قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والستون

نقل أمين عينيه بين ملامح أمه المبتسمة ابتسامة متحفظة و هي تبدو مشغولة البال، لا تتحدث بمودة كعادتها...
و بين بدور التي أخفضت وجهها، لا تواجهه بنظراتها منذ ليلة أمس، بل متعمدة تجنبه كليا بعد أن نامت ليلة كاملة و هي تبكي بين ذراعيه...
و نورا التي كانت نظراتها تقدح شررا و هي ترمق بدور بغضب، ثم تختلس النظر اليه و هي تبدو و كأنها ستموت إن لم تقل ما يغضبها...

كان الأربعة يجلسون حول طاولة الطعام في صمت تام، وهو مكتفي بمراقبتهم بملامح غامضة...
فبذرة الشك التي نمت بداخله، تركت جذورا أقرب الى اليقين، لكنه سيكتفي بالصمت الى أن يحصل على ما يريد...
تكلمت والدة اخيرا فقالت بصوت حنون لكنه غير ثابت تماما
(أنت لا تأكل يا ولدي، كل يا حبيبي فيومك كان طويلا و شاقا)
نظر أمين الى بدور التي كانت لا تزال مخفضة وجهها دون أن تلمس طبقها، ثم قال بهدوء.

(يبدو أن الجميع قد فقدوا شهيتهم اليوم)
ارتجفت أصابع بدور الا أنها لم تتحرك و لم تنظر اليه، بل ظلت صامتة غائرة الملامح، مسلمة بما سيحدث و الذي هي أكيدة منه...
و قد حدث...
أسرع مما كانت تتخيل...
فقد قالت نورا بغضب دون أن تستطيع منع نفسها أكثر
(ربما كان هذا بسبب زيارة هذا المعتوه لنا اليوم في الظهيرة)
أغمضت بدور عينيها بقوة و هي متوقعة هذا، كانت تنتظر مصيرها ساكنة، مسلمة أمرها لله...

الا أن والدة نورا هتفت في ابنتها بغضب أكبر و عدم تصديق
(نورا!)
لكن أمين وضع الملعقة من يده بهدوء، و سأل نبرة غريبة، مخيفة رغم هدوئها
(من زارنا اليوم؟)
هتفت نورا من بين أسنانها بعصبية
(المعتوه راجح ابن عمك، جاء الى هنا دون موعد و أشار بطريقة سافلة الى تفكيره في زيارة نسب قريبة لنا وهو يقول أنني كبرت و أصبحت عروس، و كان يضحك بطريقة مقيتة، لقد اقشعر بدني منه و لا يزال حتى الآن كلما تذكرته).

ساد صمت مهيب فوق روؤس الجميع بعد أن ألقت نورا قنبلتها، و رفعت والدتها كفها الى وجنتها تنظر الى ابنتها بصمت نظرة يائسة غاضبة...
أما بدور فلم تتحرك في جسدها عضلة، و هي تجلس متخاذلة في مقعدها و كأنما تحولت الى تمثال...
نظرت أم أمين الى ابنها الصامت بقناع متحجر، مخيف و لا ينبىء عما بداخله، فقالت بقلق و خفوت.

(أنا تصرفت يا ولدي و صرفته بتهذيب، و أحرجته و أشك أن يكرر هذه الزيارة مجددا، فلا تهتم بهذا الحدث العابر)
استمر الصمت الخانق الى أن نهض أمين من مكانه وهو يقول بنبرة غريبة
(الحمد لله)
فهتفت والدته تمنعه
(أنت لم تأكل شيئا يا ولدي)
الا أنها كانت تخاطب ظهره، فقد ابتعد بهدوء دون أن يلتفت خلفه، حينها نظرت الى بدور و أمرتها بسرعة.

(اذهبي خلف زوجك يا بدور. هدئي غضبه بكلمة و أفهميه حقيقة الأمر. لا تسمحي للجفاء بينكما أن يزيد)
نهضت بدور بصمت و سارت مبتعدة بساقين ترتجفان...
التفتت أم أمين الى ابنتها و نظرت اليها صامتة طويلا، ثم قالت أخيرا بخفوت.

(لن أصرخ فيك و لن أضربك، لأنك لم تعودي طفلة، لكن يكفيني اخبارك كم أشعر بالخذلان منك و من تربيتك المدللة أكثر من اللازم، و التي سمحت لغيرتك أن تكون السبب في احداث صدع بين أخيك الوحيد و زوجته)
أخفضت نورا وجهها و هي تشعر بالدم يتحجر في عروقها، فنهضت أمها من مكانها و قالت بفتور
(كلي أنت وحدك، أرجو أن تكوني راضية الآن).

بقت نورا وحيدة على الطاولة و هي تضع قبضتها المضمومة على فمها، بينما أغروقت عينيها بالدموع...
أما بدور فقد كانت تسير في الرواق الموصل لغرفة أمين بخطوات ترتجف...
ماذا ستقول؟
ما هي الكلمات المناسبة التي تقال قرب النهاية؟
هي تعرف أن حياتها مع أمين قد انتهت منذ أن رأت راجح في سيارته، لذا ليست مصدومة الآن بل كانت ببساطة ميتة المشاعر، تنعي تلك الأيام الجميلة التي عاشتها بين جدران هذا البيت...

وقفت بدور أمام باب غرفة أمين المغلق، و رفعت كفها تنوي طرقه...
الا أنها لم تكن قد وجدت بعد الكلام المناسب
هل ترجوه مجددا أن يغفر زلتها بعد آلاف المرات و التوسلات على مدى الأشهر الماضية؟
لن يغفر
هل تبرر و تبرىء نفسها و تقسم بالله أنها ليست المذنبة هذه المرة في عودة راجح؟
لن يصدق
وجدت بدور أنه لا كلام يمكن له أن يصلح زواجهما، هذا إن كان زواجا من الأساس...
اقتربت بدور من الباب المغلق و همست بخفوت.

أنا أحببتك أكثر من أي انسان في هذه الدنيا، و سيرافقك حبي أينما ذهبت و كيفما افترقنا
ثم تراجعت للخلف و استدارت عائدة الى غرفتها، و الدموع تنساب على وجنتيها بصمت...

في اليوم التالي...
اتجهت بدور الى عملها صباحا بكل تصميم و عينين جامدتين لا تحملان أي شعور...
خرجت من البيت الذي يعمه حالة من السكون القاتم و الكئيب، خاصة بعد خروج أمين الى عمله باكرا دون أن يكلم أحدا أو ينظر لها حتى...
و كان هذا هو ما تتوقعه بعد أن مرت الليلة في صمت و قد ابتلع غضبه و كرامته المهانة...

ربما لو كان صرخ و هدد و ضربها أو حتى طردها لإعتبرت أن الموضوع قد انتهى، لكن صمته أكد لها ما سيفعله...
ما سيحدث لها لن يتعدى الخطوتين، بل ثلاث
أمين سيراقبها و هو على الأرجح يراقبها الآن...
و راجح لن يتركها لحالها رغبة منه في رد صفعتها له، و حتى لو لم تكن قد صفعته فهو لن يتركها لحالها قبل أن يخرب حياتها كما يخرب كل شيء مكتمل يراه و لا يملك مثله...
الخطوة الثالثة و الأخيرة هي النهاية...

نهاية زواجها بأمين للابد، فبمجرد أن يرى تردد راجح عليها، سيطلقها و يرميها كالكلاب الضالة...
هذا ما استنتجته بعد ليلة طويلة من البكاء على حبها الذي قتل سريعا جدا...
و على الرغم من انهيار قلبها، الا أنها اتخذت قرارا واحدا هوا ما جعلها تتجه الى عملها صباحا بعد تفكير طويل.

إن كان قد كتب لحبها الفشل بسبب خطأها في حق نفسها، فهي ستكون متقبلة العقاب بنفس راضية، لكنها لن تقبل أن تمر غيرها بنفس ما حدث لها أو ربما أسوأ، خاصة و إن كانت المقصودة هي رضوى...
الصديقة الوحيدة الحقيقية التي حظت بها في حياتها...
ستنقذها طالما أن زواجها انهار في كل الأحوال...

حين دخلت بدور الى مقر عملهن، كانت رضوى واقفة بجوار النافذة المفتوحة، تضع بعض الزهور في آنية زجاجية و تبدو شاردة الوجه تماما، حزينة العينين، حتى أنها لم تشعر بدخول بدور من الأساس...
ظلت بدور تنظر اليها بضعة لحظات بصمت، ثم قالت أخيرا بهدوء
(صباح الخير)
انتفض رأس رضوى و هي تلتفت لبدور متفاجئة من مجيئها و هتفت
(لقد جئت!)
ردت عليها بدور بنفس الهدوء.

(أليس هذا هو المشروع الذي تعبنا لأجله؟، لم أكن لأتخلى عنه من أجل أي مخلوق مهما بلغت دنائته)
ارتفع حاجبي رضوى بألم و هي تسألها مصدومة
(هل تقصديني بهذا الكلام؟)
أجابتها بدور دون لحظة تردد
(بل أقصد راجح)
زمت رضوى شفتيها و هي تكتم بداخلها غضبا خفيا، ثم أخذت نفسا عميقا كي تحاول تهدئة نفسها قبل أن تستدير الى بدور بالكامل و تقول بخفوت.

(بدور دعينا نتكلم بهدوء، أعرف أنني أخطأت خطأ كبيرا حين أخفيت عنك علاقتي بإبن عمك، لكنني كنت عاجزة عن الإعتراف، محرجة بشدة و أجهل كيف ستكون نظرتك لي، الآن و قد عرفت لنناقش الأمر بتحضر، أنت كنت مخطوبة لإبن عمك و لم يكتمل النصيب، فراح كلا منكما الى طريقه، أنت تزوجت و تحبين زوجك، فهل تنكرين عليه المثل؟ أم أن المشكلة أنه مرتبط بصديقتك؟، أعرف أن الأمر قد يبدو للوهلة الأولى صعبا، لكنه ليس مستحيلا، نحن أناس متحضرين و ناضجين، نستطيع إنجاح هذا، و أعدك أنه لن يدخل حياتك مطلقا).

كانت بدور تستمع الى رضوى بمنتهى الهدوء حتى انتهت تماما و أخفضت عينيها أمام عيني بدور المتفحصتين...
فقالت الأخيرة بخفوت
(اجلسي، أريد أن أحكي لك شيئا)
سحبت رضوى كرسيا و جلست أمام بدور بقلق و اهتمام و التي كانت قد سبقتها في الجلوس و هي تشعر بضعف في أطرافها...
ظلت بدور صامتة للحظات و هي تنظر بعيدا عنها، ثم قالت أخيرا بصوت خال من الشعور.

(ما سأحكيه كان ليكلفني زواجي، ولو أنني واثقة أن زواجي قد انتهى في كل الأحوال، لما أخبرتك و تركتك تواجهين مصيرك جزاء لعنادك و بصيرتك العمياء، لكن راجح لن يتركني لحالي لذا فزواجي في حكم المنتهي لذا سأتكلم)
تعقدت ملامح رضوى و شعرت بالغيرة و الرفض تدب في أعماقها مما جعلها تقول بعصبية
(أنت خرجت من حياة راجح و انتهى الأمر فعلا يا بدور، فلماذا لا تقتنعين بهذا)
نظرت اليها بدور و قالت ببرود.

(كل ما أطلبه منك هو أن تسمعيني حتى النهاية و لا تقاطعيني، هل هذا ممكنا؟)
ظهر الرفض تلقائيا على ملامح رضوى، ربما خوفا خفيا مما قد تسمعه، لكنها أومأت برأسها في النهاية ببطىء...
حينها أخذت بدور نفسا مرتجفا و هي مخفضة رأسها، ثم قالت أخيرا بصوت ميت.

(أنا نشأت في بيت محترم و عائلة كبيرة، لديها عادات و قوانين أكثر قليلا من باقي العائلات، لكن هذه لم تكن مشكلتي فأنا بطبيعة الحال كنت مطيعة لكل القوانين على الدوام دون أي رغبة في ابداء أي تمرد، مشكلتي الحقيقية أظنها كانت مع أبي، أبي رجل محترم الا أن له شخصية تخيف الجميع، شديد التزمت، و يكون في منتهى القسوة مع من يعارضه، و على الرغم من أنني قضيت عمري لم أعارضه أبدا، لكنه كان شديدة القسوة معي، بدعوى أنني فتاة رأس مالها سمعتها و الشدة ستجعلني أرهب الوقوع في أي خطأ، لذا كبرت على الإهانة و الضرب و غلظة الكلام، لم أشعر من ناحيته بأي دلال أو حنان، و جعلني هذا انطوائية و قليلة الكلام و متباعدة عن كل الناس، و حين أصبحت شابة لم أتخيل أن يتقدم أحد لخطبتي بسبب شخصيتي الضعيفة بشكل منفر، و سلمت بأنني لن أتزوج أبدا و لن يرغب بي أي رجل خاصة و أنه لا زميل واحد في كليتنا سعى من قبل للكلام معي حتى ولو كان سؤال عن أي شيء...

الى أن وجدت أمي في يوم من الأيام تدخل غرفتي تكاد تطير من الفرح و هي تخبرني أن راجح ابن عمي قد تقدم لخطبتي وأن والدي قد وافق).

صمتت بدور تلتقط أنفاسها بصعوبة، بينما ازدادت ملامح رضوى تعقيدا و حزنا الى أن تابعت بدور تقول
(سأعطيك لمحة عن راجح، راجح معروف عنه أنه ليس مثال الشاب الملتزم، و قد أوقع الكثيرات في حبائله، لكن وفقا للأعراف العريقة فإن هذا لا يعيب أي شاب بل سيجعله أكثر خبرة و حين ينزوج سيستقر و يكون محترم بين ليلة و ضحاها بطريقة سحرية خارقة...

الحقيقة أن والدي ليس وحده الملام، فأنا حين سمعت برغبته في الزواج مني و أنه فضلني على جميع من عرفهن من نساء أكثر خبرة و جمالا، ولد هذا بداخلي شعور غريب من الرضا و السعادة و الإحساس بأنوثتي، و أن والدي كان محقا في تشدده معي، فها أنا أنجح في الحصول على رجل تهافتت عليه الكثيرات لكنه حين قرر الزواج اختارني أنا، و بالفعل تمت الخطبة و عقد القران كي يتمكن من أن يسأل عني في المدينة اثناء دراستي).

عادت لتصمت و هي تصل الى الجزء المخزي و الأشد قسوة من فصول حياتها، لكنها تابعت بصوت أكثر خفوتا...

(لم أعلم أنني كنت بالنسبة له مجرد وسيلة يشفي بها غله و حقده تجاه أخرى، كان يعاملني بطريقة غريبة من برود و سخرية، ثم لمحة دلال بين الحين و الأخر، فتحولت الى معتوهة احقق كل مطالبه كي لا ينفر مني في يوم من الأيام و يتركني، و حدث في يوم أسوأ ما حدث في حياتي كلها، الخطأ الذي لا أزال ألعن نفسي بسببه كل يوم، انني سلمت له نفسي بعد مقاومة ضعيفة لا تكاد أن تذكر، في السر و في نزوة غضب كان يمر بها فأراد شيء يلهيه عنها، و كنت أنا هذا الشيء).

شهقت رضوى و هي تضع يدها على صدرها هامسة بعدم تصديق
(كنت زوجته! فعلا و ليس على الورق فقط!)
احمر وجه بدور خزيا و هي تهز رأسها نفيا هامسة.

(لم أكن زوجته أبدا، و أظن أنه كان ناويا الا يتمم هذه الزيجة، كنت زوجته سرا دون أن تعلم عائلتي شيئا، و استمر الحال بهذا الوضع لمدة عام كامل، أمنحه نفسي دون اي ثمن أو احترام، و كلما اعترضت هددني بطريق غير مباشر أنه قد يلجأ لأخرى لأنه رجل و لديه احتياجات، فكلما طلبت منه أن نعجل الزفاف حلا لإحتياجاته، كان يتحجج بآلاف الحجج).

صمتت أخيرا و شعرت و كأنها تود لو اختفت من هذا العالم بسبب غبائها الذي لا يصدق...
و ساد الصمت المريع حولهما بينما رضوى تنظر اليها و هي تتنفس بسرعة، شاحبة الوجه، ضائعة النظرات، و حين تكلمت، سعلت مرة بإختناق ثم قالت أخيرا بجفاء
(و ما الذي حدث؟، لما انفصلتما؟)
لعقت بدور شفتيها الجافتين ثم همست بخفوت.

(حدث مشكلة، حيث أقدم راجح على فعل مشين، جعل العائلة تفرض عليه طلاقي و قد فعل هو، بمنتهى البساطة، دون الحاجة لتهديده، و رماني دون أن يسأل كيف سيكون وضعي، فتم الطلاق دون أن يعرف أحد بطبيعة علاقتي به سواه)
همست رضوى تسألها بصوت متقطع
(ثم؟)
ردت عليها بدور بأسى
(حاولت الوصول اليه مرارا، رجوته و تذللت اليه بل و قبلت قدميه كي يتزوجني و يضعهم أمام الأمر الواقع الا أنه رفض و أصر على الرضوخ لأمرهم).

ساد الصمت القاتم مجددا، فنهضت رضوى من مكانها و هي تشعر بالحاجة لنفس عميق ووقفت أمام النافذة شاردة، ثم سألتها دون أن تنظر اليها بصوت غريب باهت
(و تزوجت أمين، لكن كيف أقنعته بتقبل خطئك؟، فعلى الرغم من أننا في المدينة و الأمر أقل خطورة من بلدتكم الا أنه لا يزال خطأ كبيرا و لا يتقبله أي زوج ببساطة)
كان هذا تطفلا من رضوى في الواقع، و كان من الممكن أن تخبرها بدور أنها تجاوزت ما يهمها و لا شأن لها...

لكن خوفها على كرامة أمين جعلها تجيبها كاذبة بإختصار
(أمين شهم، أكثر الرجال الذين عرفتهم شهامة و رحمة، كان يعرف من البداية و عرض على الزواج كي ننهي هذه المشكلة، لذا أنا مدينة له)
قالت رضوى بصوت خافت و هي عاقدة حاجبيها متوترة
(لكنك أحببته في النهاية)
وافقت بدور قائلة بتأكيد و حرارة.

(كلمة حب لا تصف ما أشعر به الآن تجاهه، لكن للأسف حين يبدأ راجح في مهمة افشال حياة أي شخص يريد، فإنه لن يتوقف حتى ينجح في مسعاه، لأنه شخص مريض بمرض الحقد تجاه سعادة الآخرين، لأنه فشل في أن يكون سعيدا)
ظلت رضوى صامتة، شاردة تنظر من النافذة الى البعيد، فشعرت بدور أنها غير قادرة على التحمل أكثر فنضهت لاحقة بها الى أن وقفت خلفها و سألتها بقلق.

(لم تعلقي على أي مما قلته يا رضوى! مستحيل الا يكون لديك تعقيبا على ما حدث!)
استدارت رضوى اليها ببطىء، و كانت ملامحها متخاذلة و عيناها دامعتان، الا أنها حين تكلمت سألتها بجفاء
(هل اغتصبك يا بدور؟)
أجفلت بدور من السؤال المختصر و كان نفس السؤال الذي سأله لها أمين محاولا أن يجد أي عذر لها، لكن مع رضوى كان الأمر مختلف!
ردت بدور بإرتباك
(لا، لكن)
الا أن رضوى قاطعتها قائلة بنفس النبرة المتخاذلة.

(بالطبع لم يغتصبك لأنك تابعت العلاقة على نفس المنوال لمدة عام كامل، لقد أخطأ راجح، لكنك كنت شريكته في الخطأ، فهل من العدل أن تتابعين حياتك و تحبين رجلا مثل أمين و تريدين العقاب له وحده؟)
فغرت بدور فمه ذاهلة لا تصدق ما تسمع حتى أنها تراجعت للخلف و هي تنظر الى رضوى و كأنها تنظر الى معتوهة...
ثم همست برعب.

(أريد العقاب له وحده! هل أنت واعية لما تقولين؟، راجح لم يحصل على أي عقاب على الإطلاق، لقد ابتعد و تركني دون أن ينظر للوراء مرة واحدة، أنا من تعرضت للذل و الإهانة و الضرب حتى أوشكت على الموت، أنا من انحنيت على قدميه أقبلهما فضربني و اتصل بأهلي كي يخبرهم، و أنا التي ستفقد زوجها الآن بسببه، راجح هذا أشد قذارة من وحل المصارف).

انسابت الدموع على وجنتي رضوى و هي تهز ساقها بعصبية و تشنج، الا أنها قالت بإختناق و غضب
(لكل حقيقة وجهان، و هو لو حكى القصة لعرفت أسبابه، يكفي أن أعرف منك أنه كان ماضيا في الزواج لولا أن أهلك أجبروه على الطلاق، لا يوجد رجل سيقبل هذا على كرامته)
صمتت قليلا أمام نظرات بدور المشدوهة الواسعة على أقصاها، فأخفضت وجهها شاعرة أن قلبها يتمزق ببطىء، الا أن بدور همست بعدم تصديق.

(رباه! لقد أجرى لك غسيل مخ! لا أصدق أنك رضوى التي أعرفها، القوية و التي تأبى الإهانة و الذل، و ترفض الظلم)
كانت رضوى تبكي الا أنها هتفت بغضب و هي تجري تجاه حقيبتها لتلتقطها بقوة تنوي الهرب من أمامها
(حتى الآن لم أرى منه أي ذل أو إهانة، و لا أراك مظلومة، لأنه أحبك حبا يستحيل معه أن يفعل ما تقولين، لقد أحبك بإخلاص و هذا ما لمسته في صوته و أنا لن أكذب احساسي بهذه البساطة).

جرت تجاه الباب لا تود سماع المزيد، خوفا، بل رعبا، الا أن بدور وقفت و نادت بقسوة من خلفها
(رضوى، أنت لم تحاولي سؤالي حتى عن الفعل المشين الذي جعل عائلتي تجبره على طلاقي!)
كانت يد رضوى لا تزال على مقبض الباب، الا أنها وقفت ترتجف شاعرة بضغط مشاعر يثقل جسدها كله و يجعلها عاجزة عن الحركة...
لكنها استدارت أخيرا ببطىء ناظرة الى بدور بصمت، فقالت بدور بصوت واضح.

(لقد اختطف ابنة عمنا، كي يجبرها على الزواج منه، في نفس الوقت الذي كنت أنا على ذمته قولا و فعلا)
فغرت رضوى فمها الا أنها سارعت بهز رأسها نفيا و هي تضحك بعصبية صارخة
(لا لا لا، لقد تماديت جدا يا بدور، اختطف امرأة و لم يسعى أحد ليضعه خلف القطبان! هذه الرواية من خيالك ليس الا)
ردت بدور بقساوة دون أن تفقد رباطة جأشها.

(راجح يلعب على السمعة بمهارة، ابنة عمنا بخير و لم يمسها بسوء، مجرد بضعة ساعات كانت كفيلة بأن تفسد سمعتها للأبد فيتزوجها بسهولة، إنه ماهر جدا حين يحب)
كانت رضوى تبكي بصمت و هي لا تزال تهز رأسها نفيا، الا أنها سألتها برفض
(و لماذا يتزوج أخرى وهو يحبك؟)
صرخت بدور بنفاذ صبر.

(راجح لم يحب في حياته سوى امرأة واحدة فقط، و أصبحت هوسه و هاجسه و هي ليست أنا بالتأكيد، افهمي يا غبية، لقد سمعته مرة يقول أنها الملكة و باقي النساء جواري)
تجمدت الدموع في عيني رضوى و هي تتذكر تلك العبارة من بين شفتي راجح، و قد آلمتها وقتها بشدة لكنها تخيلت أنه كان يتذكر فترة ماضية من حياته و أنه غير رأيه المتدني هذا...
لعقت رضوى الدموع عن شفتيها و همست بصوت ميت.

(أنا سأغادر، و لا أعلم متى سأعود، لا أعرف إن كنت سأتابع هذا العمل معك مجددا)
ردت عليها بدور بجفاء
(اذن أنت أكثر ضعفا مما كنت أظنك، أنا سأتابع هذا العمل من هذه النقطة يا رضوى و سأعمل على إنجاحه، قد أفشل مرات لعدم خبرتي الا أنني واثقة أنني سأنجح مرة لأنني في حاجة لهذا العمل بشدة، أما أنت فاسمحي لكهل مشوه نجس أن يدنس حياتك و يشوه شخصيتك للأبد).

استدارت عنها و هي تجلس بعنف فاتحة الحاسوب بقوة، متظاهرة بأنها ستعمل بجدية، لكنها أغمضت عينيها حين سمعت صوت الباب يصفق بعد أن خرجت رضوى...
فرفعت بدور كفها الى وجنتها الباردة الجليدية و هي تنظر أمامها بسكون، و همست لنفسها.

(اعترافك بما فعله معك بصوت عال كان صفعة لك، كيف كنت أنظر لنفسي بهذه الدونية؟، كيف جعلت من نفسي ممسحة لحذائه و أنا أفضل منه و من ألف من صنفه! لا بأس يا بدور، كلما تذكرت سيجعلك هذا أفضل و أفضل، كل يوم سأحقق لنفسي نصرا)
أمسكت هاتفها و كتبت رسالة لأمين خالية من المشاعر.

سأتأخر اليوم في العمل قليلا، فأنا وحدي و كل الفتيات لسن متواجدات، وضعت هاتفها و هي تنظر الى شاشة الحاسوب بعينين فارغتين حتى وصلتها رسالة بعد دقائق. ففتحتها بصمت و كانت من كلمة واحدة فقط ردا من أمين
لا بأس، ظلت تنظر الى الكلمة المختصرة من أمين و هي تدرك ملامحه حين أرسلها جيدا، ثم همست لنفسها بحزن
لا بأس يا أمين، راضية بالنهاية.

ثم أجبرت نفسها على العمل بالقوة، ماحية كل ما حدث في الصباح من ذاكرتها كي تتمكن من التركيز...
لكنها لم تستطع تماما، بل قضت بضعة ساعات في محاولات مضنية حتى استطاعت اجراء بعض الاتصالات و تسجيل معلومات العملاء الجدد و مراجعة جدول الاسبوع...

ربما عليهن البدء في البحث عن سكيرتيرة، لكنها لن تكون سكيرتيرة بالمعنى المعروف، فقط فتاة تبقي المكان مفتوحا باستمرار مع تسجيل مثل تلك المعلومات، كي لا تبقى أي منهن وحيدة في المكان كما هي الآن...
سمعت بدور صوت الباب يفتح من خلفها فظنت أن رضوى قد راجعت نفسها في البيت ثم عادت اليها...
الا أن صوت الخطوات الذكورية من خلفها جعل جسدها يرتعد، فرفعت وجهها ببطىء قبل أن تقول بصوت بارد جليدي دون أن تستدير.

(يمكنك الخروج من حيث دخلت بكرامتك و لا داعي للإهانة)
جلجلت صوت ضحكته المقيتة فلفتها و جعلت القشعريرة تصل حتى أصابع قدميها، ثم قال الصوت المنفر من خلفها بإعجاب
(كم تغيرت يا بدور! لم تكوني تجرؤين على محادثتي بتلك الطريقة من قبل، لكن على الرغم من هذا فإن شخصيتك الجديدة تجعلك شهية، و أتسائل إن كنت قد تغيرت في الفراش أيضا، أراهن أنك أصبحت أكثر براعة و ارضاءا).

شعرت بدور بالغثيان و كانت على وشك أن تتقيأ بالفعل، لكنها رفضت أن تظهر له أي تأثير منه عليها حتى و إن كان القرف...
لذا قامت من مكانها ببطىء و استدارت اليه، فوجدته يستند الى الجدار بجوار الباب...
و الإبتسامة الواثقة على وجهه أخبرتها أن رضوى لم تخبره على ما جرى بينهما من حوار صباح اليوم...
و هذا رائع، سيمنحها بعض الوقت، لذا أمسكت بهاتفها و تظاهرت بعدم الإهتمام تكتب شيئا قائلة في نفس الوقت...

(إن كنت تتوقع أن أصدم بكلامك القذر فأنت الذي أصبحت أكثر سذاجة مما كنت عليه)
عاد ليضحك الا أنها كانت ضحكة ساخرة، قصيرة و قاسية، ثم قال أخيرا ببرود
(ما رأيك بنورا؟، كبرت و أصبحت أكثر جمالا)
ردت عليه بدور ببرود أكبر من بروده مكتفة ذراعيها
(لما لا تطلب يدها من أخيها، صدقني إن فعلت فستريح الجميع منك، لأنه سيقتلك و يلقي بجثتك للكلاب)
ارتفع حاجبيه دون أن يفقد ابتسامته الساخرة و قال بدهشة
(لا شيء يخيفك اذن!).

أجابته دون اهتمام
(لم يعد لدي ما أخاف منه)
ترك راجح الجدار و سار في المكان يتأمله قائلا ببساطة
(لكن لديك ما قد تخافين عليه)
قالت بدور بصوت مرير قاتم
(بفضلك لم يعد، و الآن أخرج من هنا)
نظر اليها راجح بطرف عينيه و قال هازئا
(ليس بهذه السرعة)
ضغطت بدور شيئا ما في هاتفها ثم سألته بنفاذ صبر
(ماذا تريد مني يا راجح؟، لفظتني من حياتك منذ فترة طويلة، ماذا تريد الآن؟)
توقف راجح و قال مبتسما ببساطة
(ربما كنت أريدك).

اقشعر جسد بدور أكثر، الا أنها لم تظهر شيئا و هي تقول بقرف
(هل نسيت أنني متزوجة!)
ضحك راجح وهو يقول بتسلية
(ليس الى وقت طويل، فزوجك الديوث لن يظل هكذا طويلا، من المؤكد ستفور دمائه يوما ما، بصراحة بدأت أشك في مدى رجولته)
ساد صمت قصير و هي تدعو الله أن يجعلها تصمد أمام اهانته لأمين و لا تنفجر حتى ينهي كل ما لديه
فقالت بسخرية
(إن كنت تشك في رجولته فهو أكيد أنك معدومها)
رفع راجح احد حاجبيه و قال منذرا.

(أنت تزيدين الوقاحة و قد لا أتحمل طويلا)
قالت بدور بهدوء
(أرجوك ثر لأجل كرامتك و اخرج)
تنهد راجح قليلا و عيناه تقطران تسلية و سخرية ثم أجابها قائلا.

(اسمعي، أنت لن تبقي متزوجة حتى فترة طويلة، لذا أرى أن خير البر عاجله، احصلي على الطلاق و سأتزوجك، و هذه المرة سيكون زواجا أمام الجميع و ستكونين امرأة بحق كما كنت فأنا شبه متأكد بأن أمين يبقيك في البيت من قبيل الشفقة ليس أكثر، أراهن أنك تقضين الليالي وحيدة في فراش بارد)
ابتلعت بدور الكلام الفاحش بصعوبة و حافظت على جمود ملامحها و هي تسأله بهدوء
(و ماذا عن رضوى؟)
ضحك ضحكة خافتة وهو يقول.

(آه رضوى، صغيرة و لطيفة، حين رأيتها أول مرة شعرت أنها جاءت في وقتها، لكنها لا تجذبني بما يكفي)
سألته بدور بقسوة
(ما الذي يمنعني من اخبارها بما تقول؟)
ضحك راجح وهو يسأل بدهشة
(و تفضحين نفسك!)
ثم أخرج لها هاتفه وهو يقول ببساطة
(خذي اتصلي بها و أخبريها، عامة بعد أن نتزوج ستكون خارج حياتنا في كل الأحوال)
ردت عليه بدور بخفوت
(لا داعي، المهم أن عرضك المخزي مرفوض، و أقصى ما بوسعك يمكنك فعله).

لمع شيء في عينيه، كأنه يراها أدنى من ألا تسقط على قدميه شاكره عرضه الكريم، لكنه سألها في النهاية ببرود.

(و ماذا عما فعله أخاك؟، هل أتركه يمر دون رد؟ لم أتمكن بسببه من حضور عزاء والدي)
لم تفقد بدور هدوئها و هي تقول
(اذهب اليه وواجهه رجلا لرجل، قف أمام رجال العائلة ممسكا بسلاحك و قل لهم العين بالعين، ستطلق عليه الرصاص كما فعل معك لأنك عاشرت أخته في فترة عقد قرانكما و طلقتها بعدها دون أن تعترف بما فعلته قبل الطلاق، هيا اذهب و افعل ذلك و أراهنك أنك ستخرج من عندهم امرأة لا رجل، و ليس على النحو الجيد).

بدت الدهشة الحقيقية على ملامح راجح وهو يقف أمامها ثم قال بصوت قاسي
(بت تتكلمين كالعاهرات)
ردت عليه بدور دون أن تجفل
(كان لي معلما ماهرا)
قال راجح بعد لحظة بنبرة تهديد
(لن أتركك بمثل هذه البساطة)
ابتسمت بدور بسخرية مريرة و هي تتذكر كم كانت تتمنى سماع عبارة كهذه منه حين منحته كل شيء، و ها هي تسمعها منه و هي متزوجة من أفضل رجل في العالم، و على وشك فقده فلن يبقى لها سوى هذا المسخ.

ابتلعت الغصة في حلقها و عجزت عن الكلام للحظات، ثم قالت بخفوت مختنق.

(قديما، رغم كل وضاعتك و دنائتك معي، الا أنني كنت أكيدة من شيء واحد، وهو أنك لم تحب في حياتك سوى امرأة واحدة و هي سوار، و أنك تتصرف بهذا الشكل من فرط ألمك لرفضها لك مرة بعد مرة، لكن الصورة الآن تضح لي كل يوم أكثر، أنت تريد سرقة كل ما لا تملكه ليس الا، و أراهن أنك لو كنت تزوجتها لخنتها مرارا قبل أن تلقي بها أيضا، هذا طبعك و نوعك المدنس لكنك هذه المرة وصلت للحضيض يا راجح، بت تتصرف كالمجانين دون حساب، لأنه لو كنت تحكم عقلك ولو للحظات قبل أن تتصرف ل).

صمتت قليلا ثم أخرجت هاتفها المضيء من تحت ذراعها تمده اليها و هي تقول بهدوء متابعة
(لعرفت أن قاصي سيتصل بك لأنني أبلغته بما تفعل ليلة أمس)
نظر راجح الى هاتفها المفتوح و الذي يتصل و اسم قاصي مكتوب بوضوح أمامه...
علي الفور تلونت ملامحه بلون النار وهو يسمع الاسم الأكثر بغضا لقلبه في الوجود، بل و يراه أمامه
لكنه سألها بصوت ساخر أسود، شديد السواد لو كان لنبرة الصوت لون.

(هل أنا طفل تتصلين بأخيه الأكبر كي يوبخه! ليته حتى اخا بل ما هو الا ابن زانية)
ردت بدور ببساطة
(بل سيخبرك شيء في منتهى الأهمية، و ستندم أشد الندم لو لم تسمعه)
ظل راجح على جموده للحظات، لكن الفضول الغادر و الكره الأعمى تغلب عليه فاختطف الهاتف من يدها ليرد ساخرا
(أخي العزيز، أنا عاتب عليك، كل هذه الفترة دون أن تسأل عن اصابتي! هل هذا جزائي و أنا الذي يترك ابنه معك لفترة كي تتمتع به قبل أن يحرمك منه!).

ساد صمت قصير، ثم وصله صوت قاصي يقول بخفوت و اختصار دون مقدمات
(أنصحك أن تتخلى عن دنائتك لبعض الوقت و تسرع في الهرب لأنني اتصلت بالشرطة و بلغت عن مكان وجودك)
رمش راجح بعينيه بضعة مرات، ثم ضحك بعصبية قائلا
(ما الذي يجعلني أصدقك؟)
رد عليه قاصي بنفس الهدوء.

(لأنني أنا من أبلغت عنك في المرة الأولى، وصلك بالتأكيد أنك مطلوب في عدة اتهامات قد تبقيك خلف القطبان لفترة طويلة كفيلة بأن تنسيك صنف النساء من الأساس، لذا أنصحك أن تستغل الدقائق القادمة و تهرب مجددا، بالطبع بدور و المسكينة صديقتها التي أوقعتها في حبائلك لا تعرفان أنك هارب من العدالة و تظهر في أوقات و أماكن معينة كالوطواط)
تلبدت ملامح راجح وهو ينظر الى بدور المبتسمة شذرا، ثم سأله بشك.

(و لماذا تحذرني طالما أنك سبق و أبلغت الشرطة؟)
رد عليه قاصي قائلا ببساطة
(لأنك أخي على الرغم من كل شيء، و قبل هذا لا أريد لعمرو أن يكبر ووالده مسجون)
ظل راجح صامتا قليلا ثم قال بحقد
(لا أصدقك يا ابن الحرام)
ضحك قاصي بصوت أجش و قال
(اذن قد فعلت ما على فعله و ارتاح ضميري، الآن ابقى عندك الى أن تتأكد بنفسك و حينها سنرتاح منك)
صرخ فيه راجح بعدم تركيز
(اذن لماذا بلغت عني في الأساس أيها الحقير).

أجابه قاصي ضاحكا بكره
(و سأظل كظلك طوال العمر، أبلغ عنك كلما قمت بترصد أحد المساكين، أنت تضيع وقتك الثمين، أنصحك بالاسراع بالهرب)
شتم راجح شتيمة قذرة و ألقى الهاتف من يده بقوة الا أن بدور كانت تتوقع شيئا كهذا فأسرعت بإمساك معصمه كي تحاول خطف الهاتف منه و بالفعل استطاعت الإمساك به قبل ان يقع أرضا...

استدارت بدور لتضع الهاتف على سطح المكتب بينما اسرع راجح في اتجاه الباب و ما أن فتحه حتى توقف وهو يجد أمين واقفا مكانه بملامح مريعة...
تكلم راجح قائلا بتوتر
(أمين!)
ما أن سمعت بدور الإسم حتى استدارت على عقبيها بسرعة و هلع، سرعان ما تحولا الى صرخة مرتعبة و هي ترى أمين يهجم على راجح صارخا بوحشية وهو يقبض على قميصه بقبضتيه حتى سقطا أرضا سويا حين لم تتحمل ساق راجح هذا الترنح المفاجىء...

استغل أمين فرصة سقوطهما فشل حركته وهو يقبض على عنقه ليضربه بكفه الآخر بكل قوته، شاتما بألفاظ لم تسمعها بدور من قبل، فجرت اليهما و حاولت تكبيل ذراعي أمين صارخة
(اتركه يا أمين، اتركه)
لكنها كانت كمن تحاول منع جرار من التحرك، فدفعها أرضا وهو يصرخ
(ابتعدي).

وقعت بدور على الأرض بالفعل متأوهة، لكنها لم تتوقف بل دفعها خوفها على أمين كي تقفز فوق ظهره بساقيها و ذراعيها كحشرة عملاقة، حينها فقط تمكن راجح من دفعهما من فوق ساقيه و ابتعد وهو يجري متعثرا...
و أوشك أمين الجري خلفه الا أن بدور تشبثت بصدره تكاد أن تمزق قميصه صارخة
(كفى أرجوك، أرجوك هو لا يستحق، اتركه ليموت وحيدا بعيدا عنا و ليس بيديك).

و كأن أمين قد انتبه لوجودها فأمسك بذراعيها بقبضتيه بعنف و صرخ في وجهها بوحشية
(بل ابتعدي أنت عني، لا أريد أن أراك مجددا، لا أريدك، لا أريدك)
تجمدت بدور و شحبت ملامحها للغاية و سكنت بين كفيه و هي تنظر اليه بصمت فدفعها عنه و اندفع خارجا دون حتى أن ينظر اليها ولو مرة واحدة...

لا تعلم كم ظلت واقفة مكانها كتمثال متحجر، الغريب أنها لم تبكي، لم تجد في نفسها القدرة أو الطاقة على البكاء، كانت بالكاد تجد بعض الجهد الذي يمكنها من التنفس و الوقوف على ساقيها...
أخيرا حركت بدور رأسها بترنح، قبل أن تتجه بصعوبة نحو هاتفها فأمسكت به و فتحت التسجيلات...
كان صوت راجح واضحا بكل ما نطق به بعد أن سجلته تسجيلا كاملا...
جلست على أحد الكراسي و هي تشعر بإعياء، لاهثة بضعف...

الخطة سارت تماما كما توقعت، فليلة أمس من يأسها اتصلت بتيماء تسألها العون، فاتصل بها قاصي بعد دقائق و أخبرها بما ستفعله خطوة خطوة
فلو جاء راجح الى المكتب كل ما عليها أن ترسل رسالة اليه كي تعلمه بوصوله و بعد دقائق سيتصل بها كي يبلغ راجح عن اتصاله بالشرطة، فلا يجد سوى الهرب مجددا...

أما هي فقد استغلت الخطة كي تزيدها خطوة تسجيل ما قاله كي ترسله الى رضوى، الا أنها قبلا و بواسطة برنامج خاص قامت بقطع الجزء الذي ينطق فيه باسم سوار، و الجزء الفاحش الذي تكلم فيه بقذارة...
ثم أرسلت التسجيل الى رضوى بضربة قوية...
و ما أن فعلت حتى أرجعت ظهرها للخلف زافرة بتعب مغمضة عينيها و كأنها قد تخلصت من حمل ثقيل للأبد...
بعد أن ارتاحت قليلا لدقائق، استقامت و كتبت رسالة قصيرة لرضوى.

آسفة للجرح الصغير الذي أصاب قلبك الآن، لكنه خير من التشوه الذي كان سيسببه لروحك أن أبقيته في حياتك فترة أطول.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة