قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثلاثون

بعد خروج والدي بدور و أم مين...
جلست بدور أخيرا على حافة السرير و هي تشعر بإحساس غريب...
لم تستطع حتى تسميته، راحة ربما، الا أنها راحة كئيبة، مكللة بالخزي و انعدام الفخر بالذات...
لقد أصابت توقعاتها في أمين، و انتهت فضيحتها...
لكن...

انتفضت واقفة على قدميها ما أن دخل أمين الى الغرفة مندفعا حتى وقف أمامها مباشرة، فنظرت الى وجهه المظلم بعينين مغشيتين، و قبل أن يبدأ ما أراد قوله بادرته هي قائلة بنبرة ذات صوت ساحر في امتنانه
(أمين، أنا سأظل شاكرة لك المتبقي من عمري، بل سأكون خادمة لك المتبقي من عمري و لن يفي هذا بما فعلته اليوم)
ضاقت عيناه قليلا، ثم ابتسم، ابتسم ابتسامة غريبة مقبضة وهو يقول بخفوت بطىء ساخر.

(خادمة لي المتبقي من عمرك؟، أنت شديدة التفاؤل يا بدور، أنا أشعر بالتقزز و النفور من النظر اليك لحظة اضافية، و أنت تتخيلين أنك ستظلين معي حتى ولو كخادمة للمتبقي من عمرك؟، أنت شديدة الغباء اذن فضلا عن كونك شديدة الوضاعة)
شعرت بدور بأنفاسها تزهق ووجهها يمتقع بشدة من فظاعة كلماته، فهمست بصوت متوسل
(أمين، أرجوك)
الا أنه رفع كفه ليوقفها عن المتابعة قائلا بنبرة أكثر جفاءا و قوة.

(اخرسي و لا تجادلي، ستظل أمي و نورا بعيدتين عن البيت لمدة اسبوع كامل، خلال هذا الاسبوع أنا مضطر لتحمل البقاء معك تحت سقف واحد، بعدها ستعودان الى البيت و أعود أنا الى عملي، منذ هذه اللحظة لن تكوني الا مجرد قطعة أثاث في هذا البيت، لا أريدك أن تحتكي بي و الا سوف تنالي ما يظهر لك فعلا حقيقة شعوري تجاهك هذه اللحظة)
ابتلعت غصة في حلقها كادت أن تودي بحياتها، فهمست بصوت يكاد أن يكون باكي منتحبا...

(أمين، اسمعني)
الا أنه قاطعها مجددا وهو يقول بقسوة
(و بعد فترة مناسبة سأطلقك لتخرجي من حياتي للأبد، وأتعشم الا أسمع عنك شيء بعدها مطلقا)
فغرت بدور فمها بألم بينما شحب وجهها للغاية، أما هو فقد استدار عنها، ليخرج من الغرفة و كأنه بالفعل غير قادر على النظر اليها أكثر...

فسقطت بدور جالسة على حافة السرير شاهقة بنحيب مرتجف قلب شفتيها كالأطفال، و من بين دموعها التي تجددت في عينيها، همست لنفسها بصوت مختنق و نفس كسيرة
(ماذا كنت تتوقعين؟، غبية، ما أنت الا رخيصة غبية).

مرت الأيام بينهما بطيئة ذات ايقاع خانق لكليهما...
لا يسمح لها برؤيته الا بالصدفة كما وعدها، ينام في غرفة أمه، ثم يخرج صباحا و لا يعود الا آخر الليل...
تعرف بأنه لم يعد الى عمله بعد، و لم تنتهي إجازة زواجه، لكنه يخرج كل يوم من بداية النهار و حتى آخر الليل، و طبعا لا تجرؤ على سؤاله عن المكان الذي يذهب اليه يوميا
و تبقى هي وحيدة بين جدران البيت...

مجبرة يوميا على إجابة اتصالين من أمها و مثلهما من حماتها، تريدان الإطمئنان عليهما و بالأخص على حياتهما الحميمية...
تجبر نفسها على الكلام بصوت عادي، ترسم ابتسامة توجع شفتيها من شدة زيفها...
لتطمئنهما أن الأمور بخير و أنهما الآن يقضيان شهر عسل مثالي...
لكن كل مرة تأتي بحجة مختلفة لغياب أمين...
مرة في الحمام، و مرة خرج ليشتري بعض الأغراض، و أخرى نائم...

بالنسبة لأمها فقد قررت أن تصدق ما تقوله ابنتها، أما أم أمين فكان صوتها يدل على العكس تماما...
نبرتها غير مرتاحة، قلقة، و غير راضية بالمرة...
و حين يعود آخر الليل يتجاهل الطعام الذي أعدته و يدخل الى غرفة أمه صافقا الباب خلفه...
خمسة أيام مرت ببطىء ثقيل، حتى شعرت بنفسها على وشك الإصابة بالجنون...
الا أنها لم تستسلم، بل حاولت السيطرة على الجنون المحدق بها من كل صوب...

و في اليوم السادس، أصرت على انتظاره...
فارتدت قميص نوم طويل أزرق اللون، و أيضا له المبذل الخاص به ككل أقمصتها، و جلست في انتظاره بعد أن قضت اليوم بأكمله في اعداد مأدبة من الطعام الفاخر...
انتظرت...
انتظرت...
و هي جالسة تحارب النعاس في عينيها...
و في تمام الثانية صباحا، دخل من باب الشقة في صمت تام...
فوقفت بسرعة و هي تحاول التعديل من وضع شعرها، و اغلقت مبذلها بإنتظام...

في خلال ستة ايام تغير شكل أمين للغاية، كانت ذقنه داكنة غير حليقة، تحت عينيه هالات قاتمة جعلت ملامحه أكثر جفاءا...
شتان بين منظره الآن و منظره قبل ستة أيام، في ليلة زفافهما قبل أن تفجعه بفضيحتها...
كان شديد الوسامة تلك الليلة، كان كرجل يملأ العين، و القلب...
أما الآن فهو يبدو كرجل مهزوم، كرامته جريحة لا تلتئم أبدا...

رفع أمين وجهه فنظر اليها مباشرة، تقف بجوار المقعد الوثير، لا يضيء المكان سوى ضوء مصباح أرضي طويل بجوار المقعد...
و تسمر كل منهما ينظر الى الآخر، فلعقت بدور شفتيها ثم همست بصوت لا يكاد أن يسمع
(مرحبا)
انعقد حاجبيه للحظة ثم سألها بجفاء شديد النبرة
(لماذا تجلسين هنا؟، ألم أنبهك الا تدعيني أرى ظلك)
أغمضت بدور عينيها و هي تحاول السيطرة على رجفة جسدها، ثم نظرت اليه و هي تقول هامسة
(أعددت لك الطعام).

ازداد انعقاد حاجبيه بشدة وهو يهتف بها غاضبا
(و ما الجديد؟، كل ليلة تعدين الطعام و اتركه لك علك تفهمين أنني لا أريد شيئا منك الا أنك لا تيئسين على ما يبدو)
رمشت بدور بعينيها ثم قالت و قد بدأت تفقد بعض الثقة التي ظلت تجمعها لساعات طويلة
(الجديد أنني أعددت الطعام بنفسي، أنا كنت أحضر فقط الطعام الذي ترسله لي والدتك، لكن اليوم طبخت بنفسي).

ارتفع حاجبي أمين وهو يراقبها بطريقة أشعرتها بأنها أكثر غباءا مما كانت تظن، ثم سألها بجفاء
(هذا سبب أدعى كي أنفر من الطعام، أنه معد بيديك، ولولا نعمة الله لكنت سكبته في سلة المهملات)
شعرت بدور بالإهانة تملأها و تصل الى حلقها كطعم صدىء...
لقد ظنت أنها تستطيع تحمل الإهانة بقوة ارادة لأنها تستحق كل كلمة، لكنها تظل موجعة جدا...
رفعت وجهها و نظرت الى عينيه هامسة
(اعف عني أرجوك).

شتمت لسانها الغبي الذي لا يخضع لقرار من عقلها أبدا، كانت قد قررت الا تفتح الموضوع و تحاول أن تجتذبه اليها شيئا فشيئا...
الا أنها مع أول مواجعة، عادت للتوسل من جديد عله يصفح عنها و يبقيها على ذمته، زوجته...
اقترب منها أمين ببطىء، فدبت قدميها في الارض تثبتهما كي لا تفر خوفا من أمامه...

لكن ما أن وصل اليها حتى فقدت شجاعتها و استدارت تنوي الهرب، الا أنه كان أسرع منها فأطبق كفيه على ذراعيه بقوة، ليديرها اليه ثم ألقى برأسها للخلف و نظر الى وجهها الشاحب و ملامحها الخائفة...
ثم قال بصوت قاسي خفيض.

(أعفو عنك؟، ما هو العفو الذي تبتغينه بالضبط؟، الا أضربك كل ليلة مثلا حتى تتكسر عظامك كلها واحدة تلو الأخرى و لا يعد لديك المزيد من العظام الكافية لتشفي كرامتي و اسمي من خداعك و رخصك؟، أو لا أستسلم لنوازع الشيطان بداخلي و الذي يحثني على فضحك أمام أهلك و أمام الجميع، أو ربما مثلا أحاول شراء نفسي و اعصابي فأطلقك بعد خمسة أيام من زواجك، و حينها ستظلين موصومة بهذا الطلاق المخزي للأبد! أخبريني أي عفو تنشدين لأنني بصراحة تعبت من شدة التفكير خلال الأيام الماضية في طريقة تجعلك تتجرعين بها الألم عقابا على خداعك لي).

كانت بدور تنتفض فعليها بين كفيه الممسكتين بها بشدة و ألم...
كرهه لها واضح وضوح الشمس و لا يقبل أن تخدع نفسها...
و على الرغم من كرهه و كل ما همس به أمام عينيها المتضرعتين، الا أنها وجدت في نفسها الشجاعة لتتابع همسا
(اعف عني، اسمح لي بأن أبقى زوجتك و أنا سأكون خادمتك المتبقي من عمري، لا تعيدني الى بيت أهلي أرجوك يا أمين، أنا أسيرة عرضك و شرفك و شهامتك).

ارتفع حاجبيه مجددا وهو ينظر اليها بذهول، بينما ازدادت أصابعه حفرا في ذراعيها دون أن يدري...
الا أنه حين تكلم قال غير مصدقا
(أنت حقا ذات أحلام واسعة! كنت واثقة بأنني لن أفضحك و الآن تريدين أن تبقين زوجتي، و ربما أم أولادي أيضا! يا أسيرة العرض، يا أسيرة الشرف!)
كان يتكلم بسخرية موجعة، مهينة للغاية، خاصة وهو يتكلم عن العرض و الشرف...
لذا قالت بصوت مهتز، و هي تنظر الى عينيه.

(لو أخبرتك أنني أتمنى بالفعل أن أكون أم أولادك، لو أخبرتك أنني بالفعل ذات أحلام واسعة، هل تراني عديمة الشرف لا أليق بهذه المهمة؟، أخبرني يا أمين، هل أنا عديمة الشرف؟)
ساد صمت طويل وهو ينظر اليها، بنظرات مبهمة غريبة، ثم قال أخيرا بصوت مزدري
(أنت عديمة الثقة، الثقة بك، لقد خنت ثقة والدك، فكيف أثق بأنك لن تخوني ثقة زوجك، إن كانت هامة والدك لا تساوي لديك شيئا، فهل أئتمنك على عرضي؟).

هي طلبت أن تسمع، و تستحق ما سمعته...
لكنها عافرت و قالت هاتفة بصدق و حرارة
(أنا مخطئة، و ربي أنا مخطئة، لكن والدي هو من أئتمن شخصا غير جدير بالثقة على ابنته، هو من طلب عقد القران كي يكون هناك رابط شرعي بيننا ليقلني من الجامعة للبلدة و ينهي أموري و ما أحتاج اليه)
ضحك أمين عاليا، ضحكة قاسية، مفزعة، ثم نظر اليها بعينين تغليان غضبا وهو يهتف بها بجنون.

(أي وقاحة تمتلكين؟، هل تلقين بالخطأ على الجميع الا أنت؟)
صرخت بدور تجيبه يائسة
(والله أخطأت، والله أخطأت، و أنا أطلب الصفح منك)
هزها بقوة وهو يهتف بها هو الآخر
(الصفح الوحيد الذي تحصلين عليه هو أنني لم أفضحك أمام عائلتك، أما أحلامك المريضة في أن تتمي حياتك معي، انسيها تماما)
و دون انتظار ردها ألقى بها لتسقط جالسة على المقعد فانحنى رأسها و هي تبكي دون صوت...

لكن و قبل أن يختفي داخل غرفته وقف لينظر اليها بنظرة كارهة ثم قال ببرود
(على الرغم من ضربي لك ليلة زفافنا، لم تشك والدتك أو أمي بأن يكون السبب هو تفريطك في نفسك مطلقا ولو للحظة، على الرغم من أن الأمر كان واضحا لمن يدقق النظر، لكن الجميع ينظر اليك بثقة لا تستحقينها، حتى أنا، كنت شديدة الثقة بك، لكن الإنسان لا يتعلم درسه بسهولة، لابد أن تلدغه الأفاعي أولا بعد أن تخدعه بنعومة جلدها).

ابتعد عنها بعد هذه الكلمات الحاقدة ثم صفعها بصوت صفق الباب بعنف مما جعلها تنخطر في بكاء بعنف أكبر...

بعد يومين، و بعد عودة أم أمين و نورا الى البيت...
عاد أمين الى عمله و كأنه قد حصل على الخلاص منها أخيرا، مجرد رؤيته لها كانت تجعل الدماء الحارة تغلي في أوردته، لدرجة أنه كان يحلم في بعض الأحيان بأنه يشبعها ضربا و لا يكتفي بعد...
كان أسبوعا مروعا، خلف كلا منهما بملامح شاحبة و أعين صامتة...
و هذا ما لم يفت أم أمين مطلقا...

كانت بدور في غرفتها ترتب سريرها، لا تعلم كيف ستسير الأمور بعد عودة حماتها الى البيت...
أمين في عمله منذ الصباح، و هي ملتزمة بغرفتها، غير قادرة على مواجهة أمه، خوفا من أن تقرأ ما يحدث بينهما من نظرات عينيها المنكسرتين...
قطع أفكارها صوت طرق على الباب، فتشنجت على الفور قبل أن تجيب بصوت مهتز
(نعم، تفضلي)
فتحت حماتها الباب و دخلت مبتسمة، ثم قالت بحنان.

(ما بالك يا بدور مختبئة في غرفتك منذ عودتنا صباحا، الا تريدين الجلوس معي أنا و نورا أم أنك متضايقة لأننا قاطعنا شهر العسل؟)
هتفت بدور بذعر نافية
(ما هذا الكلام يا خالتي؟، هذا بيتك و أنا ضيفة عندك)
اقتربت أم أمين منها مبتسمة حتى جلست على السرير ثم قالت برقة
(اذن تعالي بجواري)
دنت منها بدور الى أن جلست بجوارها مرتبكة بقلب يرجف، و شبكت أصابعها تنظر اليها بقلق، الى أن قالت حماتها بحنان.

(أولا، لا أريد سماع أنك ضيفة هنا مجددا، هذا بيتك من الآن فصاعدا، مفهوم؟)
نظرت اليها بدور مبتسمة بحزن، الا أنها أومأت برأسها دون رد، ظلت أم أمين تنظر اليها قليلا بتفحص ثم قالت بخفوت
(الآن أخبريني عن حياتك مع أمين؟)
ابتلعت بدور غصة القلق في حلقها، الا أنها قالت بتوتر
(الحمد لله يا خالتي، كل شيء بخير)
زمت أم أمين شفتيها، لكنها قالت بجدية.

(أنا أنبت أمين على تصرفه معك ليلة زفافكما، و كنت شديدة معه ربما للمرة الأولى منذ فترة طويلة، لكن اسمعيني يا بدور، لا أريد لما حدث أن يجعلك تظنين في أمين القسوة و عدم الصبر، أمين شاب من نوع خاص جدا و ذو قلب نادر، لن تعرفي مثله أبدا، لكن أريد أن أخبرك شيئا، كما أنت متوترة في بداية زواجكما، و قليلة الخبرة، كذلك أمين، إنه شاب ملتزم و قليل الخبرة، لذا توتر و أخطأ التصرف معك، هذا ليس مبرر له، لكنه ليس بالسوء الذي تخيلتيه عنه).

ابتسمت بدور دون أن تستطيع الرد...
أمين على الرغم من أنه شاب ملتزم، الا أن الخبرة لا تنقصه اطلاقا، و لم يتوتر أو يسيء التصرف كما تظن أمه...
حتى الآن لا تزال تتذكر قبلاته لها و مداعباته الشغوفة لها و التي أربكتها و أخجلتها، كان رقيقا للغاية و هي متأكدة بأنه كان ليحسن التصرف مع أي فتاة بكر...
قالت أم أمين تخاطب كنتها قائلة
(لماذا أنت صامتة يا بدور؟، أخبريني بما يدور في رأسك).

نظرت اليها بدور و قالت بصوت خافت مرتعش
(أمين رجل رائع يا خالتي، و أنا لست غاضبة منه، بيننا تفاصيل خاصة لن أستطيع ذكرها، لكنها كفيلة بأن تجعلني أتفهمه و أثق بأنني سأكون آمنة معه)
تنهدت أم أمين براحة و هي تقول
(كملك الله بعقلك يا بدور، كل يوم تثبتين لي أنني قد أحسنت الإختيار حين اخترتك لأبني)
أظلمت عينا بدور و هي تطرق برأسها هامسة دون أن تستطيع أن تمنع نفسها
(هل، هل أنت من اختارتني لأمين يا خالتي؟).

قالت حماتها بفخر و دون تردد
(بالطبع، ليس هناك خيار يعلو على خيار الأم حين تنتقي لإبنها العروس المناسبة)
شعرت بدور بخيبة أمل نسفت كل أحلامها، كانت تظن بأن أمين معجب بها ولو قليلا...
لكن من الواضح أنها لم تكن بالنسبة له سوى إحدى خيارات أمه، لكنها اختيار عطن معطوب...
نعم، لقد أساءت أمه الإختيار و ليس عليه الآن سوى رمي البضاعة التالفة المستهلكة، و انتقاء غيرها...

تلك الليلة بعد عودته، كانت بدور لا تزال في غرفتها، الا أن أذنها كانت مرهفة السمع مع كل خطوة يخطوها خارج الغرفة، و كل كلمة يتكلمها مع أمه، تتسائل أين سيبيت ليلته...
لكن كل توقاعتها لم يطمح أحدها الى ما حدث، فقد دخل الى الغرفة فجأة دون أن يطرق الباب أو يطلب الإذن...
فتسمرت بدور مكانها و هي تراه يغلق الباب خلفه بالمفتاح ثم استدار ينظر اليها نظرة قاتمة قبل أن يهمس قائلا بجفاء.

(منذ الليلة سأضطر صاغرا الى المبيت في هذه الغرفة معك، ولو أنه أكثر الأمور بغضا لقلبي)
و دون أن ينتظر منها ردا، اتجه الى السرير و سحب منه احدى الوسادات ثم اتجه الى الدولاب و اخذ منه غطاءا ثقيلا طواه لنفصين، قبل أن يفرشه أرضا و يلقي الوسادة عليه...
وجدت بدور صوتها أخيرا و همست
(ماذا تفعل؟)
رد عليها بنبرة خشنة باردة
(ماذا ترين؟، أجهز فراشا لي)
لعقت بدور شفتيها ثم قالت من خلفه برجاء هامس.

(حسنا نم أنت على سريرك يا أمين و أنا سأنام على الأرض)
أجابها أمين دون أن ينظر اليها، (السرير الذي احتوى جسدك لن أطيق أن يمسه جسدي)
ارتفع حاجبي بدور و همست بألم
(لهذه الدرجة يا أمين)
رد عليها بنبرة أكثر جفاءا و قسوة أثناء استلقاؤه على الأرض
(ليتك تعلمين الى أي درجة أمقتك، صدقيني لو عرفت لدفنت نفسك حية).

ظلت بدور واقفة مكانها تنظر اليه مستلقيا على الأرض و ذراعيه خلف رأسه، على الأغلب أنه قد بدل ملابسه في الحمام و أدى صلاته في الخارج، و لم يدخل الا ليلقى بنفسه أرضا وهو يعد الساعات حتى يغادرها...
ابتلعت بدور ريقها ثم قالت بخفوت
(أريد أن أبدل ملابسي من فضلك)
لم تتغير ملامح أمين أو تتحرك عضلة من جسده وهو ينظر الى السقف قائلا ببرود
(و ما المطلوب مني؟)
هزت رأسها و هي تهمس بخفوت.

(لا شيء، أنا فقط أخبرك بأنني سأبدل ملابسي في هذا الجانب كي لا تدير وجهك)
ضحك أمين ضحكة مقيتة، ثم سألها بخشونة
(هل تخجلين يا بدورة؟، كان على مراعاة هذا بالنسبة لأنك عروس جديدة)
أغمضت بدور عينيها و هي تبتلع اهانة تلو أخرى، ثم أجابته بصوت خفيض
(لا، أنا فقط لم أشأ أن تظن بأنني أحاول شيئا)
عاد أمين ليضحك نفس الضحكة ثم قال بجفاء.

(كإغرائي مثلا؟، اطمئني، فلو وقفت أمامي عارية تماما فلن تثيري بداخلي سوى الإزدراء)
استدارت بدور عنه و هي تخشى البكاء بصوت عال أمامه، ثم بدأت في خلع ملابسها ببطىء و كلها ثقة بأنه لن ينظر اليها مطلقا...
و ما أن انتهت حتى استلقت في فراشها ببطىء، ثم أطفئت المصباح الجانبي واستلقت مثله يجمعهما سقف واحد، ينظر كلا منهما اليه و كأنه فضاء قاتم خالي من النجوم...

فتح عينيه ببطىء وهو يحاول تحريك عنقه ليخلصها من التيبس الذي أصابها جراء النوم على الأرض...
ثم نظر الى ساعة الحائط فهتف متأوها
(يالله! لقد فاتت صلاة الفجر بساعة و نصف، هذا ما آخذه من النوم معها في غرفة واحدة)
نهض من فراشه الأرضي بصعوبة و كل جزء في ظهره يؤلمه، الا أنه توقف وهو ينظر الى السرير الواسع الخالي، ثم عقد حاجبيه متسائلا
(أين ذهبت في مثل هذه الساعة؟).

خرج أمين من الغرفة ليبحث عنها وهو ينتوي أن يسمم جسدها بكلمة تؤلمها، أي كانت ما تفعله...
كان البيت بأكلمه ساكنا الا أصوات خافتة تتصاعد من المطبخ، اقترب أمين منه ببطىء...
فوجدها هناك تتحرك بسرعة و هي تحاول تحضير شيء ما...
قال أمين بخشونة يسألها
(ماذا تفعلين؟)
انتفضت بدور شاهقة و يدها على صدرها اثناء استدارتها اليه، ثم لم تلبث أن ضحكت هامسة بعصبية
(يوما ما ستقتلني)
رد عليها أمين بجفاء قائلا.

(ليته يكون يوما قريبا)
اختفت ضحكتها الغير محسوبة عن شفتيها بسرعة، فأبعدت وجهها عنه دون أن ترد، الا أنه سألها قائلا بصوت صارم
(سألتك سؤالا و لم أحصل على جواب)
همست بدور دون أن تنظر اليه
(فكرت أن أعد بعض الفطائر الخاصة للفطور، خالتي بالأمس كانت مستاءة من بقائي في الغرفة طوال اليوم، فقررت أن أخرج اليوم و أقوم بشيء خاص كي لا أثير شكوكها، لا تنسى أنه يفترض بنا أن نكون في شهر العسل).

اقترب منها أمين ببطىء و عيناه تضيقان بكره حار، الى أن وقف أمامها ثم سالها بصوت خافت مكتوم
(ما الذي تحاولين فعله بالضبط؟، هل تحاولين تثبيت قدميك هنا في البيت؟)
هزت بدور رأسها كاذبة و قالت بضعف
(لا، أنا فقط اتقن الدور، ردا مني لجزء من جميلك، أنا لا أريد أن أرى والدتك مستاءة)
مال أمين برأسه الى أن اقترب وجهه من وجهها ثم قال مشددا على كل حرف.

(ليس هناك داع لتضحيتك الكريمة، أنا أفضل أن ترى أمي بأنني لا أطيقك كي يكون طلاقنا ممهدا لها، فلا تصدم به)
شعرت بدور بضربة في منتصف صدرها، فاستدارت عنه بسرعة و اليأس يداهمها بقوة مبعدا أي ذرة أمل تلوح لها
تابعت عملها ببطىء و صمت و كأنه غير موجود، لكن صوت أم أمين جاء من خلفهما بدهشة
(صباح الورود و الجمال لأغلى عروسين، ماذا تفعلان في المطبخ بمثل هذا الوقت؟).

استدارت بدور بسرعة و قالت محاولة أن تبتسم بسعادة خادعة
(صباح الخير خالتي، أنا أعد لكم فطائر من صنع يدي)
اقتربت أم أمين من الحوض و هي تنظر اليه بدهشة قائلة
(كان هناك أوعية و صحون العشاء، من غسلها؟)
قالت بدور بصوت خافت و هي تشعر بالحرج من أمين الذي يرمقها بسخرية...
(أنا غسلتها يا خالتي، و رأيت الملابس الخارجة من الغسيل فقمت بكيها)
نظرت اليها أم أمين و هي تقول بدهشة.

(لماذا تقومين بكل هذا يا ابنتي؟، أنت عروس و يتوجب علينا خدمتك)
همست بدور بشعور بالخزي
(أنا أسلي نفسي يا خالتي، لما لا تجلسين لأعد لك قهوتك؟)
جلست أم أمين و هي تنظر اليها بمحبة، ثم قالت بسعادة و رضا
(و ماذا عن ابن أم أمين؟، اليس هناك قهوة له؟)
ردت بدور بسرعة و لهفة
(من عيوني، لحظة و)
الا أن صوت أمين الخشن قاطعها قائلا بقسوة
(لا أريد).

امتقع وجه بدور بشدة، بينما نظرت اليه أمه بدهشة، و ساد صمت متوتر مشحون، فقالت أمه بغضب
(دعي القهوة من يديك الآن يا بدور، اذهبي لتنامي ساعة قبل خروجك حبيبتي كي لا تتعبين خلال اليوم)
انتبهت كل حواس أمين وهو يرفع وجهه ليسألها قائلا بنبرة مخيفة
(الى أين تخرجين بالضبط؟)
ارتبكت بدور من نبرته المفاجئة، فأجابته بخفوت
(اليوم تنتهي إجازة، زواجنا، و من المفترض أن أعود لمحاضراتي)
قصف صوت امين يهدر عاليا.

(انسي الأمر، لا ذهاب الى الكلية مجددا)
هتفت بدور بصدمة
(ماذا؟، ماذا تقصد يا أمين؟)
رد عليها دون تردد و بنبرة عنيفة
(لن تتابعي دراستك، و لا خروج من البيت من الأساس)
صرخت بدور بهلع
(لا يا أمين أرجوك، لا تفعل هذا)
أما أمه فقد نهضت من مكانها تسأله بدهشة
(ما سبب هذا القرار المفاجىء يا أمين؟، كنت مدعما لها في متابعة دراستها حتى زواجكما، ما الذي غير رأيك فجأة؟)
قال أمين بجفاء.

(هذا الأمر منتهي بالنسبة لي يا أمي، هي لم تكن متفوقة على كل حال، و لا أظنها مهتمة بالدراسة الى تلك الدرجة، الإسم فقط ذاهبة الى الكلية كل يوم)
هتفت بدور بترجي و اصرار
(كان هذا قبلا يا أمين، أما الآن فأنا مهتمة بإنهاء دراستي صدقني، لقد بذلت مجهودا كبيرا في الدراسة هذا العام و لم يبقى الكثير على نهايته)
رد أمين بنبرة بدأت تعلو و يتردد صداها في أرجاء المطبخ.

(لقد قلت ما لدي، لا أريد خروج من البيت، و هذا قرار نهائي)
تدخلت أمه تقول بقوة
(الامور لا تسير بهذه الطريقة يا أمين، دعنا نتناقش بالعقل)
رفع أمين يده قائلا بصرامة
(رجاءا يا أمي، إنها زوجتي و أنا مصر على قراري)
ثم استدار ليغادر المطبخ، فتهاوى رأس بدور و هي تبكي بقوة، فأخذتها حماتها بين ذراعيها و ربتت على ظهرها قائلة بخفوت.

(لا تخافي يا بدور، لن أترك الموضوع، لندعه الآن ربما كان متضايقا من شيء آخر، أنا أشعر أنه منذ فترة يعاني من ضغط شديد، سنؤجل الكلام الى أن نجد الوقت المناسب لفتحه من جديد، لا تخافي، ارتاحي اليوم و أسعدي نفسك كما يليق بعروس جميلة مثلك).

حكت جبهتها بعدم تركيز و هي تتابع العمل على سيل الورق أمامها بصمت و روتينية...
الى أن سمعت صوت رسالة تصلها على هاتفها الموضوع أمامها فوق سطح المكتب...
نظرت اليه ياسمين بعدم اهتمام، ثم رفعته تلقي نظرة الرقم المرسل منه الرسالة...
لكن ما أن استوعبت الرقم الذي تحفظه عن ظهر قلب على الرغم من انها مسحت اسم صاحبه منذ شهر...

ظلت ياسمين على حالتها، ممسكة بالهاتف المرفوع بين أصابعها، أما ملامحها فكانت ثابتة خالية المشاعر و عيناها قاتمتان تحت نظارتها...
لا تزال تتذكر آخر رسالة منه، تحفظها حرفا حرف، كما تحفظ رقم هاتفه، و اسمه، و كل كلمة قالها...

لقد خطبت ابنة عمي اليوم، ربما ترين في شخص حقير، و ربما كنت كذلك، الا أنني لست نادما، بعض التعقيدات تحتاج الى حل حاسم، أنا آسف، و أتمنى لك الرجل الذي يقدرك كما تستحقين، لكن اعتني بنفسك و لا تمنحي ثقتك الى أي كان، وداعا،
رفعت حاجبيها قليلا و هي تحاول طرد مرارة الذكرى، ثم ضغطت على الرسالة الجديدة تفتحها...
لتقرأ الكلمات العشوائية و كأنها قد كتبت دون ترتيب.

أدرك بأنني إن اتصلت فلن تردي على اتصالي، لذا خاطرت بإرسال رسالة لك، أنا أحتاج للكلام معك بشدة و لأمر هام، أنا أقف أمام عملك، فإن لم تخرجي خلال عشر دقائق، سأعلم حينها بأنك ترفضين رؤيتي، سأرحل حينئذ و لن أزعجك مجددا، أرجوك، إنها المرة الأولى التي أترجاك فيها، كل ما أريده هو أن تسمعيني لدقائق معدودة
ظلت عينا ياسمين تمران على الأسطر ببطىء، ملامحها ساكنة كنظراتها، لا تخبران عن شيء.

كبحر هادىء كالبساط، لكن لا أمان له، عميق بلا قرار...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة