قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع عشر

(أرجوك لا تغلقي الخط، أريد أن أراك)
منذ أن وصلها صوته الرجولي الملح عبر هاتفها و هي لا تنفك تعيد تلك العبارة همسا بداخلها مرة بعد مرة...
لا تتذكر بماذا أجابته و الى متى ظلت صامتة...
كل ما تعرفه أنه ألح عليها بتهذيب و هي بدت متلجمة تماما، فسألها إن كانت عادت الى البيت، فأجابته بصوت خافت متعثر
(أنا، أقف في محطة انتظار الحافلة)
حينها أجابها بصوت متلهف ثابت.

(جيد، أخبريني أي واحدة و سآتي اليك خلال دقائق)
و ها هي منذ دقائق لا تزال واقفة تفرك أصابعها بتوتر تنظر حولها بقلب خافق كمراهقة تنتظر حبيبها بعد المدرسة...
ابتسمت قليلا بحزن و هي تسأل نفسها الى متى ستظل تفكر بنفس الطريقة الوردية المشاغبة...
لقد كبرت و تزوجت زيجة بائسة و تطلقت، و بعدها بدأت حياة أخرى مختلفة عن تلك التي تأملت فيها خيرا، ثم عادت الى نقطة البداية من جديد، بل الى أسوأ منها.

فقد عادت الى بيتها، أو الذي كان بيتها يوما، مطلقة و تعد فردا ثقيلا، على أسرة استقرت في غيابها...
فأصبح لسان زوج اختها الحاد، كسم تفطر عليه صباحا، و تنهي به يومها مساءا...
الى متى ستستطيع روحها المتمردة هذه المعاملة، و كونها غير مرغوب بها في الشقة، على الرغم من التمثيل الرخيص الفاشل، الذي يبديه عادل وهو يلومها على سكنها بعيدا و جلب الأقاويل لأسرتهم...

تنهدت تنهيدة عميقة، عميقة، حتى أن صوتها كان مسموعا...
حافلة مرت، تلتها حافلة، و هي لا تدري ماذا تنتظر؟، أو من تنتظر...

أما هو، فقد وقف للحظات يراقبها من بعيد...
كانت تبدو مختلفة، عن تلك السيدة الواثقة من نفسها التي عرفها خلال فترة إقامتها وحيدة في بنايتهم...
بها شيء يبدو و كأنه انطفأ، فقد وقفت مهملة الشكل، باهتة الملامح، فوضوية الشعر بشكل واضح...
لكن نظرتها كانت حادة متحفزة تجاه أي من يحاول أو يفكر في الإقتراب منها...

فقد كانت ترمق كل رجل يقترب منها شزرا، مما يجعله يبتعد عنها تلقائيا و كأنه أدرك أنها تسعى للشجار مع أي كائن ذكوري، بدت متحفزة و متوترة، لكنها تراقب الطريق...
ترى هل تنتظره فعلا؟
لم يسأل نفسه مرة أخرى، بل قطع الطريق الى أن وصل اليها فإنتبهت اليه على الفور...
لاحظ أنها ارتبكت و تراجعت خطوة، قبل أن تمد أصابعها لتعدل من وضع خصلات شعرها خلف أذنيها بحركة خرقاء علها تصلح مظهرها قليلا...

ساد الصمت بينهما و كل منهما ينظر الى الآخر بحذر، الى أن بدأ هو الكلام قائلا بهدوء
(كيف حالك؟)
أومأت ياسمين برأسها و أجابته بهمهمة غير مفهومة، ثم أخفضت عينيها تنظر الى الأرض و هي تشعر بإرتباكها يتزايد...
نظر أمين حوله ثم قال بصوت أكثر خفوتا
(أرجو الا أكون قد أخرتك كثيرا عن موعد عودتك؟)
رفعت عينيها تنظر اليه ثم أجابت و هي تهز كتفيها
(في كل الأحوال أنا أتأخر عن موعد عودتي).

نظر أمين الى الطريق، ثم أعاد عينيه الى عينيها و قال بإستفهام
(تتأخر الحافلات على ما أظن، و حين تصل تكون شديدة الإزدحام فنتظرين أخرى، اليس كذلك؟)
كانت ياسمين تنظر اليه بصمت وهو يثرثر في حديث غبي لا معنى له...
لقد قطع المسافة اليها كي يقف معها على محطة الحافلات متحدثا عن سوء أوضاع وسائل المواصلات في العصر الحديث...
لكنها قررت مجاراته في لعبته، بالعكس، و بالصدق تماما متخذة أسلوب الصدمة...

لذا هزت كتفيها بلامبالاة، وأجابته قائلة بهدوء
(هذا يحدث كل يوم تقريبا، لكنه ليس ما يؤخرني عن موعد عودتي)
عقد أمين حاجبيه قليلا و سألها بعدم فهم
(ما الذي يؤخرك اذن؟)
أجابته ببساطة ووضوح مع نبرة من التحدي
(أنا أتعمد التأخير، أجلس في الحافلة و أقطع تذكرة بعد أخرى لتلف بي دورة بعد أخرى، و حين أكتفي، أخرج منها عند بيتي)
ارتفع حاجبي أمين وهو ينظر اليها بدهشة، ثم سألها بصدمة.

(لماذا تفعلين هذا؟، هل هذه وسيلة للترفيه عن نفسك؟)
ابتسمت ياسمين و هي تنظر اليه ببرود ثم أجابته بنبرة جامدة
(امرأة في مثل سني من المؤكد ستجد طرقا أكثر اثارة للترفيه عن نفسها، كإيجاد صديقات جدد مثلا و دعوتهن الى بيتها، لا التجول في الطرقات)
زفر أمين ببطىء وهو ينظر بعيدا متحملا مزيدا من التقريع الخفي، و راقبته هي وهو يبدو على حافة التوتر و قد أرضاها هذا بشدة، لذا تنازلت و تابعت كلامها موضحة.

(أنا أتعمد تضييع الوقت، عندا مع زوج أختي)
انتفض رأس أمين وهو يعيد عينيه اليها ليسألها بدهشة
(تتعمدين ماذا؟، لماذا؟)
أخذت ياسمين نفسا عميقا و هي تنظر بعيدا بينما النسيم البارد المسائي يداعب خصلات شعرها و ينثرها في فوضى أكبر مما كان عليه، ثم كتفت ذراعيها و قالت بخفوت.

(أنا في حرب يومية، زوج أختي يحاول فرض الأحكام العرفية على، بما أنني مطلقة و أتسبب في كثرة الأقاويل من حولي، فيزيد من حصاري و العمل على زيادة كرهي للسكن معهم، و أنا لا أقبل بتلك المعاملة، لذا)
نظرت الى وجه أمين المندهش و هزت كتفها مجددا قائلة بلا مبالاة
(أتعمد أستفزازه و تحدي أوامره البلهاء و التي لا تسري على زوجته أصلا).

كان أمين ينظر اليها عاقدا حاجبيه مفكرا، كم هي امرأة في داخلها روح تمرد و تهور حمقاء، تختفي خلف هذا القناع الهادىء و الخجول لوجهها البسيط المتورد...
لدرجة أنها تقف معه على قارعة الطريق تحكي له عن بعض الأمور الخاصة و تنظر اليه بتحدي هو الآخر، منتظرة منها أن يلومها أو يزيدها تقريعا، كي توقفه عند حده...
كل هذا ظاهرا في عينيها البنيتين الشاخصتين اليه بحاجب مرتفع...

فتح أمين فمه ليجيبها، الا أن رجلا كان يمر، فضيق عليهما المكان مما جعل أمين يقف بينه و بين ياسمين كحائلا كي لا يلامسها، و ما أن تجاوزهما حتى أخفضت وجهها و هي تدس خصلات شعرها خلف أذنها من جديد و قد تورد وجهها درجة إضافية...
تكلم أمين بصوت أجش خفيض ناظرا الى رأسها المنخفض و قال.

(ربما كان خائفا عليك فقط، من واقع أنه رجل البيت بعد وفاة والدك، لو كنت مكانه لفعلت نفس الشيء مع شقيقة زوجتي، لن أغسل يدي منها و كأنها لا تعنيني)
بهتت ملامحها و ظهر شيء غريب على وجهها الجانبي المنخفض، طيف من تشوق أو ربما أساء تفسير ملامحها...
فقد رفعت وجهها و نظرت اليه بنفس النبرة المتحدية لتضحك بسخرية قائلة
(حقا! أنت بالفعل تفعل مثله، أنت مثله تماما، تحاكمني لأنني مجرد امرأة مطلقة).

اشتعلت بداخله طاقة من غضب مفاجىء، جعله يرد عليها بحدة عنيفة
(إياك و تشبيهي به، أنا لست عاطلا أسعى الى سرقة مكاني في شقة نساء بعد وفاة عائلهن الوحيد، و خلافي معك لم يكن لأنك مطلقة، لقد أوضحت هذا أكثر من مرة و لن أعيده مجددا)
الا أنها هتفت بحدة مماثلة و هي تشير اليه بإصبعها قائلة
(بلى فعلت، في أول مرة أخبرتني أنك لا تقبل بصداقتي بأختك لأنني مطلقة)
رد عليها أمين منفعلا.

(و لأنني لم أكن أعرفك، كانت هذه هي تكملة الحوار فلا تقومين بقص ما لا يعجبك)
ردت عليه بقوة متحدية
(و هل تعرفني الآن؟)
رد عليها متبرما
(بالتأكيد، مضى أكثر من عام و نحن في نفس القصة البائسة و الخلافات السخيفة، لذا بتنا نعرفك جيدا، و نعرف الى أي حد يمكنك استفزاز أكثر الناس صبرا)
فسألته دون مقدمات و هي تنظر الى عينيه
(هل تثق بي؟، كصديقة لأختك مثلا، أدخل بيتها و تدخل بيتي؟)
قال أمين بفظاظة.

(لا يمكنك دخول بيتنا كما تريدين، هناك رجل في البيت، الذي هو أنا بالمناسبة، لماذا لا تقدرين أنك لا تسكنين بمفردك في هذا العالم و أن هناك مجتمعا من حولك عليك احترام حدوده)
أجابته ياسمين و هي تكاد أن تعلو على أطراف أصابعها كي تجابهه بتحدي
(أنا أفرض مثلا فقط، فأنا لست تواقة للتواجد أنت فيه)
تراجع رأس أمين للخلف و سألها بتحدي مختلف مستفز هذه المرة
(حقا! ليس هذا هو الإنطباع الذي أخذته!).

شحب وجه ياسمين فجأة و هي تتراجع خطوة بعد سؤاله الهادي البسيط وهو ينظر الى عينيها.
هل كانت مفضوحة أمامه الى تلك الدرجة؟
نعم لقد سعت الى جذب اهتمامه طويلا، و فعلت كل شيء ممكن كي ينظر اليها، لكنها لم تتخيل أن تكون قد كشفت نفسها بهذه الطريقة المخزية!
كانت تظنه مجرد شاب خام، لا يفهم في طرق جذب النساء لنظره...
ابتلعت ريقها بتوتر و قالت بصوت مرتبك
(لماذا طلبت رؤيتي؟، لتهينني أكثر؟).

أخذ أمين نفسا عميقا و نظر اليها مجفلا، ثم هز رأسه ببطىء وهو يقول بخفوت
(أتيت كي أعتذر منك عما بدر مني)
قالت ياسمين بصوت باهت و هي تتجنب النظر اليه، (سبق و اعتذرت، لم يكن عليك أن)
الا أنه قاطعها بصوت أكثر خفوتا وهو ينظر الى سيدتين جالستين على أحد مقاعد المحطة تتابعان الحوار بإهتمام
(أنا، قصدت ما حدث بعد هذا).

رفعت إحدى السيدتين حاجبيها و هي تميل برأسها كي تستمع الى المزيد من التفاصيل، فتأفف بصوت عال بينما شحبت ملامح ياسمين و هي تهمس بصوت مصدوم
(أمين، لا تفتح هذا الموضوع، كنت أظنك من اللياقة بحيث لن تطرق اليه)
أجابها بغضب مكتوم
(كيف لا أتطرق اليه و أنا السبب في تركك للبناية و العودة الى شقة والدتك)
أسبلت ياسمين جفنيها وهي تود لو أن الأرض تبتلعها مجددا، ثم قالت بصوت مختنق من الخزي.

(كنت أظن أن هذا ما تراه أفضل للجميع)
رد عليها محتدا...
(بالطبع أفضل لك أن تعودي للسكن مع أمك، لكن لا أن أكون أنا السبب و بهذه الطريقة! صدقي أو لا، فهذه هي المرة الأولى التي أتصرف فيها بهذه الطريقة)
نظر الى السيدة عن عمد فنظرت الى الطريق بسرعة مرتبكة، فأعاد نظره اليها زافرا بحدة، بينما كانت هي تضغط أصابعها بشدة حتى خدشت باطن كفها، ثم قالت أخيرا دون أن ترفع رأسها.

(إن صدقتك، فهل تصدق بأنني، لم أكن يوما بطيئة في ردة فعلي الى هذه الدرجة، و لم أكن يوما متهاونة في أمر خطير كهذا، هل تصدق بأنني أجفلت و، و، لا أعلم)
رد عليها أمين قائلا بهدوء و تأكيد
(بالطبع أصدقك، لو لم يكن هذا هو ظني لما أتيت كي أعتذر لك، ياسمين أنا)
خرج اسمها من بين شفتيه دافئا كما لم ينطقه رجل من قبل، فنظرت اليه بقلب خافق مجنون الى أن تابع بصوت أكثر خفوتا.

(أنا آسف لأنني تماديت، و آسف لأنني السبب في عودتك الى حياتك الصعبة، على الأقل أن يكون القرار قرارك، لا أن تكوني مجبرة عليه بسبب تصرفي)
ارتجفت شفتي ياسمين بشدة، الا أنها قالت بصوت غريب
(ربما، كان تصرفك هو السبب فعلا، كي أدرك أنني لست أهلا بعد للسكن بمفردي)
أومأ أمين قائلا ببطىء
(نعم، أنت لست أهلا للسكن بمفردك، لكن لا تأخذي كلمتي كإهانة فأنت لم تستطيعي صد رجل تجاوز معك، أنا حقا آسف).

ظلت ياسمين صامتة، غير قادرة على النطق الى أن قال أمين في النهاية بصوت محبط
(لقد وصلت الحافلة على ما يبدو)
نظرت ياسمين الى الحافلة المقتربة، ثم قالت بقنوط و خيبة أمل
(نعم، هذه هي)
نقل أمين عينيه بين الحافلة و بينها، ثم قال مسرعا
(كيف يمكنني الإطمئنان عليك؟)
وجدت الإبتسامة تشق طريقها على وجهها ببطىء و سعادة، ثم ردت بحياء
(لديك رقم هاتفي، يمكنك الإتصال بي)
ارتبك أمين قليلا و سألها مضطربا
(يمكنني؟).

أومأت ياسمين برأسها دون أن تفقد ابتسامتها الجميلة، ثم اقتربت من الحافلة كي تصعد، الا أنه ناداها
(ياسمين)
التفتت اليه متسائلة، فقال بصوت هادىء
(لا تبقي في الحافلة، عودي الى بيتك مباشرة)
ازدادت ابتسامتها اتساعا، و استدارت كي تصعد الحافلة فناداها مجددا قائلا
(هل يمكنني أن أقطع لك التذكرة على الأقل؟)
كانت قد صعدت فالتفتت تنظر اليه ضاحكة و هي تهتف
(لا، لا يمكنك، عد الى بيتك).

بدأ الناس يتذمرون من خلفه لإعاقته وصولهم الى سلم الحافلة، فابتعد عن طريقهم بعد أن رآها تدخل و تجد كرسيا خاليا بجوار النافذة...
فظل واقفا ينظر اليها وهي تبادله النظر مبتسمة، الى أن رفع يده ملوحا لها، فأخفضت وجهها المبتسم بخجل، حتى ابتعدت الحافلة، فنظر حوله مجفلا من تصرفاته، ثم همس لنفسه بصوت أجش
(ما هذا الذي تفعله يا ابن الحاج راشد؟).

عادت ياسمين الى بيتها محملة على أجنحة السعادة...
و كأنها عادت طائرة فوق غيمة وردية، لا حافلة مزدحمة للنقل العام، أغلقت باب البيت و استندت اليه تتنفس بسعادة و توهج، ناظرة السقف و هي تشعر بأن قلبها يزيد من ضرباته بشكل متسارع قوي...
(لماذا تأخرتي حتى هذه الساعة؟).

اخترق الصوت السمج الحالة الجميلة التي تعيشها، فبدد الغيمة و فتتها تماما، استقامت ياسمين ناظرة الى زوج أختها و على الفور ارتدت الوجه الأسمنتي و أجابته بفظاظة
(و ما دخلك؟)
تلبدت ملامحه وهو يهدر بها قائلا.

(احترمي نفسك يا ياسمين و أجيبي على سؤالي، لقد حذرتك من أن تعيشي في هذا البيت كما يحلو لك، و ها أنت منذ أتيت الى هنا، تعودين بعد العشاء كل يوم، علما بأن عملك ينتهي في تمام الثالثة، أي أنه على أقصى تقدير و مع ازدحام المواصلات ستكونين هنا في الرابعة عصرا على الأكثر)
سارت ببطىء متمايل و هي تنظر اليه متحدية، ثم قالت.

(للمرة الأخيرة، لا تتدخل في حياتي يا عادل و اهتم بزوجتك من باب أولى، فهي تخرج كل يوم لإبتياع أغراض البيت حتى العشاء و أحيانا بعده، بما أنك رجل حار الدماء و متفرغ كما أرى، كان عليك أن تعرض أنت النزول. لتبقى هي في بيتها معززة مكرمة. خاصة وأنها على وشك الولادة)
حاولت أن تتجاوزه الا أنه اعترض طريقها و هتف فيها بحدة.

(ها قد بدأتي في بث السم بيني و بين أختك كي تفسدي حياتها، تحاولين أن تبثي النقمة فيها على حياتها كي تتحول الى مطلقة مثلك، هذا ما تتمنينه من كل قلبك)
ابتسمت ياسمين ببرود و قالت بإختصار
(نعم هذا ما أريد، ابتعد عن طريق الساحرة الشريرة الآن كي لا أحولك الى قرد)
صرخ فيها بعنف
(ياسمين، لا تتطاولي و الا وجدتي كفي على وجهك)
وقفت أمامه مكتفة ذراعيها، رافعة وجهها اليه و قالت ببرود و تحدي.

(افعلها، أفعلها أرجوك، أريد أن أرى كفك على وجهي، أريد أن أراك تحاول على الأقل أرجوك)
فتح الباب و دخلت أختها و هي تحمل العديد من الأكياس و الأغراض مترنحة بفعل حملها في الشهور الأخيرة، لتغلقه خلفها ثم نظرت الى ياسمين و صرخت فيها بقوة
(صوتكما يصل الى باب البناية، شجار كل يوم، بالله عليكما كفى، البيت تحول الى جحيم منذ عودتك).

نظرت ياسمين الى أختها بهيئتها المنتفخة البائسة و كاحليها المتورمين الغير قادرين على حملها، ثم قالت ببرود
(الحجيم باد على هيئتك يا نهى قبل حتى أن آتي الى هنا)
عضت أختها على شفتيها و قالت بكره
(لماذا تفعلين ذلك؟، فقط أخبريني لماذا؟)
ردت ياسمين بقسوة
(لن أفعل شيئا، إن توقف زوجك عن اعتراض طريقي كل صباح و مساء كالمضاد الحيوي، أرجوك معدتي أصبحت غير قادرة على تحمله أكثر)
صرخ فيها زوج أختها بعنف قائلا.

(أنت انسانة مريضة، عديمة الدم و الإحساس، الا يكفي أنك لا تحاولين حتى النزول مع أختك في حملها كي تشترين أغراض البيت؟)
نظرت اليه بدهشة و سألته ببراءة
(أخرج من البيت بعد حلول الظلام؟، و أين رجل البيت يا رجل البيت؟)
صرخت فيها أختها بقوة
(كفى، احترمي نفسك و كفى، أنا لم أطلب منك مساعدة و لا أحتاجها)
ردت ياسمين ببرود
(جيد، أقنعي زوجك بهذا اذن، بعد اذنيكما فأنا متعبة و أريد النوم قليلا).

الا أن عادل هتف بها قائلا
(ليس قبل أن تخبريني عن سبب تأخرك كل يوم، كفى فضائح، ستكون سمعتك في الأرض أكثر مما كانت أصلا)
دارت حول نفسها و قالت من بين أسنانها
(اضبط لسانك معي كي لا أقطعه لك)
صرخت أختها فيها قائلة بجنون
(لا تكلمي زوجي بهذه الطريقة، إنه رجل هذا البيت و عليك اجابته ولو رغم عنك)
هتفت بها ياسمين بحدة.

(رجلك أنت فقط، ليس رجل هذا البيت و بالتأكيد كلمته لا تسري علي، كفى تدخلا في حياتي و اهتما ببعضكما أفضل لكما. )
حاولت أختها الكلام، الا أن زوجها هو من تدخل و قال بحدة
(ياسمين)
استدارت اليه زافرة بقوة و ملل، لكنها كتفت ذراعيها و نظرت اليه قائلة بملل
(ماذا؟)
رد عليها زوج أختها بنبرة باردة مستفزة.

(ألم تلحظي أنك منذ عدت للسكن هنا، تأكلين و تشربين دون مساهمة في مصروف البيت على الرغم من أنك وفرت ايجار الشقة الذي كان يلتهم راتبك بأكمله!)
اتسعت عينا ياسمين للحظة، قبل أن تقول بنبرة جليدية
(أنا آكل و أشرب من معاش والدي، الذي يذهب بأكمله في جيبك، على الرغم من أنه والدي أنا و ليس والدك أنت)
هتف بها عادل بحدة و دون حرج.

(أي معاش هذا! تلك القروش الضيئلة لن تكفينا خاصة مع عودتك للسكن معنا، و أنت لا تحاولين حتى المساهمة، لقد شربت في اليوم علبة حليب كاملة حجم لتر، و اليوم شربت واحدة أخرى! و ها أنت تعودين البيت بأيد خالية، من واجبك المساهمة في مصروف البيت، و أنت راتبك ليس قليلا ابدا)
صرخت فيه ياسمين بقوة.

(و أنت بماذا تساهم بالله عليك؟، تنظيم خط استهلاك علب الحليب؟، التي هي من مال والدي رحمه الله؟، أخبرني كيف تمتلك الجرأة كي تقف أمامي و تحاسبني بينما أنت لا تنفق قرشا واحدا في هذا البيت! أي رجل أنت؟)
صرخ فيها زوج أختها بعنف قائلا
(أنت تريدين لأختك الطلاق، اليس كذلك؟، لأنه لا رجل يتحمل زوجة، بعائلتها كاملة خاصة واحدة مثلا في صفاقة لسانك ووقاحتك)
صرخت فيه ياسمين
(هذا إن كنت رجلا أصلا).

رفع عادل كفه على وشك أن يصفعها، الا أن أمها كانت هي من تدخلت ووقفت بينهما لتصرخ بقوة
(لا، لا تضربها، اهتدي بالله يا ابني)
الا أن ياسمين رمت حقيبتها أرضا و خلعت سترتها لترميها أرضا هي الأخرى لتصرخ
(أتركيه يا أمي، أتركيه و أقسم بالله أن أعلمه كيف يكون الضرب)
صرخ فيها بعنف
(أخرسي أيتها البقرة البدينة، محظوظ طليقك في أنه تخلص منك، أنت امرأة)
هتفت فيه ياسمين بجنون
(انظر الى كرشك ثم تكلم).

صرخت والدتها و هي تنتحب
(كفى، كفى، لا تفعلا هذا، كفى فضائح)
ثم استدارت الى ياسمين و صرخت فيها منتحبة
(هل تريدين أن تتطلق أختك بسببك؟، الا ترين بطنها المنتفخة أمامها؟، أتريدين مني الموت بحسرتي و أنا أراها مطلقة هي الأخرى قبل حتى أن يولد طفلها؟)
شعرت ياسمين أنها على وشك البكاء لكنها منعت نفسها، لن تمنح هذا السمج فرصة للإنتصار برؤية دموعها، لذا قالت بصوت محتد.

(اطمئني، لن أقترب منه مجددا و لا أرغب أصلا في ذلك، لكن حاولي اقناعه بأن يبتعد عن حياتي و راتبي)
ثم انحنت لتلتقط سترتها و حقيبتها، لتدخل غرفتها و صفقت الباب بعنف، ثم رمت حقيبتها و سترتها و القت بنفسها على سريرها لتبكي بقوة...
بين كل ما قيل أكثر ما آلمها هو مناداته لها بلقب بقرة بدينة
هذه أكثر عبارة أوجعتها، ربما لانها الوحيدة الحقيقية في كلامه كله...

هي عادة تستطيع محاربته في كل كلمة، الا حين يبدأ في تعداد نقاط ضعفها و كأنه يقوم بتشريحها...
الفظ، الطفيلي...
بكت ياسمين بقوة أكبر، الى أن سمعت صوت وصول رسالة الى هاتفها و اهتزازه في جيب بنطالها، فاستقامت لتخرجه و فتحت الرسالة...
من مجرد رؤيتها للرقم شعرت بقلبها يقفز من مكانه، فمسحت دموعها بسرعة و التي تشوش لها الرؤية، لتقرأ بنبرة خافتة مرتجفة.

شكرا لموافقتك على مقابلتي، لم أظنك توافقين، و شكرا لقبولك بإعتذاري، كان هذا كرم منك
فغرت ياسمين شفتيها بإبتسامة مذهولة و شعرت بنفسها تحلق فوق الغيوم...
ثم كتبت له بأصابع مرتجفة
سعدت برؤيتك يا أمين، أملت الا تكون رسالتها المختصرة قد أظهرت له المزيد من اعجابها السخي، و في نفس الوقت أرادت ترك الباب مفتوحا له كي يتقدم...
أرسلت الرسالة ثم رمت نفسها على السرير و هي تنظر الى السقف بإبتسامة بلهاء...

علي الرغم من أمره الهاديء لها بألا تدور بالحافلة، الا أنها فعلت...
ليس لإستفزاز زوج أختها، بل لم تفكر فيه من الأساس، لكن لأنها كانت في حالة من السعادة البراقة خشت أن تتسرب من بين أصابعها ما أن تعود الى البيت كما حدث تماما...
لقد أسندت رأسها الى نافذة الحافلة مبتسمة و ظلت تنظر الى الطرقات و البشر، مستعيدة كل كلمة و ابتسامة بينهما، و كانت تلك هي النزهة الأجمل في حياتها كلها...

الى أن أفسدها هذا الذي يسمي نفسه رجل البيت، و الأجدر به أن يكون تيس البيت.

علي الرغم من اصراره على الدخول معها الى الطبيب، الا أن حدتها في الرد جعلته يبقى مكانه
كانت عصبية أكثر من اللازم، تهز ساقها بعصبية، و تقبض بأظافرها على أصابعه...
بينما هي شاردة تماما، وهو كان ينظر اليها بقلق، بل برعب، يحاول جاهدا الظهور بمظهر الهادىء كي يكون عونا لها، الا أن صدره كان يتمزق ببطىء مؤلم...
حينها تسائل، أي سبب في الدنيا يستحق خلافهما؟، أمام سلطة هذا المرض الذي لا يرحم؟

أنها لا تحبه؟، حسنا، فليكن، المهم أن تكون بخير...
فقط لتكن بخير وهو لا يريد من هذه الحياة أكثر من هذا...
شدد قبضته على كفها المنقبض و همس لها بصوت أجش
(لا تخافي يا مسك)
استدارت اليه و قالت بسرعة و انكار
(لست خائفة)
ابتسم لها وهو يرفع أصابعه ليلامس بها وجنتها بنعومة هامسا
(كنت خائفة في البداية و أخبرتني بهذا، هل ندمت على الإعتراف؟، كفاك تكبرا)
ظلت تنظر الى وجهه طويلا بطريقة مست قلبه بعنف...

لم تنظر اليه بمثل هذه الدقة من قبل، و كأنها تحاول أن تحفظ كل ذرة من ملامحه...
ثم قالت أخيرا بهدوء
(كانت متوترة فقط بفعل العادة، الا أنني لست خائفة)
سألها بجدية و بصوت خافت
(ألست كذلك؟)
أجابته بإتزان و هي تومىء برأسها
(في الواقع أنا ممتنة، ممتنة للحياة)
رفع أمجد حاجبيه و سألها بجدية
(ممتنة؟)
عادت لتومىء برأسها و قالت.

(نعم ممتنة، لقد حصلت على الكثير بالفعل، ظننت يوما أن نهايتي قد اقتربت، لكن القدر منحني فترة اضافية، اهتممت فيها بنفسي و عملي، عادت علاقتي بأختي، و تزوجت)
شعر بكلمتها الأخيرة و كأنها سوط لاسع على قلبه، فسألها بخفوت
(تزوجت!)
ابتسمت له و هي تجيبه ببساطة
(هلا توقفت عن تكرار كل ما أقوله كببغاء، نعم تزوجتك، هل نسيت يا حسيني؟).

رمقها أمجد بنظرة دافئة حرص على تمر على جسدها كله كي يشعرها كم هي جميلة و مرغوبة و شهية...
ثم عاد بعينيه الى عينيها و سألها بخفوت
(و هل من يتزوج من هي مثلك ينسى الزواج؟)
ارتفع احد حاجبيها و سألته بخبث
(هل هذا مدح ام ذم؟، فكلامك يحتوي على احتمالات مختلفة)
أرجع رأسه للخلف متشدقا
(حسنا، أخبريني أنت أولا، عن سر امتنانك بزواجنا، لقد أوحيت لي بالعكس في كثير من الأحيان)
ابتسمت مسك بغرور و قالت بنبرة بسيطة.

(كانت لنا معا بعض الأوقات السعيدة يا حسيني)
عقد أمجد حاجبيه بشدة و قال بنبرة مشتدة
(لماذا تتكلمين بصيغة الماضي؟)
نظرت الى عينيه الخائفتين و قالت بخفوت
(حتى الآن تكفيني تلك الأيام، و كل يوم اضافي سيكون كرما من القدر و عليك أن تتعامل مع الأمر مثلي كي لا تتعذب في حياتك، لا تتعلق كثيرا يا أمجد)
همس أمجد من بين أسنانه بعنف و قسوة.

(اصمتي، لا تتكلمي بتلك الطريقة الباردة مطلقا، لا تهيني حبي لك بهذه الصورة أبدا)
مالت مسك بوجهها تتأمله ثم قالت
(أنا خائفة، خائفة عليك)
بهت وجه أمجد وهو يرجع رأسه للخلف قائلا بحيرة
(خائفة، على أنا؟، من أي شيء؟)
ردت عليه مسك بجدية.

(من عاطفتك، من حبك، من تعلقك الزائد بي، ربما كانت أختك محقة في أنانيتي حين قبلت بالزواج منك، أمر الإنجاب مقدور عليه، يمكنك تطليقي و الزواج من أخرى تنجب لك طفلا، لكن المشكلة في هذا)
وضعت اصبعها على صدره، فوق قلبه مباشرة، و تابعت قائلة بنفس الهدوء
(قلبك، كيف لك أن تربطه بي بهذه الصورة و هذه السرعة بينما أنت تعرف أنني)
رفع كفه ليضع اصابعه على شفتيها مغمضا عينيه وهو يهمس ببطىء و ألم.

(هششششش، كفى قسوة يا ألماس، إن كنت غير قادرة على الإحساس بالحب، فعلى الأقل لا تشوهيه، أنا أحبك و لن أستطيع الحياة بدونك)
أومأت مسك برأسها و قالت
(بلى تستطيع، أسهل مما تظن، لكن حتى هذا الحين لا أريدك أن تتألم)
رفع حاجبيه دون رد وهو يتلاعب بأصابعها بين كفيه، ثم سألها دون أن ينظر اليها
(و كيف يتم هذا من وجهة نظرك؟)
ردت عليه مسك ببساطة
(بألا تحبني الى هذه الدرجة).

ضحك أمجد بخفوت دون أن يرفع عينيه اليها، و دون أن يصل المرح الى عينيه ثم قال بخفوت
(يالثقتك بنفسك يا ألمظ)
مطت مسك شفتيها و قالت
(ليست ثقة بالنفس، لكن تصرفاتك العاطفية الغير مسؤولة تخبرني بهذا)
رفع أمجد وجهه ينظر اليها و سألها بهدوء و جدية
(ما هو اقتراحك اذن كي أحد من حبي لك؟).

شعرت بشيء يقبض صدرها، ثم رفعت وجهها تنظر اليه، لكن حين تلاقت أعينهما شعرت بأن الكلمات تموت على لسانها للحظات، الى أن أتاها صوت الممرضة تقول قاطعة التواصل بين أعينهما
(سيدة مسك، الطبيب ينتظرك و معه نتائج الفحص)
أجفلت مسك و على الفور تشنج جسدها و قبضت على كف أمجد دون أن تدري، ثم لم تلبث أن قالت مبتسمة بهدوء جامد
(شكرا، سأدخل حالا)
نهضت من مكانها و نهض أمجد معها لا يزال ممسكا بيدها، فقالت له بحدة.

(لا، ابقى هنا)
عقد أمجد حاجبيه بشدة و قال محتدا
(هل تخاطبين كلبا؟، بالطبع سأدخل معك)
الا أنها قالت بنبرة قاطعة حادة تكاد أن تكون مترجية، أشعرته بأنها صادقة تماما في رغبتها
(لا، أرجوك انتظرني هنا، أحتاج لهذا بشدة، أرجوك)
للحظات ظل أمجد ينظر اليها متجهم الوجه وهو يتنفس بسرعة، الى أن خفف قبضته على كفها، فحررتها ببطىء و هي تنظر الى عينيه بوجه شاحب.

ثم استدارت لتأخذ نفسا عميقا و خطت بإتجاه الغرفة بخطوات واثقة هادئة...
لحظات تمر بطيئة، هي العمر كله بالنسبة له، وهو يقف في الخارج منتظرا بينما زوجته في الداخل تواجه مصيرها وحيدة...
وقف أمجد وهو يزفر بصوت عال عارسا أصابعه في خصلات شعره، ناظرا الى الباب المفتوح عن بعد...
و حين أوشك على دخول الغرفة قسرا وليحدث ما يحدث...

رأى مسك تميل في وقفتها للخلف حتى ظهرت له من الباب المفتوح، مبتسمة ابتسامة مشرقة أظهرت كامل أسنانها، لترفع له ابهامها علامة النجاة...
أغمض أمجد عينيه وهو يكاد أن يبكي بينما تهدجت أنفاسه، ثم فتح عينيه ليجد أنها اختفت من جديد، لكنه لم يتحمل، بل اندفع الى الغرفة و دخلها مقتحما، حيث وجدها واقفة أمام طبيبها، على ما يبدو كانت أكثر عصبية كي تستطيع الجلوس...

نظرت اليه مسك بدهشة، الا أنه لم يمهلها، بل هجم عليها يأخذها بين أحضانه بقوة ليدفن وجهه في عنقها تحت شعرها مغمضا عينيه...
شعرت مسك بالحرج أمام طبيبها فابتسمت له بخجل و هي تقول بتوتر
(اعذرنا زوجي عاطفي قليلا)
ضحك الطبيب ببشاشة و قال راضيا
(يحق له، مبارك لكما)
بالفعل مبارك لهما، كانا كمن تلقيا خبرا بحدوث حمل...
الأمر بالنسبة له واحد، البشرى بأنها بخير بدت و كأنه سيصبح والدا...

كان يزيد من ضمها اليه بقوة أكثر و يداه تحفران في ظهرها...
طرقت مسك على ظهر أمجد ضاحكة بعصبية
(يا حسيني، نحن في المشفى و أمام الطبيب مباشرة، هلا انتهيت رجاءا)
الا أنه لم يتركهها، بل ود لو تظل في أحضانه المتبقي من حياتيهما معا...
تابعت مسك قائلة بسخرية على الرغم من الدموع التي تلسع عينيها بقوة و تتوسلها للبكاء
(هل ستقوم بهذا كل مرة؟).

رفع وجهه ينظر اليها آخذا وجهها بين كفيه ينظر الى ملامحها الأنيقة، ثم قال بصوت متحشرج
(يمكنك المراهنة على ذلك).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة