرها
(ما هي المناسبة؟)
ارتفع حاجبها بفخر و هي تتمايل بين يديه الدافئتين على خصرها قائلة
(لقد نلت الوظيفة).

اتسعت عينا أمج ببريق خاطف قبل أن يهمس لها بحرارة وهو يجذبها اليه دافنا أصابعه في نعومة شعرها
(مبارك لك حبيبتي، مبارك لك يا ألماس، كنت واثق أنك ستنالينها)
شعرت مسك بشعور يدغدغ معدتها و هي تتقبل قبلته التي أسكتت الخطبة التي أعدتها...
كان يقبلها بشغف الا أنه شغف من نوع آخر، زهو و سعادة حقيقية جعلتها تبتسم تحت قبلته القوية...
و حين ابتعد عنها قليلا أسند جبهته الى جبهتها وهو يبتسم لها قائلا بصوت أجش.

(دون حاجة لتوصية من أحد)
ابتسمت مسك بجذل و تلاعبت بصدره قائلة بثقة و تحدي
(و هل أحتاجها؟)
رفع أصابعه يداعب بها عنقها الطويل، ثم قال بصوت خشن قوي
(مسك الرافعي هي من قد تمنح توصية، بينما هي لا تحتاج لواحدة)
تعمق خطي ابتسامتها القانية و هي تشعر بنفسها أخيرا و قد عادت الى مكانتها أمامه، فقالت بمزاح ثقيل
(موعد عودتي سيكون متأخرا كل يوم، لذا لن أبقى في إنتظارك لساعات طويلة)
ابتعد عنها أمجد قليلا و سألها بجدية.

(بمناسبة انتظارك لي، لقد اتصلت بك اليوم و لم تجيبي، فأثرت قلقلي، لولا وجودك على موقع الرسائل، تجاهلك لرد اتصالي كالعادة، لكررت اتصالي لك حتى تجيبي)
ضحكت مسك بعفوية و هي تجيب
(توقف عن سوء الظن، أنا لم أجيب إتصالك لأنني ذهبت لركوب الخيل اليوم بعد أن سمعت الخبر، و بعدها لم أتصل بك كي لا تستدرجني في الكلام فأفسد لك المفاجأة).

و كأن شيئا ما قد لسعه، فانتفض مبتعدا عنها بملامح غريبة متجهمة وهو يقول بصوت مصدوم
(ذهبت للنادي اليوم؟، لكن هذا ليس موعد تدريبك)
تعجبت مسك من تغيره المفاجىء، الا أنها قالت ببساطة
(شعرت بطاقة متفجرة بداخلي فور سماع الخبر، فوجدت نفسي تهفو الى امتطاء فرسي و الطيران به)
ابتعد عنها أمجد دون أن يجيب، يوليها ظهره، يخفي عنها عينيه الغاضبتين بمشاعر سوداء حارقة...
هل ذهبت خصيصا كي تخبره بحصولها على وظيفة مرموقة؟

هل عرف أشرف بخبر الوظيفة قبله...
النار هاجت في أعماقه مندلعة بشكل لم يعرفه قبلا...
نار أوشكت على حرق آخر خيط بينهما، بل حرقهما معا...
عضلات جسده جميعها توترت و تشنجت و كفه انقبضت بشكل خطير، و ساد صمت ثقيل مخيف الى أن نادته بهدوء
(أمجد، ماذا بك؟)
مجرد صوتها الهادىء استفزه أكثر، تلك النبرة المترفعة المغرورة اللامبالية بمشاعر البشر...
تلك البرودة القذرة...

ظل أمجد على حاله يوليها ظهره دون أن يرد للحظات، يحاول عبثا التحكم بأعصابه و ملامحه، الى أن قال أخيرا بصوت جامد
(لا شيء، أسمعك فقط)
عقدت مسك حاجبيها قليلا، الا أنها ابتسمت في النهاية قائلة ببساطة
(اذن، ألن نبدأ احتفالنا؟)
صمت أمجد للحظة، قبل أن يستدير اليها ببطىء و قد برع في رسم قناع هادىء على وجهه لا ينم عن أي مشاعر أو تعبير، ثم قال معتذرا.

(آسف يا مسك، ليتك أخبرتيني قبلا، فلقد اتفقت مع مجموعة من رفاقي على السهر معهم الليلة، لقد عدت لتبديل ملابسي)
فغرت مسك شفتيها القانيتين بشكل غير ملحوظ، الا أنها أجفلت بما لا يقبل الشك...
و بعد فترة قالت ببساطة، لا تخلو من لمحة تكبر ظهرت على صوتها
(اتصل بهم و الغ الموعد)
كان هذا دوره ليرفع حاجبيه وهو يبتسم ساخرا وهو يسألها مندهشا
(بهذه البساطة؟)
رفعت كتفها و ابتسمت ابتسامة أكثر غرورا و هي تقول مؤكدة.

(و ما الصعب في الأمر؟، سهرة لا تستحق أن تتركني لأجلها)
دس أمجد كفيه جيبي بنطاله وهو يتراجع برأسه يتألها مليا بنظرة باردة، جعلتها تعقد حاجبيها مجددا، ثم قال بهدوء
(سهرة لا تستحق أن أن أتركك لأجلها؟، هل تعرفين من هم أصدقائي مثلا و درجة قربهم مني كي تحكمي بهذا الغرور المقيت؟)
ارتفع حاجباها الآن، الا أنها لم ترد، بينما تابع أمجد قائلا يسألها بنفس النبرة.

(أجبيني على سؤالي، هل تعرفين أصدقائي أو اهتممت بسؤالي عن اقرب الناس الي؟، فربما كانت سهرة كتلك هي كل ما أحتاج اليه الآن؟)
بدت ملامحا أكثر تكبرا و كأنها تستدعي قناعا من الغرور وقت الحاجة، فقالت بهدوء
(لا أسأل عادة عن شيء لا يثير اهتمامي، و أنا لست من النوع الذي يدعي الإهتمام كذبا)
ضحك أمجد دون أدنى ذرة مرح وهو يخفض رأسه، و ساد الصمت قليلا، ثم رفع وجهه اليها و نزع كفيه من جيبي بنطاله ليقول بجفاء.

(مغرورة، مغرورة لحد مزعج و مؤسف في آن واحد)
صمت للحظة وهو يبتسم ساخرا، ثم أعاد تقليد لهجتها مستاءا بنبرة مستهزئة مؤلمة
(الغ الموعد، سهرة لا تستحق، و كأنك محور الكون و العالم يدور من حولك، دون حتى أن تتحلي ببعض الذوق في سؤالي إن كنت أريد هذا).

لم تهتز عضلة في ملامح وجه مسك، بل أنها حتى لم تفقد ابتسامتها الأنيقة، بل كانت تستمع اليه بكل اهتمام، و ما أن انتهى، حتى رفعت ذقنها و قالت بهدوء أنيق بارد، و بابتسامة لا تنساها مطلقا
(ما الداعي لكل تلك السخرية؟، كلمة رفض وحيدة تكفي يا أمجد)
ساد الصمت القاتم بينهما بينما شعر هو بأنها قد ضربته بمهارة، بينما ابتعدت عنه و هي تنفض شعرها ببساطة، و تحركت الى الشمعتين لتنفخ بهما و تطفئهما، مبتسمة!

بينما كان أمجد يتنفس بغضب منها و من نفسه وهو يراقبها مذهولا، و دون كلمة ابتعد عنها ليدخل الى الحمام...
أسند كفيه الى الجدار البارد وهو يحاول ترك مهمة تهدئته الى الماء البارد الجليدي...
لم يدرك أن الغضب بداخله قد يتمكن منه الى تلك الدرجة التي قد تحوله الى كائن سام الى هذه الدرجة...
لقد أراد ايلامها بكل ما يملك من قدرة على ذلك، و هذا جعله مذهولا من نفسه أولا و قبل أي شخص آخر...

ما بداخله شيء لا يشبه الغيرة...
يعلم مسك الرافعي جيدا، و يعلم أنها ألقت أشرف الرافعي من حياتها كما يلقى المنديل القذر...
لكن ما تفعله أسوأ من الحب، بداخلها جرح و به صديد ملوث، يجعلها تتصرف ب، بحقارة...
متجاهلة كيف لرجل مكانه أن يشعر وهو يرى زوجته في هذا الوضع...
بل و تتصرف معه هو كزوج بنتهى الصلف و الغرور...
مما جعله يرغب في ايلامها بكل قوة، و قد نجح في هذا ببراعة...

القناع الذي ارتدته و يعرفه تماما، اخبره بأنه نجح في ايلامها بقسوة...
ضرب أمجد الجدار بغضب وهو يهتف بصوت اختلط بصوت الماء المندفع...
(غبية، غبية، ميتة الروح)
حين خرج أخيرا و قد بدل ملابسه و بدا مستعدا للخروج من جديد، توقف وهو ينظر اليها و قد أشعلت الانوار...
واقفة بكل بساطة تضع الأطباق الفارغة فوق بعضها استعدادا لإعادتها لمكانها دون أن تنظر اليه...

فمسك الرافعي ليست هي من تجري الى سريرها باكية، بل تعيد كل شيء الى مكانه و كأن شيئا لم يكن...
راقبها طويلا بملامح باردة، و عينين سوداوين، ثم قال أخيرا بصوت باهت
(أنا خارج)
أدارت وجهها اليه و نظرت اليه للحظة، ثم ابتسمت ببرود و قالت
(مع السلامة).

ضاقت عينا أمجد و كأنه ينتظر منها ظان تقول شيئا، الا أنها تجاهلته تماما و أعادت اهتمامها الى الأطباق التي جمعتها، فحملتها و دخلت للمطبخ على مهل، تتحرك بقوامها الخلاب في هذا القميص الشفاف اللعين...
من المفترض به أن يخرج الآن، الا أنه وقف مثبتا في الأرض و كأن هناك أثقالا حديدية تربطه فيها، و تجعله غير قادرا على المغادرة...

بينما عادت مسك من المطبخ تمشي بخيلاء و شعرها المصفف يتطاير حول وجهها و هي تتعمد تجاهله...
ثم انحنت لتحمل طبقين شههين أعدتهما بنفسها، و استدارت لتغادر مجددا...
كيف له أن يتركها و يغادر؟، كيف له أن يكسر قلبها بهذه الصورة البشعة؟
توقف عن التفكير عند هذه النقطة، ثم ضحك بسخرية مريرة وهو يعيد لنفسه
أكسر قلبها؟، و هل لمثلها قلبا ليكسر؟، لقد مات قلبها منذ سنوات،.

رفع وجهه فجأة ففوجىء بها و قد عادت من المطبخ ووقفت مكانها مسمرة و هي تراه واقفا مكانه يبتسم بسخرية!
ارتفع حاجبي مسك بجمود قاس و هي تراه بهذه القسوة، الا أنها لم تتكلم، بل عادت لتثبت اهتمامها على المائدة...
هذه المرة آثر الخروج قبل أن يتهور و يؤلمها من جديد، فاستدار و خرج دون أن يرد سلامها حتى...
و ما أن خرج، حتى أمسكت مسك بكرسي المائدة، و أطرقت بوجهها الذي غطاه شعرها المصفف هباءا.

و بقت على وضعها بضعة لحظات الى أن رفعت عينيها أخيرا، لتمسح بظاهر يدها دمعة ماسية، ثقلت على زاوية عينها، فقتلتها قبل أن تخرج للنور...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة