قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والستون

تربعت أم ياسمين أرضا حاملة الرضيعة الباكية، أمام طاولة طعام قصيرة الأرجل خاصة بالجلوس أرضا بعد أن حضرت الفطور كاملا، بينما كان عادل أول الجالسين و قد بدأ الأكل بالفعل، فنظرت اليه حماته بنفاذ صبر قبل أن تنادي بغيظ...
(تعالي يا سوسن، تعالي لتجدي شيئا تفطرين به يا ابنتي فأنت ترضعين و تحتاجين للأكل الوافر في بداية النهار).

جائت ابنتها مجهدة حاملة الشاي و الأكواب مجمعة فوق بعضها، لكن بعد أن وضعتهم و ما أن أوشكت على الجلوس حتى علا جرس الباب. فقالت سوسن بنفاذ صبر
(من سيأتي الآن؟)
قالت أمها و هي تنظر الى عادل بغضب
(افتحي يا ابنتي على الأرجح هذا بائع الحليب، فمن الواضح أن زوجك لن يتطوع بفتح الباب حتى)
لم يهتم عادل و هو يتابع طعامه، مما جعل سوسن ترمقه ساخطة الا أنها ذهبت للباب فعلا و فتحته ثم هتفت
(ياسمين!).

دخلت ياسمين و قبلتها قائلة بحرج
(صباح الخير يا سوسن، آسفة على مجيئي دون دعوة، لكن معي زائر)
هتفت سوسن بجنون و هي تنظر الى أمها و زوجها الجالسين أرضا، كان منظرها و منظر أمها لا بأس به مرتبا و نظيفا أما حالة زوجها فكانت يرثى لها بقميصه القطني الداخلي و بنطال منامته المهترىء ووجهه الغير مغسول و شعره الأشعث...
فهمست لياسمين بغضب
(أي زائر الآن؟، نحن لسنا في حالة إستعداد، ما الذي تفعليه بنا؟).

فقالت ياسمين ببرود
(هذا فريد و يريد أن يقابل أمي كي يطلب منها أن نتمم الزيجة اليوم)
اخترقت العبارة أذن أمها كرصاصة طائشة جعلتها تسعل في كوب الشاي الذي كانت ترتشفه...
فصرخت من جلستها أرضا بلهفة و لوعة و كأنها لا تصدق...
(موافقة، موافقة، والله موافقة، نهار أبيض، نهار مبروك)
و حين عجزت عن قول المزيد رفعت يدها الى فمها و أطلقت زغرودة عالية...

أغمضت ياسمين عينيها خزيا أما سوسن فجرت الى الداخل تحاول حمل الطاولة و هي هتفت بغضب
(يا رجل قم من مكانك و ساعدني على اخفاء تلك الطاولة من هنا)
الا أن عادل كان يبدو و كأنه قد تجمد مكانه و اللقمة في فمه المفتوح، حينها قالت ياسمين بهدوء
(أدخل يا فريد، لا شيء محرج سوى المعتاد)
دخل فريد الى البيت مبتسما ووصل الى والدة ياسمين فاحنى اليها مربتا على كتفها قائلا بمودة
(كيف حالك؟)
هتفت أمها بنبرة أقرب الى الترجي.

(بخير حال يا ولدي، لا تتخيل سعادتي بصلحكما، اللهم لك الحمد)
حين حاولت النهوض من مكانها منعها فريد قائلا وهو يداعب الرضيعة
(لا تتحركي، أود الجلوس معكم)
هتفت أم ياسمين بلهفة
(تفضل يا ولدي، تناول فطورك معنا، شرفتنا طبعا)
تربع فريد بجوار عادل الذي كان على نفس الحالة من الجمود و الصدمة و جلست كلا من ياسمين و شقيقتها ببطىء و تردد...

الوحيد الذي كان مرتاح البال مبتسما و بشوشا هو فريد، بل و مد يده يقتطع لقمة من رغيف الخبز ليتذوق الجبن بقطع الطماطم، ثم قال بإشتهاء
(على الرغم من أننا سبق و تناولنا فطورنا الا أن منظره رائع، كمذاقه)
التفت الى أم ياسمين و سألها بلطف
(هل أنت من أعده؟)
قالت سوسن بسرعة متلهفة
(بل أنا)
اتسعت ابتسامة فريد لها و قال بلطف بالغ
(سلمت يداك، طيب المذاق جدا كيد من أعدته).

تألقت ابتسامتها بفرح حقيقي، بينما تابع فريد أكله أمام نظراتهم القلقة، ثم قال بهدوء
(طبعا يجب على الإعتذار لأنني أتيت دون علم مسبق، لكن كان لدي هدف في هذا، فلو كنت قد أخبرتكم قبلا لتحجج الأخ عادل بأي عذر و غادر البيت قبل أن اصل، بينما أنا أريده في أمر هام)
تلونت عينا عادل بلون العراك و قال بفظاظة
(لا أرى أن هناك ما قد نتحدث عنه)
لكن فريد أجابه ببساطة.

(على العكس، هناك شيء هام جدا، لقد اقترفت شيئا مخزيا و مقرفا و عليك اصلاحه على الفور، فقد سرقت هاتف خطيبتي القديم، و التي ستكون زوجتي فاخترقت خصوصيتها و نظرت الى أسرارها و صورها و من يعلم ماذا رأيت أيضا، إن كنت أنا خطيبها لم أقدم على شيء شديد البذاءة كهذا، لذا و قبل أي عتاب، عليك احضار الهاتف ووضعه هنا أمامي في الحال، لأنك أرسلت لي اللقطات المصورة من هاتفك و هذا يعد دليلا على اقدامك على سرقة الهاتف لأنني لم أخبرك أنني قمت معمل محضر لسرقته).

اتسعت عينا عادل بجزع وهو ينظر الى حماته و زوجته اللتين بادلتاه نفس الرعب أما هو فهتف بغضب
(محضر من أجل سرقة هاتف! لن يهتم أي قسم شرطة بمثل هذه التفاهة، لا أصدقك)
أجابه فريد وهو يأكل بنهم
(لكن حين يكون الهاتف مهما و لشخصية هامة سيتم الإهتمام بالأمر، و أنا لدي بعض الأصدقاء أمكنهم الإهتمام بشكل مبالغ فيه)
توترت ملامح عادل أكثر، الا أنه قال مكابرا
(لم آخذ شيئا و افعل كل ما يمكنك فعله)
قال فريد بهدوء.

(بعد زواجي بياسمين سنسافر و نبقى في الخارج لفترة طويلة، هل تعرف ما يعنيه ذلك؟، أن الدجاجة التي تبيض بيضة ذهب في هذا البيت ستطير بعيدا، و إن طارت و هي غاضبة منك فهذا سيضطرك للخروج بحثا عن عمل، بخلاف المحضر الذي لن أتنازل عنه)
توتر الجو على الفور و شحبت ملامح زوجته و عم الصمت المكان، فقالت والدة ياسمين بقسوة مفاجئة
(أحضر الهاتف لو كان لا يزال معك يا عادل، و الا والله لن تبيت هنا ليلة إضافية).

هتفت سوسن بهلع
(أمي!)
الا أن أمها هتفت بقوة
(والله لن أتراجع، لقد ساندتك كثيرا، لكني تخاذلت حين تهاونت سمعة ابنتي)
نقل عادل عينيه بينهم بتوتر و اضطراب، ثم قال بحدة
(لم يعد معي، تخلصت منه)
قال فريد هادئا دون أن يفقد أعصابه
(اذن لن أتنازل عن المحضر، من سوء حظك أن تخلصت منه)
هتفت سوسن بتوسل
(أرجوك أحضره إن كان معك، أرجوك).

لم يلتفت فريد الى الصراع الدائر حول الطاولة القصيرة، الى أن نهض عادل ببطىء، ثم عاد خلال دقائق و انحنى ليضع الهاتف أمام فريد على الطاولة و الذي قال دون أن يلتفت اليه
(شكرا لك، لا تكررها مجددا)
ابتعد عادل ليختفي في غرفته و تركهم يجلسون في حالة من الخزي المريع، الى أن قال فريد ببساطة.

(آسف للتدخل لكن كان عليكما دعم ياسمين أكثر من ذلك، عامة حصل خير و الآن يمكننا الإتفاق حول كل شيء لأن عقد القران سيتم هنا اليوم مساءا)
نظرت كلا من أم ياسمين و شقيقتها الى بعضهما بدهشة، و قالت أمها بإرتباك
(هكذا دون زفاف أو حضور أعمامك؟)
قال فريد معتذرا
(للأسف ليس لدي الوقت الكافي، يجب أن نعقد قراننا كي أتمكن من انهاء أوراق سفرنا معا كزوجين، لذا ستعذرني العائلة بالتأكيد).

أطرقت سوسن برأسها بحزن فقال فريد بخفوت
(هل تتقبلين نصيحة من أخ؟، أجبريه على العمل إن كنت مصرة على البقاء معه لأجل طفلتك، لا تسلميه الحصة التي سترسلها ياسمين و مع ذلك أنت حرة و هذا قرارك، لن نتحكم فيه أبدا)
نهضت سوسن من مكانها باكية و هي تحمل رضيعتها مبتعدة، فتنهدت أمها قائلة بحسرة
(عيني عليك يا ابنتي، حظك قليل، لا أعلم ماذا تستفيد من تلك الزيجة التي عدمها أفضل).

نظرت ياسمين اليها بذهول متعجبة، الا أنها نهضت مهرولة تقول
(حسنا، أمامي عشرات الأشياء أقوم بها و عشرات المدعوين)
هتفت ياسمين تقول معارضة
(يا أمي لا نريد أي مدعوين)
لكنها كانت تخاطب الفراغ حيث اختفت أمها، فتنهدت قائلة بحزن
(لم تعقب على سفري حتى، و كأن الأمر غير ذي أهمية)
زحف فريد حتى جلس بجوارها أرضا، ثم قال بحنان
(هي لا تتمنى سوى زواجك)
نظرت اليه ياسمين و سألته بدهشة.

(كيف تأكدت من أن عادل لم يتخلص من هاتفي القديم؟)
قال فريد بصوت بارد
(لم يكن ليتخلص من شيء لن يضره لكن قد يفيده ان أراد ابتزازك يوما، للأسف أنا أفهم هذه الشخصية جيدا)
ثم أمسك بالهاتف و ناوله لها قائلا
(خذي و تخلصي منه)
لم تمسكه ياسمين على الفور، بل نظرت الى عيني فريد و قالت بخفوت
(احتفظ به و ابحث فيه يا فريد، لا أريد أي أسرار بيني و بينك بعد الآن)
عقد حاجبيه و قال بنبرة قاتمة
(هل هذه نظرتك لي حقا؟).

هزت ياسمين رأسها نفيا و أخذت الهاتف صامتة، بينما قرب لقمة جبن بالطماطم من فمها قائلا
(افتحي فمك، أختك تجيد هذا حقا)
نظرت اليه بإستياء و قالت
(أي إجادة تتحدث عنها؟، وضعت قطعة جبن و قطعت فوقها ثمرة طماطم، ما الإعجاز في هذا؟)
دس فريد اللقمة في فمها قائلا...
(وضعت زيت زيتون، مجهود تشكر عليه)
ضحكت ياسمين و هي تنظر اليه بوله ماضغة ما في فمها، ثم قالت بصوت خافت.

(أنا سبق و ارتديت فستان زفاف من قبل، لكنك لم تفعل، الا تريد الآن حقا أن ترتدي حلة زفاف؟)
أجابها فريد ضاحكا على الرغم منه
(الفعل يستهويني أكثر من الملابس)
احمرت وجنتاها و هي تضحك بنعومة، آخذة لقمة جبن بالطماطم أخرى كي تداري بها إرتباكها...

(أنا لن أسكت يا رضوى، سأذهب اليوم اليه و أخرب بيته، ما معنى أن تحدث تلك الفجوات و الإنتفاخات حول اطارات النوافذ الألومينية و لم يمضي سوى أسبوعين فقط على تركبيها! الجدار تشقق و تلف تماما و هناك ثقوب واضحة حولها، لقد دفعنا كل ما طلب و اخترناه بناءا على سمعته لكنه ظننا ساذجات يمكن خداعهن، كان يفترض أن يكون المكان جاهزا منذ شهر و ها نحن لا نزال نحارب في خطوات التشطيب التي تنتهي ثم يتبين أنها غير صالحة فنعيدها، لقد كرهت العمال و كرهت طريقة استغلالهم لنا، ظنا منهم أننا غبيات).

ربطت بدور شعرها بغضب خلف رأسها أمام المرآة في غرفة نومها حانقة و سماعة الهاتف في أذنها، تتحرر أخيرا من ملابسها و ترتدي منامتها الواسعة المريحة بعد يوم مهلك مع العمال في مقر مشروعهن الجديد...
ثم ارتمت على سريرها زافرة بنفاذ صبر، بينما رضوى على الجانب الآخر تهدئها قائلة.

(يا ابنتي هدئي أعصابك، إن ظللت تتعاملين مع كل عثرة بهذا الشكل العصبي فلن تصمدي طويلا، عليك أن تكوني باردة كلوح الثلج كي تتمكنين من المتابعة، العمال لديهم اسلوب في افقاد اي عميل صبره، بينما الذكي هو من يفقدهم صبرهم أولا، حينها سيسعون الى انهاء عملهم و المغادرة سريعا، و بالنسبة للنوافذ، فلهذا السبب أخرت القسط الأخير من ثمنها، و لن أدفعه الا حين يصلحون العيب الذي حدث)
هتفت بدور بضيق.

(بصراحة كنت اشعر بتأنيب الضمير لتأخيرنا القسط الأخير، الا أنك محقة على ما يبدو)
أجابتها رضوى قائلة ببساطة
(عليك موازنة الأمور دائما، عليك دفع ثمن تعبهم، لكن هناك قيمة خاصة لمدى جودة عملهم، هذه القيمة تؤجل الى أن يتم التأكد من هذه الجودة)
قالت بدور متنهدة
(لماذا تبدين دائما بمثل هذا الهدوء و كأن لا شيء في هذه الدنيا يستحق!)
أجابتها رضوى مبتسمة
(لأنه لا شيء يستحق بالفعل، و هذا هو أفضل ما في هذه الدنيا).

استلقت بدور على جانبها قائلة بإستياء
(أتمنى لو آخذ بعضا من برودك و هدوئك و سلامك النفسي)
ردت عليها رضوى قائلة
(على العكس، أنا سعيدة جدا بالتغيير الطارىء عليك، فغضبك و عصبيتك يدلان على حماسك، لازلت أتذكر أول تعارفنا، كنت سلبية و ساكنة حد الغباء)
جعدت بدور أنفها و هي تقول بحنق
(أنت الغبية، لكن، بصراحة عصبيتي تتزايد كل فترة، حتى بت لا أطيق نفسي أحيانا)
أجابتها رضوى ممازحة.

(أحيانا! أنا و البنات بتنا لا نطيقك كليا، مؤخرا)
هددتها بدور قائلة
(بالله عليك لا تدعيني أفتح لكن الدفاتر لنتحاسب، أنتن تتركن معظم المجهود فوق كاهلي، سمية تجهز لزواجها، و غادة مشغولة مع والدتها في المشفى شفاها الله، أما عبير و هدى و بسمة فهن يخرجن معا يوميا و على ما يبدو وجدن أن الخادمة بدور قادرة على تحمل العبء كاملا)
ضحكت رضوى عاليا ثم قالت.

(من فضلك لا تستخدمي صيغة الجمع، فأنا أعود يوميا بقدمين متورمتين من الوقوف طوال النهار)
زفرت بدور قائلة
(يبدو أنني و أنت فقط من لدينا فراغ للعمل، العبارة حتى غير متجانسة! انهن يعملن في أوقات فراغهن)
قالت رضوى ببساطة.

(نحن لم نبدأ العمل بعد، انتظري حتى نبدأ و حينها سأكون صارمة معهن كأمهاتهن، و سترين، لكن أخبريني، لماذا أنت متفرغة؟، أنا و معروف عني أنني أعاني فراغ عاطفي و كبت بمشاعري و مختلف أنواع الأحاسيس المحبطة، لكن أنت، ما هو عذرك؟)
تنهدت بدور تنهيدة عميقة و هي تستلقي على ظهرها في الفراش ناظرة الى السقف بقنوط...

لا تعرف رضوى أنها بالفعل تعاني من كل ما ذكرته، لديها احباط بالغ و مشاعر مكبوتة، و أشياء مبعثرة بداخلها...
بداخلها جوع عاطفي فظيع، لن يشبعه الا أمين و على الرغم من ذلك لا تجرؤ على الطلب...

لقد اقتنعت منذ فترة طويلة على القناعة بكل ما تفرضه عليها الحياة من عقاب، و أقوى عقاب هو تجاهل أمين العاطفي لها، على الرغم من أنه مهذب معها دائما، يعرض مساعدته بإستمرار و يمازحها أحيانا و هي تلك الأوقات القليلة التي تجعل لحياتها معنى، لكن بخلاف ذلك فهما كالأغراب تحت سقف واحد...
لكنها لا تستطيع الكلام بما يجيش في نفسها أمام رضوى.

في الفترة السابقة توطدت علاقتهما حتى أصبحتا صديقتين و كأن بينهما صداقة منذ الطفولة...
و حكت لها رضوى كل تفاصيل حياتها، اما بدور فاكتفت بالسماع و الكلام معها في كل ما يخصها دون أن تطرق مطلقا الى حياتها مع امين، بل أبقتها سرا مغلقا على آلامه و ظلامه...
أرادت بدور تغيير الموضوع فقالت بنبرة شقية
(بمناسبة التغيير، أنت من ألاحظ عليها تغييرا ما منذ فترة)
ردت رضوى ببراءة.

(من؟، أنا؟، اطلاقا، أنا على وضع يدك منذ شهور)
قالت بدور متشككة
(لا أصدقك، بت أعرفك جيدا لدرجة أنني ألاحظ بك شيئا مختلفا مجهولا، عيناك شاردتان و تبرقان و أنت تظنين أن لا أحد يلحظك، أصبحت تتكلمين بنبرة أقرب الى نبرة الفتيات الطبيعيات و بها القليل من الأنوثة بعد أن كنا قد قاربنا على تقديم أوراق التحاقك بالعسكرية، هناك شيء مختلف بك و اصر على معرفته)
ضحكت رضوى بإرتباك واضح و قالت بتلعثم.

(لا شيء من هذا، أنت تعرفين فقط)
ثم صمتت فسألتها بدور رافعة احدى حاجبيها
(لا. لا أعرف، ماذا؟)
إن كان لديها شك من قبل فهي الآن متأكدة أن هناك سر تخفيه رضوى عنها و هذا السر بالتأكيد متعلق برجل ما...
قالت رضوى أخيرا بحرج
(لا شيء يا بدور صدقيني، لو كان هناك شيئ هام لأخبرتك)
ردت عليها بدور بفضول
(هل تعنين أن هناك شيء الا أنه لا يزال غير هام بعد؟)
تأففت رضوى و هتفت.

(أنت أكثر فضولا من المرأة التي جلست بجوارنا الأسبوع الماضي في الحافلة و التي سألتك عن سبب تأخرك في الحمل حتى الآن بعد أن سألت عن تاريخ زواجك ووظيفة زوجك و أنواع الأطعمة المقوية له)
قالت بدور عابسة
(أنت تلفين و تدورين و هذا يؤكد لي أنك تخفين شيئا)
أرادت أن تتابع الا أن صوت طرقة على باب غرفتها قاطعها، فأبعدت الهاتف عن أذنها و هي تنادي
(تفضل).

دخلت والدة أمين الى غرفتها مبتسمة، فاستقامت بدور على الفور في جلستها و هي تقول لرضوى
(سأغلق الآن لأن عمتي تريدني، لكن بيننا حديث لم ينتهي بعد)
زفرت رضوى قائلة بإرتياح
(الحمد لله، أراك حين يموت فضولك، سلام)
وضعت بدور الهاتف بجوارها و نظرت الى حماتها مبتسمة و قالت بتردد
(أهلا عمتي حبيبتي).

من ملامح حماتها المبتسمة بحرج عرفت بدور أن هناك موضوعا غير ملائما ستتحدث به و هو على الأرجح موضوع واحد لا تحيد عنه و لا تنوي الإستسلام...
اقتربت حماتها منها الى أن جلست بجوارها على حافة سريرها فربتت على ركبة بدور قائلة بمحبة
(أهلا بك يا حبيبة عمتك، دخلت اليوم الى غرفتك مسرعة دون أن نجلس و نتحدث ككل ليلة)
وضعت بدور كفها فوق كف أم أمين و قالت بعذوبة.

(والله يا حبيبتي كنت مرهقة جدا و بدأت جفوني في التساقط، لكن سيكون لطيفا لو جلسنا معا الآن قليلا، أم تحتاجين مساعدة في شيء ما؟)
هزت حماتها رأسها نفيا بحزم و قالت بصرامة
(لا أحتاج الى أي مساعدة، كفاك عملا في البيت، يكفيك التحضير لمقر مشروعك الجديد، أنا لم آتي الآن لهذا السبب)
زمت بدور شفتيها و هي تنظر جانبا منتظرة نفس الحوار و نفس التعليمات و النصائح...
و هي تعبت والله تعبت...

حين ظلت بدور صامتة لا تنوي السؤال عن سبب مجىء حماتها و الذي تعرف جوابه تماما، تبرعت أم أمين و قالت بإصرار و هي تشد على كفها قائلة بعزم
(أمين هو الآخر ذهب الى غرفته باكرا، ما أن دخلت حتى عبس و لزم غرفته)
زفرت بدور شكل غير ملحوظ و قالت بفتور
(حقا! كان الله في عونه فهو يتعب في عمله كثيرا)
عبست أم أمين و عقدت حاجبيها قائلة بصرامة.

(كفاك لؤما يا ابنة أمك، أفيقي لنفسك يا بدور و استوعبي الكلام، أمين دخل غرفته وهوا وحيدا الآن)
رفعت بدور حاجبيها و سألت بتوجس
(و؟)
هزت حماتها رأسها يأسا و قالت بنفاذ صبر
(اذهبي اليه، ارتدي شيئا أنثويا و اذهبي اليه، غازليه، اغريه، افعلي ما تفعله النساء)
كانت ملامح بدور جامدة و هي تنظر الى حماتها بدون تصديق، يبدو أن أم أمين قد نبذت الخجل حين عيل صبرها و فقدت قدرتها على تحمل الوضع أكثر...

فسألتها بدور مستفهمة
(تقصدين ان أتحرش به عمدا؟)
هتفت أم امين مستنكرة
(لا بالطبع، ما هذا اللفظ الوقح؟)
ثم صمتت لحظة قبل أن تتابع متراجعة بنفاذ صبر
(حسنا، نعم تتحرشين به، و ما العيب في ذلك، فهو زوجك و حلالك، افعلي ما يجب عليك فعله لينجح زواجكما)
أغمضت بدور عينيها و أطرقت وجهها تحك جبهتها، لا تعلم كيف ستقنع حماتها أن تسلم بالأمر الواقع...
لكن أم أمين قالت متحسرة بمرارة.

(يا ابنتي وضعكما غير طبيعي اطلاقا، و لا توجد أم في العالم ستبقى هادئة و راضية بمثل هذا الخلل)
صمتت للحظات و هي تنظر جانبا، ثم التفتت الى بدور و سألتها بقلق
(اسمعي يا بدور، أنا مثل أمك، أصدقيني القول، هل، هل أمين يعاني من علة معينة تجعله غير قادرا على اتمام واجباته الزوجية؟)
شعرت بدور بالصدمة تضربها فالتفتت الى حماتها و هتفت بوجه محمر و ملامح ذاهلة مرتبكة تنفي بسرعة
(ما هذا الذي تقولينه يا عمتي؟، عيب).

زمت أم أمين شفتيها و قالت بقوة
(ما عيب الا العيب، هذه الأمر لا يسكت عنها، حاولت سؤال ابني و أنكر، لكنني عدت و فكرت أن كرامته و رجولته ربما منعته من الكلام، لكن انت يجب ان تتكلمي يا ابنتي، لا تسكتي عن حقك و كل مشكلة و لها حل، أنا أستطيع التحمل، لكن تكلمي)
هزت بدور رأسها بعنف و قالت مستاءة من اتهام أمين بهذا الإتهام الظالم
(يا عمتي أمين كالفل، و أنا لا أقبل أن يقال عنه مثل هذا الكلام).

الا أن أم أمين عقدت حاجبيها متشككة و سألتها بنبرة ذات مغزى
(كالفل كالفل تقصدين، متأكدة كالفل؟)
تنهدت بدور و قالت بإيجازل
(طبعا متأكدة يا عمتي، كالفل)
رفعت أم أمين كفها متسائلة و هي تحادث نفسها، مقلبة الكلمة في رأسها ثم نظرت الى بدور و سألتها
(لكن)
قاطعتها بدور قائلة بحسم.

(أنا زوجته يا عمتي و أقدر الناس على الحكم، أمين لا يعيبه أو ينقصه شيء، كل ما في الأمر أننا، أحيانا تحدث زيجات، و يكتشف الزوجان أنه لا، لا تآلف بينهما)
صمتت و هي تغمض عينيها من هول الكذبة التي تكذبها
اي تآلف هذا الغير موجود! انها تكاد أن تموت شوقا لضمة من ذراعيه، قبلة على وجنتها...
قاطعت أم أمين شرودها و هتفت بغضب و هي تنهض واقفة.

(اسمعي يا فتاة، أنا لا أفهم هذه السخافات الحديثة التي يبتدعها جيلكم، أي تآلف هذا الذي تتحدثين عنه؟، على أيامنا لم يكن حتى يتم سؤالنا إن كنا نقبل بأبناء أعمامنا، و كنا نقبل و نحن سعيدات، ليس هذا فحسب، بل نقع في حبهم بعد الزواج أيضا)
ضحكت بدور رغما عنها بجذل و سألت أم أمين
(و ماذا يحدث إن لم تقعي في حبه؟)
هزت أم أمين رأسها نفيا مصرة.

(هذا ليس متاحا، جميعنا أحببنا أزواجنا، انظري الى زوجات أعمامك و أخبريني من منهن لم تحب زوجها؟، حتى والدة سوار رحمها الله و هي من عائلة الهلالي وقعت في غرام زوجها و أصبح عشقا لم نرى مثله من قبل، حتى والدة مسك رحمها الله رغم زواج عمك من أخرى الا أنها ظلت تحبه حتى آخر يوم)
نظرت بدور اليها و قالت بخفوت.

(لا أعتقد أن امي عرفت ما هو الحب أصلا، بل هي كلمة غريبة على قاموسها و أنا مثلها، أقبل بالفرصة التي تأتيني شاكرة أنها أتت)
عقدت أم أمين حاجبيها و سألتها بقلق
(أتعنين أن أمين مجرد فرصة بالنسبة لك؟، هل تشعرين بالنفور منه؟)
نظرت بدور اليها فاغرة الفم...

في الواقع كانت تقصد راجح، الآن فقط تدرك أنها في عمرها لم تحبه، بل كان مجرد فرصة، شاب عابث ترغب فيه الفتيات و اختارها هي و التي لم يتقدم اليها اي شخص غيره و لم يحاول أي شاب الكلام معها من قبل و كأنها عديمة الجاذبية تماما...
لكن الآن...

بدأت تستوعب أنها كانت شابة تصغره سنا بالكثير، محترمة و لم تخطىء أبدا، جميلة، نعم جميلة رغما عن الجميع، و كانت تستحق أكثر من مجرد انسان قذر، عاش في الخطأ منذ بداية شبابه، يتعامل مع النساء و كأنهن مجرد أدوات لمتعته الخاصة، دنىء و لا يعرف عن النخوة شيئا، يعتقد أنه سيظل معجب النساء للأبد...
نعم كانت أفضل من راجح بكثير، و كانت تستحق من هو أفضل منه، كانت، قبل أن يترك أثره عليها...

وجدت بدور نفسها تقول بشرود
(نفور! الا تشعرين بجاذبية ابنك الحقيقية يا عمتي؟)
نظرت اليها حماتها بتفحص، ثم و بدون كلام ابتعدت عنها و اتجهت الى خزنة ملابسها تفتحها بقوة و هي تبحث بين الملابس المعلقة، فقفزت بدور واقفة و لحقتها قائلة بقلق
(ماذا تفعلين يا عمتي؟، عما تبحثين؟)
الا أن أم امين ظلت تنفض الملابس عابسة الوجه و هي تتابع بحثها فقالت بدور بتعجب
(أخبريني فقط عما تبحثين، ربما استطعت مساعدتك).

استدارت اليها أم أمين تسألها آمرة
(أين أقمصة العرائس التي اشتريناها سويا؟، لماذا لا أراها بين ملابسك المعلقة؟)
تراجعت بدور خطوة للخلف و هي تسألها بإرتياب
(لماذا؟)
أعادت أم أمين السؤال غاضبة
(أين هي؟، سؤال و أريد جواب عنه)
أشارت بدور الى أحد الأدراج السفلية من خزنة ملابسها، فانحنت حماتها لتفتحه و هي تتأوه ألما واضعة يدها في ظهرها، ثم أخرجتها و هي تقلبها لتلقي بها على الفراش قائلة بإستياء.

(ما شاء الله، ما بالك لا تدفنيها أفضل كي لا نعثر لها على أثر، هل هذه وصيتي لك؟ ألم أوصيك أن تعلقيها في خزنتك على الشماعات المبطنة بالحرير و الشرائط، كي تشعل اعجاب زوجك كلما فتح الخزنة!)
كادت بدور أن تشد شعرها، بل أنها بالفعل شدت خصلات منه بقبضتيها و هي ترفع عينيها للسقف هاتفة من بين أسنانها
(يا عمتي لقد أصبح لكل منا غرفة مستقلة، كيف له أن يراها؟)
قالت أم أمين بقرف.

(هذا من خيبتك و من عته ابني، ماذا أقول، عمل و معمول لكما و لن أهدأ حتى أبطله)
نظرت اليها بدور بدهشة و سألتها بعدم فهم
(تبطلي ماذا يا عمتي؟، هل تنوين الذهاب الى دجال ما؟)
رفعت زوجة عمها احدى الأقمصة الحريرية ذات اللون الأحمر الفاقع، وهو أقصرها في الواقع، ناظرة اليه بإبتسامة راضية و قالت
(بل سألجأ الى ابطاله بطريقة أكثر فاعلية)
ثم ناولته لها و هي تقول آمرة.

(هذا ما سترتديه الآن، هيا، بدلي منامتك التي تسد شهية زوج على أعتاب انهاء خدمته)
لم تمسك بدور بالقميص، و نظرت الى زوجة عمها قائلة
(أرتديه متى؟، و لمن؟)
مطت أم أمين شفتيها و هي تجيبها بإمتعاض تضع القميص بين يديها بالقوة
(لخالتك، لزوجك طبعا يا فتاة، هيا ارتديه و اذهبي اليه)
فتحت بدور فمها متأوة دون صوت و هي تستدير عن زوجة عمتها تكلم نفسها دون صوت، فقالت حماتها من خلفها.

(على فكرة، ملامحك ظاهرة في المرآة التي أمامك و أستطيع أن أرى تبرمك، ترتدينه يا بدور و تذهبين الى زوجك)
استدارت بدور ناظرة اليها و قالت بيأس
(أرجوك يا عمتي، اتوسل اليك، اتركي لنا أمر معالجة زواجنا، ألم يطلب منك أمين هذا؟)
ظلت أم أمين تنظر اليها للحظات، ثم لم تتنازل للرد، بل غطت وجهها بكفيها و فجأة تعالى صوت شهقات بكائها و هي تتراجع حتى جلست على حافة السرير...

نظرت اليها بدور مشدوهة، قبل ان تسرع اليها حتى جثت أمامها أرضا و هي تضع كفها على ركبتها هاتفة بجزع
(أتبكين يا عمتي؟، أرجوك لا تبكي، عمتي حبيبتي لا تفعلي هذا، الأمر لا يستحق)
هتفت زوجة عمها بإختناق دون أن ترفع كفيها عن وجهها
(طبعا، لك حق في قول هذا الكلام، فأنت لست أم لولد وحيد و لا تشعرين بحرقة قلبي)
قالت بدور بأسى و يأس.

(يا عمتي هذا الموضوع ليس نهاية العالم، هناك أشياء في الحياة أكثر منه أهمية، بل هو أهونها صدقيني)
أبعدت زوجة عمها كفيها عن وجهها و هتفت بشراسة مفاجئة
(هل أنت غبية أم أن هذا هو شكلك فقط؟، لا تدعيني أنطق بكلام لا يصح)
عقدت بدور حاجبيها و قالت بشك
(لا دموع أصلا في عينيك يا عمتي، هل كنت تبكين حقا؟)
ارتبكت أم أمين قليلا ثم وجدت أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم فقالت بغضب.

(هل تتهميني بالكذب في نهاية العمر و لماذا لأجل سعادتكما لا سعادتي! فلتضربا رأسيكما بالحائط، فلتفعلا ما تريدان، هل سأكذب لأمر لا يخصني! إن كان أصحاب الشأن غير مهتمين من الأساس، فلماذا أدعي البكاء من أجلهم، أنا فقط اعتدت القوة و لهذا بكائي يكون بكاءا داخليا)
ظلت بدور تنظر اليها بشك غير مقتنعة فأمرتها زوجة عمها قائلة
(هيا ارتدي القميص و اذهبي لزوجك).

نظرت بدور الى جميع أنحاء سقف الغرفة يأسا فقالت أم أمين بحدة
(حتى لو نظرت الى جميع أرجاء البيت و أخذت قياساته كاملة، ستذهبين الى زوجك يا بدور مرتدية هذا القميص الذي قارب على التحلل من قلة الإستخدام)
قالت بدور برجاء
(أرجوك يا عمتي، أرجوك اتركي هذا الأمر)
أجابتها أم أمين قائلة بألم
(افعليها لأجلي يا بدور، ماذا أقول غير هذا، ان كنت لا تودين اصلاح حياتك لأجل نفسك و زوجك، على الأقل افعليها لأجلي).

أخذت بدور نفسا متشنجا حادا و هي تنظر حولها عاجزة، ثم نهضت قائلة بصلابة دون مشاعر
(حسنا لا بأس، سأفعل، هلا خرجت)
أجابت زوجة عمها بحرارة
(بل سأبقى هنا و سأدير وجهي)
زفرت بدور و ابتعدت عنها لتبدل ملابسها بأصابع متشنجة متوترة أمام المرآة بعينين جامدتين صلبتين...
و ما أن انتهت حتى نظرت لنفسها...

كانت صورة للإغراء رغم بساطة ملامحها، جميلة بشكل لم تعتده في نفسها من قبل، لكن عيناها لم تشاركان باقي جسدها الجمال، كانتا فاقدتين لكل شعور...
سألت حماتها بإهتمام
(هل انتهيت يا بدور؟)
استدارت بدور اليها قائلة بهدوء
(نعم يا عمتي، انتهيت)
التفتت أم أمين تنظر اليها ثم سرعان ما وقفت و هي تهمس مبتسمة.

(ما شاء الله، تبارك الله احسن الخالقين، حماك الله من عيني يا حبيبتي، أنت حتى لا تحتاجين الى أي زينة لوجهك الجميل، هيا اذهبي الى زوجك)
نظرت بدور حولها الى أن أمسكت شيئا، فسألتها حماتها بدهشة
(ماهذا؟)
أجابتها بدور قائلة
(اسدال الصلاة)
رفعت أم أمين حاجبها قائلة ببطىء
(الإسدال!)
اجابتها بدور مشيرة الى نفسها
(بالطبع لا تتوقعين مني الخروج بهذا الشكل)
هتفت حماتها بنفاذ صبر
(يا ابنتي اخرجي بأي شكل، المهم اخرجي).

بدأت بدور في ارتداء الإسدال، الا أن زوجة عمها جذبته منها بقوة و قالت بصرامة
(لا، ليس الإسدال، مرارتي المسكينة لا تتحمل، خذي المئزر الخاص بهذا القميص، ها هو على السرير)
حاولت بدور الجدال الا أن أم أمين ساعدتها على ارتدائه بالقوة و دفعتها دفعا حتى الباب، و فتحت لتلقي بها خارجا، لكن و قبل أن تبتعد بدور أمسكت أم أمين بكفها هامسة لها بمحبة.

(بدور. رددي هذا الدعاء قبل أن تذهبي اليه، اللهم اجعلني قرة عين لزوجي و اجعله قرة عين لي. اللهم اجعلني كما يحب و اجعله كما أحب. اللهم اسعدنا و اجمع بيننا على خير و ارزقنا الذرية الصالحة).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة