قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والستون

أومأت بدور برأسها بصمت ثم خرجت من الغرفة و هي تحكم ربط حزام المئزر، تسير حافية القدمين فوق البساط الطويل و هي باهتة الملامح، بيضاء الشفتين، حتى وصلت الى غرفته
فوقفت أمام الباب مطرقة برأسها و هي تتنفس ببطىء مرددة الدعاء، ثم رفعت وجهها و طرقت طرقة على الباب قبل ان تفتحه و تدخل، لتغلقه خلفها و تستند الى الباب...

كان أمين قبل دخولها جالسا في سريره يقرأ أحد كتبه، و حين سمع طرقة على الباب لم يجد الوقت كي يجيب وهو يرى بدور تدخل و تغلق الباب و تستند اليه!
فتح أمين فمه ينوي سؤالها عما يحدث، الا إنها رفعت اصبعها الى فمها تأمره بأن يصمت، ثم أبعدت اصبعها هامسة بصوت لم يكد يسمعه و هي تشير الى الباب من خلفها
(عمتي في الخارج، و ربما كانت تقف عن قرب كي تتأكد من عدم خروجي).

ارتفع حاجبي أمين وهو يحاول استيعاب المقصود مما يحدث، فترك الكتاب من يده و نهض من فراشه ليقترب منها الى أن وصل اليها فاخفضت وجهها و هي تشعر بتصلب في جميع أطرافها.
سألها بصوت هامس مماثل
(ما الذي يحدث بالضبط؟)
تجرأت بدور و رفعت عينيها اليه هاتفة همسا بتوتر
(عمتي اقتحمت غرفتي اقتحاما، و أرهبتني، جعلتني أرتدي هكذا بالأمر، حتى ظننت أنها قد تلبسني بنفسها لو اعترضت).

تحركت عيناه على ما ترتديه أثناء كلامها، فلاحظ المئزر الأحمر المحكم حول خصرها...
كان أكبر منها قليلا، لكنه مغلق بشدة فلم يظهر منها شيئا، بإستثناء ذلك المثلث الرفيع أسفل عنقها...
قال أمين بصوت عادي لكنه بطيء النبرة
(مما يشكو، يبدو لطيفا بالنسبة لي، ربما أرادت لك التغيير ليس الا)
مطت بدور شفتيها و هي تقول بسخرية
(لأنك لا تدرك ما أرتديه أسفله).

ما أن خرجت العبارة الغبية من بين شفتيها دون تفكير كالعادة، حتى احمر وجهها بشدة و اتسعت عيناها و هي تحدق ارضا كالمجانين...
بينما ظهر طيف ابتسامة متثاقلة على شفتي أمين و عيناه تجولان ببطىء أكبر هذه المرة على المئزر من أوله لآخره، لا يغفل عن كل تفصيلة تخيلية...
ثم أفلتت منه ضحكة خافتة وهو يقول همسا بخفوت
(اذن أمي لا تريد أن تستسلم)
رفعت بدور وجهها اليه و قالت بحرارة هامسة عله يصدقها.

(أنا لست مشاركة في الأمر يا أمين صدقني، أقسم لك أنني ما وافقت لأن اصرارها كان فظيعا، ثم استخدمت أفظع أسلحتها أخيرا)
كانت عيناه مركزتان على انحنائات جسدها بوضوح فسألها بخفوت، دون أن يحيد بهما...
(يبدو أنه سلاح، فعال)
ابتلعت بدور ريقها بإرتباك و هي ترى نظرته الجريئة لها، و شعرت بتزايد ضربات قلبها، الا أنها قالت بقوة و جدية
(بكت)
ارتفع حاجبي أمين و سألها ببراءة متظاهرا بالدهشة البالغة
(بكت!).

لعقت شفتيها و هي تشعر بنفسها غبية لسبب ما تجهله، و ردت بقنوط
(بكت بكاءا داخليا)
مد أمين شفتيه وهو يرفع حاجبيه أكثر متظاهرا بالإهتمام العميق، فهتفت بيأس
(لقد فعلت، أنت لم ترها، كانت تبكي فعلا، لكن دون دموع)
مد شفتيه أكثر وهو يتفاعل معها، فهتفت بحنق
(كف عن فعل هذا)
سألها ببراءة الأطفال
(ماذا؟، أنا أحاول التجاوب مع كلامك)
زفرت بأسى و قالت مترجية.

(أقسم لك يا أمين انني لست مشاركة في هذه المؤامرة، صدقني هذه المرة لم أفعل، أنا فقط ضقت ذرعا بمحاولات عمتي، فرغم قلبها الطيب و نيتها السليمة، الا انني امرأة، أشعر و أجرح و)
صمتت قليلا غير قادرة على المتابعة بعد أن ذهب صوتها، فحثها أمين سائلا بخفوت أكبر
(و ماذا؟)
رفعت بدور حدقتيها المهتزتين تنظر اليه و قالت بإختناق
(ماذا؟)
رد عليها أمين بهدوء مكررا.

(أنت امرأة تشعر و تجرح و ماذا أيضا، أخبريني بكل ما يؤلمك)
أبعدت وجهها و هي تشعر بشيء ينبض أسفل فكها، ووجدت نفسها غير قادرة على التركيز أو تجميع خيوط ما كانت تتحدث به...
فقال أمين بصوت أكثر همسا وهو يقترب منها أكثر حتى كاد أن يلامسها
(لو كنت تشعرين بالتقصير من جانبي، ما عليك سوى القول).

رفعت بدور وجهها اليه فاغرة شفتيها و هي تتراجع ملتصقة بالباب أكثر حتى بدت كفيها مفرودتين عليه خلفها في سبيل للهرب، ثم همست بسرعة
(حاشاك من التقصير، أنت، كل ما فعلته من أجلي يفوق القدرة على التخيل)
اقترب منها اكثر حتى شعرت به يكاد يطبق على أنفاسها، فتلونت و ترنحت، بينما هو يبدو هادئا تماما وهو يكلمها بمنتهى البساطة متأملا أعلى شعرها، فرفع يده يضبط وضع خصلة كي تتناسق مع باقي خصلات شعرها قائلا.

(أنا أقصد واجباتي الزوجية، لا أريدك أن تشعري بتقصير من هذه الناحية بعد تفكير مني)
كانت تنظر اليه بغباء غير مستوعبة لما تسمعه، فهمست ببلاهة
(ماذا؟، ما الذي تقوله؟)
مط أمين شفتيه شارحا بهدوء
(إن كان هذا الموضوع هو ما يؤلمك و يجرحك لهذه الدرجة فهذا لا يرضيني بل و يعيبني أيضا)
هل فهمت ما يقوله جيدا؟، هل يعني أنهما سيستأنفان حياتهما كزوجين طبيعيين؟

كانت تنظر اليه بذهول مائلة برأسها و كأنها تحاول قرائته ككتاب من الطلاسم...
فتابع يقول بخفوت وهو يتحرك بأصابعه فوق عنقها الى فتحة المئزر
(أن أظل مقصرا كل هذه المدة)
رمشت بدور بعينيها عدة مرات و هي تتنفس بسرعة مؤذية، ثم همست بضياع
(هل، هل قررت هذا الآن فقط؟)
هز أمين رأسه نفيا ثم همس في أذنها وهو يميل بوجهه اليها
(بل من فترة طويلة و أنا أناقش نفسي)
أسبلت بدور جفنيها و هي تهمس متسائلة و كأنما تحدث نفسها.

(تناقش نفسك!)
أومأ أمين برأسه مجددا ثم بدأت أصابعه تتسلل في طرق خفية الى مواطن ضعفها، فشهقت كاتمة أنفاسها بينما قال ملامسا أذنها بشفتيه
(لكنك قصرت الطريق بمجيئك الى هنا بنفسك)
فغرت بدور شفتيها المرتجفتين و هي تتسائل إن كان هذا حلما من أحلامها الكثيرة عنه، بينما همس لها وهو يحيط خصرها بذراعه يضمها اليه بخفة.

(او ربما كان الشكر لأمي العزيزة، ما الذي أجبرتك على ارتدائه تحت هذا المئزر الخلاب؟ لا أستطيع قتل فضولي في رؤية الهدية التي أعدتها لي، لطالما كنت عزيزا عليها و هداياها مميزة).

و قبل أن تستوعب حيث أن معدل استيعابها قد انحدر الى خارج القياس من الأساس، شعرت بأصابعه تداعب خصرها فاخفضت عينيها بسرعة لتجده و قد حل عقدة حزام المئزر، ليفتحه و يكشف عن قميصها القصير الجميل و الذي اظهر جمالها دون حساب، الا أن تلك النظرة الخاطفة لم تشبع ذهوله، فدفع المئزر عن كتفيها ليسقط أرضا...

حينها وقفت أمامه صامتة مصدومة، وهو يماثلها صدمة، لكنها صدمة من نوع مختلف، و كأنه أول مرة يراها بمثل هذا الإغراء و الجاذبية...
رفعت بدور كفها الى خصرها الخافق بعنف، الا أنه أمسك بكفها و أخفضها رافضا أن تخفي عنه ولو جزءا يسيرا من هذه الرقة التي حاربها طويلا خلال الفترة الماضية...
فهمست بدورباسمه بنبرة أشبه بالبكاء و كأنها تسأله كيف تتصرف في مثل هذا المأزق...

لكنه أخذ المبادرة فأحنى وجهه و قبل عنقها بنهم مسحورا برائحة الصابون التي تفوح منها...
أغمضت عينيها تتأوه بخفوت غير مصدقة هذا المقدار من الحنان المتدفق و الذي فاق الليلة الوحيدة التي قضاها معها...
جمال عناقه جعلها ترفع ذراعيها ببطىء شديد و تردد بالغ، حتى استقرا فوق كتفيه المنحنيين تجاهها فمالت برأسها للخلف و هي تتنعم بملمس قبلاته على عنقها...
بينما هو يهمس بصوت أجش مداعبا أذنها.

(أسابيع طويلة و أنت أمامي ليل نهار، أقاوم رغبتي بك دون جدوى بينما حاجتي لضم جسدك الرقيق بين ذراعي تتفاقم و تشعل النار بداخلي، أما أنت فهادئة تماما و هدوئك يزيد من حنقي و رغبتي بك، لا أعلم إن كان هذا الهدوء خطة مقصودة منك، الا أنها ناجحة بكل تأكيد، خاصة و أنني أدرك الرغبة المماثلة المسسترة خلف قناع الهدوء هذا، أنت تريديني يا بدور و لا يمكنك انكار هذا، تريدين زوجك).

كلماته الهامسة ذات الصوت الثقيل الخشن كانت تحرق أعصابها، هذا إن كان قد تبقى أعصاب بداخلها أصلا...
كيف تنكر؟، كيف تستطيع الإنكار و هي تذوب بين ذراعيه لأول مرة في حياتها بإحساس لم تختبره من قبل، غذاه الشوق و طول فترة الحرمان وهو أمامها يوميا بطيبته و أدبه و شهامته...

و بينما هي مدلهة في قبلاته و حب قبلاته شعرت بكفه تمتد من خلفها و فجأة عم الظلام الغرفة فانتفضت شاهقة بصوت عال و كأنما الظلام قد صفع مشاعرها العمياء فجأة...
الا أن أمين ضحك ضحكة خافتة يسألها مازحاوهو يضمها اليه اكثر و أكثر
(أتاخفين من الظلام؟، لا تخافي فهو لن يستطيع ابتلاعك، لأنني سأسبقه)
كل كلمة ينطق بها كانت جديدة على مسامعها، كلمات رجل يرغب المرأة التي أمامه فيدللها و يمازحها...

شيء لم تعرفه أبدا و يكاد يسحرها...
أرادت النطق و الكلام، لكنها عجزت و كأنها تخشى ضياع أي لحظة من هذا السحر في كلام تافه...
و فجأة وجدت نفسها ترتفع بين ذراعيه وهو يحملها و كم شعرت بنفسها ضئيلة و نحيفة، شعور مبهج لذيذ و غادر...
سمعت بدور صوته يهمس لها مستاءا.

(لن نستطع منع أنفسنا أكثر، حتى لو انتقلنا الى قصر من مئات الغرف، ستظلين زوجتي التي أرغب بها و ترغب بي، لذا دعينا ننسى مرارة الواقع ليلا، فالنهار كفيلا به)
علي الرغم من الغباء العاطفي الوردي الذي كان يلفها في دوامة من الدوار، و أنها لم تفهم معظم كلامه...
الا أن العبارة الأخيرة اخترقت اذنيها بعنف و جعلتها تفتح عينيها بحدقتين واسعتين في الظلام، بينما تصلب جسدها كله و فر العرق البارد من جبهتها...

ووجدت نفسها تسأله بصوت واضح قبل أن يصل بها الى سريره
(هل سامحتني على ما فعلت يا أمين؟)
توقف فجأة مكانه وهو لا يزال يحملها، ناظرا اليها عبر الظلام و على الرغم من ذلك استشعرت سخونة نفس غاضب أخبرها أن سؤالها المباشر قد صدمه...
و لم يكن الظلام هو فقط من يلفهما في تلك اللحظة بل شاركه صمت ثقيل أشد قتامة...
فارتعشت بين ذراعيه و الإجابة الواضحة تلوح لها، الا أنها أعادت سؤالها بتصميم و صوت أعلى نبرة.

(أمين، هل سامحتني على ما فعلت؟)
بضعة لحظات أخرى جعلت اليأس يتسلل الى أعماقها بنار مؤلمة، حتى قال أخيرا بصوت جاف ميت المشاعر
(لا يا بدور، لم أسامحك)
أغمضت بدور عينيها بعذاب و أظافرها تنشب في كتفيه للحظات، الا أنها كانت مجرد لحظات حتى قفزت من بين ذراعيه متلوية برشاقة لم تعهدها من نفسها و ساعدها بأن أنزلها حين لاحظ مقاومتها...

و سمع صوت خطواتها العرجاء في الظلام و حفيف مئزرها، ثم عم الضوء من حوله حين أضائته بنفسها...
رمش أمين بعينيه ثم استدار اليها ببطىء، جامد النظرات و الملامح بشكل يوجع قلب من يعشقه دون أمل...
أما هي فكانت واقفة متشنجة تماما و قبضتيها المضومتين جانبيها خير دليل على مدى الحال السيئة التي تعانيها...
ملامحها متألمة، لكن بها شيء جديد، اصرار من نوع مختلف، تصميم صلب لا يعرف هوادة...

ثم قالت أخيرا بصوت فاتر و هي تنظر الى عينيه
(لم تسامحني، هذا يعني أنك لم تغير قرارك بعد بشأن استمرارية زواجنا، و قرارك حتى الآن لا يزال هو نفسه، ستظل ترعاني الى أن أستطيع تحمل مسؤولية نفسي و حينها ستتزوج و تتركني، طالما لا يزال هذا هو موقفك، اذن ما الذي تفعله الآن؟).

لم تلن ملامح أمين وهو ينظر اليها بوجه كالحجر يستمع الى كل كلمة تنطق بها، و ساد صمت مخيف بينهما بعد أن أنهت سؤالها اليائس، ثم أجابها بجفاء
(ما أفعله حلال، يمكننا جعل تلك الفترة أكثر متعة طالما أن كلانا يريد هذا و لم يفلح أي منا في مقاومته، و أعني نفسي بهذا تحديدا)
أغمضت بدور عينيها و هي تميل للخلف مستندة بظهرها الى الباب المغلق و قد شعرت بأن ساقيها الخاويتين غير قادرتين على حملها...

اجابته نسفت كل أحلامها الواهية و ذكرتها بمدى سوء الواقع بينهما...
منذ فترة كانت تتمنى أن تتذوق هذه المشاعر منه حتى و إن كان زواجهما مؤقتا، لكن الآن تغيرت...
نمت لديها كرامة جديدة لم تمتلكها قبلا، كرامة جعلت جسدها يقشعر نفورا من الفكرة...
استقامت بدور خلال لحظات و نظرت اليه بسكون ثم قالت بخفوت وهي تواجه عينيه القاسيتين
(آسفة يا أمين، لا أستطيع فعل هذا و بتلك الطريقة، لست أداة متعة لأحد).

ارتفع حاجبي أمين و قست عيناه أكثر ثم قال بسخرية
(كنت كذلك من قبل، فلماذا يصعب عليك فعل هذا مع زوجك)
تجريحه ضربها في الصميم، الا أنها تماسكت و رفعت ذقنها قائلة بهدوء.

(لأنه لا يجدر بي سماع تجريح كهذا من زوجي بعد أن يفرغ مني، إن كنت ترى أن فترة عقد قراني براجح لا تعتبر زواجا، فأنا أيضا لا أعتبر هذه الفترة بيننا زواجا، طالما ستتركني في كل الأحوال و لا تريد مني حاليا سوى بعض المتعة المرفقة بتجريحات مذلة كل حين، و أنا لن أكرر خطأي مرتين، سأمنح نفسي لزوجي فقط وهو من سيكون والد أطفالي و شريك حياتي مدى العمر، و هذا معناه أنني لن أمنح نفسي لمخلوق لأنني لن أتزوج غيرك حتى ان طلقتني، لن يملأ عيني سواك. ).

أجفل أمين قليلا وهو يشعر بدفىء كلامها يتسلل الى قلبه، فانعقد حاجباه بحزن، الا أنها ابتسمت ابتسامة مرتعشة و هي تقول ممازحة
(يبدو أن عمتي قد ارتاحت بالا حين أطلنا البقاء في الغرفة، فذهبت للنوم كي تمنحنا بعض الخصوصية، يمكنني الآن العودة الى غرفتي)
صمتت للحظات و هي ترى شبح ابتسامة على شفتيه رغم الحزن الذي لا يزال ظاهرا في عينيه، فتنهدت و قالت بصوت مختنق
(سأذهب الآن، تصبح على خير).

ثم خرجت و أغلقت الباب خلفها بهدوء أما أمين ففغر فمه وهو ينظر لأعلى زافرا بقوة، لا يصدق مدى الموقف المحرج الذي وضع نفسه به...
فجلس على سريره وهو يحدق أرضا بقنوط قبل ان يهمس لنفسه و كأنه يخاطب بدور.

(سألتني إن كنت قد سامحتك فأجبتك بصدق، لكنك افترضت أن زواجنا مؤقتا، لا تعلمين أنني سبق و اتخذت قراري منذ فترة طويلة، ستظلين زوجتي و قدري هو التحمل، لكن السماح ليس بيدي، العفو و الغفران بيد خالقنا، فمن منا يستطيعها، نحن بشر و يعلم الله أنني بذلت أقصى ما بوسعي)
رفع وجهه ينظر الى الباب المغلق و تابع همسا بشجن.

(و إن كان السماح ليس بيدي، فقلبي أيضا لم يعد ملكا لي، لو كنت انتظرت قليلا لعرفت أنني أحبك، ربما كان يغير هذا من موقفك)
مرت لحظات وهو يحك رأسه بعنف مفاجىء ثم قال يائسا مقلدا نبرتها
(سأذهب الآن، تصبح على خير!)
عاد لينظر الى الباب المغلق و هتف حانقا
(و كأنها جائت لوضع الغسيل و مضت و قد نست أن ترتدي ملابسها! تبا لك يا بدور).

نهض من مكانه شاتما وهو يختطف منشفة نظيفة، لعل حمام من الماء البارد قد يهبط على دمه الفائر فيهدئه، لكن الحمام البارد لن ينسيه القميص الأحمر اللعين، و الذي سيشاركه احلامه الليالي الطويلة القادمة دون شك، تبا لك يا بدور...

(تبدين شاردة، ما سر تلك الإبتسامة؟)
أفاقت بدور من شرودها و نظرت الى رضوى التي كانت تسير بجوارهما وهما تخرجان معا من مقر عملهن مساءا...
و حارت في الجواب المناسب، فهي كانت تعيش حالة من السعادة بالنجاح البسيط الذي حققه عملهن حتى الآن...
زهو، زهو وكأنه نجاح عملاق، على الرغم من أنه كان مجرد خطوة صغيرة و عليهن السعي بجهد عنيف للمحافظة عليه و تطويره...

من كان يصدق أن تكون في يوم من الأيام امرأة عاملة و تأخذ أول ربح صاف لها، مال خاص هي من جمعته بعملها على الرغم من أنها ابنة عائلة ثرية من الأعيان، لكن حين لفظتها باتت أشد فقرا من عاملات الحقول اللاتي كانت تمر عليهن خلال سفرها لكليتها...
اليوم جنت أول ربح، و تشعر أن حقيبتها أكثر ثراءا من أراضي والدها و حسابه المصرفي...
و لا تعلم لماذا تتذكر في نفس اللحظة التي رفضت فيها أمين و خرجت من غرفته...

نفس الزهو بنفسها، فخورة بقدرتها على محاربة ضعفها تجاه حبها، كي لا تكون مجرد أداة رخيصة يتسلى بها الى أن يحين الطلاق...
و مع هذا كله فإن الحب يتضاعف و الشوق يزيد بعنف، لكن يكفيها أن تكون راضية عن نفسها للمرة الأولى في حياتها...
ازدادت ابتسامتها عشقا و زهوا و، ألما!
لكنها نظرت الى رضوى و قالت مبتسمة بهدوء
(النجاح الذي حققناه يبهرني، يجعلني أرغب في الرقص في منتصف الطريق ليعرف الجميع).

ضحكت رضوى و هي تتأبط ذراع بدور قائلة
(ليس الى هذه الدرجة، كان أول ربح صافي و ضئيل للغاية، بالله عليك لدي فستان سهرة اغلى ثمنا من مقدار هذا الربح)
قالت بدور منتعشة
(لن يمكنك افساد فرحتي بهذا الإنتصار أبدا)
نظرت اليها رضوى و هي تبعد رأسها قليلا تتأملها ثم قالت تسألها بدهشة
(انتصار؟، ألهذه الدرجة نجاح المشروع هام لديك يا بدور؟)
التفتت بدور تنظر اليها و قالت بحرارة و اصرار.

(بل و أكثر يا رضوى، ويجب أن يكون كذلك بالنسبة لكل واحدة منكن)
ضمت رضوى ذراع بدور اليها و قالت بسعادة
(هو كذلك، لكن بصراحة ظننت أن نظرتك بها عشق خالص ففكرت أنك شاردة تفكرين بحب زوجك)
ابتسمت بدور دون أن ترد و هي تسير بجوار رضوى على امتداد الطريق كما اعتادتا يوميا لمسافة قصيرة ثم تستقل كلا منهما وسيلة مواصلات مختلفة الى بيتها...
حين ظلت بدور صامتة سألتها رضوى بخفوت قائلة
(هل تحبينه فعلا يا بدور؟).

التفتت بدور تنظر اليها بدهشة و أجابتها بصدق قائلة دون تردد
(بالطبع، بل وأكثر من الحب، لماذا تسألين؟)
أخفضت رضوى وجهها و بدت مترددة قليلا ثم قالت بقنوط
(لا شيء، كنت أتسائل فحسب)
ربتت بدور على كف رضوى المتشبثة بذراعها و قالت بمحبة و رقة
(يوما ما سيرزقك الله برجل مثل أمين، مهذب الطباع و طيب القلب، و سينسيك تجربتك الأولى تماما، ثقي بالله).

لم ترد رضوى، بل ظلت صامتة و هي تسير بجوارها ناظرة في الأرض و حين رفعت عينيها الى بدور، شعرت الأخيرة بشيء غريب في نظراتها، و كأنه، تأنيب ضمير!
عقدت بدور حاجبيها الا أنها سرعان ما أبعدت هذا الإعتقاد الغريب عن ذهنها، فلماذا ستشعر رضوى بالذنب تجاهها، ربما لأنها تخفي عنها شيئا ما!
بدور متأكدة أن رضوى تخفي عنها سرا منذ فترة، و أغلب الظن أنها تعيش قصة حب و تحتفظ بتفاصيلها لنفسها...

صحيح أنها حاولت أكثر من مرة سؤالها بدافع الفضول، لكن حين أصرت رضوى على الإنكار فضلت بدور الا تزيد عليها في الإلحاح...
خاصة و انها تخفي عنها طبيعة علاقتها بأمين و أخطاء الماضي، لكل انسان أسراره التي يحق له الإحتفاظ بها مهما بلغت درجة الصداقة...
رفعت رضوى وجهها تنظر الى بدور و قالت بمرح زائف محاولة تغيير الموضوع.

(لكن أخبريني، الا ترين أنك قد تطورت في طريقة اختيار ملابسك تماما! اعترفي من هذا الذي تودين ابهاره؟)
ابتسمت بدور و هي تنظر الى التنورة الضيقة الرمادية التي ترتديها المعرقة بخطوط بيضاء رفيعة و التي تنزل بإتساع من عند ركبتيها تجعلها أشبه بعروس البحر
و السترة الكلاسيكية ذات اللون الأصفر القاتم و تحتها قميص أبيض حريري، و حجابها الأصفر الداكن أكثر مع وشاح يتطاير حول عنقها من الشيفون الابيض الرقيق...

و تذكرت نظرة الإعجاب التي ظهرت في عيني أمين اليوم صباحا حين نظر اليها...
أمين لا يزال يرغبها و بشدة رغم بساطة شكلها و جمالها العادي، و هذا يجعل أنوثتها تتوهج و تبرق و جعلتها تبدع في شراء ملابسها و اختيار كل يوم زي أكثر روعة من سابقه...
نظرات احتراقه تجعلها تحيا و كأنها الأجمل بين النساء...

لكنه لم يحاول أبدا فرض نفسه عليها منذ تلك الليلة التي خرجت فيها من غرفته، حتى أمه توقفت عن فرض نفسها على علاقتهما الخاصة و سلمت بالأمر الواقع حزينة القلب...
تعالى صوت رنين هاتف رضوى، فأخرجته و نظرت اليه مجفلة بينما بدت ملامحها و كأنما قد تعقدت و ارتبكت بفظاعة، لكنها سارعت بكتم الصوت و نظرت الى بدور قائلة بتلعثم
(هذه أمي، يبدو أن الكلام قد أخذنا قليلا و نسيت أنها ستمر بي هنا لنتسوق معا).

وقفت بدور و قالت بعفوية
(لا بأس، سأنتظر معك الى أن تأتي)
هتفت رضوى بهلع
(لا بل استقلي انت سيارة أجرة، كي لا تتأخري و يشعر زوجك بالضيق)
عقدت بدور حاجبيها و قالت بحيرة
(ليس الى هذه الدرجة، أمين لا يغضب من بضعة دقائق تأخير، في الواقع أخبرته بإحتمال خروجنا معا سويا اليوم، لولا أنني أشعر بالتعب، لا أستطيع تركك بمفردك هنا)
لكن رضوى كانت قد أشارت بالفعل الى سيارة أجرة و هي تقول بحسم.

(بل أنا من لن تتركك وحدك، أنا أعرف خوف أمين عليك جيدا)
وقفت سيارة الاجرة أمامهما فالتفتت بدور تسألها بقلق
(هل أنت متأكدة؟)
أصرت رضوى و هي تدفعها دفعا الى السيارة...
(بالطبع، هي اذهبي مع السلامة)
هزت بدور كتفها و استقلت السيارة ملوحة لرضوى التي رأتها تتنفس الصعداء بشكل واضح...
اعتدلت بدور في جلستها و هي الآن شبه أكيدة من أن المتصل برضوى كان رجلا، و كان هو بطل قصة حبها المجهولة...

تنهدت بدور و هي تفتح حقيبتها كي تخرج هاتفها لترى إن كان أمين قد اتصل بها، الا أنها تأوهت حين رأت الظرف الأبيض الذي يحمل نقود رضوى...
كانت قد وضعته معها لحين خروجها...
عليهم البدىء بفتح حساب خاص لأرباح المشروع عوضا عن الأظرف البيضاء المقسمة، رغم ضآلة المبلغ...
عادت بدور لتضحك بزهو و سعادة و كأنها تحمل ثروة ثم رفعت وجهها السعيد الى السائق و قالت.

(من فضلك هل يمكننا العودة لسبب طارىء؟، لن أؤخرك أكثر من دقائق)
التزم السائق بأول منعطف للطريق كي يعود بها على الجانب الآخر من الطريق و بدور تهمس قائلة
(أتمنى أن تكون واقفة و لم تغادر بعد)
رفعت هاتفها استعدادا للإتصال برضوى في نفس اللحظة التي وصل بها السائق الى نفس المكان الذي ركبت منه لكن على الجانب الآخر من الطريق...

و حين كان الهاتف على أذنها و هي تنظر الى رضوى واقفة على الرصيف المواجه، رأت سيارة تصل في نفس اللحظة و تقف أمامها...
كان السائق رجلا...
وقع الهاتف من كف بدور في حجرها و فغرت فمها بينما فر الدم من وجهها تماما و شعرت بقلبها يتوقف و أعضائها تصاب بشلل مفاجىء...
و هي ترى رضوى تسرع بالجلوس في المقعد المجاور لهذا الرجل، الذي تعرفه بدور أسوأ معرفة...
كان السائق هو راجح!

التفتت رضوى تنظر الى راجح قائلة و هي تزفر بخوف
(انصرفت بدور للتو، أخذنا الكلام و نسيت تماما قرب وصولك، أخبرتك مئة مرة الا تأتي الى هنا يا راجح)
نظر اليها مبتسما ابتسامة متثاقلة وهو يقول بنبرة واثقة لا مبالية
(ستعرف يوما ما، لا يمكنك اخفاء علاقتنا للأبد حبيبتي)
ابتسمت رضوى لكلمة حبيبتي التي تخرج من بين شفتيه عابثة و مدللة بشكل سافر...
حتى الآن لا تصدق السرعة التي وقعت خلالها في حبه رأسا على عقب...

خلال أشهر وجيزة أصبح عالمها كله، لديه شخصية تأسر الأنثى...
ثقل و لا مبالاة، ابتسامة خلابة و عينان تطرقان كل شيء بوقاحة تخجلها و تشعرها بأنوثتها في آن واحد...
قالت رضوى أخيرا متنهدة و هي تنظر من نافذتها
(لا أعلم كيف سأواجهها، الأمر أصعب مما تتخيل يا راجح، لقد أصبحت أقرب صديقاتي لقلبي)
ازدادت ابتسامته بغموض ثم قال ببساطة وهو يتابع طريقه.

(ظننت أن حبنا سيجعلك قادرة على المواجهة، في الواقع كلما أتيت الى هنا، أتوقع أن أراها معك و انت تواجهينها بي، لكنك تأجلين الأمر المحتم)
هزت رضوى رأسها نفيا و هي تقول بخوف
(لا أعلم، لكن سأبدو كسارقة أو شيء كهذا)
نظر اليها راجح و سألها بدهشة
(سارقة! بدور متزوجة الآن، فما الذي سيهمها بشأن علاقاتي الخاصة؟)
عقدت رضوى حاجبيها بشدة و سألته بنبرة غريبة مزعزعة
(علاقاتك الخاصة!).

نظر اليها راجح مبتسما تلك الإبتسامة التي سلبت عقلها، ثم مد يده ليمسك بكفها فوق ساقها و قال بنبرة تحببية عابثة قليلا
(كان هذا مجرد تعبير، تعرفين أنك الوحيدة في حياتي الآن)
ابتسمت رضوى رغما عنها و قالت بخفوت
(أتمنى هذا)
ثم بدت مترددة و هي تنظر اليه متشككة قبل أن تسأله بضعف
(هل نسيت حبها تماما يا راجح؟، أرجوك أخبرني الحقيقة، أخبرني عن قلبك، ما بأعمق أعماق قلبك و يمكنني التحمل، الازلت تحبها؟).

ظل راجح صامتا للحظات وهو ينظر الى الطريق فغاص قلب رضوى بين أضلعها و هي تتأمله و ترى ملامحه الغريبة، ملامح رجلا لم يحب في حياته سوى امرأة واحدة...
و حين تكلم قال بصوت عميق، عميق و سودوي دون أن ينظر اليها
(أحببتها لسنوات طويلة جدا، لم أحب سواها أبدا، كانت ملكة و باقي النساء مجرد جواري، لكنها لم تفهم هذا، لم تدرك، بل ساوت نفسها بهن حين تركتني لأجلهن).

امتلأت عينا رضوى بدموع حبيسة حارقة و هي تسمع اعترافه بالعشق المذل بهذا الشكل، و طعنها هذا الإعتراف في مقتل...
هل يمكن لفتاة بسيطة كبدور أن تأسر هذا الرجل في عشق يائس كهذا؟
أخفضت عينيها و هي تسأل نفسها سؤال مرعب...
اذن ماذا تفعل هي هنا معه؟، ما هو موقعها في حياته؟
لكن ضغط أصابعه المفاجىء على كفها جعلها ترفع عينيها اليه فنظر اليها مبتسما وهو يقول بنبرة بدت طبيعية
(حتى رأيتك).

في لحظة غادر الشك قلبها، و ملأ الحب كيانها كله حتى غرقت في عينيه و انسابت دموعها على وجنتيها ببطىء، فرفع أصابعه و مسح بها دموعها ثم قرص وجنتها مداعبا وهو يقول
(كل ما عليك القلق منه هو مشاعر صديقتك، لا مشاعري أنا)
ضحكت رضوى و هي تقول بثقة ماسحة دموعها و هي تقول مؤكدة
(من هذه النقطة أنا أكيدة، أنها مدلهة في حب زوجها، يكفيني أن أرى كيف تنظر اليه وهو ينظر اليها في الخفاء في حين يظن أن لا أحد يراه).

ظلت الإبتسامة على وجه راجح، الا أنها كانت باردة و قد اختفى المرح من عينيه ليتركهما باردتين، حاقدتين! حقد قادر على اشعال حريق في بيت عامر دون أن يرف له جفن.

دخل أمين الى البيت ليلا فوجد والدته تجلس وحدها بجوار النافذة شاردة و يبدو عليها الهم و الحزن، و الكثير من القلق، فاقترب منها عاقدا حاجبيه مبتسما و انحنى ليقبل جبهتها قائلا
(مساء الورد للورد، ما سر هذا العبوس الذي لا يليق بالورد و أهله؟)
ربتت والدته على فكه برقة و قالت بقلق
(مساء الخير يا حبيبي، زوجتك ليست بخير)
ازداد انعقاد حاجبيه و توترت ملامحه فجأة و سألها و قد انتقل قلقها اليه على الفور.

(ما بها بدور؟، لقد أرسلت لي رسالة تخبرني بأنها عادت للبيت و ستنام باكرا لشعورها ببعض الصداع، هل هي مريضة؟)
فتحت والدته كفيها و هي تقول بحيرة
(لا أعلم، دخلت الى البيت مساءا باكية و كانت ترتعش بشدة، و حين سألتها قالت أنها رأت حادثا في الطريق و أخافها منظر المصابين، ثم اعتذرت لتدخل الى غرفتها لتنام قبل العشاء حتى)
قال أمين بخفوت مفكرا.

(ربما كان الحادث قد أخافها بالفعل، تعرفين أن بدور هشة و لم تتعامل مع العالم الحقيقي كما ينبغي)
هزت أمه رأسها نفيا و قالت بحسم
(لا، لم أصدقها، بدور لا تستطيع خداع طفل صغير، بها شيء آخر)
ابتسم أمين رغما عنه بسخرية مع كلام والدته عن عدم مقدرة بدور على الخداع، الا أنه استعاذ من الشيطان متنهدا ثم سألها بهدوء.

(لماذا ستخدعك؟، ربما كان شجارا بين صديقاتها أو فشل ما في مشروعهن، كما قلت لك هي ليست معتادة على التعامل مع العالم الحقيقي)
نظرت والدته اليه ثم هزت رأسها نفيا قائلة
(زوجتك ليست على ما يرام و أعتقد أن ما أخاف منه قد حدث)
سألها أمين بإهتمام و قلق
(و ما هو؟)
ردت عليه واضعة كفا فوق الأخرى ناظرة الى عيني والدها
(انهارت)
ارتعش شيء في وجهه وهو يتراجع في مقعده سائلا بتردد
(انهارت!)
هتفت والدته بحنق.

(و ماذا تتوقع غير هذا؟، زوجة تقابل الرفض من زوجها لمدة أشهر من زواجهما و تصمت و تكتم ما تعانيه حتى عن أهلها، ماذا تتوقع منها سوى الإنهيار بين لحظة و أخرى؟)
انحنى أمين الى الأمام وهو يرجع شعره للخلف في حركة واهية بينما تابعت أمه و هي تميل نحوه قائلة بصرامة
(الزوجة التي تصمت على هجر زوجها لها ما هي الا قنبلة موقوتة يا ولدي، يوما ستنفجر و ستكون أنت أول المضارين).

نظر اليها أمين عابسا صامتا لا يجيب الا أنها تنهدت و قالت بحزن و استسلام
(اسمع يا أمين، لن أصمت على هذا الحال المعوج أكثر، لقد حاولنا جميعنا بكل الطرق، لكن من الواضح أنه لا توفيق بينكما، قدر الله و ما شاء فعل، أرى أن تسرح الفتاة بمعروف و ترجعها الى أهلها قبل أن يتأذى كلاكما أكثر)
قفز أمين واقفا على الفور وهو يقول عابسا بشدة
(ماذا؟، ما الذي تقولين يا أمي؟ أتطلبين مني أن أطلقها؟).

نهضت أمه أيضا من خلفه و قالت بصرامة
(وهل كنت تتوقع مني شيئا آخر غير هذا؟، هل تتخيل أن أترك المسكينة معلقة في بيتنا كالأرض البور طوال العمر؟، اتركها بمعروف لتجد نصيبا آخر و أنت أيضا يا ولدي تجد نصيبك مع غيرها، لكن هذا الحال المشوه لن يستقيم)
دار أمين مستديرا عنها و ملامحه قاتمة معقدة و كأنه لا يحتمل الكلام، ثم قال محتدا أكثر من اللازم.

(هل نسيت ما فعله والدها بها حين سافرت اليه تطلب الطلاق يا أمي؟، أتريدين أن أرسلها الى هذا المصير بنفسي؟)
قالت أمه بحكمة
(يا ولدي والد بدور كان يخشى على سمعتها، فالعروس التي تطلق قبل شهر من زواجها يقال عليها كلام غير محمود، أما الآن فقد مر على زواجكما فترة مناسبة و تبين أن التوفيق بينكما مفقود فلا داعي أن نكابر أكثر)
زفر أمين قائلا بعصبية.

(هل تتخيلين أن الوضع سيكون أفضل الآن؟، تعرفين جيدا أنها ستعامل كمطلقة في بيت عمي، سيحرمها من العمل و من الخروج من الدار و لن تكون أكثر من خادمة)
اقتربت منه و أمسكت بذراعه بأصابع قوية قائلة بهدوء
(يا ولدي أنت لن تكون أحن عليها من والدها، فرغم شدته الا أنها تظل ابنته الوحيدة و مكانها معه أفضل من بقائها مع زوج لا يريدها الى أن يضيع عمرها و يشيب رأسها)
رفع أمين رأسه لأعلى وهو يقول بغضب.

(أنت لا تعرفين يا أمي)
سألته بحدة
(ما هو الذي لا أعرفه يا ابني؟، أنا لا أعرف سوى أنك تطلب المستحيل ببقاء هذا الحال في البيت للأبد، هل أنت أحمق؟)
ظل أمين صامتا، ساقه تهتز بعصبية، بينما تنهدت أمه قائلة و هي تربت على ظهره بتعاطف
(طلقها يا ولدي و لا تضغط على نفسك أكثر في محاولة تقبلها).

ظل أمين صامتا للحظات، الى أن استدار الى أمه، و حين فعل كانت ملامحه هادئة بخلاف ما توقعت وهو ينظر اليها، ثم ابتسم ببطىء و أمسك بكفها يربت عليها بيده قائلا
(أمي، أنا لن أطلق بدور أبدا و هي لن تكون لرجل غيري)
عقدت أمه حاجبيها بشدة و هي تنظر اليه متعجبة، الا أن ابتسامته مالت بحزن وهو يقبض على كفها بقوة أكبر قائلا بحنان.

(نعم لن أطلقها، كل ما طلبته منك فترة لنتأقلم خلالها و كنت عند كلمتي، فلو كنت أريد طلاقها لفعلت منذ وقت طويل)
سألته والدته بشك و توجس
(يبدو أنني كنت مخطئة حين لم أستفهم منك عن معنى كلمة نتأقلم بشكل أوضح، و لن أتراجع الآن حتى تشرح لي معناها، لأنني أقصد زواجا من الذي ينتج أطفالا فما الذي تقصده أنت؟)
ضحك أمين بحنان أكبر من كل قلبه، ثم قال بعطف
(و أنا أيضا أقصد زواجا من الذي ينتج أطفالا).

تشبثت والدته فجأة بكتفيه و سألته بحدة و ذهول
(هل أنت جاد يا أمين؟، متى؟، متى؟)
ضحك أمين وهو يمط شفتيه قائلا بحيرة
(يستغرق الطفل تسعة أشهر تقريبا يا أمي)
سألته أمه و هي تضرب صدره بقبضتها قائلة بعصبية و عدم قدرة على الإنتظار
(لا تتلاعب بي يا ولد، متى سيكون موعد أول محاولة؟)
اتسعت عيناه و قال ضاحكا و قد ارتبك قليلا
(عيب يا أم أمين)
قالت بحدة دون خجل.

(ما عيب الا العيب، كنت أغير لك حفاضتك حين تبلل نفسك و حملتك في بطني تسعة أشهر و حممتك بنفسي حتى السابعة، فهل تدعي الخجل أمامي؟)
ضحك أمين بقوة وهو يحك جبهته محرجا، الا أن والدته دفعته بقوة و هي تقول
(هيا خير البر عاجله، اذهب و ابدأ في تكوين أول طفل)
قال أمين ضاحكا بشدة
(عيب يا أم أمين)
ردت عليه أمه حانقة
(العيب هو ما تفعلاه أنت و زوجتك، هيا اذهب)
استدار اليها و امسك كتفيها قائلا بلطف.

(هل لي فقط أن أطلب منك ترك تحديد هوية هذه الأمور الخاصة بيني و بين زوجتي لي، تعرفين هذه الأمور شديدة الخصوصية و ربما كنت أريد)
صمت للحظات لا يعرف كيف يصوغ كلماته دون تفصيل الا أن أمه ربتت على صدره قائلة بمحبة
(لا داعي للشرح يا حبيبي، بالطبع لن أتدخل أكثر، فقط عدني أن يكون زواجكما كالزواج على الطراز القديم و الذي اعتدنا عليه، ذاك الذي ينتج أطفالا)
ضحك أمين وهو يربت على كفها فوق صدره و قال مازحا.

(أعدك يا أمي أن يكون منتجا أطفالا و نكدا وورق العنب و شجارا)
ضحكت أمه و هي تقول دامعة العينين
(أبعد الله عنكما النكد و الشجار يا حبيبي، هيا اذهب لتطمئن على زوجتك فلازلت أظنها ليست على ما يرام)
قبل أمين جبهتها ثم استدار صاعدا جريا كل درجتين معا، بينما جلست أمه مكانها تنظر من النافذة هامسة بخفوت
(لماذا أشعر بمثل هذا الإنقباض؟، الا يجدر بي أن أشعر بالفرحة! اللهم اجعله خير).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة