قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والأربعون

ازداد شحوب ملامحها و هي تلعق شفتها بتوتر، ثم همست أخيرا...
(لا)...
ساد صمت قصير بينهما وهو يتفحصها بدقة، ثم قال بهدوء آمر
(اذن تعالي)
رفعت ياسمين عينيها تنظر الى يده و قالت بقنوط
(لا أريد يا فريد، هذا الموضوع يضايقني)
حرك يده في الهواء مكررا
(هيا، أنا أنتظر أو أحملك بنفسي)
ضحكت رغما عنها و هي تحك جبهتها، فابتسم فريد سائلا
(لماذا تضحكين؟)
تورد وجهها قليلا، ثم قالت بحرج ممازحة.

(عبارتك، ذكرتني بأحد أحلامي الوردية)
رفع فريد حاجبه وهو يسألها بخبث
(هل تملكين أحلاما وردية؟، أمممم هذا مثير للإهتمام، كنت أظنك أكثر تهذيبا)
عبست على الفور و هي تقول بحدة
(وردية، وردية، أحلاما وردية، لا أحلاما من تلك التي تدور في مخيلتك الآن)
اتسعت ابتسامته أكثر وهو يقول بمكر
(اذن أخبريني بحلمك، الوردي، فأنا مهتم بسماعه)
ردت ياسمين بخجل و هي تعيد شعرها خلف أذنها بإرتباك على الرغم من أنه لم يتحرر أصلا.

(كانت إحدى أحلامي الوردية هي أن، يحملني زوجي)
انتظرت منه أن ينفجر ضاحكا، و شتمت نفسها ألف مرة على بوحها بأحد أحلامها السخيفة...
الا أنه سألها بعفوية
(ألم يحملك زوجك السابق مطلقا؟)
نظرت اليه ياسمين بصدمة، إنه يتكلم عن زوجها السابق بنبرة عادية تماما و كأنه لا يشعر بأي نوع من الغيرة أو التملك...
الا يغار؟
شعرت فجأة بطعم سيء في حلقها، حاولت جاهدة أن تتجاهله...
ثم قالت بجفاء
(لا، لم يفعل).

لم يبدو عليه و كأنه قد لاحظ جفائها المفاجىء، حين قال بهدوء واثق
(حين نتزوج سأحقق لك حلمك، و احملك كما تشائين)
مطت ياسمين شفتيها و هي تنظر اليه بطرف عينيه قائلة
(لن تستطيع حملي أبدا، وزني لا يسمح)
سألها فريد متحديا
(هل تراهنين؟، يمكنني غلق الباب و حملك الآن لتتأكدي بنفسك)
نظرت اليه بصدمة تحاول أن تتبين إن كان يتكلم بجدية أم أنه يمزح كعادته، لكن ملامحه كانت جادة تماما دون ابتسام...

توتر الجو بينهما لسبب مجهول، فاعتبرت كلامه مجرد مزاحا تافها، فقالت بسخرية
(لا شكرا، أفضل الإحتفاظ بكرامتي عوضا عن إهدارها أرضا بجواري حين نسقط سويا من أول محاولة)
لم يضحك فريد بل قال بهدوء بعد فترة
(لنؤجل الموضوع اذن بعد الزواج، و الآن تعالي لنقيس وزنك، أنا أنتظر منذ فترة)
أغمضت ياسمين عينيها يأسا، ثم لم تلبث ان نهضت من مكانها و هي تترك حقيبتها على سطح المكتب...

لتضع يدها في كفه الممتدة بخجل، حينها أطبق اصابعه على يدها ليسحبها معه حيث الميزان...
و هي تسير خلفه شاعرة بحرج بالغ، هل حقا ستسمح له معرفة وزنها؟
إنه سر لم تسمح لمخلوق بأن يعرفه، وقفت أمام الميزان تنظر اليه بتوتر و هي تعض على زاوية شفتيها...
ثم قالت مؤخرة الأمر المحتم...
(أنت تدلل نفسك جدا، ميزان و آلة مشي رياضي، هل لديك مسبح مخبأ في مكان ما أيضا؟)
رد عليها فريد قائلا بحزم
(اصعدي الى الميزان يا ياسمين).

أصدرت أنينا مختنقا، ثم قالت مترجية
(الحذاء يزن الكثير، هذا ليس عدلا)
رد عليها فريد بهدوء مبتسما
(اخلعيه إن أحببت)
زمت ياسمين شفتيها بحنق و هي تشعر بأنها محاصرة دون أمل في الهرب، ثم خلعت الحذاء ببطىء
ووقفت حافية القدمين تدعو الله أن يكون وزنها قد نقص عن الإسبوع الماضي...
تكلم فريد وهو ينظر اليها و هي تقف مغمضة العينين تهمس بشيء ما
(المفترض أن تقفي فوقه، لا أن تترجيه سرا، اصعدي يا ياسمين).

تنهدت بيأس ثم صعدت و الارقام تتحرك أمامها بسرعة الى أن أستقرت أخيرا...
رمشت ياسمين بعينيها عدة مرات، و هي تحاول استيعاب الرقم الذي زاد عن آخر وزن بثلاث كيلو جرامات كاملة، ثم هتفت بذهول
(هذا الميزان ليس مضبوطا أبدا، قياسه خاطىء تماما)
رد عليها فريد مبتسما...
(غير ممكن، قياسه يماثل ثلاث غيره في ثلاث أماكن مختلفة)
هتفت ياسمين بحدة و هي تبرر
(ليس مضبوطا صدقني، وزني أقل من هذا بكثير، صدقني).

كان صوتها يبدو كأنين حيوان صغير محشور أسفل أحد أرجل الطاولة
فرد عليها فريد مقلدا صوتها
(صدقيني أنت يا ياسمين، الميزان مضبوط، أول العلاج هو الإعتراف بالمشكلة)
ظلت صامتة تنظر الى الرقم بعينين بائستين حتى تشوشت الرؤية أمامها بفعل دموع حمقاء، رآها فريد فسألها غير مصدقا
(ياسمين! هل تبكين؟).

لم تجبه ياسمين، بل طرفت بعينيها كي لا تبكي، مما جعله ينفجر في الضحك عاليا، مما جعلها تنفجر غضبا فضربته في صدره بكل قوتها هاتفة بإختناق
(كف عن هذا، هل أنت راضيا الآن؟، حققت ما تريد و عرفت وزني و الأن تضحك! أي سادية تلك!)
لم يستطع فريد التوقف عن الضحك وهو لا يزال ممسكا بكفها يرفض التخلي عنه الرغم من محاولاتها لسحب يدها بالقوة...
فنزلت من على الميزان و هي تهتف بحدة و اختناق.

(والله لو لم تتوقف فسأغادر على الفور)
سعل فريد بقوة وهو يحاول التوقف عن الضحك، ثم قال بمرح حنون
(آسف، آسف، لم أستطع منع نفسي، فأنت لم تري شفتيك المضمومتين و أنت تصرخين في الميزان و كأنه ظاهرة كونية تتآمر ضدك)
نظرت ياسمين اليه بحنق فسحبها اليه و قال برقة
(لا تنظري إلى هكذا، الا تدرين كم كنت رقيقة بينما أنت تزمين شفتيك مع عينيك الدامعتين! لمجرد أن وزنك زاد ثلاث كيلو جرامات فقط!)
هتفت ياسمين بغضب.

(الميزان غير مضبوط)
قال فريد بتملق و كأنه يحادث طفلة
(لا بأس، ليس مضبوطا، لكن لا تغضبي الى تلك الدرجة)
تنهدت ياسمين و هي تسير عائدة الى الكرسي مثبطة العزم، فقال فريد مجددا ينبهها
(ياسمين، نسيت حذائك)
نظرت للأرض ففوجئت بنفسها تمشي حافية فوق الأرض الباردة دون أن تشعر، مما جعلها تعود لترتدي حذائها بصمت، ثم عادت و جلست على الكرسي محنية الكتفين...
جلس فريد أمامها وهو يمنحها فترة من الصمت ث سألها بهدوء خافت.

(هل أنت أفضل الآن؟)
رفعت عينين كئيبتين اليه و قالت بقنوط
(لابد و أنك تراني بدينة كبقرة الآن، لكن ليكن بمعلومك، عظامي من النوع ثقيل الوزن أكثر من الطبيعي، لذا يبدو وزني ضخم أكثر من شكلي)
ضاقت عينا فريد وهو يقول بحيرة.

(أنا أراك منذ شهور يا ياسمين، و على الرغم من ذلك أعجبت بك و خطبتك بعد عناء، فما الذي تغير الآن؟، الوزن مجرد رقم، و أنت محظوظة لأنك قادرة على تغييره ببعض الإرادة، ففي مجال عملي مثلا اتعامل مع جميع أنواع التشوهات الخلقية و الذهنية التي قد تتخيلينها و ما لا تتخيلين، و هي ما لا يستطيع البشر تغييرها في أنفسهم أو أبنائهم)
شعرت ياسمين بالحرج و هي تسمع منه هذا التأنيب الخفي، فقالت بخفوت.

(لابد و أن عملك صعب)
رد عليها فريد ببساطة
(الأصعب، ليس هناك أكثر صعوبة من التعامل مع مرض غير قابل للشفاء، و اقناع صاحبه بالتعامل معه و تقبله، فما أتعامل معه لا علاج له، حتى أنني أتسائل أحيانا إن كان الناس ينظرون الينا و كأننا نذير شر، و الأشد صعوبة حين تكون الحالة طفلا، التعامل مع ذويه و رؤية اليأس و الألم في أعينهم دون القدرة على الإعتراض)
انخفضت ملامح ياسمين بكآبة، ثم قالت بخفوت.

(يومك أصعب مما تخيلت، كنت أظن مجال تخصصك أسهل، فشخصيتك المرحة لا توحي بهذا كما أنك لا تتوقف عن الضحك و المزاح)
رد عليها فريد قائلا بتنهد
(في حالتي الضحك ضرورة، أنا أحارب خطر الإصابة بالإكتئاب يوميا)
عضت ياسمين على شفتيها و هي تتلاعب بأصابعها، فقال فريد بعد فترة من النظر الى ملامحها
(تبدين مرهقة للغاية، الهالات تحت عينيك مريعة).

تطاير التعاطف الذي كانت تشعر به تجاهه على الفور و نظرت اليه و هي تمط شفتيها بإمتعاض قائلة
(أنت بالتأكيد لا تجيد اختيار الأسلوب الملائم في الحديث مع امرأة)
رد عليها فريد قائلا بجدية
(هل الأمر يزداد صعوبة في البيت؟)
أطرقت ياسمين بوجهها و هي تزيد من التلاعب بأصابعها بعصبية، ثم قالت بصوت مجهد.

(أنا لم أعد أطيق العودة للبيت، ليلة أمس زاد عادل من تلميحاته و سماجاته و أنا أحاول جاهدة ألا أرد عليه، و مع أول كلمة مني حين نفذ صبري، انفجرت أختي في الصراخ و العويل و كأنني قتلته، و اتهمتني بإتهامات أخجل من أن أتذكرها حتى، فبعد عودتها من المشفى تعاني عصبية غير محتملة، بخلاف بكاء الطفلة المستمر، أنا أستيقظ كل يوم و أذهب للعمل بعد ساعتين فقط من النوم، كما أنهم لا يتركون لي مالا أبدا، لقد نفذ راتبي و لم ينتصف الشهر بعد، أنا أيضا لي طلبات و أحتاج لشراء بعض الأغراض لكن).

صمتت فجأة و هي ترفع اليه عينين واسعتين محرجتين...
ياللهي، ما تلك الثرثرة المثيرة للشفقة!
همست ياسمين بضعف
(لا أعلم لماذا كلما جلست أمامك تحدثت بكل ما لا يجب قوله)
ابتسم فريد برفق و قال بهدوء
(هذا يسعدني جدا)
نظرت اليه بحذر و همست
(الا تضايق من ظروف حياتي؟)
رد عليها فريد قائلا
(لو كنت أتضايق لما كنت سمعتك منذ اليوم الأول)
تنهدت ياسمين تنهيدة مكبوتة، ثم قالت بخفوت.

(فريد، أنا غير مرتاحة، لا أشعر أن زواجك بي عادلا، أنا، أنا أهرب من حياتي اليك و أنت غير معترض، بينما تستحق أفضل من هذا، أرجوك فكر جيدا، أنا غير مرتاحة أبدا)
أسند فريد ذقنه الى قبضته و ذراعه يرتاح الى المكتب بجواره، ينظر اليها مبتسما بهدوء و كأنه يجد سعادة في تأمل ملامحها المكتنزة، ثم قال أخيرا بخفوت
(أنت قلتها، أنا غير معترض، كما أن كل هذا سيتغير فيما بعد، هل تراهنين على شيئين؟).

نظرت اليه بقنوط و همست
(ماذا؟)
أجابها فريد دون أن يفقد ابتسامته
(بعد زواجنا ستفقدين وزنك، و ستقعين في حبي)
ابتسمت على الرغم منها، لكنها أخفضت وجهها و هي تشعر بحزن عميق، ثم قالت بخفوت
(أنا أرتاح في الوجود بقربك جدا، عادة أخرج من العمل و أدور بالحافلة مرة و اثنتين كي أؤخر العودة للبيت و المشاكل، لكن اليوم وجدت نفسي آتي اليك دون تفكير، تمنيت الإبتسام، لا شيء سوى الإبتسام، و هذا ما أعثر عليه معك).

قال فريد بصوت عميق هادىء، يحمل دفئا أكثر
(هذا أجمل ما سمعته منك، وهو يرضيني جدا، حاليا على الاقل)
ابتسمت ياسمين قليلا، الا أنها سألته بقلق
(ألا تحتاج الى إعادة تفكير؟، أرجوك فكر مجددا)
رد عليها فريد بسؤال هادىء
(هل تحتاجين أنت؟)
ظلت صامتة و هي تنظر اليه طويلا، ثم همست أخيرا بما هي موقنة منه.

(أحتاج للخروج من هذا البيت بأسرع وقت ممكن، لكن ليس الى أي مكان، جربت مرة من قبل و لم أفلح في السكن بمفردي، أحتاج الى انسان بجواري، ليس مجرد رجل، بل انسان، يجعلني أبتسم و أرتاح على كتفه و أنا اشاهد التلفاز مساءا، و أنا لا أثق بسواك)
اتسعت ابتسامة فريد اكثر دون أن يجيبها، فشعرت بإختلاجة جديدة تداعب قلبها مما جعلها تعقد حاجبيها مرتبكة و هي تشيح بوجهها...
بينما قال فريد بهدوء.

(أنا مستعد لعقد قراننا اليوم لو أحببت كي أخرجك من هذا البيت، الشقة لم تنتهي بالطبع لكن الشقة الإيجار التي اسكنها حاليا تفي بالغرض مؤقتا)
برقت عينا ياسمين بتحمس للحظة، ثم عادت و قالت بخفوت
(لا يمكن هذا، ماذا عن عائلتك؟، الا يكفي أنك خطبتني دون اخبار أعمامك و جدك! تحتاج الى فترة كي تستعد لزواج مناسب ترضى به عائلتك)
قال فريد دون تردد.

(دعي أمر عائلتي لي، يومان على الأكثر و يستعد الجميع لحضور عقد قراننا، هذا إن وافقت على زواج دون زفاف)
ظلت صامتة قليلا دون رد، فسألها مبتسما
(أنت تتمنين زفافا، أليس كذلك؟)
أجابته كاذبة بإرتباك
(أنا سبق و حصلت على زفاف، أنت من لم يفعل)
لم يرد عليها، مما جعلها تنظر لأعلى يأسا من شدة غبائها الغير منتهي أبدا...
لكن على الأقل تعرف أنه ليس من النوع الذي قد يستاء من الكلام عن زواجها الأول...

لذا غيرت الموضوع تسأله بلهفة
(هل توجد شققا أخرى متوفرة للإيجار في البناية التي تسكنها حاليا؟)
أجابها فريد ببطىء
(يوجد أكثر من واحدة، لكنني ظننت أنك لا تفضلين السكن بمفردك مجددا)
قالت بصدق
(لكنني سأكون بجوارك، ما رأيك؟)
أجابها فريد بهدوء.

(أنا لا أتمنى أكثر من أن تكوني بجواري يا ياسمين، لكن أفضل أن أخرج بك يوم زواجنا من بيت والدك، فكري في أمك على الأقل، الا يمكنك التحمل لفترة إضافية؟، سأحاول قدر الإمكان أن نتزوج في أسرع وقت)
زمت ياسمين شفتيها دون رد، محدقة في الأرض بعينين شاردتين حزينتين و كأنه خذلها...
تحرك فريد ليخرج حافظته من جيب بنطاله، ثم اخرج منها بطاقة ائتمان، مدها الى ياسمين قائلا ببساطة
(خذي هذه).

نظرت ياسمين الى البطاقة دون أن تمسك بها ثم سألته بقلق
(ماذا أفعل بها؟)
رد عليها فريد بهدوء
(ألم تخبريني أن راتبك قد نفذ، كيف ستكملين الشهر دون مال؟، سأسجل لك الرقم السري و اسحبي منها المال ثم ابتاعي كل ما تحتاجين اليه)
هتفت ياسمين و قد احتقن وجهها بشدة
(انت تهينني، أنا لن آخذ منك مالا أبدا، أنا كنت أتكلم معك لأرتاح فقط. لا أكثر)
مال فريد الى الأمام تجاهها ثم قال ببطىء كي تفهم.

(ياسمين، أنا أعتبر نفسي مسؤلا عنك منذ اليوم الذي وضعت فيه خاتمي بإصبعك، و أنا لن أسمح أن تطلبي المال من أي شخص آخر، كما أنني لن أتركك دون مال حتى نهاية الشهر، أنا خطيبك، حاولي التاقلم مع الفكرة)
هزت ياسمين رأسها معترضة بقوة و هي تقول بصوت مختنق
(مستحيل، مستحيل، أنا لم آخذ مالا من أي أحد من قبل)
أجابها فريد بصوت أكثر صلابة
(أنا لست أي أحد، ضعي هذا في رأسك و استوعبيه جيدا، الآن خذيها).

ظلت ياسمين مترددة طويلا، ثم أخذتها منه بأصابع مرتجفة و هي تشعر بخزي للمرة الأولى في حياتها...
لطالما أمن لها راتبها المعقول استقلالا ماديا مقبولا جعلها قادرة على رفع رأسها و مواجهة أي أحد دون أن تخفض عينيها...
تتمنى أن تترك هذا العمل الروتيني الكئيب و تتخلص من تحرشات مديرها القذر، لكن راتبها هو أمانها الوحيد، هو سلاحها القوي لتظل مستقلة دائما...
همست أخيرا بصوت مختنق
(شكرا)
ابتسم فريد وهو يقول برضا.

(الآن هيا بنا لنخرج، سأدعوك على عشاء لم تتناولي مثله من قبل، و اتركي الخيار لي)
أومأت ياسمين برأسها ببطىء دون رد
أي شيء أفضل من العودة للبيت، على الأقل لن يتجرأ أحد على محاكمتها لدى عودتها...
فهي مع خطيبها، لترى من سيعترض حينها...
قال فريد مستائا قبل أن تتحرك
(لكن بالله عليك امسحي هذا اللون الفاقع من شفتيك قبل أن نخرج من هنا، أنا لا أطيق هذا اللون، تبدين كقطة أكلت أطفالها).

فغرت ياسمين شفتيها و قد امتقع وجهها، ثم سألته بصوت مصدوم
(هل تهزأ بأحمر الشفاه الذي أضعه؟)
أجابها فريد وهو يموىء برأسه دون تردد
(نعم، سيء، سيء جدا، و غير مناسب للخروج به من البيت، ضعيه في البيت بعد زواجنا، حينها قد أعصر على نفسي ليمونة و أحاول تقبله، أما الآن التقطي حرمة ورقية و امسحيه)
التقطتت ياسمين محرمة ورقية بالفعلو أخذت تمسح شفتيها بخيبة أمل.

في الواقع حين خرجت من البيت اليوم صباحا، كانت فوضوية الهيئة تماما...
وجهها خالي من مساحيق التجميل و شعرها مجموع خلف رأسها بعشوائية...
لكن وقت انتهاء عملها شعرت بالرغبة في زيارته للمرة الأولى، فاتجهت الى غرفة السيدات، و بدافع أنثوي فكت شعرها و اخذت تمشطه بأصابعها، و لحسن حظها أنه خفيف و ناعم لا يحتاج الى مجهود كبير، و كانت بجوارها أحدى زميلاتها، تنظر الى المرآة و هي تجرب هذا اللون من أحمر الشفاه...

ثم غسلته سريعا، حينها طلبت منها ياسمين أن تضع منه...
فنظرت اليها زميلتها و سألتها مجفلة
(الا ترين أنه فاقع قليلا؟)
أخذته ياسمين منها و قالت دون اهتمام
(يفي بالغرض).

حين انتهت من مسحه، لاحظت أن فريد يدقق النظر في ساقيها، مما جعلها تمتقع بعدم راحة، و جذبت أطراف التنورة أكثر و هي تسأله بتوتر
(الى ماذا تنظر؟)
رفع فريد عينيه اليها و قال مبتسما
(الى ساقيك)
فغرت ياسمين فمها و هي تقول مصدومة
(ماذا؟)
كرر فريد مبتسما ببساطة
(أنظر الى ساقيك، انهما جميلتان جدا، )
احمر وجهها بشدة و هي تجذب أطراف التنورة أكثر دون جدوى، ثم هتفت
(توقف يا فريد، ظننتك مهذبا).

ارتفع حاجبيه وهو يقول بدهشة
(لماذا لست مهذبا؟ لأنني أقول الحقيقة؟، أنهما جميلتان و تعرفين أنهما جميلتين)
هتفت ياسمين بحنق و هي تقفز واقفة من مكانها
(لا، لم أفكر بهما على هذا النحو، و توقف عن النظر اليهما)
رد عليها فريد قائلا بهدوء
(كل من نظر اليك اليوم أقر أنهما جميلتين، فلماذا تنكرين هذا على خطيبك؟، أنا خطيبك، هم لا).

شعرت ياسمين بوجهها يمتقع و يتورد في ذات اللحظة، شاعرة و كأن هناك أشواك تخترق ساقيها، بينما قال فريد وهو ينهض من مكانه
(لكن بصراحة، التنورة تمنحك أكثر من وزنك، ضيقها يظهر امتلائك)
اتسعت عينا ياسمين قبل أن تقول بصوت دائخ
(لا، هذا كثير، أنت غير محتمل اليوم)
كان يطفىء أنوار المكتب ببساطة حتى وصل اليها فقادها الى الباب ثم قال سعيدا.

(ثقي برأيي، و اعتبريني مستشار الازياء الخاص بك، سأمنحك طرازا جديدا يظهرك أكثر نحافة)
خرجت بصحبته من الغرفة و انتظرته ليغلق الباب، ثم قالت بقنوط و تجهم
(حقا!)
أجابها بحماس
(بالطبع، اتركي نفسك لي، ما رأيك أن نبدأ في استخدام البطاقة الآن و نقوم ببعض التسوق؟)
سارت ياسمين بجواره و هي تنظر اليه بطرف عينيها قائلة بسخرية
(هل تريد أن تفهمني بأنك خبير في ملابس النساء؟)
أجابها بثقة
(سترين بنفسك، اتركي نفسك لي).

ثم سار بجوارها صامتا وهو يتمنى لو صدق ادعائه الكاذب، فآخر مرة أبتاع فيها شيئا لأخته سوار
كان كنزة رجالية عليها خصم بلون وردي...
أخذتها منه سوار يومها و نظرت اليها قائلة
(حتى إن فكرت في اعطائها لسليم فلن يفلح هذا لأنه لا يرتدي اللون الوردي! فيما كنت تفكر يا قلب أختك بالضبط!).

وضعت أم زاهر الهاتف من يدها ثم أسرعت الى زوجها الذي كان يجلس في كرسيه بغرفته الخاصة محني الهامة منذ ساعات دون أن يتحرك أو يتكلم، شاحب الوجه، زائغ العينين...
ثم هتفت بقلق
(يا حاج، زوجة زاهر اتصلت، تقول أنه منذ خرج آتيا الينا، لم يعد الى البيت و لم يبات ليلته فيه، كما أن هاتفه مغلقا، الولد مختفي منذ يوم كامل)
لم يبدو عليه و كأنه قد سمعها، فنادته مجددا.

(يا حاج، ولدك زاهر مختفي منذ يوم كامل، اطلب الشرطة أو افعل شيئا)
رفع زوجها وجهه بعناء ينظر اليها طويلا بملامح سوداء، ثم قال بعناء و قرف
(أهو طفل صغير؟، ابنك رجل و شواربه يقف عليها الصقر، لما لا تخرجين بحثا عنه مولولة رجل تائه يا أولاد الحلال، اخرسي يا امرأة و ابتعدي من هنا، لا أطيق النظر اليك)
غصت زوجته بدموعها و تحملت منه الإهانة، لكن خوفها على ابنها جعلها تقول بإختناق.

(لكن يا حاج، لقد خرج من هنا بملامح مرعبة، ابن بطني لم يكن واعيا بنفسه من شدة الضيق و الغضب، أخاف أن يقود سيارته على غير هدى)
برقت عيناه بشدة و كأنه كان يحتاج الى هذا الشرر كي يفجر كل مكنونات صدره المحترق خزيا و غضبا.
فنهض من مكانه ببطىء وهو يقول بصوت يرتجف على نحو خطير.

(آآآه، لم يكن واعيا لنفسه من شدة الغضب، لماذا؟، لماذا؟، لماذا حط الخزي علينا و كسرت أعيننا أمام ابن عمران و ابن راشد، والله أعلم من أيضا)
كانت زوجته تتراجع و هي تضم قبضتيها المتعرقتين فوق فمها باكية بإختناق، بكاء لم يتوقف منذ صاعقة الأمس...
أما زوجها فكان يتكلم معها بخفوت و بعينين واسعتين كالمجنون، قبل أن يصرخ فيها فجأة.

(لماذاااااااا؟ لماذا حطت كرامتنا و شرفنا في الأرض؟، لأن ابنتك الفاجرة فرطت في شرفها)
صرخت زوجته و هي تلوح بإصبعها نفيا...
(لا تقل هذا يا حاج، ابنتك لم تخالف الشرع)
لكنها لم تستطع متابعة جملتها، فقد سقطت صفعة قوية على وجهها لم يتحملها جسدها الواهن من طول سنوات الخدمة و الخنوع، فسقطت أرضا و هي تضع يدها على وجهها ناظرة الى زوجها بذهول
بينما هو يصرخ فيها.

(اخرسي، اخرسي يا بهيمة، أنت السبب، هي تربيتك الفاجرة، أنت من ربيتها على التفكير في القذارة دون تفكير في عرف أو قانون، كيف فعلتها؟، كيف واتتها الجرأة و سلمت نفسها له دون أن تخرج في زفة من بيت والدها أمام الجميع؟، كيف فعلتها؟)
كان يدور حول نفسه وهو يهذي كالمجنون، بينما زوجته مرمية ارضا تبكي بشدة، حين تجرأت على الكلام قالت بصوت منتحب.

(الذنب ليس ذنبها وحدها، هو من أغواها أنت تعرف ابن شقيقك حق المعرفة، أما ابنتك فهي مدفونة منذ صغرها لا تعرف من الدنيا شيئا، هو السبب و قد فر بفعلته دون أن ينظر للوراء أو يحاول الإعتراف بفعلته، لقد هرب كالجبان)
توقف أبا زاهر مكانه وهو ينظر اليها بوحشية مما جعلها تبتلع المتبقي من كلامها بذعر...
بينما اقترب هو منها بسرعة لينحني اليها حتى قبض على غطاء رأسها فكادت أن تختنق و جحظت عيناها وهو يصرخ فيها.

(بالطبع يهرب دون أن ينظر للوراء، فهو رجل، لا يعيبه ما فعل، بل يعيب ابنتك الفاجرة، أقصى ما نستطيعه معه هو جلسة تأنيب بين كبار العائلة، أما العار كله سيقع على ابنتك، لأنها هي من امتلكت فجرا لم تقدم عليه احدى بنات العائلة قبلها، العائلة ستنسى ما فعل، لكنها لن ترحم ابنتك القذرة، ستظل وصمة عار للأبد)
بكت زوجته بشدة و هي تهتف باختناق.

(اخفض صوتك، ارجوك اخفض صوتك، و احمد الله أن شيئا من هذا لم يحدث بعد أن ساق لنا أمين ليمنع الفضيحة عن ابنتك)
زاد زوجها من هز عنقها بشدة وهو يصرخ بغضب مختنق وملامح سوداء و كأنه على وشك البكاء كالنساء
(منع الفضيحة عن ابنتك الفاجرة و ستظل عيني مكسورة أمامه العمر بأكمله، حتى أنه خرج بها أمامي و أنا غير قادر على اراقة دمها عقابا على ما فعلت، خرج بها أمامي و انا صامت مخزي القلب و الكرامة).

أغمضت زوجته عينيها و هي تبكي بقوة فدفعها بعيدا عنه لينهض واقفا، لكنه ترنح قليلا بتعب...
ثم أولاها ظهره وهو يقول مختنقا
(يحرم على الكلام معها حتى آخر يوم في عمري، و عسى ألا يطيل الله في عمري أو تموت قبلي لأرتاح من سيرتها)
هتفت زوجته بهلع من بين بكائها العنيف
(لا، بعيد الشر عنكما، لا تقل هذا، لا تدعو على ابنتك)
صدر عنه صوت مجهد وهو يقول مستندا للجدار
(ليتها تموت، ليتها تموت).

وضعت زوجته كفيها على أذنيها تبكي بشدة، و ظلت مكانها أرضا، غير قادرة على الوقوف...
الى أن مر وقت طويل، فسمعا طرقا على الباب وصوت مبروكة يقول
(يا حاجة، يا حاجة، السيد زاهر وصل في الأسفل)
استقامت أم زاهر بتعثر و هي تمسح دموعها هاتفة بلهفة
(ولدي، الحمد لله، الحمد لله)
ثم خرجت من الغرفة جريا، تنزل السلالم متعثرة، يتبعها زوجها الذي شعر بالقلق رغما عنه لسبب مجهول.

وصلت أم زاهر الى ابنها و أخذت تربت على صدره بلهفة هاتفة
(أين كنت يا ولدي؟، بركة أنك بخير، بركة أنك سالم)
وصل والده من خلفها وهو ينظر الى ملامح ابنه المتوترة الشاحبة، ثم قال فجأة بصوت آمر
(اذهبي يا امرأة و أعدي القهوة لولدك، أريد الكلام معه وحدنا)
ربتت أم زاهر على صدر ولدها من جديد و هي تبدو غير راغبة في تركهه، الا أنها امتثلت لأوامر زوجها دون أن تجرؤ على المعارضة، و تركتهما بمفردهما...

اقترب أبا زاهر من ابنه يحدجه بنظرات متجهمة قلقة، ثم همس بخشونة
(أين كنت؟، أشعر و كأنك اقدمت على عمل متهور)
ظل زاهر صامتا لفترة بملامح تتقد شررا على الرغم من شحوب التوتر البادي عليه...
ثم قال بصوت يرتجف قهرا و يغلي غضبا
(شفيت القليل من نار المهانة بداخلي)
اتسعت عينا والده وهو يسأله همسا بذهول
(ماذا فعلت يا مجنون؟، انطق)
رد زاهر بجفاء
(سافرت اليه و اطلقت عليه رصاصة أصابت ساقه، فسقط أمامي كالذبيحة).

اتسعت عينا والده وهو يقول بحدة
(هل مات؟)
أجابه ابنه بقسوة وهو يقبض كفه بشراسة
(ليته مات، لكنني قصدت أن أصيبه فقط، لعله يحيا عاجزا العمر كله)
عقد والده حاجبيه وهو يسأل ولده بشك
(أتعني أنه لم يراك؟)
رد زاهر بخشونة
(لا، لقد أصبته عن بعد و ابتعدت من فوري في الظلام)
استدار والده عنه وهو يقول بخشونة
(لكنك لم تواجه، لم يعرف سبب إصابته، ما الفائدة اذن؟)
أجابه ابنه قائلا بمزيد من القهر.

(لم أرد أن يفتضح الأمر، لو اقتربت وواجهته و رآني الناس فسأدخل في سين و جيم، و يعرف كل شيء، و ربما اعلن هو كل شيء من باب التحدي و الإنتقام، فنحيا الفضيحة طوال عمرنا)
زفر والده نفسا مرتجفا، ثم قال بتعب
(لم نستفد شيئا من فعلتك الحمقاء سوى أننا تأكدنا بأننا جبناء لا أكثر، ما الفائدة من اصابته دون أن يعلم السبب! ما الفائدة! نحن نخاف حتى مواجهته كي لا يفضح امر الفاجرة أختك).

جلس زاهر على أقرب مقعد وهو يسند فمه الى قبضته بملامح رمادية، مغمضا عينيه بأسى...
نعم، ما الفائدة طالما يخشون مواجهته كي لا يفضحهم...
فهو رجل، يستطيع فضيحتهم حتى و إن كان هو المخطىء، سرعان ما سينسى الجميع فعلته بينما لن يغفروها لشقيقته أبدا...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة