قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والخمسون

خرجت جويرية من بوابة كليتها و هي تزفر بعنف، تلملم ما بيدها من كتب و تدسها في حقيبة ظهرها دون اعتناء أما معطفها الأبيض فقد ربطته في ذراع الحقيبة بإهمال ثم ألقت بها على ظهرها تنوي التوجه الى موقف السيارات، حيث تصف سيارتها الحمراء الصغيرة...
لكن ما أن اقتربت حتى تسمرت مكانها، و فغرت فمها بذهول قبل أن يستعر الغضب بداخلها في لحظة واحدة...

فقد كان المختل مستندا الى مؤخرة سيارتها، رافعا حذائه يريحه على السيارة من خلفه بقلة ذوق، منتظرا اياها على ما يبدو و على الرغم من نفس النظارة السوداء التي تغطي عينيه الا أن الإبتسامة الساخرة كانت واضحة على شفتيه...

للحظات عجزت جويرية عن الكلام أو الحركة، و بدت كل عضلة في جسدها تنتفض بغيظ الى أن تمالكت نفسها أخيرا و جذبت حقيبتها بكفها كمن يحمل سيف الحروب خلف ظهره، و تقدمت اليه الى أن وقفت أمامه تحاول السيطرة على الألفاظ البذيئة التي تتنافس كي تخرج من فمها الى ان قالت أخيرا ببرود أسود شديد البطىء
(أنت تهوى الإهانة اذن!).

لم يتحرك من مكانه و لم يخسر الإبتسامة الساخرة من على شفتيه، الا أن انقباض فكه أنبأها أن الضربة قد وصلت الى كرامته مباشرة...
تكلم عرابي قائلا ببرود مماثل
(لن أحاسبك الآن، لكن استمري و أثقلي رصيدك معي)
ضغطت جويرية على أسنانها ثم قالت بعنف
(ما الذي تفعله هنا؟)
رفع عرابي حاجبيه وهو يقول ببراءة
(أتيت لرؤية خطيبتي، التي سبق و سمعتها تتهمني بنفسها، بأنني إنسان، ماذا قالت يا ترى؟، آه).

صمت للحظة ثم مال اليها حتى أصبح وجهه على بعد سانتيمترات من وجهها قبل أن يرفع النظارة السوداء عن عينيه فبان بهما الغضب جليا يكاد أن يلفح وجهها وهو يتابع مشددا على كل حرف من بين أسنانه
(قشرة الموزة، كائن هلامي، يسير مغمضا عينيه بما يراه أهله، إنه حتى لم يحاول أن يراك منذ عام)
علي الرغم منها شعرت جويرية ببعض الحرج فارتبكت ملامحها قبل أن تقول بفظاظة.

(لم يكن من المفترض أن تسمع ذلك، كنت تتنصت الى ما لا يحق لك سماعه فنلت جزائك)
رفع عرابي حاجبيه وهو يقول بنبرة مهددة
(بهذه البساطة؟)
شدت جويرية كتفيها و رفعت ذقنها و هي تجيبه بصلابة
(نعم بهذه البساطة، و الآن من فضلك خذ بعضك و انصرف من هنا، قبل أن استدعي لك الأمن كما فعلت في المجمع، و حقيقة أظن أن كرامتك لا تزال متقرحة، ).

حرك عرابي فكه السفلي و كأنه قادرا على طحن عظام عنقها الرقيق بين أسنانه في تلك اللحظة، ثم تمالك نفسه وهو يستقيم مكتفا ذراعيه، ينظر اليها من أعلى رأسها و حتى أخمص قدميها قائلا بوقاحة
(ليس قبل أن أتحقق منك جيدا، لأرى إن كنت عروسا مناسبة أم لا)
احمرت عيناها غضبا و هتفت بحدة
(أنت عديم الذوق، بدائي، همجي)
هز عرابي كتفيه وهو يقول بهدوء لا مبالي.

(هذا أفضل من، قشرة موزة، كائن هلامي، يسير مغمضا بما يراه أهله، حاولت أن أراك في دارك بين أهلك و بإحترامك فقللتم من شأني)
اتسعت عيناها و همست بنبرة مهددة خفيضة
(اذهب من هنا حالا، هذا آخر إنذار لك)
كتف عرابي ذراعيه وهو يسألها بنبرة مستفزة
(و إن لم اذهب! ماذا بمقدورك أن تفعلي؟)
هتفت بصوت عال حتى أن بعض الأنظار تتجه اليهما
(سأستدعي لك الحرس الجامعي)
نظر عرابي حوله و ابتسم قائلا.

(هيا افعلي، سأخبرهم أنك خطيبتي و حينها سينصحونني بالإنصراف بالذوق)
نظرت جويرية حولها هي أيضا فرأت أنهما أصبحا محط أنظار، ثم أعادت عينيها اليه و قالت بتهديد مختلف
(ارحل قبل أن أتصل بكبيرك ليث الهلالي و حينها ستكون في موقف لا تحسد عليه)
ضحك عرابي بصوت عال ثم قال مازحا
(لحظة، لقد التبس عليك الأمر، ليث الهلالي كبيرك أنت، لا كبيري أنا، أنا رافعي، هل نسيت؟).

بدأت جويرية تهز رأسها و هي تشعر بالإلتباس فعلا، ثم لم تلبث أن قالت بخفوت
(انصرف من هنا، أنت تحرجني)
رفع ذقنه قائلا ببرود
(و ماذا عن احراجك لي بالأمس؟، أهو إحراج مقبول بالكريم كراميل بينما احراجي غير مقبول!)
أغمضت جويرية عينيها للحظة وهي تعد للعشرة، الا أنها فتحتهما مجددا قبل أن تكمل ثلاثة و رفعت كفيها قائلة بإستسلام.

(حسنا، لم يكن يفترض بي أن أبالغ في الأمر، الا أنني لم أكن أعرف أنك المدعو خطيبي، عذري معي)
رفع عرابي اصبعه قائلا بسماجة
(و ماذا بعد؟، ماذا عن اتهاماتك لي؟، و ماذا عن كونك حسبتها، فوجدت أن الوضع الحالي من مماطلة الخطيب المغفل هو الأنسب لك!)
عقدت حاجبيها بشدة بينما احمرت وجنتيها، الا أنها هتفت بغيظ تحاول أن تداري احراجها
(لم يكن يفترض بك أن تسمع هذا!)
أبقى عرابي اصبعه معلقا في الهواء منتظرا.

فتأففت قائلة بنفاذ صبر
(حسنا، الآن أدرك مدى سوء الأمر، لكن عليك أن تدرك كم كانت طريقة مهينة كي أتزوج بها)
مد عرابي كفيه و هتف بها بحنق
(ألم يخطر ببالك أنها مهينة لي أيضا؟)
هتفت به جويرية قائلة بحدة
(لكنك رجل، كان عليك الرفض و الإصرار على رفضك)
أشار اليها عرابي بسبابته قائلا بعنف
(لأنني رجل، تحملت نصيبي من المسؤولية رغم كرهي لها، بخلاف نظريتك الاستغلالية للوضع)
اشارت اليه جويرية هاتفة.

(احترم نفسك و لا تتجاوز حدودك معي، و الآن بما أنك نلت حقك مني و أهنتني كما أهنتك أرى أن نفض الموضوع و كل يذهب الى حال سبيله، مفاتحا أهله في رغبته بفسخ تلك الخطبة الفاشلة من البداية)
وضع عرابي كفيه في خصره قائلا بسخرية رافعا احدى حاجبيه قائلا
(من سمح لك بالكلام نيابة عني؟)
تسمرت جويرية مكانها و هي تضيق عينيها ناظرة اليه، ثم سألته بحذر
(ماذا تقصد بالضبط؟).

تلونت عيناه بلون الإستفزاز و قال بنبرة ممتعضة وهو يعيد تأملها ماطا شفتيه
(أنا شخصيا أرى أنه لا بأس بك، ربما كنت وقحة، سليطة اللسان، استغلالية و ثرثارة بشكل لا يطاق، الا أنك في المجمل، تتعدين المستوى المتوسط، على الإنسان أن يتنازل عن أحلام يقظته ما أن يرتطم على صخرة الواقع)
فغرت جويرية فمها قليلا و هي تبدأ بإستشعار ذبذبات الغضب تجتاح أنوثتها المتضررة...
ثم همست تسأله بشر.

(أنا صخرة الواقع يا بائس يا قشرة الموزة؟)
رفع اصبعه الى شفتيه مهددا وهو يقول
(احترمي خطيبك، زمن قلة الأدب انتهى)
عضت جويرية على أسنانها و هي ترفع حقيبتها عن ظهرها استعدادا كي تطوحها في وجهه وهي تقول فاقدة السيطرة على أعصابها
(أنا سأريك قلة الأدب بأصولها)
الا أن صوت مندهش قال من خلفها يسألها
(هل هناك مشكلة يا جويرية؟).

تسمر ذراعها فسقطت حقيبتها على الفور تضرب فخذها و هي تستدير ناظرة الى مجموعة من زملائها بنفس الدفعة، و كان المتكلم شابا بسيط الهيئة و المظهر، ينظر الى عرابي بتحفظ استعدادا الى مشاجرة، وهو يرى مظاهر التبجح الجسدي تحيط بعرابي بطريقة فجة...

أما من جهته فقد أخذ عرابي يتأمل هيئة المتكلم بإستهانة، ثم نقل عينيه الى ثلاثة شباب آخرين متحفزين، و أربع فتيات، الجميع ينظر اليه مستعدا الى التشابك بالأيدي إن اقتضى الأمر...
أفلتت من بين شفتي عرابي ضحكة ساخرة غير مرحة وهو يدس كفيه في جيبي بنطاله، بينما ارتبكت جويرية و هي تقول بعصبية
(لا، لا مشكلة اطلاقا)
الا أن زميلها لمح اضطرابها فأشار بذقنه الى عرابي وهو يسألها.

(من الأستاذ؟، إنه غريب عن الدفعة و الكلية كلها على ما أعتقد)
تمتمت جويرية بتردد و هي تشعر بالحرج من افشاء سر خطوبتها المهينة امام زملائها...
(هذا، آآآآآآآ، إنه)
صمتت و هي متأكدة من أن أي كذبة ستنطق بها، سيكذبها عرابي و يفضحها على الفور...
فتكلم هو متطوعا بسخرية
(أنا خ).

رمقته جويرية بنظرة كارهة مقيتة و هي تشعر بنذالته معها، فالتقطت عيناه تلك النظرة ببرود و استبقاها للحظة، قبل أن يعيد النظر الى زميلها متابعا بثقة
(أنا مرسال من البلد، آت من عند أبيها الحاج)
أفلت نفس من بين شفتيها رغما عنها و هي تشعر بالإمتنان، ربما ليس وغدا بنفس الدرجة التي توقعتها...
قال زميلها بشك
(هل هذا زمن المراسيل؟، الا تفي رسالة نصية أو اتصال بالأمر؟).

ضاقت عينا عرابي وهو يشير الى زميلها سائلا بإستهانة
(عفوا، من أنت مجددا؟، لأن الأمر بدأ يختلط عندي)
أجابه زميلها ممتعضا وهو يمد كفه قائلا
(باسم)
التقط عرابي كفه على مضض دون كلام فرفع باسم حاجبيه منتظرا، مما جعل عرابي يقول بإختصار فظ
(عرابي الرافعي)
ما أن نطق اسمه حتى أفلتت ضحكة من أحدى زميلات جويرية، فنظر اليها سائلا ببرود
(ما المضحك سيادتك؟)
كتمت الفتاة ضحكتها و هي تعض شفتيها قائلة بإختناق ضاحك.

(لا شيء، فقط اسم عرابي لم أسمعه منذ، الأزل)
مط عرابي شفتيه متجاوبا مع ضحكتها بإبتسامة سمجة غاضبة، بينما قال باسم بحسم
(حسنا، تشرفنا يا سيد عرابي، لكن اعذرنا مضطرين للخروج الآن لأن لدينا موعد)
رفع عرابي احد حاجبيه وهو ينظر اليهم بإستنكار حتى استقرت عيناه على جويرية، ثم سألها بنبرة محذرة
(هل تخرجون معا؟، ذكورا و إناثا؟)
كتفت جويرية ذراعيها و هي تسأله بدهشة غاضبة
(نعم، هل هناك مانع؟).

لعق عرابي شفته ثم عض عليها من شدة الغيظ، و أرسلت عيناه الى عينيه رسالة تهديد بأنه قادر على فضح خطبتهما، التي تتنكر لها...
فأظلمت عينا جويرية وهما تلتقطان الرسالة، ففكت ذراعيها ببطىء قائلة بنبرة أقل تسلطا و عنجهية
(جلسة دراسة، هذا طبيعي هنا على فكرة)
سألها عرابي رافضا
(الا يمكن لكل نوع أن يدرس بمفرده؟)
نظرت زميلات جويرية الى بعضهن غير قادرات على كتم ضحكاتهن أكثر ثم قالت أكثرهن جرأة.

(كل نوع! تتكلم و كأنك داخل معمل بيكتيريا، هل أنت زميل صيدلة أم مكافح علوم؟)
شعر عرابي أنه على وشك ضرب تلك الفتاة المتخلفة، الا أن جويرية سارعت بالتدخل قائلة تخاطب زمائلها
(حسنا، اسبقوني أنتم و سألحق بكم، هيا)
تباطىء زملائها في المغادرة وهم يرمقون عرابي بتوجس، فقال عرابي سائلا جويرية بنبرة حادة
(اين أضع سلة البيض و الفطير و البط يا سيدة؟).

زمت جويرية شفتيها بنفاذ صبر بينما تعالى ضحك زميلاتها، فقالت تأمرهم بحدة
(هيا اذهبوا، سأستقل السيارة و ألحق بكم)
ابتعد زملائها أخيرا فالتفتت الى عرابي هاتفة بحدة
(اسمع الآن)
الا أنه سبقها و هتف أعلى من صوتها.

(اسمعي أنت، أنا لا أقبل بهذا الحال المائل، لم أقابلك سوى مرتين، وجدتك تنوين شراء ثوب سباحة برتقالي فاضح خلال الأولى، و تخرجين في مواعيد مختلطة في الثانية، ماذا ينقص بعد؟، هل سأراك في الثالثة تؤدين وصلة الرقص الخاصة بك في احدى المراقص!)
هتفت تسأله بذهول
(لا أصدق ما أسمع! هل تظن نفسك خطيبي بالفعل؟، ألهذه الدرجة أنت يائس يا بني من ايجاد عروس لك بنفسك و من اختيارك؟)
قال من بين أسنانه.

(أنت وافقت على الخطبة و انتهى الأمر، لن تفلح اهاناتك سوى في زيادة رصيدك عندي)
أوشكت جويرية على ضربه بالفعل الا أنها تجاوزته زافرة بعنف و أخرجت مفاتيح سيارتها لتفتح الباب و تجلس خلف عجلة القيادة متجاهلة وجوده تماما، لكن و قبل أن تغلق الباب، أمسكه هو يحول دون غلقه، ثم انحنى اليها قائلا بإبتسامة غاضبة.

(استمتعي بخروجك لمرة أخيرة، لن احرجك أمام زملائك من كرم أخلاقي، لكن اعتبريها نهاية الزمالة المشتركة، كما يمكنك ابلاغ اسرتك بقرب زيارتنا لبيتكم)
رمقته جويرية بنار متقدة، الا أنه استقام و صفق الباب بقوة مما جعلها تنطلق بالسيارة دون حرص...
أخذت تشتم بصوت عال و هي تضرب المقود بقبضتها، غير مصدقة حتى الآن ما حدث للتو!
كيف ظلت صامتة؟، لماذا لم تضربه و تستدعي له الحرس! تبا له...

وقفت سيارتها قليلا أمام بوابة الكلية في انتظار أن يخلو الطريق لتخرج، و في تلك اللحظات رأته مجددا يخرج من البوابة على قدميه، ينظر اليها بنظرة ساخرة سوداء وهو يحييها بإشارة من اصبعيه على جبهته وهو يعبر الطريق استعدادا للذهاب الى سيارته على الصف الآخر...

ظلت جويرية تنظر اليه بحنق، لكن سرعان ما تحول هذا الحنق الى ذهول و رعب و هي ترى سيارة تضربه دون أن يلحظها فسقط على مقدمتها قبل أن ينزلق أرضا في منتصف الطريق!

رفعت جويرية يديها الى فمها مذعورة، و هتفت
(هل حدث ما حدث؟، هل أتى ليموت هنا؟، أي حظ هذا!)
ثم تحركت بالسيارة و خرجت بها لتصفها على جانب الطريق، ثم سارعت جريا الى الجمع المتجمهر حوله فدفعتهم و هي تقول بتوتر
(عفوا، عفوا، ابتعدوا قليلا)
وصلت اليه أخيرا فانحنت اليه وهو ملقى أرضا يتأوه بصوت مختنق، بينما قائد السيارة كان قد خرج منها وانحنى اليه كذلك هاتفا بجزع.

(هو من كان يقطع الطريق ناظرا خلفه خاصة حين خف الزحام فتحركت بسيارتي)
التفتت اليه جويرية هاتفة بحدة
(لكنك انطلقت بسرعة تفوق ازدحام الطريق، لقد رأيتك بعيني)
هتف بها الرجل بتوتر
(كوني محضر خير يا آنسة، ما دخلك أنت؟)
فتحت جويرية فمها لترد عليه بما يستحق لكن عرابي سبقها و قال بنبرة مشتدة رغم ألمه
(لا تكلمها بهذه الطريقة، إنها خطيبتي)
هتفت جويرية من بين أسنانها
(خطيب! تبا لك كنت أعرف أنك وغد).

نقل الرجل عينيه بينهما وهو يقول بتوجس
(ما هذا النهار الغريب! هل أنتما سارقي محافظ، أم أنكما عصابة لطلب تعويض!)
ثم وضع يديه على جيوبه يتأكد من وجود محفظته و هاتفه خوفا من أن يكونوا لصوص محترفين و متعمدين افتعال تلك المسرحية...
أما جويرية قالت لعرابي بغيظ و غضب
(هل أعجبك هذا؟، سمحت لمن يسوى و من لا يسوى بظننا لصوصا، هيا انهض)
حاول عرابي النهوض، الا أن ألما مفاجئا جعله يشعر بالدوار فقال بصوت غريب.

(اشعر أن)
ثم ابيضت شفتاه فجأة قبل أن يسقط رأسه على صدر جويرية فاقدا الوعي، مما جعلها تهتف بجزع
(انت يا هذا! هل أنت نائم أم ماذا؟، يا أخ عرابي! يا أخ!).

كانت جويرية واقفة تعض أصابعها بتوتر و هي تمشي في رواق المشفى، الى أن أبصرت ليث قادما...
فهرعت اليه قائلة بتوتر
(مرحبا عمي، حمد لله أنك جئت بسرعة)
أجابها ليث بقلق
(ما الذي حدث بالضبط؟، لم أستطع فهم ما تقولين تماما! هل أنت بخير؟)
أشارت جويرية الى إحدى الغرف قائلة بغضب
(هذا المعتوه عرابي، أتى الى الكلية لاحقا بي مجددا، لكن ما أن خرج حتى ضربته سيارة وهو يقطع الطريق ناظرا خلفه كقطة تبحث عن ذيلها).

نظر ليث الى الغرفة حيث أشارت و سألها متوترا
(و ما هي حالته؟)
ظهر بعض الأسى على وجهها ثم قالت بأسف
(كسر في الحوض)
اتسعت عينا ليث وهو يقول مبهوتا
(هل كانت الضربة قوية الى هذه الدرجة؟)
ردت جويرية ممتعضة
(حسنا، صحيح أنه أحمق في قطع الطريق، لكن قائد السيارة مخطىء ايضا، ما أن خف الزحام حتى انطلق بالسيارة بنفاذ صبر و فجأة ظهر له هذا العرابي من تحت الأرض، لكنه هرب فيما بعد حين انشغلنا بنقل عرابي للمشفى).

رفع ليث يده الى جبهته زافرا بقوة وهو يقول
(هذا الأمر لن يمر على خير أبدا)
أطرقت جويرية برأسها و هي تزم شفتيها بينما تابع ليث قائلا بغضب
(هل هو مستفيق؟، لا عليك، سأدخل لأراه)
دخل ليث الى الغرفة بينما ظلت جويرية واقفة و هي تقول بخفوت محتدة
(ما هذه المصيبة التي لا كانت لا على البال و لا على الخاطر).

دخل ليث الى الغرفة فوجد عرابي مستلق على الفراش شاحب الوجه من شدة الألم، لكن ما أن أبصر ليث حتى قال بنبرة غاضبة متشنجة محتدة
(ليث الهلالي، هل استدعتك بهذه السرعة؟)
لم يتجاوب ليث مع غضب عرابي بل اتجه اليه قاتم الملامح أسود النظرة، ثم قال بصوت بارد جليدي
(لقد تخطيت حدك مرتين، مرة حين أقحمت زوجتي فيما يخصك دون اذني، و المرة الثانية حين ترصدت جويرية دون اذن من عائلتها)
رفع عرابي كفيه قائلا بانفعال.

(أنا لم أقحم سوار في شيء، عمتها طلبت منها طلب و هي وافقت، ابعدوني عن مشاكلكما الزوجية فأنا حاليا في وضع لا أحسد عليه بسبب عنجهية عائلتكم و تعنتها)
كان كلامه الأخير قد وصل الى درجة الصراخ غضبا، مما جعل عضلاته تتشنج فازداد الألم عنفا مما جعله يصمت متأوها وهو يرجع رأسه للخلف...
قال ليث غاضبا ممتعضا
(هلا توقفت عن التصرف كطفل مدلل).

رفع عرابي كفه وهو يفتح فمه منفعلا، ثم قبضها مرة أخرى وهو يتمتم شاتما مديرا رأسه...
رفع ليث حاجبيه وهو يسأله محذرا
(ماذا تقول، أسمعني)
نظر اليه عرابي قائلا مشددا على كل حرف
(هذا، ليس، الوقت، المثالي لدور الكبير)
زفر ليث قبل أن يتخذ أقرب كرسي ليجلس عليه ثم سأله بعد فترة صمت طويلة
(كيف تشعر الآن؟).

اتسعت عينا عرابي قبل أن يرجع رأسه للخلف ضاحكا بصوت عال أبعد ما يكون عن المرح، ثم التفت الى ليث مشيرا الى نفسه هاتفا
(ملقى في سرير مكسور الحوض بعد أن وقع رأسي على صدر الفتاة التي يفترض بها أن تكون خطيبتي مغشيا علي، و من المتوقع أن أظل طريح الفراش لمدة الا يعلمها الا الله، عاجزا حتى عن تلبية نداء الطبيعة بصورة طبيعية).

شعر ليث ببعض التعاطف معه، على الرغم من أنه يبدو شابا مدللا سخيفا و مزعجا، الا أنه لم يكن بالفعل في موقف مشرف، فسأله متنازلا
(كيف عرفت أن رأسك سقطت على صدرها؟)
ضحك عرابي بحنق وهو يقول غاضبا
(لم تتورع عن اخباري و أنا منقول فوق السرير المتحرك)
ابتسم ليث رغم عنه، لكنه ظل صامتا للحظة قبل أن يقول بهدوء.

(أرى أن هذا الموضوع قد طال أكثر من اللازم، كان يفترض بك أن تحمل طفلك بين ذراعيك الآن، ولم يكن مفترضا أن يتم حجز الفتاة كل هذا الوقت ظلما)
رد عليه عرابي بحدة منفعلا
(لا اطمئن، ليس هناك اي ظلم واقعا على تلك البرغوثة مصاصة الدماء، فهي كانت سعيدة بالأمر كي لا يفاتحها أحد في موضوع الزواج، الى أن تجد من تراه مناسبا حينها تمنح الخطيب الإحطياتي ختم رفض على قفاه).

افلتت ضحكة مكتومة من بين شفتي ليث، فنظر اليه عرابي بحنق مما جعله يجاهد كي يرسم الإتزان على ملامحه مجددا، بينما كانت جويرية واقفة في الباب ممسكة به مفتوح جزئيا، مهتمة أن تسمع ما سيقوله عرابي لليث، ثم لم تلبث أن همست لنفسها ببريق مستعر الغضب
أنا برغوثة يا سلة البيض الفاسد! أرهفت السمع مجددا، فسمعت ليث يقول بوقار
(لهذا أرى أن هذا الوضع أصبح غير ملائم، لنرى حلا و نفسخ الخطبة بالمعروف).

ابتسمت جويرية براحة، الا أن الإبتسامة بهتت حين سمعت صوت عرابي يقول بقوة
(لا)
فعقدت حاجبيها و همست مكررة
(لا؟)
و لم يكن صوتها بل صوت ليث الذي سأل نفس السؤال بحيرة، فارتبك عرابي و عدل من صيحته قائلا
(أقصد، أنا لا أمانع في اتمام تلك الزيجة، إنها، لا بأس بها)
أخذت جويرية تضرب جبهتها في الباب ببطىء و دون صوت مغمضة عينيها بنفاذ صبر...
أما ليث فقد نظر الى عرابي طويلا، ثم سأله مبتسما دون لف أو دوران.

(هل أعجبتك الفتاة؟)
ارتبك عرابي من السؤال المباشر، الا انه رسم على وجهه ملامح الغطرسة وهو يجيب بأصوات محرك سيارة مثقوب و كأنه يتنازل
(آآآآآآآآ، جيدة، ماذا نقول، جيدة، لنكمل الخطبة و أمرنا لله)
ضاقت عينا جويرية و هي تشعر بالرغبة في الدخول اليه و سحق فكه المتكبر، الا أن ليث سبقها و سأله مباشرة.

(أنا لا أقبل بهذا ردا، أريد كلاما واضحا، هل أعجبتك الفتاة فعلا أم أنك ستتنازل بالقبول، لأن جويرية مكانتها أغلى من هذا في عائلة الهلالي)
ساد صمت طويل في الغرفة مما جعل جويرية تعقد حاجبيها مقربة رأسها أكثر، الى أن قال عرابي أخيرا بصوت متردد
(بصراحة، منذ رأيتها شعرت أنها تخصني، شعرت و كأنها خطيبتي بالفعل، ليتني ما كنت رأيتها إن كانت الخطبة ستنتهي بالفشل).

ارتسمت ابتسامة مغرورة على شفتي جويرية أقرب الى الأنوثة و الجمال، وهمست بمكر
هكذا اذن، لكنها سمعت صوت ليث يقول بتفهم
(لكن يا عرابي لا يمكنني اجبار الفتاة لو كانت رافضة)
هتف عرابي بغضب
(هذا ليس عدلا، ربما لو كانت عائلتها قد سمحت لي بمقابلتها مرة واحدة في بيتهم ما كنت أعجبت بها، لكنهم السبب في أنها تخللت تفكيري خلال المرتين اللتين رأيتها فيهما)
صمت للحظة ثم قال بخفوت حاد.

(أنا أريد تلك الفتاة يا ليث، أشعر، أشعر و كأننا كنا خطيبين لمدة عام كامل، و هذا هو الواقع فعلا)
رد عليه ليث قائلا بخفوت
(هذا قبول رائع من جانبك تجاهها، لكن يجب أن تشعر هي أيضا بالمثل، لا يمكننا ارغامها)
همست جويرية دون صوت تحرك شفتيها بغضب
و أنا غير موافقة يا أحمق، على جثتي، الا أن عرابي أجاب بصوت باهت من شدة الألم.

(كنت رهن احتجازهم لي لمدة عام كامل، و الآن بعد أن رأيتها و شعرت برغبتي في أن تكون زوجتي ترفض؟، كان عليها أن ترفض منذ عام مضى)
ضحك ليث بخفوت ثم سأله قائلا
(الهذه الدرجة؟)
اهتمت جويرية جدا لسماع الجواب، لا تعلم السبب في ذلك، فأجابه عرابي قائلا
(جميلة جدا جدا، الم يمر بك هذا الشعور من قبل و كأن شيئا قد ومض بداخلك حين رأيت الفتاة المناسبة؟)
ظل ليث مبتسما دون رد طويلا الى أن قال أخيرا.

(مجرد السؤال يعتبر مزحة غريبة، إنه شعور لم أعد حتى أدرك متى بدأ، ربما منذ حملتها بين ذراعي)
عقد عرابي حاجبيه قليلا و بدا مرتبك، و حين طال الصمت سأل بتوجس
(عفوا، هل تتكلم عن زوجتك الأولى أم سوار، لأن زواجك من سوار هو نفس صفقة الصلح)
صمت للحظة ثم سأل بإرتياب
(أم أنك تتكلم عن امرأة ثالثة؟، أرجو الا يكون الأمر كذلك لأن هذا معناه أنك ستقنعني بفشل تلك القصة، و انا لست في مزاج يسمح حاليا).

ضحك ليث مجددا وهو يهز رأسه ثم قال بخفوت
(لا عليك، إنه تاريخ قديم قدم الأزل، لكن الا ترى أنك ربما تكون مبالغا قليلا في احساسك؟)
أجابه عرابي مدافعا بحدة
(رأيت عروسي و أعجبتني بشدة، ما الضرر في ذلك؟، اليس هذا هو القبول؟)
رفع ليث ذقنه و سأله مباشرة
(متأكد مئة في المئة؟)
رد عرابي دون تردد
(ألف في المئة)
قلبت جويرية شفتيها و هي تقول همسا بإزدراء متظاهرة باللامبالاة
و كأن تأكيدك سيغير من الأمر شيئا! قل ما تريد.

عادت لتمد رأسها كي ترهف السمع، الا أن الباب فتح فجأة مما جعلها تتعثر و تكاد أن تسقط على صدر ليث لولا أن أسند مرفقها وهو ينظر اليها عاقدا حاجبيه، ثم دفعها ليخرج و يغلق الباب قبل أن يسألها بجدية
(لماذا لازلت هنا؟، لماذا لم تعودي الى بيتك؟)
بدت جويرية مترددة، ثم قالت بهدوء على الرغم من احراجها المكبوت
(أنا كنت، كنت أريد الإطمئنان من باب الواجب ليس الا)
رد ليث باختصار صارم.

(انه بخير، هيا غادري و لا تعودي الى هنا، هل تحتاجين الى أن أقلك؟)
عقدت جويرية حاجبيها و سألت بحدة
(لكن علام اتفقتما؟، أنا لن أتزوج هذا الشخص مطلقا، مستحيل)
أجابها ليث عاقدا حاجبيه حازما
(أوضحت قرارك أكثر من مرة، هيا اذهبي من هنا)
سألته جويرية بريبة
(هل يعني هذا أنك ستتولى الأمر؟، لن أقبل أن يضعني احد أمام الأمر الواقع)
رفع ليث حاجبيه و مد وجهه يقول ببطىء آمرا.

(عودي الى بيتك يا جويرية، لا مكان لك هنا، حتى و إن كان خطيبك حاليا فليس مسموحا لك بالتواجد معه بمفردكما، أنت تزيدين الوضع سوءا)
تراجعت جويرية و هي تشعر ببوادر التمرد تجتاحها ازاء نبرة ليث المتسلطة فقالت بحدة
(لقد رافقته ليس الا، شعرت أن هذا من واجبي)
هز ليث رأسه نفيا وهو يقول بحسم
(لا ليس من واجبك اطلاقا، اذهبي و لا تعودي هذا أمر، لا أريده أن يرى ظفرك).

ازداد انعقاد حاجبيها و تعالت غريزة التمرد أكثر و أكثر، بينما تابع ليث قائلا بتحذير صارم
(أنا منتظر مغادرتك)
ضاقت عينا جويرية برفض تلقائي قبل أن تستدير مندفعة لتغادر بقوة، و هي تهمس لنفسها بحدة
ليث الهلالي لا يزال يعيش في دور كبير العائلة، ليس هو فحسب بل زوجته أيضا، زوجته تخطط وهو يأمر، لكن هذا الحال مرفوض لدي، حسنا يا عمي ليث، حسنا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة