قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والثلاثون

اقترب الفجر و لم يعد بعد! كم من المفترض أن تستغرق مقابلة خطبته لأخرى؟
لا تعلم كم من الساعات مرت عليها و هي تبكي في الظلام كاتمة صوتها كي لا يصل صوت بكائها الى حماتها فتنهال عليها بالأسئلة...

لقد ارتدى ملابسه أمامها و هي جالسة على حافة الفراش تنظر اليه بعينين محتقنتين من كثرة البكاء دون أن تمتلك الجرأة على منعه، أو حتى المعارضة ولو بكلمة...
بل حتى أنها لم تستطع الخروج من الغرفة بعينيها المتورمتين، و ظلت مكانها تنظر اليه في المرآة وهو يتأنق و يستعد كي يخطب امرأة لا تعرفها حتى...
و التقت عيناه بعينيها عدة مرات، و في كل مرة تصبح عينيه أقسى من سابقتها...

و كأنه قد فقد كل ذرة شفقة و تعاطف معها، لكن هل تلومه؟، لقد ضربته في مقتل...
لقد ارتدى احد أقمصته التي قامت بكيها بيديها، و دس قدميه في الحذاء الذي نظفته بنفسها ووضعته مرتبا في مكانه ظنا منها بأنها تستطيع التقرب منه بتصرفاتها السخيفة الحمقاء...
لكنه ألقى بكل محاولاتها في تيار جارف وهو يعد نفسه ببرود أمام عينيها الحمراوين استعدادا ليذهب الى تلك المقابلة المشؤومة...

كان صدرها يختنق و هي تراه بمثل هذه الجاذبية استعدادا لفتاة أخرى أكثر منها احتراما لنفسها...
و بدا و كأن الغرفة تضيق على رئتيها من شدة الإختناق، فهمست بصوت بائس
(هل تعرف خالتي بما تنتويه؟)
توقف أمين عن متابعة عقد ربطة عنقه وهو يرفع عينين قاسيتين كالجليد الى عينيها المنتفختين في المرآة
ثم قال بصوت صلب سرى في جسدها برعشة مؤلمة.

(لا تسألي عن أي شيء يخصني، ولو حاولت القيام بإحدى الاعيبك مستغلة أمي كي تفسدين الأمر فسوف اطردك خارج هذا البيت للأبد، و هذا هو مصيرك في يوم قريب، لكن إن أردت أن يكون اليوم فافعلي هذا، و هذا آخر تحذير مني يا بدور)
أسقطت وجهها و هي تبكي بحرقة أمامه متشبثة بقبضتيها في حافة الفراش، الا أنه لم ينتظر حتى يسمع المزيد من بكائها، بل خرج دون أن ينظر اليها...

و منذ هذا الوقت و هي قابعة في الفراش تبكي دون صوت حتى أوشكت رئتيها على الإنفجار...

نهضت بدور من مكانها لتدور في أنحاء الغرفة في الظلام تشعر بنيران تتقد بداخلها مستعرة مع كل خطوة تخطوها ساقها العرجاء
لم تظن يوما أن تشعر بمثل هذا الشعور. كانت كل ما تحلم به و يفوق كل طموحاتها هو أن تنتهي من فضيحتها ايا كان الثمن الذي ستدفعه. و قد حدث و ماتت تلك الكارثة بكلمة واحدة من أمين، لن يستطيع اي مخلوق أن يكذبه فهو الوحيد المعني بأمرها الان و شرفها شرفه، عرضها عرضه.

فلماذا تبكي الان و تشعر بأنها تحترق في الجحيم عوضا عن أن تكون ممتنة و تنحني راكعة شكرا لله على ستره لها!
وصلت إلى النافذة و تشبثت بالستائر الثقيلة قبل أن ترفع راسها متاوهة باحتراق من عمق صدرها
نار تلتهم احشائها و هي تتخيل أمين بجوار الفتاة التي تناسبه
فتاة احترمت اهلها فاحترمت نفسها قبلا...
وهو ينظر اليها بزهو و سعادة.
اطبقت جفنيها بشدة و هي تبكي بصوت مخنوق و كأنه نصال خناجر باردة تمزق صدرها...

فتحت عينيها المتورمتين تنظر بهما إلى الستار الذي أخذت تلامسه و كأنها تتأمله بحسرة ثم همست بعذاب
) كيف لي أن أترك هذا البيت! لقد أحببته منذ أول صباح. حتى و انا مكدومة الوجه و النفس، شعرت بأنه الحصن الذي اختبىء فيه من بطش ابي...
لا اريد ترك خالتي أم امين، لم اكن اعلم انني قادرة على الوقوع في حبها خلال أيام...
لا أريد ترك، أمين(
اطرقت برأسها و هي تعاود التشبث في الستار بأظافرها، تلعق الدموع عن شفتيها.

عاشت مع راجح كزوجته لأكثر من عام و لم تشعر يوما بهذا الشعور...
شعور رهيب بالفقد، فقد رجل ستخسر حياتها معه...
اما مع راجح فكانت تحيا خوفا من أن ينبذها فتزيد من بيع نفسها له بلا ثمن كي يتنازل و يرضى بها، على الرغم من أنها كانت زوجته فعلا...
رباه، لا اريد سوى البقاء كزوجة له، حتى لو بقيت زوجة على الورق، اخدمه المتبقي من عمري...
انتفضت فجأة على صوت المفاتيح في باب الشقة...

فاتسعت عيناها في الظلام للحظة قبل أن تسرع لتدفن نفسها تحت الغطاء مطبقة عينيها على دموعها و الام روحها...
كانت تسمع خطواته بوضوح في صمت الشقة و نوم اهلها
خطوات ثقيلة، بطيئة، لدرجة تبدو غريبة نوعا ما
و انتظرت بمكانها تنظر الى باب الغرفة بعينين واسعتين. حتى رأته يفتح دون صوت.
فكتمت أنفاسها و توقفت دقات قلبها...
هيئته واضحة أمام عينيها لكن ملامحه مظلمة لم تتبينها...

كانت تريد التحقق من مدى الفرحة على ملامحه.
هل هو سعيد؟
هل يتطاير فرحا؟
ابتلعت الغصة في حلقها و هي تراه يغلق باب الغرفة فغرقت في الظلام مجددا فلم تعد تراه
الا انها سمعت وقع خطواته البطيئة. تقترب منها
حتى وقف أمام السرير و كأنه يحدق بها في الظلام!
زادت بدور من كتم أنفاسها و تسارعت دقات قلبها الان و هي تتمنى لو خاطبها ولو بكلمة واحدة.
إلا أن الصمت استمر، و استمر، فانتعش قلبها بأمل يائس فرصته معدومة.

إلا أن الأمل مات قبل أن يولد، فقد استدار أمين عنها أخيرا فتهاوت أحلامها خلفه...
و فتحت عينيها تراقبه وهو يتجه إلى الدولاب ليفتحه وهو يخلع سترته ببطىء و صمت تام...
رأته يخلع قميصه دون حماس، مجرد خيال مظلم له وهو يتحرك...
وهي مستلقية تحترق حد الموت، إلى أن شعرت بنفسها غير قادرة على الصمت اكثر أو السيطرة على نفسها أو ستموت
ففتحت فمها و سألته بصوت مخنوق خافت
)هل تمت الخطبة؟ (...

رأته على شعاع صغير متسلل من النافذة يتسمر عن الحركة تماما، حتى أنه لم يستدر إليها. بل ظل واقفا مكانه و أصابعه و كأنها تحفر حفرا في باب الدولاب الممسك به.
و ظنته سيتجاهلها، او سيلقي إليها بعبارة تفضي لها بمدى كرهه و حقده عليها...
الا انه تحرك بسرعة لم تستوعبها. متجها إلى حيث مفتاح الضوء فأشعله مما جعل الضوء يخترق عينيها الواسعتين و اعماهما للحظات مما جعلها ترمش بهما بضعة مرات.

و ما أن فتحتهما أخيرا حتى وجدت امين يقف بجوار السرير تماما. منحنيا إليها وهو ينظر إلى عينيها بملامح مخيفة جعلتها تشهق دون صوت...
و لم تستوعب أنه مد يديه ليجرها جرا من تحت الغطاء حتى كادت أن تتعثر على وجهها، الا انه كان ممسكا بذراعيها بقوة موجعة، حتى وقفت على قدميها فرفعت وجهها الشاحب إليه و هتفت برعب
)ماذا؟، ماذا فعلت؟).

شدد امين أصابعه على ذراعيها حتى ارتفعت على أطراف أصابعها و كأنها دمية من القماش لا تزن شيئا...
عيناه متقدتان بنيران الغضب و فكه يهتز من شدة ضغطه على أسنانه، ثم همس اخيرا بنبرة بطيئة ترتجف
(من يعرف بأمرك؟، (
سؤال مموه، قد يبدو غير مفهوما لاي شخص يسمعه.
أما بالنسبة لبدور فإن كان وجهها شاحبا قبلا فالأن تحول إلى قماشة مهترئة شديدة البياض و قد اختفى الدم منه تماما...

تنظر إليه بعينين واسعتين مذعورتين و شفتين ترتجفان بشدة، غير قادرة على التنفس لا الكلام حتى...
و حين ظلت صامتة رفع كفه عاليا وهو يهتف همسا بجنون باذلا قصارى جهده كي لا يصل صوته الى مسامع امه
)أقسم بالله إن لم تنطقي بالحق لأهبط بكفي على وجهك بضربة قد تفقدك عينك، انطقي فأنا غير قادر على السيطرة على نفسي اكثر، من يعلم بأمرك؟ (...
كانت تحاول الكلام، تحاول النطق...

لكن الكلمات وقفت بحلقها تكاد أن تزهق روحها قبل أن تفعل و تعترف أمامه...
شفتاها تتحركان دون صوت، عيناها تلتمسان منه العفو...
فسألها ببطىء غير قادرا على الصبر أكثر
)هل، سوار تعرف بأمرك؟)
كادت أن تسقط عند قدميه متوسلة أن يرحمها، الا انه هتف بها بصوت صدمها
(انطقي، هل تعرف؟)
كانت تنظر الى عينيه الصادمتين بإستعطاف لكنها لم تقابل الا بالجفاء و الغضب من جهته، فلم تجد بدا من الاعتراف...

اومأت برأسها ببطىء و ارتجاف دون أن تصدر صوتا...
للحظة تسمر مكانه وهو يفغر شفتيه ذاهلا بشكل موجع...
و كأنه كان حتى هذه اللحظة يتمنى أن تجيبه بالنفي...
اهتزت حدقتاه أمام عينيها الشاعرتين بالذنب، خاصة و هي تراه يبتلع ريقه بصعوبة، ثم سألها مجددا بصوت خفيض اكثر تهديدا
(من غيرها يعلم؟)
اخفضت وجهها أمام كرامته التي نحرتها نحرا، ثم همست بصوت مرتجف
(تيماء، (
اتسعت عينا امين بصدمة اكبر و سألها بذهول.

) تيماء، ابنة عمي سالم؟)
بكت بدور بقوة مفاجئة و هي تومىء برأسها أمامه...
اما هو فكان يهز رأسه ضاحكا، كان يضحك بالفعل...
ضحكة مريرة ذاهلة...
من حيث لا يدري تذكر حين فكر في الزواج من تيماء من قبل و سألها إن كانت قد سبق و ارتبطت باحدهم...
يالهي! كم تضحك على غباءه الان!
كم تحول إلى مسخ مضحك و كم تناولوه في أحاديث فكاهية دون أن يعلم!

دفعها عنه فجأة بقوة، فاختل توازنها و لحسن حظها كان السرير خلفها فسقطت عليه باكية، أما هو فنظر إليها قائلا بصوت غريب
(مجرد ضربك يشعرني بالحاجة لغسل يدي بعدها، تبا لك، تبا لك، ماذا فعلت كي استحق امرأة مثلك؟، لقد أهدرت كرامتي أمام أناس بالكاد أعرفهم)
رفعت بدور وجهها المبلل إليه و همست من بين شهقاتها.

(ليس الأمر كما تظن، لقد لجأت إلى سوار دون غيرها كي تساعدني في إقناع جدي و ابي بمسامحة راجح كي يتم زواجنا، أما تيماء فقد علمت بالأمر بالصدفة، حين لجأت إلى سوار للمرة الثانية).

نهضت من مكانها و قد ازداد عرجها بوضوح الا أنها توقفت على بعد خطوات منه، و همست بنحيب مختنق.

(هل تتخيل شعوري و انا ألجأ إلى المرأة الوحيدة التي احبها راجح، و التي عزم على الزواج منها ما أن ترملت، حتى أنه لجأ إلى خطفها خطفا كي يجبرهم على الموافقة، و ما أن فشلت خطته حتى أجبروه على طلاقي، وهو لم يهتم كثيرا و لم يفكر ولو للحظة قبل أن يلقي على يمين الطلاق، و ألقى بي و كأنني لا اساوي شيئا، هل تتخيل أنني بعد كل هذا ذهبت اليها و انحنيت على قدميها اقبلها كي تساعدني في اقناعهم بالعدول عن قرارهم، لكنها فشلت...

و لجأت إليها مجددا حين هدد بفضحي أمام أبي، فلم أجد سوى أن استعين بسوار لأنني أعرف أن اسمها سيوقفه، و كدت أن أفسد حياتها و حياة تيماء معها، لكن أنا ندمت، أقسم بالله ندمت يا امين، كنت كمن يواجه الحكم بالإعدام و يتصرف بجنون، و حتى اليوم و انا اندم كل لحظة على ما فعلت)
استدار أمين ينظر اليها بوجه و كأن غبار الخزي يعلوه. و بعينين غائرتين همس بصوت كاره خفيض.

(و هل كنت نادمة و انت تقدمين على الزواج مني دون أن تخبريني بما حدث؟، أخبرت سوار حين لجأت إليها و لم تفعلي معي كي لا أرفض الزواج منك، ماذا تسمين هذا؟، ندما؟)
رفعت بدور وجهها المتعب إليه و همست بصوت مختنق
(بل خداع، أسوأ ما أقدمت عليه في حياتي كلها)
ضحك بصوت آخر أكثر إيلاما، ثم قال بصوت مخيف يرتجف وهو ينقض عليها ليقبض على ذراعيها مجددا.

(تسألينني إن كنت أتخيل شعورك؟، هل تتخيلين أنت شعوري و أنا أقف الليلة أمام سوار و زوجها و هي ترميني بنظراتها محاولة أن تستنتج كيف تصرف الغبي في ليلة اكتشافه للحقيقة المخزية، و هذا الغبي لم يكن غيري بالطبع، هل تتخيلين شعوري؟، و بالطبع زوجها يعلم أيضا، ما الذي يمنعها من اخباره كي يضحكان سويا على المغفل الذي اخذ فضلات الرجل الذي تعففت هي عنه).

كانت بدور تنظر اليه بعينين واسعتين مبللتين، ثم همست بصوت مصدوم مختنق
(أنا، مجرد فضلات رجل يا أمين؟، هل هكذا تراني؟، هل لأنني أخطأت مرة واحدة في حياتي جعلت مني مجرد فضلات قذرة عوضا عن انسانة من لحم و دم و مشاعر، مشاعر عنيفة بالندم لا ترحم)
رمقها طويلا من قمة رأسها و حتى اطراف قدميها، ثم سألها بقرف و اختصار.

(و هل ترين نفسك بطريقة أفضل؟، لقد تخلص منك بعد أنا نالك لمدة عام كامل حتى ملك قبل حتى أن تصلا الى ليلة زفافكما، لم يحاول الحفاظ عليك ولو من قبيل الشفقة حتى)
أغمضت بدور عينيها أمام قسوة عينيه و فظاعة كلماته، ثم همست بصوت متحشرج
(أنت تؤلمني بشدة يا أمين، أعرف أنني أستحق أكثر، لكن الضرب أهون على من كلماتك، أنا لست فضلات رجل آخر يا أمين، لست كذلك، لازلت انسانة تستحق فرصة أخرى).

همس أمين بكلمات خفيضة وهو يصم أذنيه و يعمي عينيه عن تحقيره الذي ظهر جليا على ملامحها النحيلة الباهتة...
(انسانة مخادعة رخيصة، لن أسامحك أبدا يا بدور ولو زحفت على ركبتيك أمامي، لتنالي فرصتك التي تريدين بعيدا عني)
ثم استدار عنها مندفعا الا أنها أمسكت بذراعه فجأة و هي تهتف من بين دموعها الصامتة
(الى أين أنت ذاهب؟).

تشنجت جميع عضلات جسده ما أن شعر بلمسة أصابعها على ذراعه، فالتفت اليها وهو ينفض يدها بقوة ثم رفع اصبعه محذرا بعنف و عيناه تغليان كرها و نفورا
(إياك و محاولة لمسي مجددا، إياك)
ابتعدت بدور خطوة عنه و هي تشعر بنفوره يثير بها الغثيان و يعقد أعمعائها، الا أنها همست بإختناق
(آسفة، لن أفعل هذا مجددا، لكن الى أين أنت ذاهب؟)
مال برأسه اليها و قال بملامح شاحبة من شدة ما يعانيه في تلك اللحظة...

(ذاهب الى أي جحيم يبعدني عنك، سيكون أفضل من التواجد بقربك)
رمقها بنظرة مزدرية فأسبلت جفنيها عن نظرته الا أن حركتهما جعلت الدموع تنساب من عينيها أكثر...
لكنها رفعت وجهها المبلل فجأة قبل أن يصل الى الباب و سألته بنبرة مدركة أخيرا
(أمين، هل قلت أنك، رأيت سوار و زوجها الليلة؟، كيف كان ذلك و أين؟)
توقف أمين مكانه دون أن يستدير اليها و يده على مقبض الباب متشنجة، تنقبض بصعوبة...

متذكرا كل لحظة من لحظات الإهانة المتوالية التي تعرض لها...
لم يتخيل يوما أن يتم التلاعب به بتلك الطريقة من قبل امرأة!
ربما لو كانت ياسمين قد فعلت فعلتها قبل أن تسبقها بدور لخداعه، لكان صب عليها جام غضبه و لعناته و لكان فضحها أمام فريد كي لا يقع في فخ امرأة مثلها...
لكن بعد الصفعة التي تلقاها من بدور، جعلت ما فعلته ياسمين يبدو عاديا في نظره...
يمكن للمرأة أن تكون منتقمة مخادعة بشراسة، و جميعن سواء...

لكن كيف له أن يفضحها أمام فريد، بينما هو سبق ووقع في فخ أكبر و أفظع من مجرد حركة ياسمين التافهة كي تنتقم لكرامتها منه...
أطرق بوجهه و دون مقدمات انفجر في ضحك عال...
ضحك متواصل عنيف جعل عيناه تدمعان على الرغم من انه اطبق جفنيه بشدة...
اتسعت عينا بدور بصدمة و تراجعت للخلف و هي تراه منحني الرأس يضحك بمثل هذا العنف...

فرفعت يدها الى صدرها و توقفت دموعها و قد حل الخوف مكان الحزن، فلعقت شفتيها غير مستوعبة لحالته الغريبة...
و بقى على هذا الحال لدقيقة كاملة حتى بدأ خوفها يتزايد عليه، مما جعلها تقترب منه بحذر الى أن وقفت خلفه، ثم همست بخفوت
(ما الذي يضحكك بهذا الشكل؟، هل هي طريقتك في الإنتقام مني؟، هل هذا سبب تواجد سوار و زوجها الليلة بينما أنت تخطب فتاة أخرى؟، من هي؟، إنها فتاة من العائلة، اليس كذلك؟).

شعرت بنصل حاد يشق صدرها عرضيا، الا أنها غالبته و همست بصوت أكثر شدة و ألما، و صدمة
(هل الأمر كذلك؟، هل هذه هي الضربة التي ستردها لي؟)
توقف عن الضحك فجأة كما بدأ فجأة، و بقى على وقفته مطرق الرأس للحظات ثم استدار اليها أخيرا وهو يرفع كفه ليقبض بها على ذقنها بعنف، رافعا وجهها اليه بالقوة حتى ارتجفت بين أصابعه الا أنها لم تجرؤ على المقاومة، خاصة و هي تنظر بذعر الى عينيه الحمراوين الدامعتين...

ليست متأكدة تماما إن كانت دموع ضحك بالفعل! فملامحه غريبة، مخيفة، و موجعة بدرجة جعلتها تشعر لو استطاعت ان تضمه الى صدرها بقوة و تعتذر له آلاف المرات إن كان هذا سيفيد بشيء...
لكنها لم تجد الفرصة، فقد تكلم أمين...
تكلم بصوت غريب وهو ينظر الى الى عينيها مومئا برأسه بتأكيد بطيء، و بصوت متشفي خافت وعدها.

(سأتزوج يا بدور، سأتزوج و سأحرص أن يتم هذا و أنت على ذمتي، سأتزوج فتاة بكر و أرى الحسرة في عينيك و سأتمتع بذلك، و بعدها سأطلقك)
فغرت بدور شفتيها و دون أن تدري وجدت نفسها تهز رأسها نفيا ببطىء، و لسانها يهمس بصوت غير مسموع
(لا، ارجوك لا)
لكنه سمع همستها الجزعة المتوسلة، فاشتعل التشفي في عينيه و تألقتا برضا متوحش وهو يومىء برأسه قائلا.

(بلى، سأفعل، و حينها ربما يمكنني أن أسامحك لتذهبي الى حال سبيلك بأمان بعد أن أكون قد أهنتك و أوجعتك بأقسى طريقة أستطيعها، سنكون متعادلين وقتها، و سأتمنى لك التوفيق)
أغمضت بدور عينيها بشدة و صرخة تخرج من حلقها المتورم بألم
(لا أرجوك، انا لم أقصد أن أؤلمك بفعلتي، أما أنت فتنوي قتلي ببطىء، الفارق كبير، كبير جدا يا أمين)
ازدادت ابتسامته قسوة وهو يقول بقلب جليدي.

(المهم أن النتيجة واحدة، و لقد قدمت لك واجب لا تستحقيه لذا لا يمكنك الإعتراض على بعض العقاب الذي قد يشفي كرامتي مما فعلته بي)
فتحت بدور عينيها المحمرتين ببطىء و هي تنظر الى عينيه الجليديتين، ثم همست بصوت ذو قرع موجع
(و هل هذا هو ما سيشفي كرامتك؟).

لم يرد عليها على الفور، بل ظل ينظر اليها طويلا، ثم أدرك فجأة أن وجهها لا يزال في كفه فأبعد يده وكأنها ستدنسه، ثم استدار عنها و فتح الباب ليخرج من الغرفة بسرعة...
أما بدور فقد أغلقت الباب بكفيها و هي تسند جبهتها اليه، و بكت بصمت، حريصة الا يصل صوت بكائها للخارج...
أخذ ينزع ربطة عنقه بعنف وهو يشعر بعدم قدرته على التنفس، الضيق الذي يقبض على صدره أفظع من احتماله...
(أمين!).

توقف أمين وهو يغمض عينيه آخذا نفسا عميقا، بينما يهمس في داخله بأسى
ليس الآن يا أمي، ليس الآن أرجوك، لكن أمه قالت بصوت حنون
(لقد تأخرت في خطبة صديقة، هل استغرقت كل هذا الوقت؟)
ظل أمين مكانه، محاولا تهدئة ملامحه و السيطرة عليها، ثم استدار اليها ليجدها واقفة خلفه ترتدي اسدال الصلاة، و تمسك بمصحفها، فنظر الى ساعة معصمه...
لقد أوشك آذان الفجر بالفعل، هل هام على وجهه كل هذا الوقت!

رفع وجهه ينظر اليها مبتسما ابتسامة فاترة لم تصل الى عينيه، ثم قال بصوت حاول جاهدا أن يكون طبيعيا صادقا
(لم أتوقع)
ابتسمت أمه و سألته بفضول أمومي
(و هل عروسه جميلة؟)
انعقد حاجبي أمين قليلا وهو يتسائل، هل ياسمين جميلة؟، لا يتذكر أنه دقق النظر بها من قبل، حتى و إن فعل فهو لا يتذكر الكثير من التفاصيل...
الحقيقة أن جمال الشكل لم يكن هو ما أعجبه في ياسمين، بل شجاعتها و قوة شخصيتها...

ابتسم أمين وهو يحاول المزاح قائلا بصوت باهت ضعيف
(هل تطلبين رأيي في شكل عروس صديقي يا أم أمين؟، هذا سؤال تطير له الرقاب)
ضحكت أمه و هي تلوح بكفها قائلة بمرح
(و ما أدراني! هذا سؤال تقليدي لا يمكنني منع نفسي عنه، المهم، هل كان صديقك سعيدا؟)
اختفت الإبتسامة عن وجه أمين و ظل ينظر الى وجه أمه طويلا، ثم همس أخيرا بصدق
(جدا)
اتسعت ابتسامة والدته و قالت بمحبة
(بارك الله لهما، و زاد من سعادتك بزوجتك يا حبيبي).

أمال أمين وجهه مبتسما بسخرية مريرة، لم تفت عن عيني أمه المتفحصتين له، فعقدت حاجبيها قليلا...
الا أنها تحركت الى الأريكة و جلست عليها، ثم ربتت على المكان الخالي بجوارها و قالت بحنان
(تعال اجلس بجواري يا أمين)
أراد أن يتهرب منها بكل ما أوتي من قوة، فقال بيأس
(ألم تحين صلاة الفجر يا أمي)
ردت أمه بصلابة
(أمامنا بضعة دقائق، تعال لتجلس بجواري، أريد التحدث معك).

بدا أمين غير راغبا، الا أنه تحرك أخيرا ببطىء حتى جلس بجوارها، مخفيا وجهه عنها وهو يميل ليستند بمرفقيه على ركبتيه، فربتت أمه على ظهره و دلكته برفق هامسة
(لماذا أشعر بك غير سعيدا يا ابني؟، ما المشكلة، تكلم معي فأنا أمك، أنا الوحيدة التي تستطيع الكلام معها في أي شيء مهما كان محرجا، أنا الوحيدة التي مهما كنت رجلا أمام الجميع تظل طفلا أمامها، لا تشعر بالخجل و اخبرني).

ضحك أمين قليلا وهو يحك أعلى أنفه ثم قال بصوت خافت غير مرتاح
(ما الذي تشكين فيه يا أم أمين، نبرتك غير مريحة)
ضحكت أمه بحنان و هي تقول
(اذن لماذا لا تريحني و تطمئنني على حالك مع زوجتك؟، لقد تفائلت خيرا و أنا أسمع صوت ضحكاتك العالية منذ قليل، و دعوت الله أن يهديك لها و يهديها لك، لكن نظرة واحدة الى ملامحك ما أن خرجت من الغرفة حتى انتكست حالة قلبي من جديد).

مد أمين يده ليمسك بكف أمه ينظر اليه بصمت، ثم ربت عليه قائلا بإيجاز
(سلامة قلبك، لا تشغلي بالك)
زمت أمه شفتيها قليلا، ثم قالت بحذر و تردد
(ربما يا ابني كنت محرجا من وجودي أنا و أختك معكما في الشقة و بداية زواجكما، لما لا تستقلان في سكنكما، لا أمانع اطلاقا، اختار بين هذه الشقة أو الشقة القديمة ولو أنها أصغر قليلا)
رفع أمين وجهه ينظر الى أمه و قال قاطعا بجدية.

(لا أريد ترككما لأي مخلوق يا أمي، لا أحد يستحق التضحية لأجله في هذه الحياة)
عقدت أمه حاجبيها بشدة و لم ترد، ثم قالت بعد فترة.

(هذه زوجتك يا ابني، باتت تستحق التضحية لأجلها و ربما أكثر منا أنا و أختك، أنا لست دائمة لكما، و أختك مصيرها لبيت زوجها ان شاء الله، تبقى زوجتك لك، عليك أن تبدأ الحياة معها بالطريقة التي تريد أن تستمر بها، لا تعاملها كغريبة بيننا، لا تنسى أنها تركت بيت أهلها و بلدتها و تشعر بالحرج و بدور شخصية خجولة انطوائية، عليك أن تساعدها مهما كلف الأمر).

ظل أمين صامتا وهو ينظر أمامه بملامح باهتة لا تحمل أي تعبير و كأن كل المشاعر بداخله قد ماتت...
فتحت أمه فمها تريد متابعة الكلام، الا أن صوت آذان الفجر أوقفها فتنهدت و هي تهمس بحزن
(الله أكبر، الله أكبر، لا حول و لا قوة الا بالله، لما لا تذهب لتستعد و نصلي الفجر سويا)
ضغط أمين عينيه بقوة ثم أومأ برأسه قائلا بخفوت
(حسنا)
نهض ليذهب الى غرفته الا أن أمه نادته قائلة بهدوء و حزم.

(لا تنسى بدور يا أمين، حتى إن نامت، أيقظها)
توقف أمين مكانه وهو يضغط على شفتيه و العالم يظلم من حوله و يزداد قتامة، حتى أن الضغط بدأ يزداد على جانبي عينيه، لكنه اندفع ليدخل الغرفة وهو يصفق الباب خلفه...
كانت بدور جالسة على السرير تضم ركبتيها الى صدرها و هي تدفن وجهها بينهما، تبكي بصوت خافت لا يكاد أن يكون مسموعا، لكنه لم يشعر بالشفقة عليها بل قال بقسوة و كأنه لم يسمع صوت بكائها.

(اذهبي لتتوضأي، أمي تريد أن نصلي الفجر سويا)
رفعت بدور وجهها المبلل بسرعة و هي تنظر اليه بدهشة، ثم هتفت بلهفة و كأنها لم تكن منهارة في البكاء للتو
(حاضر، لحظة واحدة، اقل من لحظة)
ثم نهضت قفزا مهرولة لكن ساقها لم تسعفها، فسقطت أرضا، مما جعل وجهها يحمر حرجا بشدة على الرغم من كل ما كان بينهما الا أنها لا ترغب في الوقوع أمامه، كفى سقوطا...

ظل أمين مكانه ينظر اليها دون تعبير و هي تحاول النهوض بصعوبة أمام عينيه الغير متسامحتين...
لكنه لم يحاول الإنحناء اليها أو مساعدتها و كأنه قد اكتفى منها، مما جعلها تزحف حتى تنهض أخيرا محمرة الوجه و كأنه المزيد من الخزي كان ينقصها أمامه، ثم همست و هي تتجنب النظر اليه
(لحظة واحدة، و سأكون جاهزة).

ابتعدت من أمامه وهو يشيعها بعينيه القاسيتين الى أن اختفت من أمامه، فجلس على السرير بقوة وهو يخترق شعره باصابعه، يزفر نفسا حادا ساخنا يحرق الصدر بوحشية
بداخله نار لا تهدأ، كرامته تأبى أن تنسى نظرة سوار له، تشفي ياسمين به...
أغمض عينيه بشدة وهو ضغط كفه على صدره هاتفا
(آآآآآآآآه، نار، نار تحرق صدري، تبا لهن جميعا، كلهن أ).

لكن مع نهاية صوت الآذان، أغمض عينيه ممتنعا عن الكلام وهو يبتلع الطعم الصدىء في حلقه بشدة...
مرارة العلقم مؤذية، اليوم اهتزت رجولته كتأكيد على ما فعلته به بدور، لتكملها ياسمين و كأنها تسخر من محاولته الواهية في تطييب الجرح الذي تسبب فيه لها...
لم يكن ستحق مثل هذه الإهانة التي تلقاها، لم يكن يستحق أيا منهما...
أحلامه في الحياة بسيطة، مجرد فتاة تشبهه و تشبه تفكيره...

لما كان عليه أن يتعرض لهذا الخداع و تلك الإهانة، فقط لماذا؟
لو يترك نفسه لهواها لاذاق بدور اضعاف ما تستحقه، لتدفع ثمن ما فعلته ياسمين ايضا، بل ثمن أي خطإ أقدمت عليه كل امرأة مخادعة في هذه الحياة...
لكن لا يزال بداخله بعض القيم تمنعه عن القيام بذلك، لتبقيه يحترق ببطىء و دون رحمة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة