قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن عشر

فتحت بدور الباب متثاقلة الحركة، فاقدة الروح و الحماس لأي شيء...
الا أنها ما أن رأت أمين يقف أمامها مبتسما حتى ارتجفت و انقلب كيانها و تلون وجهها و هي تنظر اليه
بينما بادرها هو قائلا بمودة
(صباح الخير بدورة)
رمشت بدور بعينيها و بدت غير قادرة على النطق لعدة لحظات، ثم قالت أخيرا بصوت مختنق و هي تحاول الإبتسام
(صباح، صباح الخير يا أمين)
قال أمين بلطف.

(أرى أنه لم تكن لديك فكرة عن قدومي اليكما في هذا الوقت، آسف على الإزعاج. )
ردت بدور و هي تقول بسرعة نافية
(ليس هناك أي ازعاج اطلاقا، نحن نتشرف بزيارتك في أي وقت يا أمين، هذا، بيت عمك)
ابتسم لها أمين دون أن يجيبها على الفور، فاحمر وجهها بشدة و اخفضته غير قادرة على مواجهة نظرته لها...
حينها تملكته بعض الحرية في تأملها...
كانت في حالة يرثى لها، عيناها حمراوان بشدة و من الواضح أن السبب هو بكاء لليلة كاملة.

وجهها شاحب للغاية و شفتاها زرقاوان و كأنها لم تأكل منذ أسابيع...
نظراتها زائغة حذرة، و أصابعها الممسكة بالباب ترتجف، حتى أنها تنشب أظافرها في خشبه...
لكن و ليكن أمين مع نفسه، لم يكن هذا هو كل ما لاحظه...
فقد لاحظ للمرة الأولى أن بشرتها الخمرية شديدة الجاذبية، و عيناها كحيلتين بكحل طبيعي دون أي تدخل إضافي...
و شعرها ناعم، أسود جميل، بدا ذو فرق جانبي، وهو نائم أعلى وجهها و ظاهر من تحت حجابها...

ترى أي شيء جعلها تبكي ليلة كاملة و تبدو بمثل هذا الخوف، هل اتصل بها أخوها و هددها و أرعبها لأي سبب كان...
تخيل كيف يمكن أن تكون حياة فتاة في مثل عمرها، منغلقة على نفسها تماما، لا تذهب الى أي مكان و ليس لها أصدقاء، لا تعرف معنى المتعة...
قال أمين أخيرا وهو يخفض نظره سريعا عن شعرها ما أن أبصره
(كيف حالك يا بدورة؟).

أمسكت بالباب بقوة أكبر و هي غير قادرة على النظر اليه ووجهها يزداد احمرارا، ثم قالت ترد عليه بخفوت
(بخير، أنا بخير)
تعجب من شدة خجلها الى تلك الدرجة، لطالما كانت بدور خجولة، لكنها لم تبد يوما شديدة الإحمرار و الإرتباك أمامه بهذا الشكل...
ترى هل هذا بسبب الكلام عن احتمالية خطبتهما؟، هل هذا هو ما يربكها الى هذا الحد؟

رغم عنه شعر بنوع من الرضا ازاء خجلها و ارتباك نظراتها، لطالما عشق الخجل و الحياء و يراه أكثر ما يميز الإناث جمالا...
تنحنح قائلا بنبرة ودودة أكثر
(حسنا، لن آخذ من وقتك الكثير، هل يمكنك أخذ هذه الحقيبة مني، لقد أرسلت أمي بعض المأكولات اليكما)
أسرعت بدور لتتناول منه الحقيبة و هي تقول بدهشة
(و لماذا أتعبت خالتي نفسها، سلمت يداها، رائحة الطعام تثير الجنون)
ابتسم أمين وهو يقول مداعبا.

(صحيح، الا أنها تدعي أن طبخك أكثر مهارة و رائحته أطيب)
ضحكت بدور على الرغم منها و قالت مسرعة
(هذا مستحيل، من أكون أنا لتقارنني بخالتي)
خفتت ضحكتها فجأة و هي تراه يتأمل ضحكتها بجدية، فأخفضت عينيها بسرعة و قالت
(س، سأذهب لأضح هذه الحقيبة في المطبخ، تفضل بالدخول)
رد أمين قائلا بهدوء مبتسم
(شكرا يا بدورة، يوم آخر سآتي للزيارة حين يكون عمي هنا)
الا أن بدور بدت معترضة و هي تقول بحرج.

(لا يمكنك أن تأتي الى هنا و لا تدخل، لا يصح)
ابتسم لها أكثر و قال واعدا
(حين يأتي عمي، أعدك بهذا)
رفعت عينيها تنظر اليه مجفلة، و تسائلت إن كانت تلك الزيارة التي يتكلم عنها مقصودة!
فغرت بدور فمها و هي تنظر اليه برعب، فعقد أمين حاجبيه قليلا وهو يسألها قائلا
(ماذا بك يا بدور؟، هل أنت بخير؟، تبدين شاحبة تماما!).

لم تكن قادرة على النطق، فبدت على وشك السقوط أرضا، و ساد بينهما الصمت لبضعة لحظات قبل أت تقول بصوت مختنق
(أمين، أريد أن أخبرك شيئا)
قال أمين بنبرة صادقة شديدة الجدية
(قولي، يمكنك مكالمتي في أي شيء تريدين، ألم نتفق من قبل على هذا)
أومأت بدور برأسها و هي تنظر اليه بعينين متضرعتين، الا أنها و ما أن فتحت فمها مجددا حتى قاطعها صوت أمها و هي تأتي من خلفها هاتفة.

(أمين هنا، يا مرحبا بحبيبي، و أنا التي استيقظت اليوم و شعرت بأن رياح طيبة ألقت بنسائمها العطرة علينا)
ابتسم أمين وهو يقول
(هذا من طيب أصلك يا خالتي، كيف أصبح كاحلك اليوم؟)
عقدت أم زاهر حاجبيها بسرعة و هي تتأوه قائلة
(آه يا ولدي، الألم لا يجعلني قادرة على الحركة بطريقة سهلة مطلقا)
ثم نظرت الى بدور التي كانت لا تزال واقفة مكانها تحمل الحقيبة، فقالت بسرعة مستنكرة.

(كيف تتركين ابن عمك يقف بالباب هكذا يا بدور؟، أين أدبك؟)
تدخل أمين قائلا بلطف
(لقد دعتني بدور للدخول و قامت بالواجب، لكنني متأخر في الذهاب الى عملي، لكنني سآتي بالتأكيد لزيارة عمي ما أن يصل الى المدينة)
انتفخت أوداج أم زاهر و هي تنظر الى ابنتها بسعادة و أمل، فقالت بدور و هي تغص بصوتها
(سأذهب لاضع هذه في المطبخ)
ثم سارت بصعوبة و هي تعرج، لتختفي عن ناظريهما، حينها سأل أمين بإهتمام و قلق.

(ماذا بها بدور يا خالتي؟، لا تبدو بخير!)
تنهدت والدتها و هي تقول بحزن و أسى
(آه يا ابني ماذا أقول لك، لولا ستر الله، لكانت ابنتي ضاعت مني)
انعقد حاجبي أمين بشدة وهو يقول
(كيف هذا؟)
قالت أم زاهر بحزن
(اعترض طريقها اثنان من الهمج القذرين، في طريق مهجور، و لا يمكنني تخيل ما الذي كان من الممكن أن يحدث لها لولا ستر الله)
هتف أمين بحدة
(ماذا؟).

ثم لمح بدور تخرج من المطبخ و تنوي الهرب الى غرفتها، الا أنه ناداها بصرامة
(بدور، تعالي الى هنا)
تسمرت بدور مكانها، ثم استدارت و عادت اليهما تتعثر بوجه شاحب و هي تقول
(نعم يا أمين)
رد عليها بصرامة
(أخبريني عما حدث لك؟، هل أقدم هذان الكلبان على شيء؟، أخبريني بكل شيء)
ابتلعت بدور غصة الرعب في حلقها و أجبرت نفسها على النظر اليه و هي تهز رأسها بسرعة قائلة.

(لم يستطيعا فعل شيء، لم يحدث شيء صدقني، أنا فقط ارتعبت لأنها المرة الأولى التي أتعرض فيها لشيء مماثل)
الا أنه قال بحدة
(و لماذا تسيرين في طريق مهجور؟، الا تعلمين أن تلك الأمور لا مجال للمجازفة فيها؟)
ظلت بدور صامتة أمامه بملامحها المسكينة، فشعر رغم عنه بالأسف على رعبها، لذا خفف من حدة صوته ثم قال بهدوء
(لا عليك، لا ترتعبي الى هذه الدرجة، لقد انتهى الأمر على خير، لكن عديني أن تكوني أكثر حرصا).

همست بدور تقول بصوت خافت حزين...
(أعدك)
قال امين بعد لحظة تفكير
(هل أنت ذاهبة لكليتك الآن؟)
أومأت بدور برأسها دون أن ترد، فعرض عليها قائلا
(اذن تعالي معنا سأقلك في طريقي)
رفعت بدور وجهها و هي تنظر اليه مصدومة قبل أن تقول بسرعة
(لا، لا، أنا سأذهب، لا تعطل نفسك)
قال أمين بنبرة حاسمة
(بل سأقلك، نورا تنتظرني في السيارة و أنا سأقلها الى كليتها).

شعر بالحرج من ذكر وجود نورا في السيارة، فقد طلب منها أن تصعد بالحقيبة اليهما الا أنها رفضت، حتى انها رفضت الصعود معه كذلك، و أصرت على البقاء في السيارة بوقاحة...
لكن لحسن الحظ لم تلحظ والدة بدور الأمر فقد كانت أكثر انشغالا بالموافقة بحرارة و هي تقول مربتتة على ذراع ابنتها قائلة
(اذهبي مع ابني عمك يا بدور، كي يطمئن قلبي عليك)
بدت بدور مرتبكة بشدة، فقال امين مبتسما برقة.

(عليك التخلص من هذا الخجل سريعا، لأنني عازم على توصيلك خلال الأيام التي يتوافق بها جدول محاضراتك مع خروجي صباحا)
بهتت ملامح بدور و هي تنظر اليه بعينين واسعتين، الا أنها لم تستطع منع رجفة لذيذة من التسلل الى قلبها، رجفة غريبة، جعلتها تنظر اليه ببلاهة...

بعد نزولهما سويا، نظرت نورا الى كلا منهما بصدمة، ثم توترت ملامحها و زفرت بضيق...
الى أن فتح أمين الباب الخلفي لبدور وهو يقول
(تفضلي يا بدورة)
ابتسمت له بدور بخجل و هي تتجنب النظر الى عينيه، ثم جلست فأغلق الباب خلفها، ليستدير حول السيارة، ثم جلس و بدأ في تحريك السيارة...
حين ساد الصمت المحرج، بادرت بدور لتقول بارتباك
(كيف حالك يا نورا؟)
ردت نورا عليها بصلف
(بخير)
الا أن بدور تابعت بمودة خجولة.

(و دراستك؟)
ردت نورا مجددا بنبرة أكثر جمودا
(بخير)
حينها تقوقعت بدور على نفسها و فضلت الصمت و هي تنظر من النافذة، بينما حدج أمين أخته نورا بنظرة صارمة غاضبة، ثم لم يلبث أن قال بنبرة بسيطة عفوية
(و ماذا عن دراستك أنت يا بدور؟)
أجفلت بدور و هي تنظر اليه تلقائيا في مرآة السيارة ثم أجابته بصدق
(أنا أحاول قدر استطاعتي يا أمين، لا يهمني شيء حاليا سوى النجاح، لا أريد سوى شهادتي).

ابتسم لها ابتسامة زهت قلبها وهو يقول برقة
(أحسنت يا صغيرة)
ابتسمت له في المقابل و احمرت وجنتاها، فابعدت عينيها عن المرآة لتعاود النظر من النافذة، بينما قالت لها نورا فجأة متهكمة
(بالله عليك يا بدور ما هذا الذي ترتدينه؟، الا ترين الفتيات من حولك في الجامعة؟)
نظرت بدور الى المقعد الذي تحتله نورا أمامها، بينما قال أمين بنبرة صلبة غاضبة
(ما باله زيها؟، إنه رائع)
ضحكت نورا و هي تقول ساخرة.

(و أنت مجامل جدا على غير عهدي بك، أنا أنصحها فقط بما أني ابنة عمها، إنها لا ترتدي سوى العباءات السوداء، مما يجعلها تبدو و كأنها في حداد دائم)
زفر أمين بحدة قبل أن يقول بنفاذ صبر
(هلا توقفت عن فظاظتك ليوم واحد فقط)
ثم نظر الى بدور في المرآة و قال بنبرة تلونت الى الرقة تلقائيا...
(تبدين رائعة يا بدورة، كفتاة شرقية مختلفة عمن سواها).

نظرت اليه بدور مذهولة و هي تشعر بأنوثتها للمرة الأولى، على الرغم من تلك الفترة القاتمة التي قضتها كزوجة لراجح، لم يسبق لها أن شعرت بالأنوثة كما شعرت الآن بسبب كلمتين بسيطتين من أمين!
الا أنه تابع بجدية
(لكن ادخلي شعرك داخل الحجاب، فأنا أستطيع رؤيته)
سارعت بدور بدس شعرها أسفل حجابها بأصابعها المرتجفة، بينما كانت نورا تنظر الى أخيها بنظرة ممتعضة، غيورة...

لكن بدور لم تلحظها، بل لم ترها، و ساد الصمت بين ثلاثتهم لفترة قبل أن تتكلم بدور بصوت خافت متردد
(أمين، هل لديك رقم هاتف، تيماء، ابنة عمنا سالم؟)
نظر اليها أمين في المرآة بدهشة، ثم قال وهو يقلب شفتيه مفكرا
(لا، لم أرها سوى مرة واحدة لبضعة أيام، لكن أظن أن فريد لديه رقمها، فقد كان مدعوا عندها هي زوجها منذ فترة قصيرة، لكن لما لا تتصلين بمسك أو سوار، من المؤكد يعرفان الرقم).

أخفضت بدور رأسها و قالت بصوت باهت كاذبة...
(لا أعرف رقميهما)
لم تكن تعرف رقم هاتف مسك، الا أنها كانت تحفظ رقم هاتف سوار عن ظهر قلب...
فظلت صامتة الى أن قال أمين ببساطة
(سأعرف الرقم من فريد ثم أرسله اليك)
رفعت بدور عينيها الى عينيه في المرآة، ثم ابتسمت و هي تهمس بصوت لا يكاد أن يسمع
(شكرا)
لكنه سمعها، و بادلها الإبتسام، فرد عليها مداعبا
(أنت على الرحب دائما يا بدورة الصغيرة).

نظرت الى النافذة و هي تبتسم ابتسامة عميقة اشتاقت لها منذ فترة طويلة جدا، بينما كانت نورا تنظر الى تلك الإبتسامة في مرآتها الجانبية بملامح نافذة الصبر، حادة التعابير...
من كان يظن أن تستطيع الأبتسام، لقد أشرق الصباح و هي تظن بأنها ميتة لا محالة...

فبعد أربعة أقراص من المسكن ثقيل التركيز، و محاولات أمها الحثيثة كي تهدئها، استطاعت اقناعها بأنها بخير و أنها ستذهب الى الكلية لتثبت لها بأنها لم تتعرض لأذى فعلي...
و أجبرت نفسها على ارتداء ملابسها و التحامل على نفسها في النزول، حيث أن والدتها كادت أن تقسم بأن ابنتها قد تعرضت الى شيء أفظع و تخشى الإعتراف...

(كم الساعة الآن؟)
استقامت جالسة في سريرها و هي تنظر اليه مبتسمة بسعادة، بينما كان هو يوليها ظهره و ينظر من النافذة...
الوقت لا يزال مبكرا جدا، استطاعت استنتاج ذلك من الأشعة الحمراء المنعكسة على صدره، و أطراف شعره المتوهجة عبرها...
لم يجبها على الفور، ثم سألها بجفاء دون أن يستدير اليها
(هل أنت أفضل الآن؟)
رمقته تيماء بإبتسامة مشاغبة و هي تتلاعب بطرف الغطاء، ثم سألته بنبرة حنونة
(الا زلت غاضبا مني؟).

رد عليها قاصي بنبرة زادت جفاءا و قتامة
(هل أنت جائعة؟)
انحنت ابتسامتها بحنان أكبر، فتراجعت الى الخلف تستند للوسائد و هي تتأمله بعينيها الشغوفتين...
و لدهشتها وجدت الكلمات التي يغنيها دائما تتردد في أذنيها برفق و بصوته الأجش.

يا غريب الدار، يا غريب الدار بأفكاري
قد تخطر ليلا ونهارا
ادعوك لتأتي بأسحاري
بجمال فاق الأقمار.

أغمضت عينيها متنهدة و هي تستسلم لذلك الصوت الذي يرن في أذنيها، و كأنه يغني بالفعل...
لكنه الآن لا يغني، بل هو غاضب و بشدة، غاضب و لم يستطع افراغ شحنة غضبه الا عبرها هي...
عبر مشاعره القوية العاصفة...
استدارت على جانبها قليلا و سألته بخفوت و بصوت يحمل رنة جميلة، تشبه بريق عينيها المنعكس شعاع الشروق عليها...
(لم تجب عن سؤالي حتى الآن).

ساد الصمت بينهما مجددا، ثم قال قاصي بخشونة و بنبرة أكثر حدة مما جعلها تدرك أنها لمست وترا بداخله
(هل أعد لك الفطور؟، لم تأكلي شيئا منذ الأمس)
ضحكت تيماء بصوت بدا كخرير جذاب ثم سألته مباشرة طالما أنه يتعمد التهرب منها
(هل ستسافر معي، أم أبقى أنا معك؟)
استطاعت سماع صوت تحشرج أنفاسه بوضوح ثم سألها بنبرة بدت أكثر قسوة
(هل يعجبك؟).

تسمرت تيماء مكانها و اتسعت عيناها، قبل أن تهمس بذهول و بصوت لا يكاد أن يكون مسموعا
(مجددا يا قاصي؟، ألم تيأس بعد من هذا السؤال؟)
أظلمت عيناه بشدة الا أنه لم يستدر اليها، و ساد صمت طويل قبل أن يسألها بصوت خشن قاتم. بل شديد الظلام...
(كيف كان شعورك حين كنتما تتكلمان؟)
ضغطت تيماء على أسنانها بقسوة، ثم قالت من بينهما بعنف
(ما هو شعورك و أنت غبي؟، شعور رائع، اليس كذلك؟).

رأت كفه تنقبض بشدة، الا انه كان حتى هذه اللحظة يحاول الا يكثر في الكلام، ثم استدار بقوة وهو يتنجنب النظر اليها قائلا بقسوة
(سأذهب لأعد لك شيء لتأكلينه)
زفرت تيماء نفسا يائسا، ثم سألته و هي تحاول النظر اليه عبر طبقات شعرها الشبيه بعش العصافير حول عينيها...
(أين أمي؟)
توقف قاصي للحظة ثم قال بجفاء
(جائت الى هنا و طرقت الباب بعد منتصف الليل، الا أنني لم أفتح لها الباب، فإضطرت للمبيت عند امتثال).

زمت تيماء شفتيها ثم قالت بغضب
(هذا هو السؤال الوحيد الذي تمكنت من الرد عليه! كيف لك أن تعاملها بتلك الطريقة؟)
استدار ينظر اليها و للمرة الأولى ترى ملامحه واضحة منذ الصباح و كانت ملامح غاضبة مظلمة كما توقعت تماما، فتراجعت و هي تقول بصوت أكثر تخاذلا
(عامة هذا بيتك، و نحن ضيوف عندك، يمكنك طردنا وقت تشاء، و تستقبلنا في الوقت الذي تريد)
رد عليها قاصي بصوت قاطع متسلط
(جيد أنك أدركت هذا أخيرا).

ثم اتجه الى الباب، فابتسمت و تلبسها عفريت مجنون و قالت بمكر
(ثم أنني حين أقرر الإعجاب برجل، ألن أجد سوى أكثر رجال عائلة الرافعي دناءة و إجراما و خللا في العقل؟، يمكنني الإعجاب بفريد مثلا، حينها سيكون الأمر أكثر منطقية، فهو طبيب و محترم و خفيف الظل)
لم تستطع نطق الحرف الأخير فقد انحنى قاصي و التقط خفها من على الارض وقذفها به فضرب منتصف وجهها مما جعلها تبتلع المتبقي من كلامها...

وقف مكانه يرمقها بنظرة سوداء، ثم خرج من الغرفة...
بينما ظلت هي مكانها تحك أنفها و هي تنظر الى الباب بذهول هامسة
أيها المعتوه! بعد فترة قصيرة، كانت قد لحقت به ووقفت في باب المطبخ و هي تدس كفيها في جيبي بنطالها القصير...
تنظر اليه وهو يضرب الأدوات و يلقي بعض شرائح الخبز، و يقرقع الملاعق بعشوائية...
فقالت تيماء بهدوء
(لا يزال سؤالي دون رد، هل ستسافر معي أم أبقى أنا معك؟).

توقف قاصي عن الحركة تماما و أمسك بحوض المطبخ بكلتا قبضتيه محنيا رأسه...
و هي واقفة عن بعد تنظر اليه بعينيها المنتظرتين، إنتظارا طال لسنوات و سنوات، انتظار الراحة...
الرجاء في بعض الراحة، فقد تعبت، و تقسم على أن التعب قد نال منها...
ساد صمت قصير بينهما، ثم قال أخيرا بجفاء دون أن يستدير اليها...
(ستسافرين، و أنا سأبقى هنا)
شحبت ملامح تيماء، الا أنها تمالكت نفسها و أخذت نفسا قويا قبل أن تقول بفتور.

(ماذا لو لم أقبل بهذا الحل؟)
رفع رأسه وهو يأخذ نفسا عميقا كنفسها، الا أنه أقوى و أشد، و كأنه ينشد به النجاة...
ثم قال أخيرا بصوت جاف
(ليس لديك مجال اختيار)
ارتفع حاجبيها و برقت عيناها برفض تلقائي و هي تقول بصدمة
(ليس لدي مجال اختيار؟، ظننتك تغيرت، للحظة غبية حمقاء، ظننتك تغيرت بالفعل)
ساد صمت متوتر بينهما، قبل أن يستدير اليها، ووقف مكتفا ذراعيه. مستندا الى الحوض الذي كان يدعمه منذ لحظات...

ينظر اليها بنظرته التي تهلك كيانها، لا تعلم هل هي عاصفة قاتمة، أم جمر من مشاعره تجاهها...
بينما ملامحه بنفس الجمود، ثم قال أخيرا بصوت عميق وهو ينظر الى عينيها
(لقد تغيرت بالفعل يا مهلكة، لكنك لم تري هذا بعد، في المرتين السابقتين، ابتعدت بإرادتك و بقرار منك، أما هذه المرة فالقرار لي، ستسافرين يا تيماء، و لن أسمح لك بخسارة المزيد)
ارتجفت شفتا تيماء قليلا، الا أنها قالت بصوت هادىء، ثابت ظاهريا...

(هل هذا بسبب أنني صرفت نظر عن موضوع الطفل؟، أنت تعلم أنني كنت أعاني من حالة مضطربة بعد فقدان طفلي الاول)
رأت حاجباه ينعقدان بألم، فصرخ قلبها وجعا مع ألمه، الذكرى لا تزال تترك به ندبة لن تزول بسهولة...
لكنه قال بخفوت وهو ينظر اليها...
(أعلم، أعلم، لقد ارتحت لأنك عدت الى، صلابتك و، تعافيت)
سألته تيماء بقسوة.

(و لأنني تعافيت تريد أن تطعنني من جديد؟، لا تفعل يا قاصي، لا تخذلني الآن أرجوك، فعمر التحمل لدي قد تجاوز التسعين)
ابتسم قاصي ابتسامة حزينة قليلا، الا أنه أخفاها بسرعة و قال بوجه الذي لا يدل على شيء
(أنا لا أخذلك يا مهلكة، لو نظرتي الى المرتين اللتين ابتعدتي فيهما عني، لأدركتي أنك كنت أفضل بكل تأكيد، أقوى، أذكى، ربما كان الشوق يؤلمك، لكن الدمار الذي رأيتيه بسببي لا يقارن ببعض الشوق في الإبتعاد).

فغرت تيماء شفتيها و هي تنظر اليه بحاجبين منعقدين، ثم هزت رأسها بعدم تصديق و هي تقول
(ما الذي تريد قوله؟، هل تريد الطلاق؟، هل هذا ما تريده حقا؟)
أطرق قاصي بوجه، ثم قال بصوت خافت...
(الطلاق، كلمة شديدة المرارة، بعد هذا التاريخ الحافل بيننا، لا طلاق يا مهلكة، إنها كلمة لا يعترف بها في قاموسي المكتوب باسمك)
ضحكت بسخرية و هي تقول بحدة.

(لا طلاق، اذن تريد مني السفر و الإبتعاد عنك أربع سنوات أو يزيد، من تخدع يا قاصي؟، أنت لا يمكنك الإبتعاد عني)
رفع عينيه ينظر إلى عينيها ثم ابتسم، و هي ابتسمت كذلك...
ابتسامتيهما كانتا ابتسامة واحدة، ليست مرحا أو دعابة، بل هي تأكيد و خوف...
أومأ قاصي برأسه و قال مبتسما
(نعم، أنا لا يمكنني الإبتعاد عنك، لكن أنت يمكنك، و ستفعلين)
رفعت تيماء كفيها الى السماء و قالت بغضب مجنون.

(يالله، لماذا تفعل بي هذا؟، كلما اتخذت قراري و اقتربت منك، ابتعدت عني كالزئبق، لا حاجة بي للخسارة، يمكنك السفر معي)
نظر قاصي اليها و قال بصوت واه
(كعبء، ما الذي يمكنني فعله هناك؟، قضية التزوير لم تنتهي حتى، و الأوراق الأصلية لم يتم انجازها حتى الآن)
ارتجف صوت تيماء قليلا و سألته هامسة
(لماذا اذن لحقت بي؟، كنت قد اتخذت قرارا بالبقاء معي في الخارج)
رد عليها قاصي قائلا بجفاء.

(كنت هاربا يا تيماء، كنت قد قررت البقاء معك كرجل هارب، حتى المال لم يكن ليحقق لي الإحترام الذي تتمنينه في زوجك، لا عمل، لا مستقبل)
ابتلعت تيماء غصة في حلقها، ثم همست بإختناق
(و الآن؟)
ابتسم قاصي وهو يرد عليها بتعب
(الآن أنا رجل يحبو، بينما أنت ستحلقين، هناك فرق في السرعات سيدي القاضي. ).

ضحكت تيماء بينما تشوشت الرؤية أمام عينيها بدموعها المحتجزة، و من خلال دموعها استطاعت رؤية ضحكته الشبيهة بضحكتها، لكن دموعها شوشت صورته فجعلته كرجل يبكي!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة