قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والستون

ربما كانت تتخيل! وقفت بدور في منتص غرفتها بعد ساعتين من المشي بداخلها و حول نفسها تبكي و ترتجف، لا تشعر بوجع ظهرها او عرج ساقها...
تنتفض و الأنفاس تخنق صدرها و تطبق على رئتيها، نعم كانت تتخيل، تتوهم، لأنه ليس من المنطقي أن ترى رضوى تدخل سيارة يقودها راجح...
نظرت الى نفسها في المرآة عن بعد، بشعرها الأشعث الأقرب للجنون و عينيها المتورمتين المنتفختين و همست و كأنها تحادثها.

(نعم، نعم كنت أتوهم، طبيعي أن يكون هو أكثر كوابيسي، لذا ممكن أكون قد تخيلت واحدا يشبهه)
أومأت براسها و هي تلوح بيدها مفكرة برعب ثم تابعت بحماس مرتجف
(نعم، نعم، لأن أمين أخبرني أن زاهر أطلق الرصاص عليه، فكيف أراه يقود سيارة تدخلها رضوى؟)
نظرت الى المرآة و سألتها بعصبية و جنون.

(متى كان هذا؟، من شهر؟، بل من شهرين، لا بل أكثر من ثلاثة شهور، أربعة ربما! لا أتذكر، لكن كم يحتاج من الوقت كي يتعافى و يقود سيارة؟، بالتأكيد مجرد رجل يشبهه، نعم، نعم)
رفعت كفيها الى جبهتها و هي تشعر أن الصداع يكاد أن يفتك بها، رأسها ستنفجر ألما...
لكن طرقة هادئة على الباب جعلتها تقفز مكانها و تتراجع للخلف صارخة
(من؟)
رأت مقبض الباب يتحرك ثم وصلها صوت أمين يقول بقلق.

(هذا أنا يا بدور، لماذا تغلقين الباب على نفسك، افتحي)
فغرت بدور فمها برعب و هي تدور حول نفسها، ثم ابتلعت ريقها و نادت بصوت مرتجف خشن
(أنا، أنا متعبة قليلا يا أمين، لدي صداع فظيع، لذا سأنام قليلا)
حرك المقبض مجددا رغم معرفته أن الباب مغلق و قال بقلق اكبر
(افتحي و سآتيك بقرص مسكن للألم)
هتفت بدور متسرعة بصوت متشنج
(تناولت اثنين يا أمين شكرا لك)
الا أنه طرق الباب و قال بعصبية.

(افتحي الباب يا بدور، أريد أن أراك)
اقتربت بدور من الباب ووضعت كفيها عليه ترتعش بقوة، تبكي دون صوت ثم قالت بصوت مختنق
(أريد البقاء وحدي قليلا يا أمين أرجوك)
الا أنه قرب وجهه من الباب قائلا بحيرة
(هل تبكين؟، ما الذي حدث؟)
بكت بدور بعنف اكبر لكن دون صوت، ثم همست بخفوت
(ارجوك، ارجوك يا أغلى انسان لدي في هذا العالم، )
وضع أمين كفه على سطح الباب رافعا حاجبيه بنظرة حنونة متفاجئة، ثم قال بقوة.

(افتحي الباب لأضمك الى صدري على الأقل و لن أسألك عما يضايقك)
الآن سمع صوت شهقة بكائها، ثم قالت بصوت متحشرج
(أرجوك، أرجوك)
ساد صمت قصير، ثم سمعت صوته يقول بخفوت
(لا بأس، تصبحين على خير)
قرب أذنه من الباب فسمعها تقول من بين بكائها
(تصبح على خير)
سمعت صوت ابتعاد خطواته، فاستدارت على عقبيها لتستند الى الباب تغطي وجهها بكفيها و تبكي بدموع لا تنضب أبدا...

بعد مرور ساعتين أخرتين، كانت بدور مستلقية في سريرها تنظر الى السقف بعينين واسعتين جافتين و قد نضبت منهما الدموع لآخر قطرة، متورمتين و حارقتين، لكنها كانت صامتة تماما، تتنفس ببطىء و صعوبة، حتى شعرت أنها غير قادرة على تحمل صعوبة التنفس أكثر...
فاستقامت نصف جالسة و هي تحاول أخذ نفسا عميقا، لكن لم يدخل سوى بعض منه الى رئتيها و كأن هناك ما يحول دون تنفسها بشكل طبيعي...

وضعت بدور يدها على صدرها و هي تحاول تهدئة نفسها و تنظيمه و نظرت الى أنحاء الغرفة فشعرت بها و كأنها قبر يطبق عليها...
راودها احساس مخيف مفاجىء أنها ميتة ومدفونة في قبر و لن تخرج منه أبدا، هذا الإحساس أرعبها بشكل غير متوقع فوجدت تنفسها تنهض من السرير فجأة بسرعة و تجري بأقصى سرعتها لتفتح باب غرفتها و تخرج منها جريا!
و لم تتوقف بدور عن الجري الى ان وجدت نفسها واقفة أمام باب غرفة أمين...

ظلت بدور واقفة لا تعلم ما الذي تفعله هنا، ثم نظرت خلفها بإتجاه غرفتها فاقشعر بدنها خوفا مجددا، فوجدت نفسها تطرق الباب و تقف منتظرة بصمت الى أن سمعت صوت أمين يدعوها للدخول ففتحت الباب و دخلت ووقفت مستندة اليه تماما كالليلة التي دخلت فيها الى غرفته بناءا على تعليمات والدته...

لكن شتان بين شكلها تلك الليلة و شكلها الآن، فقد كانت حمراء العينين بشكل مريع و شعرها أشعث بفوضى مزعجة، و ترتدي قميص نوم فضفاض لا معالم له، يبتلعها تماما و لا يظهر سوى نحافة ذراعيها المقشعرتين بوضوح...
نظر اليها أمين متفاجئا و كان يقرأ تماما كعادته لبعض الوقت قبل النوم، فقالت بدور بصوت خافت مرتعش
(أنا خائفة).

و كان هذا هو كل ما استطاعت النطق به فصمتت، و ظل أمين ينظر اليها مندهشا، الى أن رأته يبعد الغطاء عن جانب السرير و يمد كفه اليها قائلا بصوت أجش
(تعالي)
اقتربت منه بدور الى أن أمسك بكفها و سحبها اليه فاستدارت مستلقية بجواره متشكلة مع جسده الذي التف معها فبات صدره الدافىء يحتضن ظهرها و هي ككرة صغيرة رأسها مرتاح على ذراعه...

دثرها أمين جيدا بالغطاء و ضمها اليه قبل أن يلامس شعر أعلى رأسها بشفتيه و كأنه يمشطه، ثم همس بأذنها
(ما الذي يخيفك؟)
ظلت صامتة للحظات، ما الذي يخيفها الى هذا الحد؟
حتى و إن كان هو راجح بالفعل، لكن لم يعد هناك ما يرعبها بهذا الشكل المأسوي...
بلى، خائفة من قرب انتهاء حياتها مع أمين، كانت تظن أنها ستتنعم بتلك الحياة لفترة اطول، لكنها ستنتهي بأسرع مما كانت تظن...

كان حلما قصيرا للغاية، ليتها لا تستفيق منه أبدا...
أغمضت بدور عينيها و ازدادت التفافا داخل دائرة جسده و همست
(لا أعلم، هناك خوف مسيطر على، هلا ضممتني دون أن يحدث بيننا شيء، أرجوك)
رفع امين كفه و مسح على جانب شعرها ووجهها ثم همس و شفتيه على وجنتها
(متى فرضت نفسي عليك؟)
ابتسمت بحزن مغمضة عينيها و مالت بوجهها حتى أطبقت بشفتيها على ذراعه أسفل وجهها و بقت على هذا الحال الى أن نامت أخيرا...

و ظل أمين مستيقظا يلفها بذراعيه وهو ينظر اليها عاقدا حاجبيه...
هناك ما حدث، شيء حدث أرعبها، لكنها كانت في حال أسوأ من أن يستجوبها...
لقد تغلب حنانه و رغبته في ضمها على شكه و توجسه، و الآن عليه البقاء مستيقظا في هذا الشك طوال الليل، و الشك ناره تحرق الأحشاء...

كانت رضوى تسجل بعض الحسابات على حاسوبها بتركيز الى أن سمعت صوت الباب من خلفها و خطوات بدور البطيئة التي تحفظها جيدا...
فابتسمت قائلة بمرح دون أن تستدير اليها
(أسرعي بإخراج الشطائر، فأنا فعليا لم آكل شيئا منذ السابعة مساء أمس)
لم تسمع ردا من بدور، فرفعت وجهها و هي تحرك أنفها عاقدة حاجبيها ثم لم تلبث أن هتفت و هي تستدير اليها غاضبة.

(لا توجد رائحة شطائر، لا تقولي أنك لم تحضريها، ألم نتفق على الفطور سويا؟)
الا أن الكلمات خفتت تدريجيا ثم صمتت و هي تنظر الى بدور الواقفة في منتصف الغرفة غريبة الشكل، باهتة الملامح، تضع نظارة سوداء تكاد تبتلع كل وجهها...
و على الرغم من أنها لا ترى عينيها لكن ملامح وجهها الميت القاسي كان كفيلا بأن يفهمها أن هناك شيء خاطىء...
فتحت رضوى فمها و قالت بخفوت
(ماذا بك يا بدور؟).

رفعت بدور يدها و خلعت النظارة ببطىء فشهقت رضوى و هي ترى عينين مخيفتين شديدتي الإحمرار و الإنتفاخ، لكنهما كانتا جافتين دون أي دموع، فهتفت مرتاعة و هي تقف
(ياللهي! ما الذي حدث لك؟)
لكن و قبل أن تقترب منها تكلمت بدور، سألتها بصوت خافت، هادىء، ميت...
(ما الذي يعنيه اسم راجح بالنسبة لك؟)
تسمرت رضوى مكانها فجأة و فغرت فمها بينما شحب وجهها تماما...

و إن كان لدى بدور شك من قبل، فملامح وجه رضوى حاليا كان كفيلا بأن يقتل هذا الشك في مهده...
أفلت نفس مرتجف من بين شفتي بدور و شعرت بأن الأرض تميد بها، الا أنها تماسكت بقوة و صرخت فجأة بعنف
(سألتك سؤالا)
انتفضت رضوى من نبرة بدور المخيفة، الا أنها ابتلعت ريقها ثم قالت بصوت خافت
(أردت أن أخبرك، و كنت أنتظر الفرصة المناسبة)
اتسعت عينا بدور بذهول و هي تهز رأسها غير مستوعبة لما يحدث، فصرخت مرة أخرى.

(من أنت؟، ما هي خطتك؟ و ما دخلك بحياتي؟، هل أرسلك لتفسدين حياتي؟، ما هي خطتكما و منذ متى بدأت؟)
اقتربت رضوى من بدور محاولة أن تمسك ذراعيها الا أن بدور نفضت كفيها بقسوة فهتفت رضوى بقوة
(ليس هناك أي خطط يا بدور و لا دخل لي مطلقا بحياتك، أنا، أنا و راجح مرتبطان منذ فترة قصيرة. )
تراجعت بدور خطوة و هي تنظر الى رضوى مصدومة، تشعر و كأنها نامت و استيقظت لتجد نفسها في دنيا الجنون!

رمشت بعينيها عدة مرات ثم سألتها بصوت غير واعي
(ماذا؟)
زفرت رضوى بألم و هي تنظر جانبا ثم عادت تواجه بدور قائلة بإستسلام
(نحن مرتبطان منذ فترة وجيزة و لم أخبرك خوفا من رد فعلك الذي أراه حاليا)
كانت بدور لا تزال تهز رأسها بعدم فهم، ثم نظرت الى رضوى و سألتها بذهول
(هل استأجرك لتدخلين حياتي و تفسديها؟)
كان هذا هو دور رضوى في الذهول و رددت غير مصدقة.

(استأجرني؟، أفيقي يا بدور، أنا رضوى صديقتك و زميلتك في الكلية، كيف له أن يستأجرني و لماذا يفعل هذا من الأساس؟، حين أخبرني راجح برهبتك من البشر كنت أظنه يبالغ، لكن الآن بدأت أصدقه)
رفعت بدور كفيها الى جبهتها و هي تشعر بالرغبة في السقوط أرضا، ما هذا الكابوس المجنون الذي تحياه؟
ثم رفعت وجهها الى رضوى و سألتها بصوت مهتز
(منذ متى تعرفين راجح؟، منذ انتقلت الى المدينة؟)
هزت رضوى رأسها نفيا و قالت يائسة.

(بالطبع لا يا بدور، أخبرتك أنني عرفته منذ فترة وجيزة و نحن الآن لا نزال في مرحلة التعارف قبل الإرتباط الرسمي، و بصراحة)
صمتت قليلا محرجة و هي تفرك أصابعها بتوتر، ثم تابعت متهربة بنظراتها من عيني بدور
(بصراحة هناك مشاعر قوية فورية جمعت بيننا بسرعة لم يستطع أيا منا مقاومتها)
كانت بدور تستمع اليها و هي تتنفس بسرعة و صدمة، لا تعلم أول و آخر هذه المكيدة، و إن كانت رضوى شريكة بها...

الا أنها تمالكت نفسها و سألتها بصوت قاسي صلب
(كيف تعارفتما؟، و ما الذي تعرفينه عن علاقتي براجح من الأساس؟)
تنهدت رضوى ببطىء و هي تشعر بالحرج يلفها و يخنقها الا أنها كانت مضطرة للكلام فقالت بخفوت
(منذ أربعة أشهر تقريبا، و نحن في مرحلة التحضير للمشروع)
عقدت بدور حاجبيها و هي تحاول الفهم فسألتها بصوت أكثر قسوة
(كيف؟)
ترددت رضوى أكثر، و ازدادت عصبية فرك اصابعها حتى كادت ان تكسرها الا انها أجابت بإختصار.

(أول مرة رأيته فيها، كان آتيا ليراك)
رفعت بدور يدها الى صدرها و سألتها بخوف
(آتيا ليراني أنا؟، متى كان هذا و أين كنت أنا؟)
ردت رضوى بصوت أكثر خفوتا
(حين كان هذا المكان لا يزال تحت التشطيب النهائي، و كنت بالصدفة قد انصرفت للتو، فوجدت رجلا دخل المكان يسأل عنك)
لم تستطع بدور السؤال اكثر و قد انعقد لسانها بشدة في حلقها من هول ما تسمع، الا أن رضوى تابعت بإستسلام.

(في البداية توجست منه بالفعل، الا أنه أخرج بطاقة هويته و عرفت من اسم العائلة أنه ابن عمك فعلا، كما أنه كان مصابا، يتحرك بصعوبة جراء حادث لا يزال جديدا، فأجلسته و سألته عن سبب رغبته في رؤيتك، حينها اضطر للإعتراف بأنه كان خطيبك قبلا و أنه ما أتى الا ليتمنى لك حياة سعيدة مع زوجك)
فغرت بدور فمها و هتفت غير مصدقة
(و صدقته؟)
هزت رضوى كتفيها و قالت بأسى.

(لم يكن بيدي أن أصدقه أو لا أصدقه، كان رجلا متعبا يخبرني شيئا و لا أعرف كيف أتصرف، لكنه كان متألما و شاردا، فتعاطفت معه، و سألته عن السبب الذي يجعله لا يذهب اليكم في بيتكم و يهنئكما بنفسه، الا أنه أخبرني أن حرج الموقف لم يسمح نظرا لأنه كان خطيبك من قبل، حتى و إن ظل ابن عمك كما أن عمك الذي هو والده قد توفي حديثا و أن الحادث و اصابة قدمه لم تمكنه حتى من حمل نعش والده، كان يتحدث بعدم تركيز و حزنه على والده لا يزال حيا).

شعرت بدور أنها غير قادرة على الوقوف أكثر فسحبت أقرب كرسيا و جلست عليه ترتعد ثم سألت رضوى بصوت متشنج
(و ماذا بعد، تابعي و لا تغفلي عن ذكر أي شيء، أي تفصيل مهما كان صغيرا)
أخذت رضوى نفسا مرتجفا، ثم قالت همسا
(في البداية صدقته لكن ملامحه المنكسرة أخبرتني أنه لا يزال يكن لك مشاعر قوية)
ضحكت بدور بإستهجان و سخرية مريرة عالية، الا أن رضوى كانت في عالم آخر و هي تتابع قائلة بتعب.

(لا أعرف كيف تعاطفت مع رجل أراه للمرة الأولى، لكنه كان مصاب مجهد هزمه الحب فلم أستطع الا الجلوس أمامه و نصحته ألا يتخذ الحجج كي يراك، و تهنئته غير مهمة أمام الضرر الذي قد يحدث لزواجك، و أنه إن كان يتمنى لك الخير فعليه تركك دون يحاول افساد حياتك، فاقتنع و أخبرني أنني انقذته من عمل متهور و ربما القدر جعله يقابلني قبلك كي أمنعه عن هذا التهور و طلب مني الا أخبرك كي لا أخيفك).

ضحكت، في الواقع ضحكت بدور عاليا بهيستيريا حتى دمعت عيناها...
أما رضوى فقد أجفلت بشدة و تجمدت خائفة و هي تسمع من بدور هذا الضحك المجنون، الى أن مسحت دموع ضحكاتها و أشارت اليها قائلة
(عفوا، لا تأبهي لي، تابعي كلامك، فكلي آذان صاغية)
بدت رضوى مترددة، متوجسة، الا أنها تابعت على كل حال قائلة بخفوت.

(في المرة الثانية كنت أنا من رأيته، كان واقفا عن بعد يراقب انصرافك، حينها اتجهت اليه و تشاجرت معه، لكنه قال بإختصار عبارة لن أنساها مطلقا، قال الا يحق للمحب أن يرى حبيبته كما يراها أي شخص غريب! أيحق للغريب ما لا يحق لي؟، حين سمعت منه هذه العبارة تنهدت ووقفت بجواره و سألته عن جدوى ايلامه لنفسه بتلك الطريقة اليائسة)
كانت بدور مسندة وجنتها الى كفها، ثم أشارت اليها قائلة بطريقة ساخرة باردة.

(تابعي تابعي، أنت تسليني)
عقدت رضوى حاجبيها مستاءة من تلك القساوة التي لم تكن تعرفها عن بدور قبلا، الا أنها قالت بإختصار
(بدأ الكلام بيننا، و حكى لي عن اجبار عائلتكما له على أن يطلقك، أنا)
صمتت غير قادرة على الكلام فسألتها بدور بخفوت
(أنت ماذا؟)
أخذت رضوى نفسا عميقا و همست
(لست فخورة بنفسي فيما بعد، فقد طلب مني رقم هاتفي و لسبب أجهله وافقت)
ارتفع حاجبي بدور بذهول، فهتفت رضوى مبررة.

(صدقيني أنا لا أعرف السبب، أنا لست بهذه الشخصية و لم أتصرف قبلا على هذا النحو، شيئا ما جعلني أتهور لأول مرة في حياتي و أعطي رقم هاتفي لرجل لا أعرفه)
صمتت بخزي لبضعة لحظات، ثم قالت مخفضة رأسها.

(ثم بدأت اتصالاتنا، في البداية كانت مختصرة و موجزة أغلبها عن محاولات نصيحتي له بأن ينساك ثم بدأ الحوار يتطرق لحياتي، بدأ يسألني عن حالي و أخبرني أنني أنا وهو نتشارك نفس القدر من الألم على الرغم من اختلافه، شعر كلا منا بوجع الآخر فأصبحت الحوارات المختصرة حكايات مطولة بالساعات، وجدت نفسي انزلق تجاهه دون أن أستطيع منع نفسي، ثم تقابلنا أول مرة و كانت ساقه قد تحسنت قليلا، و أصبحت المرة مرتين و ثلاث، و في لحظة أدركت أنني أحببته بعنف لم أعرفه من قبل، و حين أخبرني أنه في حاجة لي و حياته لن يستطيع متابعتها بدوني، شعرت و كأن العالم يضحك لي للمرة الأولى).

ساد صمت غريب بينهما، بدور تنظر اليها نظرة لا شعور فيها و كأنها فقدت جميع مشاعرها بينما رضوى صامتة تتجنب النظر اليها...
الى أن سمعا معا صوت رنين هاتف رضوى. و التي نظرت اليه، ثم رفعت عينيها الى عيني بدور...
فعرفت بدور من ملامحها أن راجح هو المتصل...
رفعت رضوى الهاتف الى أذنها و أجابت بعد لحظة استماع
(ليس الآن يا راجح، هلا منحتني بضعة دقائق و سأعاود الإتصال بك؟)
وصلها صوت راجح قائلا بتفكير.

(ناديتني راجح بينما بدور معك، رأيتها تدخل منذ دقائق، اذن فقد عرفت)
لم تستطع رضوى الكلام و هي تنظر الى عيني بدور المتورمتين الجامدتين، فقالت بخفوت مكررة
(سأتصل بك لاحقا)
الا أنه قال بإصرار
(ماذا بك. ألم يكن هذا هو ما اتفقنا عليه بالأمس؟، أن تخبريها و لهذا جئت الآن بناءا على الموعد)
ردت رضوى بصوت متداعي
(ليس الآن يا راجح، الوضع مضطرب)
رد عليها بإختصار و نفاذ صبر
(لهذا سأصعد اليك حالا)
همست رضوى يائسة
(راجح).

الا أنه كان قد أغلق الخط، فوضعت الهاتف بجوارها فوق سطح المكتب، و أبقت وجهها منخفضا تفرك أصابعها أمام نظرات بدور المتفحصة...
الى أن سألتها بدور ببرود
(أخبريني مرة أخرى كي أصدق، هل تقولين أنك تعيشين قصة حب مع الشخص الذي كان، زوجي!)
رفعت رضوى وجهها الى بدور و قالت بخفوت
(خطيبك يا بدور، كان مجرد خطيبك، أعرف أنه تم عقد قرانكما، الا أنها كانت خطوبة لا أكثر).

قست عينا بدور و تبللت بطبقة من دموع كاوية قاسية شديدة الحقد، مما جعل رضوى تتهرب من عينيها بسرعة و هي تقول بتخاذل
(أعرف أن الوضع سيكون حرجا في البداية، لكن القدر شاء أن ألقاه و أحبه)
ردت بدور بقسوة
(لا تدخلي القدر في هذا)
نظرت اليها رضوى و قالت مؤكدة.

(بلى هو القدر، القدر جعلني أقابله في لحظة فارقة و الا كان سيلاحقك من وقتها الى وقتنا هذا، راجح الآن يحبني أنا و أنت تحبين زوجك، فلماذا تجعلين من الأمر مأساة؟)
لم ترد عليها بدور، بل قست عيناها أكثر و ازدادت حرارة الطبقة الحارقة من الدموع التي تغطي حدقتيها، فصمتت رضوى خجلة من نفسها، ثم تشجعت أخيرا و سألتها مباشرة و دون مقدمات.

(بدور لدي سؤال واحد، هل تكنين أي مشاعر لراجح؟، لأن الحب فقط هو ما قد يمنع قصتنا، حبك له)
نهضت بدور واقفة تنظر الى رضوى بصمت ميت محتقر، ثم قالت أخيرا بصوت جامد كالحجر
(نعم أكن له مشاعرا، مشاعر الإحتقار، و أنت مخطئة، ليس الحب هو السبب الوحيد الذي قد يمنع قصتكما، هناك سبب آخر، الكره، كرهي له)
ثم استدارت لتغادر، الا أنها تسمرت و هي ترى نفسها وجها لوجه أمام راجح...

راجح بنفسه، بلحمه، بقساوة ملامحه و السخرية البادية في عينيه، بدنائته و دنسه...
ظلت بدور صامتة تماما بينما بادرها هو قائلا
(السلام عليكم يا ابنة عمي، كيف حالك يا بدور)
استطاعت رؤية مدى مهارته بعينيها، بل تسمعها بأذنيها...
تحيته لطيفة شديدة التهذيب وودودة، لكن بداخلها سخرية سوداء و حقد أعمى لا يلحظه الا من يريده هو ان يلحظه...
هذا الرجل شيطان ماهر، مهنته الأولى هي الأذى...

حين استمرت في صمتها تنظر الى عينيه بنفس النظرات القاسية المتحجرة، بينما قال متنهدا وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله
(يبدو أنك تكنين لي مشاعر الكره بالفعل يا بدور و أنا لا أعلم السبب، فأنت متزوجة و سعيدة في حياتك و أنا أحاول أن أقوم بالمثل، فلماذا تحاكمين رضوى بهذا الشكل القاسي؟)
ايضا ظلت صامتة دون رد، و دون أن تحيد بعينيها عن عينيه الساخرتين، الا أن رضوى قالت من خلفها بصوت مهتز مرتبك.

(سأترككما دقائق كي تتفاهمان)
هتفت بدور فجأة بصوت كالجليد القاسي
(رضوى)
لكن رضوى استدارت اليها قائلة بإختناق
(لن أترككما تماما، بل سأقف خارج الباب و سأتركه مفتوحا، أنتما في حاجة لأن تنهيان هذا الحال)
خرجت رضوى بينما بقى راجح واقفا في مواجهة بدور التي قالت بصوت آمر صلب
(ابتعد عن طريقي)
الا أن راجح رفع اصبعه الى فمه ثم اقترب بوجهه منها وهو يهمس مشيرا الى الباب.

(هششش، اخفضي صوتك، أم تريدن لرضوى أن تسمع حوارنا فعلا؟)
ابتلعت بدور الغصة المتورمة في حلقها و هي مسمرة في مكانها تنظر اليه بغل فضحك ضحكة خافتة وهو يتابع همسا
(أجيبي، هل تريدين أن تعرف سبب كرهك الحقيقي لي؟، هيا نادها و احكي لها الحكاية كاملة)
لم ترد بدور و لم تتحرك من مكانها بينما ضحك هو مجددا ثم سألها همسا ببساطة
(أخبريني بالمناسبة، من يعرف أيضا بطبيعة علاقتنا المتفجرة؟، هل حماتك تعرف؟).

ضحك قليلا وهو يرد على نفسه ببراءة
(ما هذا السؤال الغبي! بالطبع لا تعرف، و الا لكانت طردتك من بيتها، فإن كان زوجك ضعيفا عديم الرجولة، لكن من المؤكد أن أمه ستكون أكثر رجولة منه و لن تقبل على ابنها الوحيد هذا الوضع أبدا)
ضحك مجددا، و كل ضحكة من ضحكاته تحرق جسدها كمادة كاوية، بينما تابع قائلا
(بالطبع والدك و أخاك عرفا بالأمر، فقد أهداني زاهر هدية ستظل تاركة علامتها على ساقي للأبد).

تحرك ببطىء فلاحظت أنه يعرج عرجا بسيطا، الا أنه لا يمنعه من القيادة...
استدار راجح اليها وهو يكاد أن يلاصقها ثم همس في أذنها بسخرية بحتة
(رغم كل شيء اشتقت اليك و الى ليالينا سويا)
انتفضت بدور و دون تفكير وجدت نفسها تدور برشاقة وهي ترفع كفها لتصفعه بكل قوتها في حركة خاطفة لم يلمحها حتى...

توقف الزمن بينهما وهو يلمح نظرة الإنتصار و اللذة في عينيها مختلطتين بكره بشع و كأنها قد فعلت شيئا تتمنى فعله منذ زمن
ثم اندفعت تخرج من المكان مسرعة، مارة برضوى التي كانت تقف بالخارج تحاول سماع أي كلمة دون جدوى...
لكن ما أن تجاوزتها بدور مندفعة كالعمياء حتى نادتها رضوى بقلق
(بدور الى أين أنت ذاهبة؟، انتظري قليلا، لنتفاهم)
ثم دخلت جريا الى راجح الذي كان يوليها ظهره فهتفت بخوف.

(ما الذي حدث يا راجح؟، ماذا قالت و ماذا قلت لها؟)
لم يرد عليها راجح، بل كان ينظر من النافذة العريضة المطلة على المدينة، ثم قال بنبرة ساخرة دون مرح تفيض شررا و رغبة في رد الصاع صاعين
(لا بأس يا رضوى، لقد تفاجئت فحسب كما توقعنا، لا بأس).

(لماذا لم تذهبي الى عملك اليوم يا بدور؟)
سألت أم أمين بدور و هما تجلسان معا أمام طاولة المطبخ تعدان طعام الغذاء...
ارتبكت بدور فكادت أن تجرح أصابعها بالسكين التي تقشر بها الخضروات، لكنها تماسكت و قالت بخفوت دون أن ترفع عينيها الى عيني زوجة عمها المتفحصة...
(سبق وأخبرتك يا عمتي، فضلت أن أرتاح اليوم و، و اعداد وجبة مميزة)
رمقتها أم أمين بطرف عينيها ثم قالت بهدوء
(و أنا لم أصدقك).

نظرت بدور اليها مجفلة بدهشة، و ابتلعت ريقها قائلة بخفوت
(هل سأكذب عليك يا عمتي؟)
ردت أم أمين عليها بثقة
(بل لا تستطيعين الكذب على، لذا لا أصدقك، هناك شيء حدث و ترفضين البوح به، و تشهد عليه عيناك الحمراوان من البكاء)
لم ترد بدور و هي تشعر بقلبها يكاد أن يخترق أضلعها من شدة توترها، و ظلت صامتة، الا أن حماتها تابعت قائلة و هي تنظر الى ما بيدها بهدوء.

(اليوم كنت أرتب بعض الأغراض و كان هاتفك موضوعا على الطاولة، فرأيت اتصالات مستمرة مرة بعد مرة من صديقتك رضوى دون توقف، الا أنك جعلت الهاتف صامت و ترفضين الرد عليها منذ الأمس، فما الأمر؟)
شحب وجه بدور تماما و غارت عيناها بينما تباطئت أصابعها في تقشير ثمرة البطاطس بيدها...
فسألتها زوجة عملها قائلة بلطف
(هل تشاجرتما؟)
ردت بدور بخفوت باهت دون أن تنظر الى أم أمين.

(نحن لسنا أطفالا كي نتشاجر يا عمتي، أنا و هي امرأتان ناضجتان و لدينا عمل خاص الآن)
ابتسمت أم أمين قائلة
(لنقل اذن أن هناك خلاف بينكما أو سوء تفاهم، لما لا تطلعيني على هذا الخلاف، ربما استطعت اعطائك نصيحة تعيد المياه لمجاريها)
خرج نفس بطيء من بين شفتي بدور و هي تنظر الى ما تفعله حزينة شاردة، بينما تابعت أم أمين قائلة بإهتمام و مودة.

(رضوى فتاة لطيفة جدا، أحببتها في المرة التي جائت فيها لزيارتنا هنا، استطعت خلال زيارة واحدة قراءة معدنها الطيب، لكنني في نفس الوقت لمحت أن موضوع طلاقها لا يزال يؤثر عليها، اسمعي يا بدور، طلاق الفتاة في مثل هذا السن الصغير يترك بداخلها أثرا يجعلها هشة و حساسة أكثر من اللازم)
ردت عليها بدور بنفس الصوت الباهت.

(كلامك حقيقي يا عمتي، حين تعرفت على رضوى لأول مرة أعجبت بقوة شخصيتها و ثقتها بنفسها و عدم سماحها للطلاق بالتأثير عليها، لكن حين تعمقت صداقتنا، أدركت مدى وجعها و احتياجها لعاطفة قوية تعوضها عن المعاملة السيئة التي شهدتها من طليقها، و أدركت كم هي هشة و قد تتضرر بسبب هذا الإحتياج)
قالت أم أمين بمحبة.

(طالما تعرفين هذا عن صديقتك يا بدور، لماذا تقسين عليها و تتجاهلين كل هذه الإتصالات منها يا حبيبتي؟، مهما بلغ الخلاف بينكما لكن يظل الحوار أفضل من هذا التجاهل المؤلم)
تابعت بدور تقشير ثمرة البطاطس بقسوة و عنف حتى شوهتها، و قالت بجفاء
(ربما كان التجاهل أقل ألما من كلام قد أقوله و يوجعها بحق)
تنهدت أم أمين و هي تستشعر كبر حجم الخلاف بينهما، و مرت بضعة دقائق، ثم تعالى رنين جرس الباب...

فهمت بالقيام، الا ان بدور سبقتها و قالت بخفوت
(ارتاحي أنت يا عمتي، أنا سأفتح)
ثم اتجهت الى اسدالها المعلق فارتدته على عجل و غطت شعرها قبل أن تتجه الى الباب و تفتحه...
مرت بضعة لحظات و هي ترى الواقف بالباب، ذلك المبتسم، الساخر، رافعا حاجبه يحييها دون كلام...
و يبدو أن تلك اللحظات البطيئة الميتة قد طالت فتحولت الى دقائق و كلا منهما ينظر للآخر دون كلام...
لأن أم أمين جائت من خلفها تسأل بحيرة.

(لماذا تأخرت يا بدور؟، من بالباب؟)
لكن كلماتها قطعت حين رأت الزائر المفاجىء فتسمرت مكانها و هي تقول بصوت غريب
(راجح!)
دخل راجح الى البيت متجاوزا بدور وهو يقول بنبرة مرحة ودودة
(زوجة عمي و أم أمين الغالي، اشتقت لك و لابن عمي)
ثم دخل دون دعوة حتى جلس على أقرب مقعد بينما نظرت أم أمين الى بدور التي كانت واقفة منكمشة، ممتقعة الوجه بجوار الباب لا تجرؤ على رفع عينيها بعيني عمتها...

لكن أم أمين لم توجه أي سؤال لها، بل اتجهت الى حيث يجلس راجح واضعا ساقا فوق الأخرى يتأمل المكان، ثم نظر اليها قائلا بإبتسامة بشوشة
(جميل البيت يا زوجة عمي، اعذريني على التهنئة المتأخرة و لأنني أتيت دون هدية)
ردت أم أمين بتهذيب دون أن تجلس.

(لا هدايا بين الأقارب يا راجح، قمت بالواجب و شكرا لك يا ولدي، لكن كان يتوجب علينا نحن تقديم واجب العزاء لك في والدك رحمه الله، الا أننا لم نجدك في العزاء و لم نعثر لك على مكان. )
قست عينا راجح و تحولتا الى بركتين جليديتن وهو ينظر الى بدور قائلا
(الواجب وصل، على أنني لم أستطع حمل النعش فانصرفت بعد الدفن).

اتسعت عينا أم أمين قليلا أمام هذه البلادة التي يتحدث بها، لكن رفع راجح حاجبيه و أشار الى الأريكة سائلا وهو يتحول من حال لآخر في لحظة واحدة
(ألن تجلسي يا زوجة عمي؟)
لم تفقد أم أمين هدوءها أو تهذيبها و هي تقول بلطف حازم
(عفوا يا ولدي، لكن رجل البيت ليس هنا، أكيد تعرف أنه نهار عمل معتاد)
نظر اليها راجح متظاهرا بالدهشة وهو يقول.

(و متى كنا نحتاج لوجود رجل كي نأتي لزيارتك يا زوجة عمي، أعرف أن بيتك مفتوح لفريد ابن عمي غانم دائما مثلا)
وضعت أم أمين كفا فوق الاخر و قالت حاسم أقرب الى الصرامة متعمدة الا تتنازل عن التهذيب كي لا تظهر الغضب الذي اندفع بداخلها.

(دعني أتكلم معك بصراحة يا راجح، ما فعلته مع سوار ابنة عمك يجعل دخولك الى أي بيت من بيوت أعمامك محاطا بعشرات المحاذير، هذا أولا، أما ثانيا فأنت تدرك الحرج في وجودك في هذا البيت تحديدا أثناء غياب صاحبه)
نهض راجح من مكانه ببطىء و نظر الى بدور التي لا تزال واقفة في مكانها تحاول التقاط أنفاسها بصعوبة...
ثم ازدادت ابتسامته اتساعا و قال بهدوء ثقيل.

(أولا، أنت حكمت على بناء على قصة سمعتها، قصة تناقلت عبر أفراد العائلة، و لم تسمعي مني، ربما قام أحدهم بإضافة بعض التفاصيل أو اختلق قصة أخرى من الأساس، ثانيا أنا اعتبرت بدور أصبحت أختي و فضلت أن نزيل الحرج)
تصلبت ملامح أم أمين بقساوة الا أنها ردت عليه بجفاء
(أعذرني فهذا غير ممكن، لكن عامة الأمر يعود لإذن صاحب الشأن)
هز راجح كتفيه و اتجه الى الباب قائلا بأسف.

(هذا مؤسف، كنت أود أن تكون الحياة أبسط من هذا)
قالت أم أمين من خلفه بصرامة
(فعلا مؤسف، لأن الحياة ليست بمثل هذه البساطة)
ضحك ضحكة ساخرة مستفزة و اتجه للباب، لكن في تلك اللحظة دخلت نورا من الباب المفتوح بجوار بدور...
و ما أن رأت راجح حتى توقفت مكانها و هي تنقل عينيها بينهم بعدم فهم، ثم قالت بتوجس
(السلام عليكم).

أغمضت أم أمين عينيها متعجبة من هذا الحظ، بينما تبرع راجح قائلا ببطىء وهو يتأملها بدهشة و رضا ساخر
(نورا! لقد كبرت و أصبحت عروس)
ردت عليه نورا ببرود و هي ترمقه بنفور
(شكرا لك)
تحركت نظراته عليها بطريقة بطيئة عابثة، ثم قال مازحا
(من يعلم، ربما كانت الزيارة المقبلة زيارة نسب)
رفع بعدها كفه الى جبهته يحييها هي و أمها، ثم مر ببدور ضاحكا و خرج من الباب الذي اتجهت اليه أم أمين و صفقته بقوة من خلفه عابسة...

حينها كانت نورا هي أول من تكلم فأشارت الى الباب هاتفة بغضب
(ما الذي يقصده هذا الكائن بالضبط؟، ماذا يقصد بزيارة نسب؟، هل فهمت ما فهمته يا أمي؟)
ردت عليها أمها بصرامة
(اصعدي الى غرفتك الآن يا نورا)
الا أن نورا هتفت غير مسيطرة على الجنون الذي لفها
(والله يا أمي لو تقدم هذا اللزج لخطبتي فسوف أترك هذا البيت و لن تعثروا لي على طريق)
علا صوت أمها و هي تقول بغضب.

(كل جننت يا نورا كي تتخيلي مجرد تخيل أن أننا سنسمح له عرض شيء كهذا! إنه مجرد شخص هزه الفشل الذي اصاب حياته مؤخراو ضرب جنون العظمة الذي يعاني منه، فجاء يسعى لخراب البيوت العامرة، و إن جاء مجددا فأمين كفيل بالتصرف معه، لكنني أكيدة أنه لن يكررها)
كتفت نورا ذراعيها و هي تنظر الى بدور نظرة اتهام، فأمرتها أمها قائلة
(اصعدي الى غرفتك، و لا داعي أن يعرف أمين بهذه الزيارة).

نظرت نورا الى بدور نظرة أخيرة، ثم هتفت بحنق
(هذا ما نناله من بدور و ما تجلبه بدور)
ازدادت ملامح بدور امتقاعا، بينما كررت أمها بصرامة أكبر
(الى غرفتك يا نورا هيا)
اندفعت نورا الى غرفتها زافرة و هي تمتم بغضب، و حين اختفت التفتت أم أمين الى بدور و نظرت اليها متفحصة دون أن تبتسم، فأخذت بدور نفسا مرتجفا و هي تخفض عينيها بسرعة غير قادرة على مواجهتها...
فقالت زوجة عمها بجفاء و جدية
(ما الذي حدث للتو يا بدور؟).

رفعت بدور وجهها و هتفت بيأس رافعة أصابعها الى صدرها
(اقسم بالله أنه لا ذنب لي يا عمتي، إنه شخص مختل و تصرفاته غير محسوبة، لو نظرت الى عينيه لعرفت أنه يتمتع بما يفعل، العائلة كلها باتت تعرف أنه مختل تماما)
كانت أم أمين واقفة تنظر اليها و هي تقيم كل كلمة منها عابسة، ثم قالت أخيرا بهدوء.

(عامة لو كان غبيا و كرر تلك الزيارة فسيكون لنا تصرف آخر، و كما قلت لنورا، فلا داعي لأن يعرف أمين عن هذه الزيارة الوقحة، مفهوم؟)
سارعت بدور تومىء برأسها مخفضة عينيها و هي تكتف ذراعيها متشبثة بأصابعها في لحم ذراعيها...
فقالت أم أمين أخيرا
(سأذهب لغرفتي لأرتاح قليلا و قرب موعد الطعام سأخرج لأسخن أي شيء سريع، فأنا الآن متعبة و غير قادرة على اكمال الطبخ)
همست بدور بصوت أجوف و هي تنظر أرضا.

(أنا سأكمل كل شيء)
لم تجادلها أم أمين هذه المرة كما اعتادت أن تفعل، فقد كانت في حاجة لأن تختلي بنفسها و تفكر قليلا، فأومأت برأسها شاردة و اتجهت الى غرفتها دون كلام...
أما بدور فما أن أصبحت وحيدة حتى رفعت وجهها و هي تزفر تأوها عاليا و همست تكلم نفسها
(لماذا يحدث لي هذا؟، لماذا؟، هل كان خطأي كبير الى هذه الدرجة؟ ألم أدفع الثمن الكافي بعد؟، الى متى سأظل أتحمل هذا العبء؟، الى متى؟).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة