قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والأربعون

(اسم الله عليك يا ابنتي، ما الذي حدث يا أمين؟)
هتفت أم أمين بهذه العبارة شاهقة و يدها على صدرها، بينما هي تفتح الباب بلهفة بعد ما يقرب من يوم كامل على غياب ابنها و زوجته، لتراه الآن يدخل شبه حاملا بدور...
يسندها بذراعيه بنزعة حماية و قدماها تلامسان الأرض بصعوبة...
لا يظهر منها شيء سوى عينيها الضائعتين، ترتدي نقابا أسودا يغطي ملامح وجهها تماما...

رد أمين بحزم وهو يغلق الباب خلفه دون أن يتخلى عن بدور
(هي بخير يا أمي، فقط تحتاج لبعض الراحة بعد السفر الطويل ذاهبا و عودة)
ابتعدت أمه عن طريقه على الفور و هي تهتف بقلق
(أدخلها الى سريرها يا أمين، هيا بسرعة).

تعثرت بدور و هي تشعر بساقها الأقصر لم تعد قادرة على اسنادها أكثر، و كل عضلة فيها ترتجف بشدة، فبدأ وزنها يزداد ثقلا، حينها شعر بها أمين مما جعله ينحني ليضع ذراعه تحت ركبتيها و يرفعها اليه، متجها الى غرفتهما، فقالت بدور و هي تشعر وجهها يمتقع جراء تصرفه العفوي
(أستطيع السير)
و كانت أول كلمتين تنطق بهما بعد سفر طويل، منذ خروجهما من دار والدها...

فبعد القنبلة التي فجرتها بين الجميع غير آبهة بأحد، التزمت الصمت تماما، وهو بدوره لم يحاول الكلام معها، مدخرا أي حديث بينهما الى أن يصلا لبيتهما، لغرفتهما على الأصح...
نظر الى عينيها الظاهرتين من تحت النقاب، و القريبتين من عينيه، نظرة جعلتها تنهي كلامها قبل أن يبدأ، فأسبلت جفنيها على الفور...
ترى ماذا ينقص بعد، لم تفعله كي يكرهها اكثر...

اضطرت لرفع ذراعيها، تحيط بهما عنقه لتدعم نفسها، لكن جسدها كان متوترا كقوس مشتد، متخيلة كم النفور الذي ينبض في جسده تجاهها حاليا...
وصل أمين الى غرفتهما، فإنحنى ليضعها فوق السرير برفق و أمه خلفه مباشرة...
لكنه ما أن استقام حتى استدار اليها و قال بخفوت هادىء
(أمي، هلا تركتنا بمفردنا الليلة، رجاءا)
ارتفع حاجبيه أمه و هي تنظر الى بدور قائلة بقلق.

(لكن يا ابني، بدور تبدو متعبة للغاية و تحتاج الى مساعدة، لماذا تخفي وجهها؟)
أطرقت بدور بوجهها، غير قادرة حتى على مواجهة والدة أمين أو حتى الإقدام على محاولة واهية لتطمئنها...
أما أمين فقال بصوت أكثر خفوتا، الا أنه اشد حزما
(أنا سأساعدها يا امي، أنا أولى الناس بهذا و لا أريد لأحد أن يراها الآن، كما أن بيننا كلام كثير).

شعرت بدور بأنفاسها تختنق فجأة و هي تتخيل أي كره ستسمعه بين حروف هذا الكلام المنتظر بينهما...
فابتلعت غصة الألم بحلقها و سلمت للمقبل دون مقاومة...
أما أم أمين فبدت مترددة تنقل عينيها بينهما بخوف، تدري تماما ما الذي يمكن للنقاب أن يخفيه...
لكنها همست في النهاية
(لا بأس يا ولدي، سأترككما، لكن رفقا بها يا ابني، الفتاة تكاد أن تكون منهارة)
أجابها أمين بصوت جاد هادىء.

(لا تقلقي يا أمي، ادخلي الى غرفتك و ارتاحي، فكل شيء على مايرام الليلة، جميعنا هنا و بخير و هذا أفضل نتائج هذا النهار)
أومأت أمه برأسها ببطىء ثم ألقت نظرة أخيرة على بدور المستلقية في سريرها، قبل أن تستدير لتخرج من الغرفة مغلقة الباب خلفها بهدوء...

بقى أمين واقفا مكانه ينظر الى الباب المغلق بضعة لحظات، مما جعل بدور تتجرأ على رفع عينيها اليه، تنظر الى ظهره المتصلب، و هي تتمنى لو تختفي في تلك اللحظة بقوة كونية مفاجئة...
استدار أمين في تلك اللحظة مما جعلها تخفض وجهها مجددا بسرعة، ثم سمعت خطواته تقترب منها الى أن وقف بجوار السرير، و جلس على حافته...

شعرت بدور بجانب السرير ينخفض جراء جلوسه، لكنها تماسكت و لم ترفع رأسها اليه، بينما بدا و كأنه ينتظر منها أن تبدأ في الكلام...
لكن ما لم تتوقعه هو أن يمد يداه اليها ليلامسها فانتفضت بقوة شاهقة و هي تنظر اليه بعينين متسعتين من تحت النقاب...
توقف أمين وهو ينظر الى فزعها عاقدا حاجبيه، ثم قال بخشونة
(كنت أساعدك في خلع ملابسك فقط، لم أكن أنوي إيذائك).

فغرت بدور شفتيها من تحت النقاب و هي تنظر اليه بعينين بهما نظرة غبية، ثم كررت كلامه ببلاهة
(خلع ماذا؟)
بدا سؤالها شديد الغباء الى أذنيها مما جعلها تمتقع أكثر متمنية لو لم تتكلم أبدا...
لكن المفاجأة الثانية هي أنها رأت زاوية فمه تلتولي قليلا و كأنه ابتسم، لكن حين أمعنت النظر به مجددا وجدت ملامحه متجهمة، مما جعلها تتأكد بأنها كانت تتوهم ليس الا...
تكلم أمين قائلا بجفاء.

(أمامنا ليلة طويلة يا بدور و عليك تقبل مساعدتي لك، الا لو كنت تريدين مني مناداة أمي لتساعدك بنفسها)
بدا قلبها يخفق بعنف و هي تحاول استيعاب تعليماته، ثم قالت في النهاية بضعف
(أستطيع خلع ملابسي بنفسي، أنا بخير)
رد عليها بجفاء أكبر دون أن يحيد بعينيه عن عينيها الظاهرتين من النقاب
(أستطيع رؤية ذلك، خاصة حين كدت تسقطين أرضا في الخارج)
رمشت بدور بعينيها ثم همست بسرعة
(حسنا، نادي خالتي).

ارتفع حاجبي أمين للحظة وهو يدقق النظر بها و كأنه يرى ملامحها المتسترة بالسواد، ثم قال بخشونة مفاجئة
(هل تخجلين للدرجة التي تجعلك تفضلين مساعدة على مساعدتي؟)
شابت نبرته بعض السخرية التي نفذت الى أعماقها كسهم حاد مؤلم، فأخفضت عينيها و همست بضعف
(أخبرتك من قبل، انني لا أخجل)
رد أمين متهكما بقسوة
(جيد، لأنني انوي مساعدتك حتى إن لم تكوني في حاجة لها)
رفعت عينيها اليه مجفلة، ثم همست بصوت مجفل
(لتذلني؟).

ضحك بسخرية وهو يقول بينما يرفع يديه ليزيح النقاب عن وجهها المكدوم ببشاعة...
(اذلالك لا يساوي الكثير، و لا يرضيني بأي شكل من الأشكال، لكن يمكنك القول أن ادعائك الخجل أمامي بينما كنت من قبل)
صمت عن قصد مما جعل صدرها ينقبض و الدموع تتجمع حول حدقتيها، و هي تلتقط ما يقصده بوضوح، بينما تابع هو بجفاء
(يثير غضبي و غيظي، بشدة، لذا سأساعدك رغما عنك).

لم تستطع بدور النطق، و هي تغمض عينيها بقوة، و تعض على شفتها كي لا تبكي أمامه...
أما هو فلم يحتاج الى الإذن منها، بل تابع خلع غطاء رأسها، ثم العباءة و هي صامتة مستسلمة له تماما الى أن بقت بفستان بسيط خفيف بلا أكمام، بدت فيه شديد النحافة...
ذراعاها كالخيوط الهزيلة، ملونة بكدمات داكنة أشبه بألوان الغروب...

عقد أمين حاجبيه بشدة وهو ينظر الى تلك الألوان، ثم بدأ يرفع لها الفستان ببطىء الا أنها تشبثت بأطرافه و هي تهمس بأنين متوسل شبه باكي
(لا أرجوك، لا أستطيع)
توقف أمين عن جذب الفستان، ثم نظر اليها عاقدا حاجبيه وهو يقول بفظاظة كارهة
(ليتك قلت له هذا قبلا، لما كان حالك هكذا الآن)
همست بدور بألم و كأنه صفعها
(ياللهي!)
أما هو فإزداد انعقاد حاجبيه زافرا بقوة مكبوتة، ثم قال بعد فترة قصيرة بصوت اجش خشن.

(أنا لا أريد أن أزيد من ألمك أو اذلالك الآن، لكن اعتراضك يفقدني قدرتي على تجاوز ما سبق و أقدمت عليه، و يثير حنقي بشدة، لذا هلا توقفت من فضلك، أنا فقط أريد مساعدتك كي لا يتورم جسدك اكثر)
عضت بدور على شفتيها بشدة، الا انها تمكنت من الهمس بإختناق
(ح، حاضر)
تنهد أمين بقوة، ثم ساعدها على التخلص من فستانها لتبقى في النهاية بقميص داخلي خفيف جدا، يظهر كل جسدها تقريبا...

طال الصمت بينهما و هي تتجنب النظر اليه شاعرة بحرج خانق، لكن مع تزايد الصمت رفعت عينيها تنظر اليه...
كانت عيناه تجولان على كل جسدها، لكنها لم تكن نظرات ذات شهوة أو اغواء، أو حتى حاملة لبعض الرضا...
بل كانت نظرات ذاهلة، غاضبة، الى أن جاء دوره في الهمس بصعوبة
(يا الله!)
اخفضت بدور عيناها تنظر الى ما ينظر اليه، فوجدت أن جسدها ملون بالكامل بكدمات متفرقة متدرجة الألوان، بعضها متورم كتلال صغيرة...

أعادت عيناها اليه و همست برهبة. لا تصدق أنه يشعر بالصدمة لأجلها
(إنها ليست سيئة كما تبدو)
نظر أمين الى عينيها بصدمة و سألها بصوت أجش
(بماذا ضربك؟)
بدت بدور مرتبكة شاعرة بالإهانة، شديد الإهانة، على الرغم من أن الشعور بالإهانة لديها كان قد مات تماما تجاه ما يفعله والدها و ما فعله راجح...
لكن الآن تشعر بكرامة جديدة عليها، كانت قد دفنتها منذ سنوات...
همست بدور بخفوت.

(خرطوم مياه، هذا سلاحه المفضل، ستزول خلال أيام)
زم أمين شفتيه بقوة، و بدا غير قادرا على الرد، ثم قال أخيرا بهدوء
(لن أستطيع اصطحابك الى الحمام، لا تزال أمي و نورا مستيقظتين، سأذهب أنا و أحضر بعض الثلج و المناشف)
فغرت بدور فمها قليلا، ثم همست غير مصدقة
(لا تتعب نفسك، أرجوك).

الا أن أمين كان قد قام من مكانه بالفعل متجاهلا كلماتها و خرج من الغرفة، بينما ظلت بدور جالسة و هي تدلك ذراعيها ببطىء ناظرة الى الباب حيث خرج...
ليتها كانت قد منعت راجح من خلع ملابسها، لما كان هذا حالها الآن، هذا ما نطق به أمين منذ لحظات، و ها هو لسانها يهمس بنفس الكلمات المؤلمة
ليتها منعت راجح من التجرأ على جسدها بدعوى أنها زوجته...

لكانت الآن تعيش مع أمين أجمل أيام حياتهما معا، تختبر معه الرقة و الحنان في العلاقة الزوجية...
لا علاقة سرية بغيضة على قلبها، تقوم بها فقط كي لا يملها شخص مغرور و دنيء، ظنت أنه الحياة و ما فيها...
ليتها كانت منعت راجح، و صرخت فيه أن الزواج ليس مجرد علاقة حميمية تستنزف بها نفسها كل مرة أكثر كي تنال اعجابه، بل خروجها من بيت والدها مرفوعة الرأس، ليبدآ حياة طويلة صعبة...

بحلوها و مرها، العلاقة الحميمية فيها هي عذوبة بعد ظمأ، راحة بعد عناء، لا كل ما تمثله المرأة.
و هذا هو ما كانت بدور تمثله لراجح، مجرد جسد ينظر اليه مفكرا قبل أن يقاربها...
نظرة تنازل، نظرة تخبرها بأنها ليست الجسد الأمثل، لكنها تفي بالغرض طالما كانت رهن اشارته في تلبية رغباته...
أجفلت بدور حين عاد أمين الى الغرفة، مغلقا الباب بقدمه وهو يحمل طبقا كبيرا، به مكعبات ثلج و ماء...
و مناشف على كتفه...

كتفت بدور ذراعيها حول صدرها و هي تنظر اليه بتردد، بينما عاد الى مكانه يجلس بجوارها، ثم اخذ يبلل منشفة ليمسح بها ساقها برفق من أتربة الطريق...
رفع أمين عينيه ينظر الى ذراعيها المكتفتين، ثم قال بخشونة خافتة
(فكي ذراعيك يا بدور، لن أنظر لك نظرة اشتهاء و أنت في هذه الحالة)
كان يتابع عمله دون أن ينتظر منها ردا، بينما وجدت صوتا يهمس بداخلها.

ليتك تفعل، تلك النظرة التي نظرت بها إلى في هذه الغرفة و أنا بفستان زفافي، لم أنساها حتى الآن، لم تكن نظرة تنازل أبدا، بل نظرة رجل مزهو بعروسه، ابتلعت تلك الغصة في حلقها و هي تبعد ذراعيها بضعف...
بعد فترة طويلة، كان أمين قد انتهى من غسل جسدها برفق و مسحه بالثلج الى أن هدأت كدماتها قليلا...
فسألها اخيرا وهو يبعد الطبق جانبا
(هل أنت أفضل؟).

أومأت بدور برأسها هي تبعد شعرها الى كتفها مخفيا جانب وجهها عنه، ثم همست بخفوت مقتضب
(شكرا لك)
لكن فجأة قبض أمين بكفه على ذقنها يرفع وجهها اليه بقوة مما جعلها تتفاجىء شاهقة، خاصة وهو ينظر اليها بغضب أطلق سراحه أخيرا، قبل أن يقول من بين اسنانه.

(اذن حان الآن وقت الكلام، لأنني لن أستطيع الإنتظار للصباح، ما الذي دهاك كي تتصرفي بمثل هذا الغباء؟، حتى الآن لا أصدق أنك فعلت ما فعلت! كيف اعترفت لوالدك؟، كيف واتتك هذه الجرأة؟، كيف؟)
عقدت بدور حاجبيها و همست مدافعة
(لم أستطع تحمل اهانتهما لك، كنت تظهر مراعاة لا يفهمانها و هي غير متواجدة أصلا في قاموسهما الشخصي، لذا فسرا الموقفر على أنه ضعفا منك، حينها لم أستطع الصمت أكثر)
هتف أمين بحنق.

(بل اعترفي أنك حصلت على الفرصة التي كنت تتمنينها كي تتشفين في والدك)
هزت رأسها نفيا و هي تقول بيأس
(أقسم لك أنني لم أشعر بأي شيء في تلك اللحظة سوى الغضب و فقدان السيطرة حين سمعت اهانتهما لك، لم أستوعب الا و الحقيقة تخرج من فمي دون توقف)
فتح أمين شفتيه ينوي معارضتها بغضب، الا أنه توقف، ناظرا اليها بتفحص، ثم سألها أخيرا بجفاء
(و ما هو شعورك الآن؟).

ساد الصمت بينهما و كلا منهما ينظر الى الآخر بقنوط، ثم قالت أخيرا بخفوت
(هل تصدقني إن أخبرتك أنني لا أشعر بأي شيء؟، لا شيء اطلاقا، فراغ، ربما كان الضرب قد أصابني بالتبلد)
ظل أمين صامتا قليلا، ثم سألها بجدية
(الا تشعرين ولو ببعض الشفقة على والدك؟)
رفعت وجهها المكدوم اليه، و كان فيه الرد الملائم، قبل أن تهمس بخفوت.

(آسفة، أعرف أنني سأخيب ظنك مجددا، لكنني بصراحة لم أعد أشعر بأي شيء تجاهه، ربما كنت أشعر ببعض الشفقة تجاه أمي، لكنها تركتني لهما لساعات طويلة من الضرب خوفا من انتشار خبر وصولي للبلد بعد أيام من زواجي، لذا)
زمت شفتيها و صمتت غير قادرة على المتابعة، بينما هو ينظر اليها متجهما، مفكرا...
ثم قال أخيرا بصوت غريب.

(لقد اعترفت بالحقيقة يا بدور، هل تدركين ما فعلت؟، هل تدركين ما المكانة التي انحدرت اليها بين اسرتك بعد اعترافك هذا؟)
رفعت بدور وجها باهتا و سألته بإختصار
(هل هناك فراق كبير بينها و بين مكانتي سابقا؟)
أومأ أمين برأسه وهو يقول بعنف
(بالطبع، حتى الآن لم تري رد فعل والدك، فقد ألجمته الصدمة، لكن فيما بعد ستتحول حياتك الى جحيم)
قالت بدور بصوت مختنق.

(لم أعد أهتم، لا تحاول إخافتي، أنت من تصرفت بطريقة أطارت البقية الباقية من عقلي)
ارتفع حاجبي أمين بدهشة، ثم سألها بعدم تصديق
(لحظة، دعيني أستوعب هذا، هل تلومينني على شيء؟)
هتفت بدور بيأس و انفعال.

(بالطبع، لقد حزمت أمري و استجمعت كل شجاعتي و سافرت، واجهت أبي للمرة الأولى في حياتي و صممت على طلب الطلاق، و تحملت كل ما تراه على وجهي و جسدي الآن، كل هذا كي أمنحك المبرر في التخلص مني دون أن تهتز مكانتك في العائلة، فماذا فعلت أنت؟، أتيت خلفي و افسدت كل مخططاتي)
صدرت ضحكة مستنكرة من حلق أمين، ثم هتف حانقا
(هل هذا جزائي؟، معك حق، كان يفترض بي تركك لهما حتى تلفظي أنفاسك بين أيديهما).

هزت بدور رأسها بتعب، ثم قالت أخيرا محبطة
(لقد أفسدت فرصتك في التخلص مني، لماذا عدت بي الى هنا بعد أن كنت تخبرني كل يوم عن عدم قدرتك على الإنتظار أكثر حتى تتخلص مني؟)
أظلمت ملامح أمين بشدة و عقد حاجبيه، ثم قال بصوت محتد
(لم أستطع تركك لهما، ألم تنظري الى وجهك في المرآة؟، انظري الى جسدك، كنت أتخيل كل ما يمكن أن تتعرضين لها أثناء جلوسي في القطار، لكن الحقيقة كانت أفظع).

ظلت بدور صامتة طويلا و هي تنظر اليه بملامح غريبة، ثم قالت أخيرا بصوت مختنق.

(أنت طيب جدا يا أمين، و قد ابتلاك الله بي، لكن الشيء الوحيد الذي يخفف من احساسي بالذنب هو أن الله لن يضيع معروفك معي، لقد سترتني أمام الجميع و أبعدت شبح الفضيحة و الإهانة عن عائلتنا، أما أنا فثق أنني سأنال عقابي، إن لم يكن اليوم، سيكون غدا، يوما ما ستطلقني و تت، تتزوج، بينما أنا سأعود الى داري، شاؤوا أم أبو، سيستقبلونني و سأتابع حياتي معهم).

ازداد انعقاد حاجبي أمين بشدة وهو ينظر اليها مفكرا، ثم نهض من مكانه و أولها ظهره قبل أن يقول بصوت خشن
(لن تكوني أكثر من خادمة، لن تكملي دراستك و لن يسمح لك بالعمل، و صدقيني المعاملة تجاهك لن تسرك مطلقا)
أطرقت بدور برأسها، و قالت بتعب
(أعرف، و هذا هو عقابي، أنا اتقبله الآن)
لم يستدر أمين اليها، بل سألها بصوت جاف.

(أرى أنك تتعاملين مع الأمر بصدر رحب، بينما كنت منذ أيام تطمحين الى أن أسامحك و تصبحين ام أطفالي)
ضحكت بدور بشكل غريب و هي تهمس بضعف
(ياللهي! ما أغباني!)
ثم خفت صوتها حتى اختفى تماما، فاستدار أمين ينظر اليها، الا أنه فوجىء بها و قد أغمضت عينيها و انتظمت أنفاسها، بينما تراخى ذراعاها و ارتاحا فوق معدتها، مما جعل جسدها الضعيف مكشوفا له، شديد الهشاشة كجسد امرأة تعرضت لأسوأ أنواع العنف...

تحرك أمين و اقترب منها ببطىء، حتى انحنى اليها وهمس يناديها
(بدور، لا تنامي الآن، أنت لم تتناولي أي طعام منذ الصباح)
همهمت بدور بكلمات ناعسة، و رف جفناها و كأنها تحاول جاهدة فتحهما، لكنها فشلت و تنهدت مستسلمة للغيمة المريحة التي أبعدتها بالقوة عن أحداث هذا اليوم المنهكة نفسيا و جسديا...
ظل أمين مكانه ينظر اليها متجهما طويلا، ثم جذب الغطاء من تحتها برفق و دثرها به قبل أن ينحني.

ليخلع حذاؤه و قميصه، قبل أن يتسلقي بجوارها، واضعا ذراعيه تحت رأسه...
شعرت بدور بإستلقائه على الفور مما جعلها تستفيق و تفتح عينيها بضعف، و ظلت لحظات تنظر اليه دون استيعاب، قبل أن تجفل و ترتبك فهمست دون تفكير
(سأحضر الفراش على الأرض، ابقى أنت على السرير، لابد و أنك متعب).

و حاولت النهوض بالفعل، الا أن كف أمين امتدت ليمسك بساعدها فجأة، مما جعلها تلتفت لتنظر اليه عبر الضوء الشاحب، لكنه لم يلتفت اليها، بل ظل ناظرا الى السقف وهو يقول بجفاء
(أنا بالفعل متعب، و لن يمكنني النوم على الأرض الليلة، و بالتأكيد لن تفعلي أنت، لذا استلقي و دعينا نحصل على قسط من النوم كي نتمكن من التفكير غدا بشكل سليم).

لم تفهم ما قصده بالضبط، فكل ما سيطر عليها في تلك اللحظة هو تخيل نومه بجوارها مما جعلها تتلون و تنظر اليه مصدومة عبر جفنيها المتثاقلين، و حين ظلت نصف جالسة بتردد، أعاد أمين قائلا وهو مغمض العينين
(نامي يا بدور)
تراجعت للخلف بحذر، حتى استلقت تماما، متخشبة و هي تتمسك بحافة السرير حتى آلمها ظهرها...

لكن ما أن سمعت صوت أنفاسه الرتيبة، حتى بدأ توترها يزول تدريجيا، الى أن عاد النعاس الى عينيها أسرع مما كانت تتوقع...
أخذت تقاوم اغماض عينيها قليلا، الى أن استسلمت في النهاية و راحت في سبات عميق هذه المرة غير قابل للإختراق...
عندما بدأت تئن في نومها من فرط التعب و الألم، فتح أمين عينيه متوقفا عن التظاهر بالنوم، ثم استلقى على جانبه، ينظر الى جانب وجهها المجهد...

كانت تنتفض و تهتز في نومها، تهذي قليلا بين الحين و الآخر...
بينما هو يراقبها في صمت تام و بملامح شديدة القتامة...
لم يكن من الفترض أن يحدث أي من هذا، ما الحل الآن؟، كيف يتصرف معها؟
لا يمكنه أن يعقابها على خطأها قبل زواجهما الى الأبد، فهو ليس منزها عن الخطأ...
كما أنه حتى و إن غفر لها خداعها معه، فهو لن يستطيع أبدا الإقتناع بها كزوجة له...
طيبعته لن تتقبلها أبدا، و لن يجني سوى عذابهما سويا...

لكن ما الحل؟
لقد اختبر اليوم أنه لن يستطيع أبدا تسليمها الى أهلها، لن يتمكن من التخلي عنها...
سيفكر كل يوم في كم الإذلال و الألم الذي تتعرض له كل ساعة...
اذن كيف يتصرف؟، و الى أين يبعدها؟
صحيح أنه أرضى ضميره و تستر عليها ووقف في مواجهة عمه، وهو ليس مجبرا على فعل أكثر من هذا، لكنه ببساطة لا يستطيع، إن كانت قطة فلن يتخلى عنها، بينما بدور انسانة، حدث أن تعلقت به مستجدية.

صحيح أنها استخدمت الحيلة و الخداع، لكن لمن يتركها؟، و إن لم يفعل، فكيف يتقبلها؟
شعر أمين أن صدره قد ضاق أكثر و بات نفسه شديد البطىء، فأحس أنه لا جواب لديه الا باللجوء الى الله...
لذا قام من مكانه بحرص كي لا يصدر صوتا، و خرج من الغرفة ليتوضأ و يصلي و يستجدي الإستخارة...

(هل أعطلك قليلا يا دكتور؟)
توقف فريد عن كتابة التقرير الذي يقوم به، و رفع رأسه متفاجئا بياسمين تقف لدى باب مكتبه الخاص في المعهد، و للحظات ارتفع حاجباه بدهشة بالغة، سرعان ما تحولت الى بهجة حقيقية وهو ينهض من مكانه ناظرا اليها عاقدا حاجبيه بإبتسامة عريضة، ثم سألها بمتعة
(هل أتخيل أنك هنا؟)
ابتسمت ياسمين و أطرقت بوجهها متوترة، ثم قالت بحرج.

(إن كان في زيارتي تعطيل لك عن عملك، فأرجوك أخبرني دون حرج، سأنصرف على الفور و اتصل بك ليلا)
كان فريد قد وصل اليها، فتوقف و قال مهددا بمرح
(حاولي الإنصراف)
التفتت ياسمين تنظر خلفها قليلا و هي تفكر في الإنصراف بالفعل، فحتى هذه اللحظة لا تعرف لماذا ساقتها قدماها الى محل عمله للمرة الاولى...
حين لاحظ فريد ترددها، قطب قليلا، الا أنه أعاد تحذيرها بصوت جاد
(هيا، أريد ان اراك تحاولين الإنصراف).

حينها ضحكت ياسمين بعصبية و هي تقول مستسلمة بمزاح
(حسنا، حسنا، لا داعي لإستخدام العنف، سأبقى معك قليلا ثم أنصرف)
تشدق فريد قائلا بغرور و غطرسة
(كم أنت متفائلة يا آنسة، أنت لن تعودي الى بيتك الا بعد أن أدعوك الى تناول عشاء فخم معي، ثم أقلك بنفسي)
دخلت ياسمين الى مكتبه بتردد و هي تعدل من حزام حقيبتها فوق كتفها، ثم قالت ساخرة بإرتباك
(آنسة!)
تبعها فريد قائلا ببساطة
(أنت في نظري آنسة، هل لديك مانع؟).

ازدادت ابتسامتها خجلا و هي تهز رأسها نفيا ببطىء، ففتنه امتلاء وجنتيها و شفتيها الملونتين بلون أحمر قاتم، و ما زاد جمالها، شعرها اللطيف المنساب ملامسا كتفيها بنعومة...
شهية جدا، خاصة و هي تبتسم مخفضة جفنيها بتلك الطريقة و أصابعها تتلاعب بحقيبتها بارتباك...
وقفت ياسمين في منتصف المكتب تتأمله بفضول، مما منحه فرصة أكبر ليتأملها هو بدوره و بكل شغف...
كان مكتبه أنيقا، لا يشبه أي مكتب من مكاتب عملها...

يغلب عليه اللون الأبيض كغرف الأطباء عادة، لكنه كان مزودا بلمسات تخص فريد وحده...
ففي احدى زواياه كانت هناك آلة مشي رياضية!
اقتربت ياسمين منها و هي تقول بذهول
(لمن هذه؟)
ابتسم فريد وهو يراقب صدمتها، ثم قال بهدوء واضعا كفيه في جيبي بنطاله
(أحدهم تبرع بها، فقمت بسرقتها من الطريق)
نظرت اليه رافعة أحد حاجبيها بإرتياب مما جعله يضحك قائلا.

(فكرتك عني سيئة جدا، إنها تخصني، فأنا لا أطيق الجلوس لفترة طويلة، أشعر و كأن عظامي تئن ألما إن جلست مكاني أكثر من ساعة)
تلمستها ياسمين و هي تقول مبهورة
(لا تطيق الجلوس لأكثر من ساعة؟، نحن نجلس في المكتب أكثر من ست ساعات حتى ازداد حجم مؤخراتنا بعد سنوات من العمل).

انتبهت فجأة الى ما قالت، فإحمر وجهها بشدة و عضت لسانها الغبي الذي اعتاد كلام النساء دون حرج من طول جلوسهن سويا في المكتب وجههن في وجوه بعضهن...
ابتسم فريد ابتسامة عريضة وهو يقول مدققا النظر اليها
(نعم، لاحظت)
اتسعت عينا ياسمين بذهول قبل أن تبرقان بغضب و هي تسارع لتجلس على أحد الكرسيين أمام مكتبه، تجذب طرف تنورتها للأسفل و هي تهتف حانقة
(أنت قليل الأدب)
ارتفع حاجبي فريد وهو يقول بدهشة
(ماذا؟).

ارتبكت ياسمين بشدة، فقالت متوترة دون أن يختفي غضبها
(اقصد أنك وقح، أعني لم يصح أن تقول هذا)
جلس فريد على الكرسي المقابل لها وهو يقول ببراءة
(أنت من قلت، لا أنا)
هتفت ياسمين بحنق
(لكن لم يكن عليك أن تصدق على الأمر)
سألها بعفوية طفل مصدوم
(هل تريدين مني أن أكذب؟)
فتحت ياسمين شفتيها تنوي شتمه، الا أنها زمتهما في النهاية و هي تتنفس بضيق و غضب...

مما جعله ينظر اليها مبتسما وهو يراقب كل إنفعال على وجهها الشهي الفاتن...
و ساد الصمت بينهما للحظات، لم تستطع خلالها أن تتجاوز ما قاله للتو، و كأنه صفعها على غفلة منها...
فقالت أخيرا بصوت متردد متذمر، و ملامح عابسة دون أن تنظر اليه...
(هل، هل تظن هذا حقا؟)
رد عليها فريد بإبتسامة ماكرة
(ما هو الذي أظنه؟)
نظرت اليه ياسمين بعينين تقدحان شررا و هي تقول بحدة.

(توقف عن اسلوبك هذا، أريد جوابا صادقا لأن هذا الأمر يهمني)
ظل فريد ينظر اليها طويلا بإبتسامة غريبة، ثم تراجع في مقعده قائلا بهدوء
(لدي جوابا واحدا فقط، هو أنني لم أكن لأخطبك لو لم تكوني تعجبينني، شكلا و روحا)
أطرقت ياسمين بوجهها قليلا، و بدت ملامحها حزينة لسبب تافه، فقالت بخفوت
(لكنني ممتلئة القوام، ليس كثيرا، الا أنني ممتلئة القوام، لا يمكنك إنكار هذا)
رد عليها فريد ببساطة
(لن أنكر).

شعرت ياسمين بإهانة بالغة، فأطرقت برأسها مجددا و هي تشعر بيأس بالغ، فهذا الموضوع رغم تفاهته الا أنه يزعجها تماما...
تابع فريد يقول بهدوء
(لكنك تعجبيني في كل الاحوال)
أفلتت منها ضحكة متهكمة، ثم قالت بجفاء
(ليس عليك قول هذا)
رد فريد مؤكدا
(بلى سأقوله، أنت تعجبينني، شكلك يعجبني، و شخصك يعجبني، و جسدك يعجبني جدا)
رفعت ياسمين وجهها المحمر قليلا و قالت بتذمر
(أنت تتجرأ في الكلام كثيرا)
ضحك فريد وهو يقول.

(لم أكن أريد هذا، لكنني أجيب اسئلتك بصراحة، لذا لا تنظري للأجوبة من منظور شخصي)
رفعت ياسمين يدها تبعد شعرها خلف أذنها و هي تقول بقنوط
(كلما حاولت خفض وزني، فإنه يزيد أكثر)
رد فريد بهدوء
(ربما كان الأمر نفسي، حين تفتر عزيمة الإنسان يتفاعل جسده مع اليأس المنتشر بداخله، فتظنين أنك تقللين من طعامك بينما أنت في الواقع تزيدين منه)
صدرت عنها تنهيدة مثقلة، عالية الصوت جعلته يقول بخفوت.

(أستطيع مساعدتك على خفض وزنك لو كان الأمر يمثل لك كل هذه الأهمية)
ردت ياسمين بصوت يائس
(لن تستطيع فعل شيء، أنا حاولت بكل الطرق و لم أفلح أبدا)
ظل فريد ينظر اليها بصمت، ثم نهض من مكانه و مد لها كفه قائلا بحزم
(تعالي معي)
نظرت الى كفه الممتدة بتوجس و همست
(الى أين؟)
أشار بذقنه الى زاوية اخرى و قال بهدوء
(لدي ميزان، تعالي لنقيس وزنك)
فغرت ياسمين فمها بإستنكار قبل ان تهتف رافضة و هي تهز رأسها نفيا بقوة.

(مستحيل، لن يرى أحد وزني أبدا، مستحيل)
رفع فريد أحد حاجبيه وهو يقول
(بعد الزواج سأرى كل شيء و لن يمكنك اخفاء أي شيء عني، لذا أقترح أن تبدأي من الآن)
احمر وجهها قليلا و هي تسأله بعصبية
(أبدأ بماذا بالضبط؟)
طال به النظر الى عينيها، ثم قال بجدية
(بإظهار كل ما تخفين عني)
ترددت ياسمين قليلا ثم قالت بإرتباك
(ألازلنا نتحدث عن الوزن؟)
ضاقت عينا فريد قليلا وهو يقول
(و هل هناك شيئ آخر تخفينه عني؟).

ازداد شحوب ملامحها و هي تلعق شفتها بتوتر، ثم همست أخيرا...
(لا)...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة