قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والأربعون

أوقف قاصي السيارة أمام المشفى، بملامح متشنجة و أصابع بيضاء المفاصل...
التفت الى تيماء الجالسة بجواره، ثم قال بنبرة آمرة
(انتظريني هنا، مهما حدث لا تتبعيني، مفهوم؟)
نظرت اليه تيماء معترضة و هتفت بحدة
(لن أستطيع)
الا أن صوت قاصي تردد فاهتزت السيارة لصداه
(مفهوم؟)
كتفت تيماء ذراعيها و هي تتمتم من بين شفتيها بشيء ما، فسألها قاصي عابسا
(بماذا تهمهمين؟، أسمعيني)
نظرت اليه بغضب و هتفت.

(أريد المجيء معك كي لا تتهور، و أنا أعرفك ستتهور، لأنك حمار في مجال السيطرة على النفس. )
اتسعت عينا قاصي قليلا قبل أن يضربها على رأسها هامسا من بين أسنانه
(ألجمي لسانك كي لا أقصه لك يا تيماء)
لكن تيماء هتفت و الخوف عليه يتغلب على الخوف منه
(يا قاصي انا لن أستطيع تركك تواجهه بمفردك، هذا راجح يا قاصي)
أمسك بذقنها فجأة و شدد عليه حتى اقترب وجهها من وجهه، ثم همس بشراسة من بين اسنانه.

(أعرف أنه راجح، و لأنه راجح)
رفع اصبع السبابة و أخذ يمر به امام عينيها قائلا بتشنج و أسنانه تصدر صريرا عاليا
(و لأنه راجح، لا أريده أن يلمح طيفك، مجرد طيفك لا أريده أن يلمحه، مفهوم أم أتعامل معك فلا يتبقى منك سوى الطيف الذي لن يلمحه؟)
شعرت تيماء بالحول و حدقتيها تتداخلان أثناء نظرها الى اصبعه الذي يمر أمام عينيها...
فهزت رأسها بقوة، ثم ضربت يده هاتفة بحنق
(مفهوم، افعل ما يحلو لك، لقد نفضت يدي منك).

رمقها قاصي بنظرة متجهمة، قبل أن تتقد عيناه بنظرة رجل على وشك قتل من خطف طفله، ثم خرج من السيارة ليصفق بابها خلفه بعنف، لكن ما أن ابتعد بضعة خطوات حتى أخرجت تيماء وجهها من نافذة السيارة هاتفة بتوسل و رجاء
(قاصي، لا تكن حمارا في السيطرة على نفسك أرجوك، أرجوك)
توقف قاصي مكانه وهو يغمض عينيه بغضب، ثم التفت اليها وهو يرمقها بطرف عينيه فهتفت مبررة
(أنا مضطرة لقول هذا، أرجوك حبيبي).

ذابت عيناه للحظة فاختلج قلبها، الا انه استدار عنها و دخل الى المشفى بينما بقت هي مكانها تشعر بالرعب عليه...
ماذا لو تهور، ماذا لو انفعل، ماذا لو، ماذا لو...
أخفضت تيماء وجهها و هي تحك جبهتها هامسة بتعب
(والله لو كنت أما لما شعرت بالخوف على طفلي لهذه الدرجة).

سار قاصي في الرواق بحثا عن الغرفة التي سأل عنها، حتى وجدها فأخذ نفسا عميقا و توترت أنفاسه وهو يتجه اليها ينوي اقتحامها، الا أن صوتا من خلفه منعه قائلا
(عفوا، الزيارة ممنوعة حاليا، هل أنت قريبا له؟)
استدار قاصي ليواجه ممرضة شابة فقال متجهما بإختصار وهو يحاول التحكم في صوته
(أتيت كي آخذ ابني، كان مع المصاب لحظة اصابته)
أومأت الممرضة و هي تقول بحرارة.

(نعم، نعم، عمرو، إنه معنا في غرفة الممرضات وهو بخير تماما، الا أنه يعاني من الصدمة و بعض الخوف، لا ينطق سوى ب أريد بابا، تفضل معي)
ترددت قليلا ثم استدارت اليه و قالت بقلق
(انت والده، اليس كذلك؟)
أجابها قاصي وهو يخرج هويته من محفظته مع ورقتين آخرتين
(هذه هويتي و هذا توكيل من أمه لي و شهادة ميلاده، وهو سيتعرف علي، أما الشخص المصاب فهو لم ينال حضانته حتى الآن بل كان على وشك اختطافه).

نظرت الممرضة الى بطاقة الهوية بإسم قاصي الحكيم و لم تستفد كثيرا...
لكنه كان يطلب أباه قاصي، لا يريد غيره...
لذا أعادت اليه بطاقة الهوية و هي تقول
(حتى الآن لم تحرر الشرطة محضرا بما حدث، لذا قد تنتظر قليلا كي تثبت استلام الطفل رسميا)
أجابها قاصي بصوت مشتد
(سأحرص على تسجيل ما حدث في محضر رسمي استند اليه في دعوة جده لضمه).

أرشدته الممرضة الى الغرفة، فتبعها بصدر يتنفس بصعوبة و لم يستطع الإنتظار فسألها بقلق وهو يسير خلفها
(هو بخير، اليس كذلك؟ لم يصبه شيء)
ابتسمت الممرضة و هي تلتفت اليه قائلة
(إنه بخير تماما، فقط مصدوم من اصابة الرجل الذي كان يصطحبه)
زم قاصي شفتيه بغضب وهو يحاول اخماد نيران الجنون و الثورة بداخله، الى أن فتحت الممرضة بابا جانبيا، فرأى ممرضة أخرى تجلس بجوار عمرو، تحاول طمأنته و هي تقول بمرح.

(إن لم تشرب العصير فسأدغدغك الى أن تؤلمك معدتك)
لم يتجاوب عمرو معها، بل ظل متسع العينين شاحب الوجه بشكل جعل قلب قاصي يعتصر عصرا بين أضلاعه، الا أنه تكلم قائلا بمداعبة خشنة
(عصير و دغدغة؟، و أنا الذي كنت أظنك محتجزا في قبو ما)
رفع عمرو وجهه ما أن سمع صوت قاصي و اتسعت عيناه أكثر بذهول، ثم هتف بقوة
(بابا).

و انطلق يجري اليه، فانحنى قاصي و التقطه بين ذراعيه يضمه الى صدره بقوة وهو يعتصر جسده الصغير هاتفا بإختناق
(كم مرة على أن أعيدك فيها الى أحضاني؟، والله لو قضيت عمري كله ألحق بك و أعيدك إلى فلن أمل أو أيأس)
ثم نظر الى وجهه و سأله بجدية و خوف و كأنه لم يطمئن بعد
(هل أنت بخير؟، هل أصابك شيء أو فعل بك شيئا؟)
كان عمرو يهز رأسه نفيا مع كل سؤال ثم قال اخيرا بغضب.

(راجح لم يفعل بي شيئا، لكنني لا أريده، و لن أحبه أبدا، لا أريده أن يكون أبي)
عقد قاصي حاجبيه و التوت أمعائه بشدة، فسأله بجفاء
(هل أخبرك أنه يريد ان يكون أباك؟)
هز عمرو راسه موافقا، ثم قال بإستياء
(كان يظل يأمرني أن أناديه بابا و أنا أرفض، فيضحك و يقول أنني سأنساك يوما ما)
انقبض فك قاصي بشدة، و تحولت شفتاه الى خطين جافين، لكنه رمش بعينيه وهو يحاول السيطرة على نفسه جاهدا، ثم قال أخيرا بصوت بطيء مشتد.

(لن ينجح مخلوق في دفعك على نسياني، أو دفعي لنسيانك، هل ينسى الوالد ابنه؟)
هز عمرو رأسه نفيا ببطىء وهو يحيط عنق قاصي بذراعيه، فسأله قاصي متأوها
(كيف كنت تأكل، من كان يعتني بك؟)
رد عمرو دون أن يحرر عنق قاصي
(كان يحضر لي الطعام، بيتزا و برجر، لكنني لم أحبها أيضا، لأنني لا أريد منه شيئا)
أغمض قاصي عينيه وهو يداعب شعر عمرو الناعم، ثم قال بصوت يرتجف بإنفعال.

(هيا بنا نعود الى البيت، ستعد لنا تيماء طعاما يعوضك عن الأيام السابقة كلها)
أبعد عمرو وجهه عن عنق قاصي، ثم سأله بصوت مرتجف
(هل مات راجح؟)
شحب وجه قاصي قليلا وهو يدرك الشحوب المماثل في ملامح عمرو الصغيرة، و اللون الأزرق بشفتيه، كما أن جسده يرتجف ارتجافة تكاد الا تكون محسوسة...

فأدرك قاصي أن الولد على الرغم من اعلانه الحرب على راجح، لكن رؤيته يصاب أمامه بعد يومين يحاول افهامه خلالهما أنه والده جعلت عمرو يعاني صدمة أكبر من سنه...
عقد قاصي حاجبيه وهو يقول بسرعة
(لا لم يمت، هو بخير و قد أصيب في ساقه فقط، هذه الإصابه ستتسبب في شيء واحد فقط، أنه لن يكون قادرا على الجري خلفك ليأخذك مني مجددا)
صمت قاصي للحظة وهو يتابع حدقتي عمرو المهتزتين بتردد، ثم سأله بخفوت.

(هل، هل شعرت بالخوف عليه؟)
هز عمرو رأسه بتردد، فنظر اليه قاصي طويلا قبل أن يقول بحزم
(تعال معي، سنذهب لنتأكد بأنه بخير و لم يمت، و أيضا نهدده كي لا يقترب منك مجددا).

(ها هو يتنفس، هل ترى صدره يتحرك؟)
فتح راجح عينيه بألم حين سمع هذا الصوت المعروف المكروه لديه، و ما أن فعل حتى تأكد له رؤية قاصي و قد دخل الى الغرفة التي تم نقله اليها بعد خروجه من غرفة الجراحة...
كان قاصي واقفا ينظر اليه بعينين صلبتين و ابتسامة تعلو فك قوي لا يعرف التراجع، يحمل عمرو بين ذراعيه عن قصد...

ضاقت عينا راجح وهو ينظر اليهما، ولوهلة هاله الشبه الشديد بينهما، حتى أن عمرو يشبه قاصي أكثر منه...
تمكن راجح من الإبتسام رغم الألم الذي يشعر به، ثم قال بقسوة
(لا تزال تبحث عن بعض الاصل في طفل ليس من أصلك، ما الذي تشكو منه رجولتك كي لا تنجب طفلا يحمل دمك الملوث، عوضا عن سرقة أبناء أولاد الاصول)
لم تهتز عضلة في وجه قاصي، بل زادت ابتسامته صلابة وهو يقول بهدوء.

(ها هو يا عمرو، يهذي قليلا، لكنه لم يمت، أتعرف ماذا؟، هذه الواقعة ستمنعه عنك للأبد، لو أعرف الفاعل لكنت شكرته بنفسي، انظر الى ساقه المهشمة، هذا جزاء من يحاول خطف طفل لا يريده)
ضحك راجح بخشونة دون مرح وهو ينظر الى السقف، ثم رد بشراسة ساخرة
(تعجبني روح المرح لديك، ترى هل ستبقى حين يصدر الحكم بضم عمرو الي؟، افرح الآن يا قاصي، لكن أعدك بأنني سأحرق قلبك بأخذ الولد منك للأبد).

تحركت كف قاصي على ظهر عمرو برفق، يحاول تهدئته من جو الكره المحيط به، ثم قال ببرود.

(هذا الولد له اسم، اسمه عمرو، وهو ليس وسيلة انتقام بيني و بينك، بماذا تفكر و أنت تتخيل سرقته مني؟، أنه سيناديك بكلمة بابا،! تلك الكلمة أنا أستحققتها، كنت له والدا حين نبذته أنت، اخطفه آلاف المرات و سأستعيده منك، انتهت الحرب يا راجح، و عليك الإهتمام بكم القضايا التي تواجهها، صدقني لن تكون حرا لفترة طويلة، يكون عمرو قد كبر خلالها، و قرر مع من يريد أن يكمل حياته).

شعر راجح بالدوار قليلا، ثم قال دون مرح
(هذا ابني، هذا ابني أنا لعنة الله عليك)
ابتسم قاصي وهو يجيبه ببساطة
(أنت مثير للشفقة يا راجح، و أنا كنت مخطئا حين ظننتك يوما ندا لي، حين تريد السيدة التي تحب، تقوم بخطفها مرة، ثم احتجازها أخرى، و حين تريد ابنك تخطفه هو أيضا، أنت تختطف الحب غصبا و كل مرة ينتهي الأمر بك ملقى في أحد المشافي).

زم راجح شفتيه وهو يشعر و كأن الالم في ساقه قد انتشر الى صدره، لكن و قبل أن يجد الرد المناسب...
سمعا معا صوت تيماء من خلف قاصي و عمرو و هي تهتف بقلق
(قاصي!)
أغمض قاصي عينيه وهو يعض على أسنانه غضبا، بينما ابتسم راجح ابتسامة عريضة وهو يلوح لها قائلا
(الفأرة الصغيرة! أنا أشعر بالغرور لمجيئك و زيارتي بنفسك).

امتقعت ملامح تيماء و هي تنظر الى قاصي بقلق، بينما بادلها هو النظر بطرف عينيه الغاضبتين القاسيتين، ثم همس من بين أسنانه
(ماذا تفعلين هنا؟)
ردت تيماء همسا بيأس
(شعرت بالقلق حين تأخرت، خفت أن تكون قد أقدمت على إحدى تصرفاتك المجنونة)
بدا قاصي و كأنه يحاول السيطرة على حركات فكه الغير ارادية من شدة الغضب، ثم همس مهددا
(حسابنا في البيت، عودي الى السيارة حالا).

أوشكت تيماء على أن تستدير عائدة، الا أن راجح قال بصوت مستفز شرير
(لقد ازددت جمالا يا فأرة، الزواج يناسبك فعلا)
برقت عينا قاصي بجنون ثم انحنى لينزل عمرو على قدميه، فصرخت تيماء و هي تهجم عليه مكبلة ذراعيه من الخلف
(أرجوك، أقبل قدميك لا تفعل، نحن في المشفى وهو خارج من قليل من غرفة الجراحة، إنه مجرد مختل شرير فلا تنحدر لمستواه)
كان قاصي يحاول التخلص منها وهو يهدر قائلا بغضب
(ابتعدي يا تيماء).

الا أنها كانت متشبثة به كالعلقة المرنة، بينما راجح يضحك عاليا على الرغم الألم الذي ينبض في ساقه كالجحيم...
نظرت اليه تيماء بغضب و هتفت
(لا تضحك، اخرج من حياتنا، لقد سئمنا منك و من أفعالك. الا تفهم، لا أحد يريدك في حياته، الكثير يريدون الإنتقام منك و من شرك و أولهم من قرر انهاء حياتك اليوم، قد لا تكون محظوظا في المرة القادمة)
ضحك راجح مجددا، لكن هذه المرة كانت ضحكته خفيضة، أكثر شرا، و شديدة السواد...

ثم قال بنبرة غريبة متشفية
(من فعلها لا يريد موتي، فقط يريد ايلامي لأنني وصمته وصمة لن تزول، وصمة اسمها راجح الرافعي و كان أكثر جبنا من أن يواجهني، لكنني رأيته، لقد كان زاهر ابن عمك، يريد الإنتقام مني بسبب أخته الرخيصة)
اتسعت عينا تيماء بصدمة وهي تنظر الى قاصي الذي بادلها النظر عاقدا حاجبيه، أما هي فأعادت عينيها الى راجح و سألته بعدم تصديق
(زاهر! هل علم بما فعلته؟)
نظر اليها راجح بسخرية ثم قال ببساطة.

(عرفت من نظرة عينيه أنو علم)
هزت تيماء رأسها بعدم تصديق، ثم همست تسأله بصوت غريب
(الا تشعر بتأنيب الضمير ولو للحظة على ما فعلت! أنظر الى ما أصابك، الا تتعظ أبدا؟)
تظاهر راجح بالتأوه وهو يقول بمرح هازىء
(ياللها من فأرة طيبة القلب، تحاول احياء الروح الطيبة بداخل الوحش الراقد في فراش المرض قبل أن يموت)
أمسك قاصي بذراع تيماء وهو يقول آمرا
(تعالي لنغادر هذا المكان الذي بات موبوءا بوجوده).

همست تيماء عاقدة حاجبيها دون أن تبعد عينيها عن عيني راجح
(لحظة يا قاصي)
ثم سألت راجح بصوت مشتد النبرة
(هل تبلغ الشرطة بأن زاهر هو من أطلق عليك الرصاص؟)
لمعت عيناه ببريق شرس، شديد الشر، و قال بهدوء مخيف
(فكرت في الأمر، الا أنني لن أربح شيئا، لذا لدي عقابا أفضل)
صمت للحظات وهو ينظر الى تيماء بغل، ناقلا عينيها بينها و بين قاصي المتمسك بعمرو بتملك، ثم أضاف بصوت أكثر قتامة و سوادا.

(سأعلن للجميع ان بدور كانت زوجتي روحا و، جسدا)
فغرت تيماء شفتيها بذهول، و ساد صمت مريع بينهم قبل أن تستدير لتنظر الى قاصي الذي كان يقف عاقدا حاجبيه بشدة، و الذي قال بصوت مزدري
(أنت منحط، صدقني لقد تفوقت على الجميع)
ضحك راجح دون مرح وهو ينظر الى عمرو بنظرات حادة، ثم قال مشددا على كل حرف
(افرح بنصرك الواهي الآن، فأنا منشغل بمعاقبة غيرك و بعدها سأتفرغ لك)
اقترب قاصي من تيماء و قال آمرا
(هيا بنا لنغادر).

الا أن تيماء قاومت كفه و هي تبتعد هاتفة فجأة
(لا، لن أغادر، لن أترك فتاة كبدور تحت رحمة حيوان مثله)
تكلم قاصي قائلا بحدة
(لا نملك أن نحيي به ضميرا لا يمتلكه من الأساس، هذا الشخص مختل مجنون)
استدارت تيماء تنظر الى راجح و قالت مصدومة
(لا أصدق أن هناك انسان خلق بدون ضمير، كل انسان لديه نزعة من الضمير قادر على ايقافه في لحظة مهما بلغ شره و دنائته).

لم تلقى ردا أو أي صدى لكلماتها الذاهلة، فهتفت بغضب و بصيغة أخرى كي يفهمها
(لا يمكنك أن تفضح الفتاة بهذه الطريقة! لقد وثقت بك يوما ما، لا يمكنك أن تكون بمثل هذه الحقارة أبدا)
لم يرد راجح عليها، بل ظل ينظر الى ثلاثتهم و الحقد الأعمى يغمر قلبه و عقله، فجذبها قاصي بالقوة الى خارج الغرفة و هي لا تزال تهتف.

(لن أسمح أن يفضحها، هذا ليس خطأها وحدها، بل هو الملام أكثر منها، بدور لم تكن لتستطيع التغلب على سم هذا الإنسان أبدا)
أخرجها قاصي رغما عنها حتى أصبحا في الرواق فقاومته بعنف و هي تهتف
(اتركني يا قاصي، اتركني)
هزها قاصي بالقوة قابضا على كتفيها كي تفيق وهو يهدر بقوة
(لا يمكنك فعل شيء إن أراد اذيتها يا تيماء، لن تستطيعي قطع لسانه، هيا بنا لنغادر، عمرو معنا و هذا هو المهم).

استكانت تيماء و توقفت عن المقاومة قليلا ناظرة الى عمرو و هي تلهث بحزن، ثم لم تلبث أن انحنت اليه و ضمته الى صدرها بقوة هامسة
(نعم، هذا هو المهم)
استقامت مجددا و هي تنظر الى قاصي بحزن، ثم همست
(أريد أن أنبهها أولا، أرجوك يا قاصي، مجرد اتصال واحد و ننصرف، إنها ابنة عمك على الرغم من كل شيء).

أراد قاصي الإعتراض، الا أن نظرات عينيها الفيروزيتين الحزينتين أخبرته أنها تتعامل مع قصة هذه الفتاة على نحو خاص، و كأنها مرتعبة من عقاب أهلها لها...
شعر قاصي بشيء ما يوجعه في زاوية من زوايا قلبه، مما جعل عيناه تظلمان وهو ينظر اليها، الا انه حين تكلم قال بصوت أجش
(اتصال واحد و ننصرف)
ردت تيماء مبتسمة بإمتنان على الرغم من طعم الصدأ الذي يملأ حلقها
(اتصال واحد و ننصرف).

سمع أمين صوت رنين متواصل لا يتوقف، كان هذا هاتف بدور...
نظر اليها و هي تتقلب في السرير متدثرة بالغطاء لكنها استقرت مجددا دون أن تفتح عينيها...
إنها نائمة منذ اثني عشر ساعة تقريبا، لا تستيقظ أبدا و كأنها وجدت في النوم راحة وهروب لها...
وهو لم يذهب للعمل اليوم و بقى بجوارها، ينظر اليها في نومها غير قادرا على إيجاد حل للمعضلة التي يواجهها، الى أن سمع رنين هاتفها...

في البداية قرر أن يتجاهله، لكن شيطان بداخله جعله ينظر الى الهاتف بعينين غريبتين، و كأن روحا جديدة من الشك تمتلكه، فقام من مكانه و نظر الى الهاتف ليجد رقما لم يتعرف عليه...
و دون تفكير امسك بالهاتف و فتح الخط...
ساد صمت لبضعة لحظات قبل أن يأتيه صوتا أنثويا يقول
(مرحبا، بدور! هل هذه أنت؟)
تنهد أمين وهو ينظر الى بدور في نومها ثم قال بخفوت مقررا الرد
(أنا أمين زوجها، بدور متعبة قليلا و غير قادرة على الرد).

سمع صوتا و كأنه شهقة مكتومة، ثم أتاه الصوت بعد فترة مترددا
(أمين، كيف حالك؟ أنا تيماء ابنة عمك، الم تتعرف علي؟)
شعر أمين بالتوتر يسري في جسده المتوتر على الفور...
تيماء سالم الرافعي، واحدة من الأشخاص اللذين تم وصمه بلقب المغفل أمامهم...
أغمض عينيه بينما انقبضت أصابعه بشدة، ثم ظر الى بدور مجددا نظرة كراهية لم يستطع محوها من قبله...
قبل أن يضطر الى الرد بإقتضاب.

(آه نعم، مرحبا تيماء. ، بالتأكيد تعرفت عليك، كيف حالك؟)
بدا صوت تيماء متلعثم شديد التوتر، و هي تقول بعد فترة صمت
(أنا بخير الحمد لله، هل أستطيع الكلام مع بدور من فضلك؟)
أجابها أمين بجمود محاولا أن ينهي الإتصال باسرع ما يمكنه...
(بدور نائمة، لأنها متعبة قليلا)
شعر بها تتردد أكثر دون أن تجيبه، ثم قالت مترجية
(الا يمكنك أن توقظها ارجوك، الموضوع هام و خطير).

عقد أمين حاجبيه بشدة، ثم سألها بصوت خافت كي لا تستيقظ بدور
(ما الأمر يا تيماء، يمكنك اخباري)
ظلت تيماء صامتة مما جعل جسده يتوتر أكثر، فقال عابسا
(تيماء، أخبريني، أنا زوجها، أي أنني أعرف كل شيء يخصها)
كان يرسل اليها تلميحا دون تصريح، و هي فهمته، فسألت بصوت أكثر خفوتا
(أمين)
حينها سألها أمين مباشرة و دون مقدمات
(هل الأمر يخص راجح؟).

نظر الى بدور يتأكد من نومها، بينما ساد صمت مصدوم من الجهة المقابلة، ثم سألته تيماء بتردد شديد
(أنت، تعرف، اليس كذلك؟)
شعر أمين بالجرح في كرامته لا يزال حيا الا أنه أخذ نفسا عميقا ثم تكلم بصوت ساخر
(أنا زوجها يا تيماء)
و كأن هذا كان ردا كافيا جعلها تتورد قليلا فصمتت تماما، ثم قالت أخيرا مستجمعة شجاعتها
(الأمر خطير يا أمين، زاهر شقيق بدور علم بالأمر بطريقة ما، فأطلق الرصاص على راجح).

اتسعت عينا أمين مصعوقا وهو يهتف بقوة
(ماذا؟، قتله؟)
تحركت بدور في نومها قليلا مما جعله يصمت و ينظر اليها، الا أنها لم تفتح عينيها، بينما أجابته تيماء قائلة بسرعة
(لا، لقد أصابه في ساقه و حالته الآن مستقرة، المشكلة هي أننا معه الآن في المشفى لسبب معقد يطول شرحه، المهم أن راجح لمح زاهر بالفعل و أخبرنا أنه سيفضح ما حدث أمام الجميع لينتقم من زاهر).

أظلمت عينا أمين بشدة و افلت من بين شفتيه نفسا مرتجفا، انتهى بلفظ خارج، أول مرة يخرج من بين شفتيه، جعل تيماء تجفل و يمتقع لونها، الا انها قدرت موقفه في تلك اللحظة...
و حين طال الصمت قالت تيماء بخفوت حذر
(أنا آسفة يا أمين، لكنني لم أستطع كتمان نيته عنكما، راجح وصل الى المرحلة التي يبدو فيها كشيطان أعمى، يسعى الى احراق الجميع).

ظل أمين واقفا مكانه غير قادرا على الرد وهو يتنفس بصوت هادر، فعضت تيماء على شفتها بقلق...
الى أن تكلم في النهاية قائلا بصوت غريب
(أين أنتم؟، أنا آت على الفور).

(حسابك معي عسير، انتظري فقط حتى نصل الى البيت)
كانا يجلسان متجاورين في رواق المشفى أمام غرفة راجح، و عمرو يريح رأسه على ركبة قاصي الذي يغلي و يشتم، مما جعل تيماء تهمس بتوسل
(لنكمل فقط معروفنا، و ننتظره كي نكون بجواره، هذا ابن عمنا و في وضع لا يحسد عليه، بينما الملقى في الداخل هو أخوك غصبا، قد يقتله أو يتهور بأي طريقة)
هتف قاصي من بين اسنانه
(ليته يقتله، صدقيني سنكون جميعا أفضل حالا حينها).

شبكت تيماء كفيها بذراعه و هي تريح وجنتها على كتفه هامسة
(سنكون أفضل حالا حين نتم معروفنا للنهاية ثم ننصرف)
ظلا صامتان لدقائق الى أن لمحت أمين آتيا من بداية الرواق فرفعت رأسها و هي تهمس بقلق
(ها هو قد وصل)
وصل أمين اليهما بملامح غريبة، مختلفا تماما عن أمين اللطيف الذي تعرفت عليه منذ عام و نصف في أول اجتماع عائلي لها في دار الرافعية، و كأن الكثير من الصدمات قد مرت عليه فغيرت ملامحه...

وقف قاصي و تيماء، بينما سألهما أمين دون مقدمات بنبرة متحفزة خطيرة
(هل هو في الداخل؟)
أومأت تيماء برأسها و هي تنظر اليه بإرتباك هامسة
(المفروض أن الزيارة ممنوعة، لكننا)
لم ينتظر أمين أن تنهي كلامها، فزم شفتيه و دخل الى الغرفة دون استئذان...
كان راجح مستلقيا في سرير المشفى شاحب الملامح، الخطوط تزايدت حول فمه و ملامحه...

ضاقت عينا أمين و هما تمران على هذا الكائن الدنيء، و الذي أرسلت رؤيته دفعة من الهمجية بداخله...
صدره يغلي بنيران القسوة و الغضب، شعور يجمع بين القهر و العنف...
تكلم راجح فجأة قائلا
(أنا أنتظر أن تتكلم يا من دخلت الى الغرفة، الا أنك لم تتكرم بتعريف نفسك حتى الآن).

فتح عينيه أخيرا بنظراته الساخرة المعتادة، الا ان عيناه تجمدتا للحظة خاطفة وهو يرى أمين واقفا أمامه ينظر اليه بنظرات مخيفة غريبة، تلاقت أعينهما في ادراك وحشي مقيت...
ثم تمالك نفسه بسرعة وهو يضحك بإستهانة قائلا
(ليس هناك أفضل من الروابط العائلية القوية، منذ فترة كنت مستلقيا في المشفى و فتحت عيني لأجد ابن عمك فريد يقف أمامي، و الآن أجد أمين ابن الحاج راشد! أي ريح طيبة رمتك هنا!).

ازداد انقباض كف أمين بقوة، الا أنه قال في النهاية ببطىء و بنبرة باهتة
(أنت لم تخطىء بحقي)
ارتفع حاجبي راجح للحظات، الا أنه ابتسم بسخرية وهو يستمع متسليا بما يحدث، بينما تابع أمين وهو يقترب منه أكثر
(حين أقدمت على فعلتك، لم تكن بدور تخصني، لذا لا أملك الحق في فعل ما تغيرني به نفسي تجاهك، لكن منذ اللحظة التي تم عقد قراني بها على بدور، فكلامك معي أنا...
الآن أخبرني، ما الذي تنتوي فعله؟).

برقت عينا راجح بقسوة متسلية، ثم قال بسخرية
(لابد و أن الفأرة الصغيرة هي من سارعت بالإتصال بك كي تمنعني عن معاقبة زاهر على فعلته، عامة لو تتلذ بالسماع فأنا أنوي أخبار الجميع بأن بدور كانت لي قبل أن تكون لك)
ظل أمين صامتا للحظات، دون أن يبدو أي تعبير على وجهه، ثم قال أخيرا بهدوء غريب
(الآن أملك الحق)
و قبل أن يسأله راجح عما يقصده، كان أمين قد انهال عليه بصفعة و أخرى، ثم ثالثة...

ذهل راجح في البداية، ثم بدأ يصرخ بجنون لاعنا بألفاظ نابية عنيف...
اقتحم قاصي و تيماء الغرفة بسرعة على صوت صراخ راجح، و تسمرا للحظة على هذا المنظر المجنون أمامهما، قبل أن يندفع قاصي ليمسك به وهو يهتف
(كفى، كفى يا امين، لا يستحق)
كان راجح يبدو كالمجنون وهو يضرب السرير بعنف صارخا لكن مع كل حركة كان الجرح يوقفه فيتأوه الما فيتوقف للحظة، ثم يعاود المصارعة من جديد...

استطاع قاصي تكبيل ذراعي أمين تماما بينما هو يحاول الهجوم على راجح من جديد صارخا
(ابتعد يا قاصي، ابتعد، لم أشفي غليلي منه)
الا أن قاصي صرخ فيه بعنف
(لا يستحق يا أمين، لا يستحق، لقد نال ما يساويه، مجرد رصاصة)
بدأت مقاومة أمين تتباطىء شيئا فشيئا، الى أن توقف اخيرا وهو يلهث أحمر الوجه منتفخ العروق...
فهزه قاصي قائلا بقوة
(كفى، اهدأ و التقط أنفاسك).

كان الألم قد استبد براجح، فتوقف عن الصراخ وهو يلهث أيضا، ناظرا الى أمين بعينين مليئتين بالحقد ثم هتف بقوة
(سأفضحها، سأفضحها و اخبر الجميع)
نظر اليه قاصي بذهول ثم سأله هاتفا
(الم تمل الضرب؟، حقا؟، لقد ضربك معظم أفراد العائلة لتماديك على الأعراض، ألم تتعب؟، ألم تتورم كرامتك ولو قليلا؟)
صرخ راجح و قد سقط عنه قناع السخرية و ظهر وجهه الحقيقي، ضعيف، فاقد السيطرة، شديد الحقد و الغل تجاه الجميع...
(سأفضحها).

حينها صرخ أمين يبصق كلماته بعنف وحشي
(و أنا سأكذبك، كلمتي أمام كلمتك، ستظل زوجتي و سأقر أمام الجميع أنك كاذب و أنني مذهول من قدرتك على الكذب، حينها لن يتجرأ أحد على مناقشتي)
تلجم لسان راجح وهو ينظر الى أمين بعد قراره القوي دون لحظة تردد، ثم لم يلبث أن ضحك ضحكة مقيتة قاتمة، ثم سأله يريد أن يجرح المزيد من رجولته.

(هل وقعت في حب بدور؟، أخبرني شيئا، كيف هو شعورك حين تكون معها و أنت تعرف أن غيرك قد نالها قبلك؟)
هتفت تيماء غير قادرة على الصمت أكثر
(قذر)
بينما مسح أمين على فكه يحاول السيطرة على أعصابه، ثم قال أخيرا بنفس منقطع
(سأخبرك، شعوري و كأن كلبا أجربا قد بال في المكان و ترك فضلاته، و نحن نقوم بالتنظيف خلفه، في النهاية سيعود المكان نظيفا، لكن الكلب، سيظل أجربا الى أن تنهي حياته رصاصة لا تساوي شيئا).

تشنجت عضلات فك راجح وهو ينظر الى أمين بعينين ذاهلتين ثم صرخ بقوة
(سأبلغ الشرطة أن زاهر هو من فعلها)
كان أمين يتوجه للباب ينوي الخروج و ما أن سمع راجح، حتى توقف و نظر اليه بإزدراء قائلا
(لا يهمني)
ثم خرج من الغرفة، تبعه قاصي و تيماء التي رمت راجح بنظرة متقززة...
لكن ما أن خرجا حتى وجدا أمين قد جلس على أحد المقاعد، مستند الى ركبتيه بمرفقه وهو ينظر أرضا بعينين جامدتين و ملامح متشنجة...

تكلم قاصي وهو يمسك بذراع تيماء قائلا
(اتركيه، فهو يحتاج لبعض الوقت، هيا لنذهب)
همست له تيماء مترجية
(سأودعه فقط)
و دون أن تنتظر موافقته سارعت لترمي نفسها جالسة بجوار أمين ثم هتفت همسا بذهول
(أنا مذهولة، صدقا. لطالما تخيلت أنني أجيد قراءة البشر، لكن أنت خالفت تلك القعدة بجدارة، كيف فشلت سابقا في معرفتك؟، أنت، أنت، أي شهامة تلك؟).

نظر اليها أمين بصمت دون أن يظهر أي شيء على ملامحه ثم قال اخيرا مبتسما بسخرية مريرة
(لازلت أتذكر السؤال الذي سألتك إياه حين كنت أفكر في الزواج منك)
ارتفع حاجبي قاصي و فغر فمه بذهول، بينما هزت تيماء رأسها و هي تهمس بعدم تصديق
(و أنا أخطأت فهمك تماما، أمين أنت رائع)
لم تفطن الى فم قاصي الذي اتسع اكثر، و البريق الذي بدأ يظهر في عينيه وهو يهمس بكلمات متوعدة بطيئة...

نهض أمين ببطىء ثم نظر الى تيماء قائلا بخفوت مرهق
(أنا نفسي أخطأت فهم نفسي بعد هذا العمر، أراك بخير يا تيماء)
ثم انصرف بعد أن أومأ الى قاصي ايماءة قصيرة...
ظلت تيماء تنظر اليه مبهورة حتى شعرت فجأة بقبضتين تمسكان بمقدمة قميصها، ترفعانها كالمجرمين قبل أن تلتصق بالجدار خلفها، بالكاد أصابعها تلامسان الأرض، ووجهها مرتفع الى وجه قاصي القاتم الغاضب، والذي سألها هامسا من بين أسنانه.

(أريد أن أفهم، كم رجلا كان يتمنى الزواج منك بالضبط؟)
بلعت تيماء ريقها و هي تهتف بخوف
(لقد أسأت فهم الأمر يا قاصي)
الا أنه شدد من قبضتيه وهو يقول بحدة مقاطعا
(ماذا أفعل كي لا يتمناك أي رجل آخر؟، اين اخفيك كي لا يحسدني أحد عليك؟)
ابتسمت تيماء رغما عنها و هي تهمس بإسمه مداعبة بحنان...
الا أنه شدد من قبضتيه أكثر وهو يهتف
(اخرسي، أمامي للبيت، ونصيحة مني لا أريد سماع صوتك حتى نصل).

دفعها أمامه فسارعت تمسك بكف عمرو و هي تهرول، مبتسمة بسعادة و هيام أحمق...

ما كاد عادل أن يدخل الى محل الهواتف النقالة متجهما عابسا جراء شجار معتاد مع ياسمين أنهته بأن أهانته ككل مرة و أهدرت كرامته ارضا، حتى بادره صديقه قائلا بإبتسامة عريضة
(صباح السعادة، مصلحتك قضيت، لقد استعدت لك كل الرسائل و المحادثات)
تهللت ملامح عادل فجأة قبل حتى أن يرد التحية و هتف بسرعة
(أعطني إياها اذن، هيا أسرع)
فتح الرجل أحد الأدراج و التقط منه هاتف ياسمين ففتحه و ناوله لعادل قائلا.

(انظر الى ما تريد و أخبرني إن كان هناك ما ينقصك)
أسرعت أصابع عادل المتلهفة لفتح الرسائل و المحادثات، و مرت بضعة لحظات قبل أن يرتفع حاجباه ببطىء و هو يفغر فمه هامسا
أمين! من أمين هذا؟، رفع رأسه عاقدا حاجبيه وهو يحاول استيعاب الإسم، الى أن تذكر ابن عم فريد الذي أتى الى حفل الخطوبة السري دون دعوة...
همس عادل لنفسه
هل يعقل أن يكون هو أم أنه مجرد تشابه اسماء؟، سأله صاحب المحل
(ماذا تقول؟).

استدار اليه عادل قائلا بسرعة وهو يخرج من جيب بنطاله آخر ورقة مالية أخذها من الدفعة التي منحتها ياسمين لأمها...
(سلمت يداك، تلف في حرير صحيح)
ثم خرج من المحل وهو يشعر بالحاجة للتفكير بتمهل، و سار قليلا الى أن وجد مقعد عام فجلس عليه وهو يقرأ الرسائل مرة بعد أخرى بإبتسامة تشفي...
رفع عادل رأسه وهو يهمس مجددا
هل يعقل أن يكون الحبيب القديم هو ابن عم الخطيب الحالي؟، ستكون تلك كارثة بكل المقاييس...

حتى إن لم يكن هو نفس الشخص، فالأكيد أن الحبيب القديم ليس هو الخطيب الحالي، ترى ماذا سيكون رأي الطبيب المحترم حين يقرأ تلك الرسائل؟، صمت قليلا وهو ينظر الى البعيد، ثم همس مفكرا
(لا تتسرع يا عادل، معنى افشال الزيجة أنها ستظل كالظل الثقيل في البيت و لن تتزحزح منه، فماذا ستسفيد؟)
لكن على الرغم من أن مصلحته مرتبطة بزواج ياسمين، الا أن صوتها و هي تهتف به صباحا عقب خلافهما الحاد.

لو كنت رجلا لكنت أدخلت يدك في جيبك و أخرجت لنا مساهمتك في هذا البيت، لكنك اعتدت الحياة على عاتق الآخرين، أظلمت عينا عادل بشدة و زم شفتيه، و ما هي الا لحظات حتى انتصر حقده على التفكير السوى فقال بتصوير المحادثات، ثم أرسلها الى، الطبيب المحترم...

داعب فريد شعر الطفل الذي يجلس أمامه من ذوي القدرات الخاصة، و سأله عدة أسئلة قبل أن ينظر الى هاتفه بعفوية يتفقد الرسائل التي وصلته للتو...
لكن ما أن قرأها مرة، ثم أخرى، حتى ماتت كل ابتسامة عن وجهه و بهتت ملامحه تماما...
بينما عيناه تتوقفان عن كلمة واحدة واضحة للأعمى
أمين، أمين، أمين...

خرجت ياسمين حانقة من مكتب مديرها و هي تشتم بصوت عال و من شدة غضبها اصطدمت بإحدى زميلاتها، و التي أسندتها ثم سألتها بقلق
(ماذا بك يا ياسمين؟، ما الذي حدث بينك و بين السيد جمال؟)
هتفت ياسمين و هي غير قادرة على الصمت أكثر
(ما يحدث لهو منتهى انعدام الأدب، الموضوع تطور من بعض الكلمات التافهة الى ألفاظ فاحشة)
ضربت زميلتها على فمها بقوة مذعورة
(ششششششش، سيسمعك و لن يمر الأمر على خير، الجميع ينظرون اليك).

ضربت ياسمين الأرض بقدمها و هي تعلو بصوتها اكثر و أكثر حتى بدأ الموظفون يتجمعون حولها
(أنا أريده أن يسمع، لكن هنا، و امام الجميع، السيد المحترم لا يعتق أي موظفة لديه الا و يسمعها الكلام الفاحش)
خرج جمال من مكتبه بملامح مصدومة وهو يرى التجمهر حول ياسمين، فصرخ فيها قائلا بعنف
(هل جننت يا سيدة؟، سيتم تحويلك للتحقيق، و لنرى نهاية تجنيك المغرض).

صرخت ياسمين فيه بقوة بينما زميلاتها يحاولن الإمساك بها و منعها دون جدوى
(و أنا سأقول كل شيء، كل كلمة قذرة تفوهت بها أمامي، بدئا من الكلمة التي قلتها منذ دقائق، ()
شهق الجميع و اتسعت أعينهم بذهول مع الكلمة الفاجرة التي نطقتها ياسمين، فتلون وجه جمال بشدة حتى أصبح بلون الكبد النىء، فصرخ مدافعا
(أنت امرأة قذرة).

فتحت ياسمين فمها لتدافع عن نفسها، الا أنها لم تتمكن، فقد سبقها شخص ما اندفع عبر هذا التجمع ممسكا بقميص جمال بكلتا قبضتيه حتى ضربه في الجدار قبل ان يرفع إحداهما ليلكمه بكل قوته...
غطت ياسمين فمها بكفيها و هي تهتف بذعر مذهولة
(فريد!)
لم يرد عليها و قد تحولت ملامحه الى لوحة من الغضب ليرفع ركبته و يشبع بها معدة جمال المتخمة بالركلات، بينما جمال يصرخ.

(أبعدوه، اتصلوا بالشرطة، يتعدى على موظف أثناء تأدية وظيفته، أبعدوه)
أما فريد فكان يصرخ وهو يضربه دون توقف
(الشرطة ستحرر محضرا ضدك أتهمك فيه بالتحرش بخطيبتي، أقسم بالله لن أرحمك. )
استطاع الموظفون تخليص جمال من بين يدي فريد بأعجوبة، و ما أن أبعدوه وهو يشتم بأقذع الألفاظ حتى استدار فريد الى ياسمين بملامح غريبة شاحبة على الرغم من الغضب البادي في نظراته فهمست بذعر
(هل أنت بخير؟).

أمسك فريد بمعصمها وهو يجرها خلفه بسرعة حتى خرجا من بناية العمل و ما أن ابتعد عن أعين الموظفين حتى استدار اليها، يواجهها بنفس الملامح الشاحبة و النظرات الغريبة، فقالت ياسمين تئن بصوت يائس
(الذنب ليس ذنبي يا فريد، هو يتحرش بجميع الموظفات و أنا في حاجة ماسة للعمل فأنت تعرف ظروفي جيدا لكن)
قاطعها فريد بصوت خافت مشتد دون مقدمات
(هل كنت مرتبطة بأمين ابن عمي قبل خطبتنا؟).

شعرت ياسمين فجأة أن الدم قد سحب من وجهها و أن الأرض تميد من تحتها و هي تنظر اليه و كأنها تشاهد مسرحية هزيلة من بعيد، بينما ارتجفت شفتاها تماما...
هزت رأسها و هي تهمس بإختناق ذاهل
(أنا، أنا)
لم تستطع المتابعة، بينما أغمض فريد عينيه بصدمة لم يتوقعها أبدا، بل ضربة لم يتخيلها...
ثم نظر اليها بعينين فارغتين قبل أن يخلع خاتم الخطبة من اصبعه ببطىء...
و فتح كفها ليضعه في منتصف راحتها هامسا بخفوت
(أنا آسف).

ثم استدار عنها مبتعدا بينما وقفت ياسمين مكانها و الخاتم في يدها، قبل أن تصرخ متوسلة
(فريد، فريييييييد).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة