قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والأربعون

(ماذا تفعلين بالضبط؟)
رفعت مسك وجهها تنظر الى ملامح أمجد المتجهمة وهو يقف من خلفها يداه في خصره، أشعث الشعر و اللحية، لكنه لا يزال جذابا بدرجة تخطف الأنفاس...
حتى انها شعرت بشعور يدغدغ أحشائها غير مألوف لديها، فأسلبت جفنيها قليلا تبتسم ابتسامة عشق...
نعم هي تعشقه بكل جوارحها، و لم تعرف معنى العشق من قبله...

ما سبق و عاشته مع أشرف من قبل كان شعورا طفوليا هزيلا، لا يقارن بالحب العميق الذي تكنه لأمجد حاليا...
التوت ابتسامتها بأناقة و هي تقول بصوت هادىء
(استعد للذهاب للعمل، و ماذا عنك؟ ستتأخر)
استدارت تجلس على حافة السرير و هي ترتدي احد جواربها الشفافة الطويلة واضعة ساقا فوق أخرى، الا أن أمجد جلس بجوارها و جذب الجورب منه ليلقي به بعيدا...
فنظرت اليه مسك عاقدة حاجبيها و هي تهتف
(توقف يا امجد، لا وقت لدي للعب).

الا أنه أمسك بساقها الاخرى يرفعها بالقوة مما جعلها تسقط على السرير و لم يتركها حتى خلعها من ساقها و ألقاها بعيدا ايضا...
استقامت مسك و هي تجلس محمرة الوجه مشتعلة العينين، فأرجعت شعرها للخلف بحدة هاتفة
(صدقني ستستمر في استفزازي حتى يأتي اليوم الذي أفقد فيه المتبقي من تحضري و أضربك كي تكف عن طفوليتك هذه).

الا أن أمجد قبض على معصميها وهو يرجعها مجددا لتستلقي على السرير وهو يعلوها وجهه قريبا من وجهها، ينظر الى ملامحها الغاضبة بشغف، ثم لم يلبث أن فقدت ملامحه جفائها لتحل ابتسامة مستسلمة على وجهه، تحولت الى ضحكة خافتة وهو يهز رأسه قائلا
(مما أنت مصنوعة؟، صدقا أخبريني، مما أنت مصنوعة؟ من لوح ثلج؟، أخشى أن أجرحك فتنزفين بلسما للشعر عوضا عن الدماء الحارة).

زمت شفتيها بحزم تمنع ابتسامة تنوي الخروج اليهما، ثم قالت بملل
(ما الذي تشكو منه الآن بالضبط؟)
لم يترك معصميها و لم تفقد ملامحه ابتسامته المحبة البلهاء، ثم قال بصوت أجش
(ليلة أمس يا سيدة قضيتها بين ذراعي و أنت تبكين و تتوسلين حبي، تترجين الا أتركك مهما حدث، مع اعترافات فقدت القدرة على عدها بالحب)
نظرت مسك بحدقتيها تحاول التذكر، ثم مطت شفتيها و هي تعيد النظر اليه قائلة ببساطة.

(جيد، كان هذا ليلة امس، ماذا تريد الآن؟)
ضحك قليلا و عيناه تتجولان على ملامحها ذات الكبرياء الذي يأسر قلبه، ثم قال بصوت عنيف ممازح
(ظننتك ستتغيبين عن عملك اليوم يا باردة، احتفالا بالمناسبة، فهذه مناسبة تاريخية يتوجب علينا احياء ذكراها كل عام)
ابتسمت بسخرية كاذبة و هي تعض على زاوية شفتيها ناظرة بعيدا عن عينيه المحاصرتين لها...
ثم قالت بدلال مقصود و هي تتلوى بين كفيه.

(هل تريد أن تفهمني، أنه كلما اعترفت لك بالحب، سيتعين على الغياب عن العمل النهار التالي؟)
لمعت عينا أمجد و هما تتجاوبان مع تلوي جسدها في ذلك الزي الرسمي الأنيق، ثم قال لها بصوت يرجو التفاوض...
(لنعقد اتفاق اذن، كلما أكثرت من الإعتراف بحبك، لن يكون من السهل على أن أطلب منك الغياب عن العمل النهار التالي)
ضحكت مسك بعذوبة بينما قلبها ينتفض بسعادة جديدة همجية تطوف بداخلها هادرة ثم قالت بسخرية.

(أنت مفقود الأمل بك، لا أصدق أنك تمكنت من النجاح في حياتك العملية و أنت تمتلك مثل هذه المشاعر)
راقب أمجد حركاتثغرها المبتسم الجميل فافترت شفتاه عن ابتسامة ذات نكهة مختلفة، ثم قال بخفوت
(اي مشاعر امتلكتها سابقا، لا تقارن بما أشعر به نحوك حاليا)
فتحت فمها متفاجئة، الا أنها عادت و أغلقته بقوة مفضلة الا تتكلم، الا أن أمجد سألها بجدية
(كنت تنوين قول شيء)
ظلت صامتة. جفناها منخفضان مما جعله يقول آمرا.

(تعلمين أنه بصمتك هذا أنك أثرت فضولي و لن أتركك حتى تقرين بما كنت تودين قوله)
رفعت مسك جفنيها تنظر اليه، ثم قالت بصوت جميل
(ما قلته للتو، كنت أفكر بنفس الشيء قبل لحظات)
عقد أمجد حاجبيه وهو يسألها بخفوت و كأنه يهمس لها
(ما الذي قلته؟)
ردتت مسك بصوت أكثر همسا
(أي مشاعر امتلكتها سابقا، لا تقارن بما أشعر به نحوك حاليا)
اتسعت عينا أمجد للحظات، ثم سألها بصوت أجش متحشرج
(حقا؟).

أومأت برأسها ببطىء و شعرت برغبة مجددة في البكاء و كأن الدموع التي كانت تحتجزها لسنوات طويلة، تريد أن تتحرر الآن فيضانات لا تتوقف...
أخفض أمجد رأسه وهو يتأوه بتعب ليريح شفتيه فوق عنقها، فكانت تنهيدته أن تحرق بشرتها من شدة المشاعر التي أحسها في تلك اللحظة...
مشاعر منهكة و كأنه وصل الى نهاية المطاف، فرفعت كفيها تحيط بهما رأسه و هي تغمض عينيها ثم همست بصوت خلاب.

(لقد كذبت ليلة أمس حين أخبرتك أنني أكره حبك و أكره تضحيتك، في الواقع أنا أعشق تضحيتك لأجلي، لم يقدم أي مخلوق قبلك على فعل شيء مماثل لي، معك وحدك كنت مسك الرافعي)
قال أمجد بصوت خافت دون أن يرفع رأسه عنها
(كفي عن ذكر كلمة تضحية، رغبتي في قربك لا تعادلها أي رغبة أخرى، حتى الرغبة في الحصول على طفل، تظلين أنت ذات المكانة الأولى في حياتي، ماذا أفعل كي تصدقين و تسلمين بطاقات حبي لك).

أبعدت مسك وجهه عنها، و نظرت الى عينيه، ثم همست بجدية على الرغم من اختلاج صوتها
(قد يكون هناك ما تستطيع فعله كي أصدقك)
همس أمجد دون تردد
(فقط قولي، و سيكون لك ما تريدين)
بدت مسك مترددة قليلا، ثم قالت بصوت خشن متحشرج
(نكفل طفلا).

أغمض أمجد عينيه وهو يفتح فمه متنهدا ينوي الإعتراض بشكل واضح، الا أنها سارعت ووضعت يدها على فمه قبل ان ينطق، ففتح عينيه، ينظر الى عينيها الداكنتين، تلمعان و كأنها تريد البكاء لكنها تمنعه بكل حزم و قوة...
استطاع رؤية حلقها يتحرك بتشنج و كأنها تحاول ابتلاع كبريائها مع تلك الغصة...
فمجرد فتحها للموضوع من جديد على الرغم من رفضه السابق له، يعد تنازلا لم تعتده مسك الرافعي من قبل...

منحها كل الوقت الذي تحتاج كي تستجمع ما تريد قوله، ثم همست في النهاية بحزم
(حين رفضت في المرة الأولى، ظننتها النهاية، نهاية زواجنا، ربما لم تكن النهاية حينها، لكنني تأكدت بأنها النهاية القادمة مهما طال الوقت...
سمعتك تقول بلسانك أنك لا تريد سوى طفلا من صلبك، و كنت صادقا تماما فيما تقول، لذا لم أكن لأنزل من قدري ولو للحظة)
حاول أمجد الكلام قائلا بصلابة
(مسك).

الا أنها شددت من ضغط أصابعها على فمه كي يسكت، ثم قالت بقوة
(لا تقاطعني، الآن تأكدت من حبك لي، تأكدت أن حبك لي، حب خاص، غريب و غير مألوف، ربما كان هذا بسبب مقابلتي لأخيك بالأمس)
أظلمت عيناه قليلا وهو يهمس بصوت أجش
(مصطفى!)
أومأت مسك برأسها ببطىء، ثم همست قائلة.

(في معادلة بسيطة، أدركت أن خسارة مصطفى في زواجه، تعد أقل من خسارتك، و على الرغم من ذلك وقفت امامه و حتى الآن تعترض، بينما تحارب الجميع كي يتقبلون زواجنا، أنت لست شخصا عاطفي مجنون، أنت انسان منطقي، لكنك)
صمتت قليلا و هي تحاول أن تجد الكلام المناسب، فأتمه أمجد قائلا بصوت هامس عميق
(لكنني ببساطة أحبك، و بكل واقعية أرى نفسي رابحا في زواجي بك).

عضت مسك على شفتيها و هي تحاول ألا تبكي جاهدة، ثم همست أخيرا موافقة
(نعم، هذا ما بدأت أصدقه، سألتني ليلة امس إن كنت أريد الطفل لأن غريزة الأمومة لدي تشتاق اليه، أم لأنني كنت أبحث عن حل لجعل حياتنا أكثر استقرارا؟)
أومأ أمجد برأسه منتظرا الجواب دون أن يرد، فأخذت نفسا عميقا ثم قالت.

(السبب الأول هو أن أربطك بي للأبد، حين أغذي عاطفة الأبوة لديك، لن ينقصك شيء، لن تتخلى عني أبدا، لكن لأكون أكثر صراحة معك، أنا لا أنكر أن غريزة الأمومة لدي بدأت تشتعل على نحو مؤلم في الآونة الأخيرة، لقد ظلمتني ظلما كبيرا يا حسيني حين أجبرتني على التداخل مع والدتك و اختك و أطفالها، كنت قد عملت على حماية نفسي و بنيت جدارا عازلا من حولي كي لا أشعر بما ينقصني، و نجحت في هذا لسنوات، حتى بدأت أنزلق في حبهم واحدا تلو الآخر، خاصة كريمة الصغيرة...

و كأنه كان ينقصني المزيد من الألم يا حسيني)
كان هذا دوره كي يسكتها، فأمسك بكفها التي تغطي فمه، ثم أخفضها حتى وضعها على شفتيها و يده تحيط بها...
صمتت مسك و هي تنظر الى عينيه اللاهبتين، ثم تكلم قائلا بصوت خفيض
(لا اريدك أن تحمي نفسك، بحرمانها من الحب، أريدك أن تشعري بكل الحب الذي تستحقين يا ألماس)
أرادت الكلام، الا أنه ضغط على يدها التي تغلق فمها و تابع يقول بصوت أكثر تحشرجا.

(و على الرغم من ذلك، كان هذا سبب رفضي أن نكفل طفلا في بيتنا، حمايتك من الألم)
ارتفع حاجبي مسك قليلا و هي تنظر اليه متسائلة، بينما تنهد بتعب، ثم قال.

(مسك، تستطيعين اللعب مع أطفال مهجة بضعة ساعات أو حتى يوم كامل، لكن في النهاية تعودين الى صدري، تريحين رأسك عليه، لن يكون الوجع بنفس القدر حين ترتبطين بطفل بالكامل و كأنه ابنك، هذا الطفل كم سيبقى معنا؟، في النهاية سيغادر، حينها لن يكون الألم محتملا، سيكون و كأنك تفقدين طفلك، و هذا ما لا أستطيع تحمله أبدا، أردت لك بعض الألم كي أحيي بك الحياة، لكن لا قتلك).

لمعت عينا مسك بالدموع و ارتجفت بشدة تحت أصابعها، فأبعدت يدها و يده عن فمها، ثم قالت بخشونة بينما الغصة تؤلم حلقها
(أنت تدرس حالتي أكثر من اللازم)
ابتسم أمجد على الرغم من صدى الألم الظاهر في عينيه، ثم قال بصوت متحشرج
(ليس لديك فكرة، لم أتعب في حياتي، كتعبي و أنا أتعامل معك، كمن يسير على زجاج مهشم جارح و قاسي).

أغمضت عينيها و هي ترتجف قليلا بفعل الدموع التي بدأت تلسع عينيها، فأخفض أمجد ذراعيه تحت ظهرها، ليرفعها اليه حتى جلس و أجلسها على ركبتيه، فدفنت وجهها في عنقه و هي تبكي بصوت منخفض...
أما هو فظل يداعب شعرها بنعومة هامسا في أذنها
(كم كنت أتمنى أن تبكي على صدري، لكنني لم أدرك بكل غباء كم سيكون هذا مؤلما لي).

تحول بكائها الناعم الى نشيج مختنق، فزاد من ضمها اليه بكل قوته وهو يتابع الهمس في اذنها عن مقدار حبه لها، عن وعود قطعها لنفسه قبل أن يقطعها لها...
و كانت هي تستمع اليه دون أن تجد القدرة على الرد، يكفيها فقط هذا الحضن الآمن...
مرت فترة طويلة، حتى استطاع أمجد أن يقول في النهاية بصوت خفيض مختنق
(هل تريدين هذا الطفل؟).

تسمر جسد مسك على الفور، ثم انتفضت و هي ترفع وجهها اليه، شاحبا تغرقه الدموع الحارة، فمسحتها بأصابع مرتجفة و سألته بخشونة آمرة
(هل أنت جاد؟)
أومأ أمجد برأسه بينما دمعت عيناه، لكنه حين تكلم قال بصوت هادىء
(لو كنت تريدينه و تدركين أنه سيغادر يوما ما، إن أكدت لي أنك ستكونين بخير مهما كانت الظروف، فأنا موافق).

فغرت مسك شفتيها و هي تتنفس بصوت عال شاعرة بالإثارة تجتاحها بقوة، و مضت بضعة لحظات و كلا منهما ينظر الى الآخر، يستجدي منه القوة، الى أن قالت في النهاية بصوت متلهف حار
(أريده يا أمجد، أرجوك)
ابتسم أمجد ببطىء وهو يبعد خصلات شعرها الناعم و التي التصقت بوجهها المبلل، ثم همس بصوت أجش
(لقد تمت إجابة طلبك قبل حتى أن تنطقي بكلمة أرجوك ).

ارتفع صوت أنين غير مصدق من حلقها و هي تهجم عليه تعانقه بكل قوتها فضحك عاليا وهو يرتمي على السرير و هي فوقه، شعرها منسدل على وجهه، فقال بخبث و صدره الذي تعلوه الحبيبة يرتفع و ينخفض بسرعة في إثارة مماثلة...
(هذه ثاني مرة تطرحيني فيها و تعتلين صدري، حين تمنيت بكائك على صدري لم أتخيل أن أحصل على أكثر و أروع مما تمنيت)
الا أن مسك كانت تقبل وجهه بكل قوتها و هي تهمس من بين قبلاتها بجنون.

(اشكرك، أشكرك، أشكرك)
ضحك أمجد مجددا وهو يقول بخشونة
(بنت، بنت، المزيد من تلك القبلات و لن أسمح لك بالذهاب الى العمل فعلا)
الا أن مسك لم تعي لحجم الإثارة التي كانت تعتريه، فقد كانت تعاني من اثارة مختلفة، حيث رفعت وجهها الذاهل تنظر اليه و سألته فجأة
(ماذا تريد؟، صبي أم فتاة؟)
تجمد أمجد وهو يسمع منها السؤال الذاهل المتلهف، فشعر بقلبه يتضخم بقوة، فقال بصوت متحشرج بعد فترة طويلة من الصدمة.

(يمكننا الإختيار فعلا، اليس كذلك؟)
أومأت مسك برأسها ببطىء و هي لا تزال تنظر اليه بذهول، فداعبت خصلات شعرها وجهه...
مما جعله يقول بخفوت
(نحن مميزان اذن)
لعقت مسك الدموع عن شفتيها و همست بقوة
(أنا أريد صبي)
ابتسم أمجد للحظة و عيناه تبرقان، الا أنه لم يلبث أن عقد حاجبيه وهو يقول رافضا
(لا، بالطبع لها، حين يكبر سيتوجب عليك معاملته كغريب و لن أسمح له بالإختلاء معك، كما سيتوجب عليك ارتداء الحجاب أمامه).

ارتفع حاجبي مسك و هي تقول بحيرة
(أنا لست محجبة أساسا!)
قال أمجد بخشونة
(و هل تظنين أنك ستبقين دون حجاب الى أن يكبر الولد! أنت متفائلة جدا، انسي الأمر، ستكون فتاة)
عقدت مسك حاجبيها و هي تقول بفظاظة
(كيف ستبقى معنا في البيت و به فتاة غريبة حين تكبر و تصبح عروس شابة! أنا لن أسمح بهذا)
سألها أمجد ببراءة
(أتغارين على من ابنتي التي سأربيها بنفسي؟)
استقامت مسك لتقول بجدية و حدة.

(كذلك الولد سيكون ابني و سأربيه بنفسي)
استقام أمجد ليجلس وهو يستند بكفيه على السرير، و هي لا تزال جالسة على ركبتيه الا أن كلا منهما صلب الفكر، متجهم الملامح، فقال أخيرا بخشونة
(وجود الولد في البيت حرج، أما الفتاة تكون دائما خجولة، ملتزمة بغرفتها، أنا أحب الفتيات. )
ردت مسك ساخرة غاضبة
(بالطبع تحب الفتيات، لا يا أستاذ، حين تنجب فتاتك الخاصة، يمكنك حينها فقط أن تحبهن)
رفع أمجد حاجبيه وهو يسألها مستنكرا.

(هل تعايريني بأنني لن أنجب فتاة أبدا!)
هزت مسك رأسها و هي تهتف في وجهه مؤكدة
(نعم أعايرك)
ظل كلا منهما ينظر الى الآخر بغضب، الى أن ابتسم أمجد تدريجيا ببطىء، ثم قال بصوت اجش
(بت واثقة من مكانتك جدا بين ليلة و ضحاها يا ألمظ!)
لم تلين ملامحها و لم تبتسم بل قالت بحدة اكبر
(واثقة رغم أنفك)
ضحك أمجد وهو يهز رأسه، ثم نظر اليها و قال بنبرة متوهجة تشع سعادة و حبا.

(أحبك على الرغم من غرورك و صلفك و لسانك الطويل و أنفك الاطول يا ألمظ)
لم تتجاوب معه و لم تبتسم، بل قالت بخشونة آمرة
(لا تغير الموضوع و تظن أن بضعة كلمات حب ستغير موقفي، سيكون صبيا يا حسيني)
رفع أصابعه يتلمس بها وجنتها الحارة، ثم همس لها بنعومة
(لما لا نترك الإختيار للطفل الذي سنشعر به ابننا أو ابنتنا، ما رأيك؟)
زمت شفتيها و هي تنظر اليه بعدم ثقة، لكنها قالت في النهاية بنبرة تشكيك محذرة.

(أنت لن تجبرني، أليس كذلك؟)
هز رأسه نفيا ثم قال بصوت أجش عميق
(لن أجبر على شيء، فهو طفلك في النهاية)
فغرت مسك شفتيها قليلا، فخرج منهما نفسا بطيئا حارا، قبل أن تهمس بعدم تصديق
(طفلي)
أومأ أمجد برأسه وهو يغالب دموعا تريد التسلل الى عينيه، ثم أكد بصوت أكثر خشونة و اختناقا
(طفلك).

و دون أن ينتظر منها ردا آخر، مد أصابعه الى مؤخرة شعرها وهو يسحب رأسها اليه، فتقبلت قبلته بنهم جعله على وشك الجنون، ليس شهوة فحسب، بل شيء اكثر عمقا جمع بينهما و اطاح بعقليهما...
مرت اللحظات المجنونة بينهما و كلاهما بعيدا عن العالم بآلاف الأميال الى أن قاطعهما صوت رنين هاتف مسك...

تذمر أمجد بقوة من الصوت المزعج، الا أنه لم يتوقف عن شغفه القوى ولو للحظة، و كلما حاولت مسك ابعاده عنها لترد على الهاتف منعها وهو يقول آمرا بصوت غاضب
(لا تجيبي)
ضحكت مسك قليلا و هي تحاول التخلص من قبلاته كي تتكلم، ثم همست بنعومة
(ربما كان العمل أو شيء هام)
تذمر أمجد قائلا بإستياء
(لا شيء أهم من وجودك معي في تلك اللحظة و نحن نخطط لمستقبل أطفالنا).

ضحكت مسك عاليا و هي تستسلم للحظات لأصابعه المداعبة، ثم لم تلبث أن دفعته بقوة و هي تقول بحزم
(كفى يا أمجد، دعني أرى من المتصل على الأقل)
ثم التقطت الهاتف ضاحكة و هي ترى العبوس على وجهه و شفتاه الناطقتين بشتيمة همسا...
فقالت هامسة و هي تضع اصبعها على فمها محذرة
(إنها مهجة، احترم نفسك).

ردت مسك على مهجة قائلة بنبرة حاولت جعلها طبيعية بعد لحظات الشغف و البكاء و الضحك و العاطفة الجياشة التي جمعتهما في آن واحد، و على الرغم من ذلك بدت نبرة صوتها مهتزة و هي تنظر الى أمجد شاردة بإبتسامة رائعة...
(صباح الخير يا مهجة)
اجابتها مهجة بتردد
(صباح الخير مسك، أعتذر عن اتصالي في هذا الوقت المبكر، لكن هل أمجد بجوارك؟)
نظرت مسك الى أمجد مجددا، ثم قالت بحذر
(نعم)
أجابتها مهجة قائلة.

(اذن أرجوك تكلمي بصورة طبيعية و لا تخبريه عن سبب اتصالي لأنه سينفعل و لا شك، اسمعيني جيدا، أنا و أمي قررنا دعوة مصطفى و زوجته اليوم، و هي المرة الأولى التي نستقبلها أو حتى نعترف بوجودها، لكن بعد أن جاء الطفلان الى هذا العالم لا نملك حلا آخر، و نحن نريد أن يكون أمجد موجود، و نريد منك أن تأتي معه دون أن تخبريه، كنت لأتصل به، الا أنه سيعرف الحقيقة من مجرد سماع نبرة صوتي).

نظرت مسك الى أمجد مجددا، ثم قالت ببطىء
(أظن الأمر صعب)
قاطعتها مهجة قائلة بتوسل
(أرجوك يا مسك، لابد و أن نضع نهاية لخلافهما فهو يفطر قلب أمي و قد حدث ما حدث)
زمت مسك شفتيها ثم قالت بإختصار
(أعرف لكن، سياسة الأمر الواقع لا يفلح معه)
استقام أمجد ليجلس وهو ينظر الى مسك بإهتمام، فاستدارت عنه، بينما ردت مهجة تقول
(سنحاول، عديني أن تفعلي)
حكت مسك شعرها قليلا، لكنها قالت في النهاية بعدم اقتناع.

(حسنا سأفعل، أراك لاحقا)
أغلقت الخط و تركت هاتفها مستديرة لأمجد الذي كان ينظر اليها متجهما ثم بادرها قبل أن تتكلم
(ماذا تريد مهجة؟، تريد اتناسى ما فعله مصطفى و كأن شيئا لم يكن، اليس كذلك؟)
رفعت مسك حاجبيها و هي تقترب منه الى أن جلست بجواره قائلة
(كانت تدعونا لزيارتهم و تناول الطعام معهم اليوم)
قال أمجد بنبرة غاضبة
(و بالطبع سيكون هو موجودا).

هزت مسك كتفها و هي تقول ببساطة مخفية عنه كارثة أن زوجته أيضا ستكون موجودة...
(هذا شيء أكيد)
قال امجد قاطعا دون تردد
(لن أذهب)
زمت مسك شفتيها و هي تقول بنفاذ صبر
(لقد طال خلافكما أكثر مما يجب وفي النهاية هذه حياته وهو حر بها)
رفع أمجد كفه قائلا بإستياء
(مسك)
الا أنها أمسكت بكفه بين يديها و قالت بجدية
(سنذهب يا أمجد، لأجل والدتك على الأقل، ).

زفر أمجد بقوة وهو يشيح بوجهه رافضا، الا أنها أمسكت بذقنه تعيد وجهها اليه فنظر الى عينيها متجهما ثم قال في النهاية بنبرة حادة
(سنذهب، لكن ليكن بمعلومك، لو جاء على ذكر تلك المرأة ولو لمرة واحدة، سننصرف على الفور)
مطت مسك شفتيها مفكرة، انه لن يأتي على ذكرها فحسب، بل سيأتي بها شخصيا...
لكنها فضلت الا تذكر الامر حاليا...
سألها أمجد أخيرا بخشونة
(ألن تذهبي الى عملك؟).

تلاعبت بشفتيها ابتسامة خبيثة و هي تنهض من مكانها بدلال، ثم قالت و هي تتلاعب بأزرار قميصها متجهة الى الدولاب
(أفكر في ضم اليوم للأمس في إجازة لظروف طارئة)
لاح شبح ابتسامة على شفتيه وهو يراقبها بينما هي تنظر اليه مبتسمة دون خجل، و قد ذابت بينهما كل الحواجز التي رفعتها يوما...

(لو فتح أحدهم أي موضوع يخص تلك المرأة فسنغادر على الفور)
نطق أمجد بتلك الكلمات قبل أن يدقا جرس باب بيت والدته، متشنجا، مظلم الملامح على غير عادته...
و كأنه شخص غريب تماما و ليس أمجد الحسيني الذي تعرفه جيدا...
سوت مسك شعرها و قميصها بهدوء، ثم قالت بصوت هادىء على الرغم من عدم شعورها بالإرتياح.

(هذه خامس مرة تقريبا تتكرم بإسماعي هذا التهديد، اذا كنت رافضا لهذه الزيارة تماما، هيا بنا لنعد الى شقتنا و نحقن الدماء)
زادت ملامحه قتامة و توترا، فألتفتت تنظر اليه بطرف عينيها متوقعة أن يوافق و يستدير متنفسا الصعداء
الا أنه ظل واقفا ينظر الى الباب متجهم الملامح، لا يتحرك و لا ينظر اليها، الى ان قال أخيرا على مضض
(فلننهي الأمر لأجل خاطر أمي، أعرف كم هي مكسورة القلب لخلافنا).

ابتسمت مسك ابتسامة صغيرة خبيثة و هي تسأله
(هل تريد اقناعي أنك تفعل هذا لأجل والدتك فقط؟)
القى اليها بنظرة غاضبة قصيرة وهو يقول دون تردد مندفعا
(بالطبع!)
أجابته مسك دون تردد مماثل
(أنت تكذب يا حسيني، و قد آن الأوان كي تعترف أنك فاشل في الكذب كفشلك في إعداد طبق السلطة الذي تذلني به كل يوم).

فتح أمجد فمه ينوي الإنكار عابسا بشدة، الا أن نظرة واحدة الى عينيها الصريحتين الناظريتين الى عمق عينيه، جعله يزفر بغضب قائلا بإقتضاب
(دقي الجرس، لننتهي من تلك الزيارة)
مدت مسك يدها تنوي دق الجرس بالفعل، الا أنها ترددت للحظة ثم التفتت اليه تسأله بهدوء
(أنت تعتبر مصطفى كإبنك تماما، عادة يحاول الأخ نصيحة شقيقه الأصغر ثم يستسلم في النهاية، لكنك شديد الإنفعال حتى بعد كل هذه الفترة).

لم يرد عليها أمجد على الفور، لكن ملامحه على الرغم من أنها لم تفقد تصلبها و قتامتها، الا أن مسحة من الحزن لونت عينيه المتجهمتين، ثم قال أخيرا بخفوت.

(أنا لا أعتبره كإبني، بل هو ابني فعلا، حين توفى والدي رحمه الله، كان مصطفى يعتبر طفلا، أو أكبر قليلا ربما، لكن يعد طفلا، لا يمكنك تخيل كم كان طفلا ذكيا، أقرب الى العبقرية، على الرغم من عدم حبه للدراسة و الإلتزام بها، الا أنه كان بمجرد مذاكرة بسيطة قبل الإختبارات بعدة أيام يتمكن من النجاح و أحيانا بتفوق، و حين توفي والدي بدأت نفسية مصطفى تهتز قليلا و بدأ يدخل في فترات صمت طويلة، لذا قررت أن أوليه كل رعايتي و إهتمامي كي أعوضه عن فقدانه والده، و كي أرغمه أن يحافظ على نبوغه و يعمل على تنميته، كنت أتوقع له الأفضل دائما، كنت أتوقع أن يصل الى مستوى لن أستطيع أنا الوصول اليه أبدا، لكن).

صمت أمجد وهو يتنهد بعمق، و عيناه تظلمان أكثر بخيبة أمل، لكنه لم يدرك مقدار المشاعر التي ارتسمت على ملامح مسك في تلك اللحظة حتى همست بصوت خفيض باهت
(لم أتخيل أن يأتي اليوم الذي سأطلب فيه من أي رجل أن نتبنى طفلا، الآن فقط عرفت السبب الحقيقي، أنت تستطيع أن تكون والدا لطفل لم تنجبه، ربما خلقت لهذا الفضل)
التفت أمجد ينظر اليها مبتسما تلك الابتسامة التي تذيب قلبها بما تحويه من حنان و حب و جمال...

الا أنها لم تتجاوب مع ابتسامته، بل ارتجفت شفتيها قليلا و هي تنظر للباب، ثم لم تلبث أن نظرت اليه مجددا و سألته بعصبية.

(أمجد، حين تحدثت عن الأثر الذي تركته وفاة والدك بنفس مصطفى جعلني أفكر، هل يجدر بنا كفالة طفل بينما أنا معرضة للإصابة بالمرض من جديد؟، هل من الرحمة أن أعلق طفلا بي ثم يفقدني؟، أنا لم أختار فقدان أمي بهذا المرض و تألمت شديد الألم بوفاتها، لكنني الآن أختار إيلام طفل لا ذنب له بنفس الألم!، هل يعقل هذا؟، الا يجدر بي التوقف عن ايذاء الناس طلبا لسعادتي الشخصية؟).

عقد أمجد حاجبيه بشدة بينما بدا الذهول و القسوة المتألمة في عينيه...
ملامح من الغضب المقترن بالرعب، نعم الرعب، لم يكن هناك أي شك في وصفه...
لكنه لم يجد الفرصة ليرد عليها. فما أن فتح فمه حتى فتح الباب فجأة و أطلت منه مهجة و هي تنظر اليهما بقلق، ثم قالت بصوت خائف
(لماذا تقفان عند الباب و تتهامسان دون أن تدقا الجرس؟).

نظرت اليها مسك بصمت، بملامح هادئة لكن يطفو على سطحها شبح الألم، لكن أمجد لم يرد على مهجة، بل لم ينظر اليها من الأساس، لم يبعد عينيه عن مسك و هو ينظر اليها تلك النظرة الذاهلة، حتى سألها أخيرا بصوت هامس يماثل الذهول في عينيه
(لماذا تفعلين بي هذا؟، و الآن تحديدا، بعد أن عرفت السعادة أخيرا!)
نظرت اليه مسك و قد انحنت زاويتي فمها الجميل، بينما اسائت مهجة تفسير كلامه فقالت بارتباك و هي تنظر الى مسك.

(أرجوك يا أمجد، لا تعقد الأمر، طالما وصلت حتى الباب، فستدخل، لأنك والله لو غادرت فلن يسامحك قلبي أبدا، و لا أحتاج لإخبارك عما سيصيب قلب أمي)
ابتلعت مسك غصة مؤلمة في حلقها و هي تخفض وجهها أرضا. بينما أخذ أمجد نفسا عميقا، وصل صوته الى اذنيها من شدة صعوبته...
ثم أمسك بكفها بيد قوية حازمة وهو يقول
(لندخل).

ابتعدت مهجة عن الباب ليمرا و هي تبتسم لمسك ممتنة على اقناع أمجد، تظن أنه يعرف بوجود زوجة مصطفى، فمطت مسك شفتيها جانبا و هي تتوقع الفضيحة التي ستحدث حتما...
و ما أن دخلا و بنظرة واحدة، لمحت والدة أمجد تجلس في مقعدها المفضل و بجوارها عربة عبد الرحمن و عائشة، و على يمينها يجلس مصطفى مبتسما، متحدي النظرات، متحفز الملامح...
تجلس بجواره سيدة...
سيدة مختلفة قليلا، تختلف عنها و عن مهجة و عن والدة أمجد...

تبدو في بداية الأربعينات من عمرها و إن كان يصعب تحديد عمرها على وجه الدقة...
جميلة لكنها ليست فاتنة، محجبة تقريبا، الا أنها تظهر من حجابها غرة كبيرة شقراء و مصففة بعناية...
ربما كانت تلك الغرة هي اثباتها الوحيد على بعض الشباب المتبقي و إنكارها لفارق العمر بينها و بين زوجها، لكن الفرق ظاهر للعيان...

توقفت مسك عن تأملها لزوجة مصطفى حين شعرت بكف أمجد تعتصر أصابعها حتى كادت أن تحطمهم. فنظرت اليه بتوجس، لكن صدمتها تلك القسوة الظاهرة في عينيه و التي تتنافى مع كونه أمجد الحسيني...
حين طال الصمت المتوتر المخيف بين الجميع، ظهر الغضب على ملامح مصطفى، الا أنه نهض من مكانه ببطىء وهو يقول بجمود
(هل ستظل واقفا مكانك طويلا؟).

لم يرد عليه أمجد، مما جعل الصمت شديد الحرج، خاصة و أن ملامحه قد تحولت الى قسوة غاضبة، ماثلت الغضب الذي بدأ يتزايد على ملامح مصطفى وهو يشعر بالإهانة...
أما والدتهما فقد انحنى حاجباها بحزن و انكسار خاطر، تشعر بالغضب الساري بين ولديها دون الحاجة لعينين كي تبصره...
لذا شددت مسك قبضتها على كف أمجد و هي تحيطها بكفها الآخر هامسة
(أمجد، أرجوك).

ظل أمجد على صمته لفترة أطول وهو ينظر الى مصطفى بعينين قاتمتين، ثم لم يلبث أن تحرك تجاه والدته وهو لا يزال ممسكا بكف مسك. لا يتخلى عنها أبدا...
حتى انحنى الى أمه يقبل جبهتها قائلا بهدوء
(كيف حالك اليوم يا وجه الخير)
ابتسمت أمه مستبشرة الملامح بلهفة. رافعة وجهها اليه و هي تربت على كتفه ووجنتيه تتحسسهما بحنان ثم همست بحرارة
(أصبحت بخير الآن بعد أن سمعت صوتك فقط).

تعقدت ملامح مصطفى أكثر وهو يسمع كلام أمه العفوي و الذي كان واضح المعنى، الا أنه لم يعلق...
انحنت مسك هي أيضا تقبل وجنة والدة أمجد، و التي احتضنتها بقوة هامسة
(أهلا أهلا بالغالية زوجة الغالي، أهلا يا مسك حبيبتي، تعالي اجلسي بجواري أنت و امجد)
جلست مسك على الأريكة بالقرب منها، يلاصقها تماما أمجد و الذي لم يترك كفها بعد، بينما انزاح مصطفى و زوجته للمقعدين الآخرين...

و لدهشة مسك كان أمجد هو من تكلم فوجه كلامه الى مصطفى قائلا بهدوء
(اذن، كيف حالك؟، كيف تبلي في الحياة؟)
زم مصطفى شفتيه وهو يمد يده يمسك بكف زوجته عن قصد قائلا دون حذر...
(أنت لم تلقي التحية على أمينة).

عاد الجو ليتوتر أكثر، خاصة و أن زوجة مصطفى رفعت ذقنها عن قصد، و من نظرتها استطاعت مسك تحديد شخصيتها، امرأة ليست بهينة أبدا و لا تفقد أعصابها بسهولة، الا أنها تستطيع التحدي و الوقوف تجاه من يحاول يواجهها بنظرة قد تجمده في مكانه حيا، الا أن أمجد قال ببساطة وهو ينظراليها نظرة عابرة
(زوجتك لا تحتاج الى تحية).

برقت عينا مصطفى بتحفز و استطاعت مسك رؤية مفاصل أصابعه التي ابيضت من شدة غضبه في تلك اللحظة، بينما تابع أمجد بصوت لا يحمل أي تعبير
(اليست زوجتك! أهلا بها في أي وقت)
أغمضت مسك عينيها براحة و هي تتنفس الصعداء، بينما لم ترتاح ملامح مصطفى و زوجته تماما، و في نفس الوقت لم يستطيعا الرد على كلام أمجد العفوي...
لكن أمينة كانت أقوى مما توقعت مسك، فقد ابتسمت و هي تقول بتهذيب.

(أشكرك يا أمجد هذا هو العشم مهما كان، و بالمناسبة مبارك لزواجك، فرحت من قلبي حين أخبرني مصطفى، أنت لا تعلم ماذا تمثل له، و زواجك كان أكثر ما يتمناه كي تجد السعادة أخيرا)
ارتفع حاجبي مسك بدهشة من طريقة مخاطبتها له، بينما قال أمجد يشاركها نفس أفكارها
(أمجد!)
تحول الجو من حولهم الى موجة من التوتر الخانق، لكن أمينة لم تتراجع بل قالت بهدوء مخاطبة مسك بنبرة تحدي و ثقة في عمرها.

(لا تشعري بالدهشة من مخاطبتي لزوجك باسمه مجردا دون ألقاب، فأنا أكبر منه سنا)
ثم نقلت عينيها الى أمجد متابعة
(أرجو الا تكون مستاءا من هذا)
ضاقت عينا أمجد دون رد، لكن مسك هي من قالت بهدوء أكبر
(في الواقع أنا أمانع، الحفاظ على الألقاب به نوع من التهذيب الى أن تهدأ النفوس تماما، و لهذا نحن هنا، كل شيء بالتدريج سيكون ممتازا).

الآن تحول التوتر الى جليد صقيعي جعل الجميع يتشنجون مما يحدث، فسارعت مهجة تقول بسرعة و عصبية
(مسك، تعالي معي، أحتاج الى مساعدتك في المطبخ)
حاولت مسك النهوض، الا أن كف أمجد شددت على يدها للحظة، مما جعلها تنظر اليه مبتسمة و هي تهمس بسخرية
(لن أهرب الى أي مكان، اطمئن)
فترك كفها على مضض و هو ينظر الى عينيها دون أن يبتسم، فتبعت مسك مهجة في طريقهما للمطبخ و هي تشعر بعيني أمجد تنفذان عبر ظهرها...

كانت تشعر بنوع من التوتر، ربما لأنها لا تضمن رد فعل أمجد حتى هذه اللحظة، لكنها تظاهرت بالعكس، فدخلت الى المطبخ ترفع الأغطية عن الأوعية، ثم قالت مبتسمة بإختصار
(رائحة شهية، سلمت يداك)
الا أن مهجة أغلقت الباب و اتجهت الى مسك بسرعة قائلة بصوت خافت عصبي
(ما الذي تفعلينه يا مسك؟)
استدارت مسك تنظر الى مهجة رافعة حاجبيها ثم قالت بعدم فهم
(ماذا فعلت بالضبط؟)
اشارت مهجة للخارج و هي تهتف بصوت خفيض.

(طلبت منك أن نهدىء الوضع بينهما، لا أن تقومي برفع تلك الحواجز الباردة بينهما من جديد!)
رفعت مسك معلقة من الطعام تتذوقه ببساطة، ثم قالت بهدوء
(أنا لم أرفع أي حواجز بين أمجد و شقيقه، الا انني أصر على ابقاء الحواجز بينه و بين زوجة أخيه)
هتفت مهجة بحنق
(لماذا؟، ما الداعي من تلك المكابرة؟)
استدارت مسك اليها، ثم استندت الى الطاولة خلفها و هي تنظر الى مهجة بعينين متفحصتين، ثم سألتها فجأة.

(هل كنت تتواصلين مع مصطفى و زوجته خلال الفترة السابقة؟)
تغيرت ملامح مهجة قليلا، الا أنها قالت بتوتر
(بالتأكيد، من الحين للآخر كنت أراهما)
ظلت مسك صامتة للحظات، ثم رفعت حاجبها و هي تقول
(أنت تتعاملين مع زواجه بصورة مرنة)
عقدت مهجة حاجبيها و تراجعت تستند الى الرف خلفها مقابلة لمسك ثم قالت بإختصار
(و ما العيب في ذلك؟)
ردت مسك تقول بنفس النبرة الهادئة.

(لا عيب اطلاقا، أنا فقط أشعر ببعض الحيرة من تقبلك لزوجة مصطفى أكثر من تقبل زواج أمجد بي، ألهذه الدرجة يعد الأطفال أهم من تنازل مصطفى عن دراسته و زواجه تكبره بخمسة عشر عاما؟)
نظرت مهجة الى مسك طويلا بصمت و مسك تبادلها النظر أيضا دون أن تحيد بعينيها عن نظراتها...
الى أن هزت مهجة رأسها نفيا ببطىء، ثم قالت متنهدة.

(لا، زواج مصطفى و تركه لجامعته كان صدمة لنا جميعا، لكن ببساطة، أعرف أنه سيعود لعقله، و هذه هي عاقبة زواجهما المتهور، يوما ما سيتجاوز مرحلة التمرد التي يخوضها، لن يستطيعا التفاهم طويلا، و سيدرك عمق الخطأ الذي ارتكبه بعد أن تفترق بهما طرق التفكير و النضج، حتى بعد انجابهما للطفلين، لهذا أعتبر زواجه أمرا واقع علينا تقبله كي لا يبتعد مصطفى عنا للأبد، أما مع أمجد فالأمر يختلف).

صمتت للحظة، فسألتها مسك بخفوت
(كيف يختلف؟).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة