قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث

(انتظر، انتظر، لا يمكنك أن تفعل بي هذا ثم تدير إلى ظهرك هكذا بكل بساطة)
أمسكت بملابسه، تشبثت بظهره، أدارته اليها بكل قوتها البدنية، أو ما تبقى منها...
استدار ليث ينظر اليها بصمت، ملامحه رجولية ثابتة الملامح، أما هي فقد كانت في حالة يرثى لها...
وجهها غارق بالدموع، لكنه كما اعتادها، قوية لا تبكي، تبدو كنمرة مفترسة و هي تنظر اليه بقهر غاضب على الرغم من غزارة تلك الدموع...

عاطفية، و عاطفتها جياشة، قوية و ذات جموح سافر، لا تقبل الترويض أو السيطرة عليها...
لا تقبل أن يحط أحدهم من قدرها، لأنها ملكة، ملكة على عرش قلبه، عرش لم و لن يحتله سواها مطلقا...
بكل همجيتها و الشرر الذهبي المنطلق من عينيها العنيفتين، حتى في بكائهما...
و شعرها الأسود الطويل الذي نزعت عنه الوشاح ما أن تبعته الى داخل شقتهما و كأنها على وشك الإختناق و تحتاج الى الهواء فورا...

بات يحفظ كل تفصيلة من تفاصيل غضبها، هجومها، عنفوانها...
بات يحفظ كم مرة ترمش بعينيها و هي في أشد حالاتها غضبا...
ارتسمت شبه ابتسامة على شفتيه اللتين تذوقا الشهد من شفتيها فارتوى، دون أن يجد من قلبها ما يروي ظمأ قلبه، نعم ابتسم، الا أنها ابتسامة لم تصل الى عينيه أبدا...
صرخت سوار بعنف و هي تنشب أظافرها في لحم ذراعيه تهزه بقوة.

(أجبني، لا تظل صامتا بهذا الشكل، أخبرني، أنك كنت تكذب، كنت تعاقبني فقط بأكثر الطرق دناءة و انحطاطا بالكذب علي، الا أنك لم تصل الى الأدنى، وهو أن تكون صادقا و فعلتها، هل خطبتها؟، هل خطبت امرآة ثانية يا ليث؟، بل ثالثة؟).

رفع ليث كفه ليضعها على وجنتها المبللة، يمسح دموعها الغزيرة باصابعه، فلم تكفيها، فانحنى ليلتقط تلك الدموع المالحة بشفتيه مما جعلها تغمض عينيها و هي تقبض على مقدمة قميصه بكلتا قبضتيها...
و دون سابق انذار وجدت نفسها مسلوبة الإرادة تقبله بكامل قوتها و دون مبادرة منه، تلتقط أنفاسه بشفتيها كما كان يلتقط دموعها...

همست بأنفاس حارة متقطعة من بين قبلاتها التي حاولت بها تهدئة نفسها، و بأنه كان فقط يعاقبها، كذبا...
(أنت كنت تكذب يا ليث، أنت لم تخطب هذه الفتاة، اليس كذلك؟، أخبرني أنك لم تفعل)
تخلل شعرها بأصابعه يرفع رأسها اليه، حتى نظرت لعينيه بعينيها المبللتين و أنفاسها المتهدجة ما بين استجداءه و في نفس الوقت الغضب منه...

رفع ليث عينيه ينظر إلى عينيها بصمت، عيناه كانتا تنطقان بألم رجولي جعلها تتسمر مكانها، على الرغم من جمود ملامحه، ثم انحنى قليلا ليقبل جبهتها وهو يهمس لها
(لست أنا من فعلت، بل أنت، و أنا فقط أنفذ أوامر ملكة عرش قلبي)
هزت سوار رأسها نفيا بقوة و هي تنظر اليه بعينيها الحمراوين المتورمتين و هتفت بجنون.

(لا، لا، هذا مجرد هراء، أنت تحبني أنا، لقد أخبرتني هذا ملايين المرات، أخبرتني أنني الوحيدة التي تمتلك قلبك)
أومأ لها وهو يقول بصوت خافت صادق
(و لن تملكه غيرك، لكن بنات الناس لسن لعبة بين أيدينا، يمكنني الزواج بها، و يمكنني تقديرها و احترامها، طالما أننا ارتبطنا معها بكلمة، )
فغرت سوار فمها بنفس لاهب متعب، ثم هزت رأسها و هي تقول
(لست أنت من ارتبط معها بكلمة، أنا من فعلت).

هز ليث رأسه وهو يقول بنبرة اقرار واقع
(أنا و أنت شخص واحد، كلمتك هي كلمتي، و قرارك هو قراري، لقد أردت لي الزواج و سأفعل، أردت لي طفلا من غيرك، أيضا سأحاول)
برقت عينا سوار بجنون و هي تبتعد عنه خطوتين لتصرخ فجأة بغضب
(أنت تهذي، أنت تهذي)
قال ليث بهدوء ثابت
(إن كان ما حدث هذيان، فهو هذيانك أنت و انا التزمت به، عليك احترام قرارك يا سوار، هذا هو ما عشت عليه انا لسنوات طويلة).

ابتعد عنها وهو ينوي التوجه الى غرفته، الا أنها صرخت به بقوة
(لا يمكنك أن تفعل بي هذا، لقد تعبت، أنا تعبت يا ليث، كف عن قهري، كف عن فعل هذا بي، أنا، تعبت)
توقف مكانه للحظات، ثم استدار اليها، بملامح حزينة، ثم قال بخفوت
(والله تعبت أكثر من تعبك، و فعلت لأجلك ما لم أفعله لمخلوق سواك، الا أنني في النهاية أيقنت بأنني لم أفهمك يوما)
كانت تنتفض داخليا بكل عنف، الا أنها صرخت به بقوة.

(اذن طلقني، طلقني يا ليث إن أردت الزواج بأخرى)
لم تتغير ملامح ليث وهو يتقبل طلبها بمنتهى الهدوء، ثم قال أخيرا ببساطة.

(الزواج بي قرارك أيضا، عليك الإلتزام به الى نهاية العمر، لن أطلقك يا سوار، و سأتزوج من خطبتها لي، لا تدعي بأن قلبك مجروح، فأنت لم تحبيني أبدا، ربما انجذبت الى، و ربما كنت ممتنة لشيء فعلته لأجلك، الا أنني لست رجلا أحمق كي أتوهم حبك لي، اطمئني يا سوار، ستكون الأمور بخير، مجرد بخير، كما أردتها تماما)
ظلت مكانها تنظر اليه بعينيها الحمراوين و قد توقفت الدموع تماما، بينما مد اليها ذراعه و سألها بلطف.

(أتود مليكتي مشاركتي فراشي الليلة؟)
لم ترد، بل ظلت مكانها، تتنفس بسرعة و تهور، بينما الألم بداخلها عنيف، عنيف...
الى أن قالت في النهاية بصوت باهت مرتجف
(إن عقدت قرانك على أخرى، لن تمسني الا و انا جثة هامدة يا ليث)
اخفض ذراعه الممتدة، ثم ابتسم دون مرح وهو يقول
(اذن ليس الليلة، لكن تعلمين بأنني لا أقبل بهذه التهديدات، ظننتك تعرفينني أكثر من هذا).

كانت كلماته الهادئة ما هي الا صفعات موجعة، حتى أنها ظنت بأنه قد تحول الى رجل آخر...
فسألته بصوتها المرير القاسي
(كيف لك أن تدعي حبي و على الرغم من ذلك تستطيع الزواج من أخرى بهذه البساطة؟)
ارتفع حاجبي ليث وهو يستدير اليها بكامل جسده، ثم قال بدهشة
(من قال أن الأمر بسيط؟، عشر سنوات و أنا أعاني، أعاني من عدم قدرتي على نسيانك، على قتل حبك، و على عدم قدرتي على حب زوجتي، الأمر مؤلم يا سوار، مؤلم جدا...

لكن ما لا تعرفينه عن الرجال، هو أنهم يستطيعون الزواج مرة و اثنتين و ثلاث، و أنا أستطيع هذا على الرغم من حبي لك)
قالت سوار و هي تشعر بروحها تموت أمامه ببطىء بينما هو ثابت الأعصاب، لا يهتز أو ينفعل
(لكنني ندمت، غيرت رأيي، ظننتك تريد اذلالي، لهذا فعلت ما فعلته، أردت لك طفل من أي امرأة سوى ميسرة)
قاطعها ليث قائلا بصوت صارم
(و سواك)
شحب وجهها تماما فأطرقت به و هي غير قادرة على الإنكار، فسألها بجدية.

(الم يتبادر الى ذهنك مطلقا أنني بالفعل اشتاق الى طفل تمنعيه عني بكامل ارادتك؟، و أن رغبتي به تعتبر سببا أكثر من كاف كي أتزوج من أخرى دون أن أفرض عليك طفلا مني لا تريدينه؟)
ابتلعت الغصة في حلقها و هي تتجنب النظر الى عينيه، فقال بخفوت
(أنانية أنت يا مليحة، أنانية جدا)
ثم استدار ليبتعد عنها بينما سقطت سوار جالسة على أقرب كرسي، تنظر الى بيتها بنظرات فارغة...

و يدها على عنقها المذبوح كطائر يتلوى في آخر لحظاته...
فهمست بصوت غير مسموع
سأموت، سأموت إن تزوجت من أخرى، سأموت كل ليلة و أنا أتخيلك معها، ليس الآن، ليس الآن بعد أن أحببتك، ليس الآن، كنت غبية فسامحني أرجوك،
رفعت كفيها تظلل بهما جبهتها و هي تسأل نفسها لماذا لم تنطق بهذه الكلمات أمامه، لربما استعطفت قلبه بحبها...

لكنها لم تستطع التذلل بمشاعرها الى هذا الحد، لربما ظنها تدعي حبه، كي تمنعه عن الزواج فقط...
و لن تلومه إن فعل...
أرجعت سوار ظهرها الى المقعد الوثير و يتنظر الى البعيد بعينين خاويتين، تتسائل عن حبه، عشقه...
و يبدو أن أسئلتها طالت
و طالت...
و مرت الساعات التي لم تشعر بها...
الى أن خرج من غرفته و هي على نفس جلستها...
توقف ليث مكانه فجرا وهو ينظر اليها بدهشة، ثم سألها بخفوت
(الا زلت جالسة منذ ليلة أمس؟).

رفعت سوار وجهها الشاحب، تنظر اليه بعينيها العميقتين الحمراوين دون رد، فذابت عيناه لها، ثم قال برفق
(تعالي لنصلي صلاة الفجر معا، ستكونين أفضل حالا بعدها)
لم تتحرك سوار الى الكف التي مدها لها، فقال برقة
(لن ترفضي الصلاة معي كذلك يا سوار!)
نظرت الى عينيه، ثم همست ببطىء مجهد، مؤثر على النفس...
(أنا غير قادرة على تحريك ساقي).

أظلمت عيناه بشدة، الا أنه تحرك اليها بسرعة، ثم رفعها اليه بحرص حتى أسندها وهو يهمس لها
(تعالي، سأساعدك، سأفعل لك كل شيء بنفسي يا حبيبة قلبي و سيدته)
استندت اليه و هي على وشك السقوط فأمسك بها بقوة الى صدره، الا أنها هتفت بعجز
(لا تقل هذا الكلام، كفاك كلاما عن عشقك لي، أنت تقتلني)
ضمها اليه بحنان وهو يهمس في أذنها
(لن أتوقف عنه طالما في صدري نفس يتردد).

أغمضت عينيها بألم، بينما تحرك به وهو يساعدها كي تبدل ملابسها و تتوضأ...
و بعد أن انتهيا من الصلاة، كانت سوار لا تزال خلفه، تنظر الى ظهره، ثم همست بصوت شديد الخفوت
(لقد آلمتك جدا، اليس كذلك؟)
لم يرد عليها ليث على الفور، بل ظل مكانه ساكنا، ثم قال أخيرا دون أن يلتفت اليها
(نعم يا مليحة، آلمتيني جدا).

أطرقت بوجهها بصمت و هي تشعر بألم يتزايد بداخلها و يتشعب، لا يتوقف منذ ليلة أمس، حتى ظنت أنها الليلة الأخيرة لها على قيد الحياة...
لقد فكرت و هي تجلس في كرسيها طوال تلك الليلة المؤلمة، ماذا إن ماتت قبل أن تعترف له؟
لقد ظنت بالفعل بأنها ستموت من شدة الألم في صدرها، ولولا عجز قدميها لقامت اليه...
لذا الآن و هي تنظر الى ظهره، و قد منحتها الحياة فرصة يوم جديد، فقد قررت انتهازها...
فهمست و هي مطرقة الرأس.

(سامحني أرجوك)
تسمر ليث مكانه قليلا، الا أنه لم يلتفت اليها، بل ظل مكانه يستمع اليها، فتابعت بخفوت
(كان عاما موجعا جدا، تخبطت فيه بين حزني على موت أقرب الناس الى قلبي، و بين حبي لآخر بسرعة الصاروخ)
رفع ليث رأسه وهو ينظر جانبا بجسد متشنج، الا أنها قالت بسرعة
(أرجوك لا تستدير الي، أريد الكلام بحرية دون مواجهة عينيك)
و بالفعل بقى ليث مكانه صامتا، يوليها ظهره و كل اهتمامه، فقالت بعد أن أخذت نفسا عميقا.

(الأمر، أقصد، حبك لم يظهر في سرعة الصاروخ كما قلت للتو، بل في الواقع هو كان بداخلي منذ سنوات طويلة، و عاد للظهور فجأة)
ساد صمت غريب بينهما، ثم قالت متابعة و هي تنظر الى شعره و ظهره
(أنا، أحبك يا ليث، أحبك كما لم أحب أحدا من قبل)
أوشك على أن يستدير اليها الا أنها سارعت بالقول مجددا
(أرجوك، لا تنظر إلى الآن، و لا تتخيل أنني أدعي حبك كي أمنعك من الزواج، أنا أدين اليك بالإعتراف، أنا حبك من كل قلبي).

صمتت للحظات بينما انسابت الدموع على وجنتيها بصمت، ثم همست...
(أنا سأنهض الآن، و أذهب الى غرفتي و لي رجاء خاص، أريد البقاء بمفردي الى أن تخرج لعملك، لن أستطيع مواجهتك و أنت ذاهب اليها، هذا فوق قدرتي على التحمل)
أطرق ليث برأسه، ثم قال بخفوت و بصوت أجش متحشرج
(اذهبي الى غرفتك يا مليحة، فأنا خارج الآن، و سيكون لنا حوار لاحق، بأسرع مما تتخيلين).

لم تستطع سؤاله عن سبب خروجه في مثل هذا الوقت المبكر، يكفيها أنه قد سمع اعترافها، لذا نهضت بسرعة تتعثر في اسدال الصلاة، لتهرب خلال لحظات الى غرفتها، بينما بقى ليث على سجادة الصلاة، و على وجهه قد ارتسم الرضا باجمل ابتساماته...
أما سوار فقد استلقت في سريرها مبتسمة على الرغم من الدموع المنهمرة من عينيها الواسعتين المحدقتين في السقف...
ترى هل الإعتراف بالحب هو السبب في تلك الإبتسامة على شفتيها؟

أنه بات يعرف أخيرا!
لكن و ماذا بعد؟، كيف ستتحمل زواجه من أخرى؟
ستموت إن حدث هذا و لكنها ستموت و هي راضية عن اعترافها له بعد كل هذه السنوات...
ستموت و هي حبيبة ليث الوحيدة، وهو حبيبها، سيدها، مالك قلبها...
أفاقت سوار فجأة من أفكارها على صوت باب الشقة يغلق مع شروق الشمس، فعقدت حاجبيها و تسائلت مجددا
الى أين سيذهب في مثل هذا الوقت؟

استيقظت سوار بتعب على صوت رنين هاتفها، فرمشت بعينيها بضعة مرات، قبل أن تستفيق تماما، ثم رفعت الهاتف الى أذنها و هي تجيب بصوت ناعس مجهد، فوصلها صوت قاصي يقول
(سيدة سوار، هل أنت نائمة؟، سيدة سوار)
اخترق صوته ذهنها بشدة، فاستفاقت على الفور و نهضت بصعوبة لتبعد شعرها الكثيف عن وجهها قائلة بسرعة، بينما أعصابها تتحفز فجأة بشكل سريع عنيف
(نعم، نعم لقد استيقظت يا قاصي)
رد عليها قاصي بجدية.

(هل ليث موجود معك في البيت؟)
نظرت سوار حولها، ثم نظرت الى الساعة، و قالت بلهفة
(بل هو في عمله الآن)
أجابها بصوت حذر
(جيد، هل تودين رؤية فواز الهلالي اليوم؟)
قفزت سوار واقفة و هي تقول مترنحة بينما نبضات قلبها تخفق بعنف
(نعم، نعم أود ذلك، متى يا قاصي، متى أمرت سأكون جاهزة)
رد عليها قاصي آمرا
(الآن، قبل عودة ليث، لكن لا تنسي شروطي، سأحضر تيماء معي كي تفتشك)
هتفت سوار بحرارة.

(أقسم بالله يا قاصي لن أحضر معي سلاح، أقسم بالله، لست في حاجة لتفتيشي)
تظاهر قاصي بالتفكير، ثم قال أخيرا باستسلام
(حسنا سيدة سوار سأثق بك، أريدك جاهزة خلال نصف ساعة، و سأمر عليك بسيارة تحت بنايتكم)
أومأت سوار برأسها و هي تظنه رآها في الهاتف، فقد كانت في عالم آخر...
وضعت هاتفها جانبا و همست بإختناق.

(اليوم، اليوم سأرى قاتلك يا سليم، اليوم سأقوم بتسليمه للعدالة بنفسي، لكن ليس قبل أن أسمعه، ترى هل سيتحمل قلبي؟).

جلست سوار في السيارة مستندة برأسها الى زجاج النافذة، تنظر الى الطريق الطويل الذي يقودها قاصي خلاله...
لم تتخيل أن اليوم الذي تشرق فيه الشمس على اعترافها لليث بحبها له، هو نفس اليوم الذي سترى فيه قاتل سليم...
و كأن القدر مصر على ربط سليم و ليث في نفسها برباط واحد...
حبيبها سليم، ذو الروح البيضاء الطاهرة الذي كان و كأنه وجد كي يرعاها لحين أن يسلمها لليث بأمان...

لقد أوصاه عليها دون غيره، و كأن روحه النقية الشفافة كانت ترى و تستشعر...
رفعت سوار رأسها تنظر الى الطريق ثم سألت قاصي بحيرة
(ألن تخبرني عن مكانه بعد يا قاصي؟)
رد قاصي بهدوء وهو يركز انتباهه على القيادة
(اقتربنا سيدة سوار)
لكن ما أن أوقف السيارة أخيرا، حتى رفعت سوار عينيها تنظر الى البناية التي وقفا أمامها...

كانت هيئة المباحث، فنظرت الى قاصي مجددا بوجه شاحب تماما، بينما هو استدار اليها، مستندا بذراعه الى ظهر مقعده. ثم قال بخفوت و دون مقدمات
(تم القبض عليه)
ظلت سوار صامتة للحظات طويلة و هي تشعر بدوار عنيف، ثم سألته بصوت ميت
(و لماذا لم تخبرني؟)
تكلم قاصي بصوت متجهم بطيء كي تستوعب.

(أعرف أنك تودين الثأر لسليم رحمه الله، و فكرة تسليم فواز، هي صدمة لك، لكننا تدبرنا لك أمر الزيارة لأن هناك كلام عليك سماعه بنفسك)
نظرت سوار الى البناية مجددا، بينما قال قاصي متابعا بهدوء
(بالمناسبة، فواز هو من سلم نفسه)
نظرت اليه سوار بدهشة فأومأ برأسه، ثم قال بحزم
(خذي نفسا عميقا و عديني ألا تتهوري أو تغضبي الا بعد أن تسمعي منه).

جلست سوار على الكرسي المواجه لمكتب رئيس المباحث، بينما قاصي يجلس في مواجهتها...
تفرك أصابعها بقلق و هي تنظر اليه بين الحين و الآخر منتظرة، الى أن فتح الباب أخيرا و دخل منه رجل، مرهق الملامح هزيل الجسد، زائغ العينين...
نهضت سوار على الفور من مكانها و تراجعت لتقف بجوار قاصي الذي نهض بدوره...
وقف فواز مكانه وهو ينظر اليها بملامح متعبة جدا، و عينين مثقلتين بالذنب و الإدانة...

تقدمت سوار خطوة و هي تنظر اليه بنظرات غل و حقد أعمى، ثم قالت بصوت مترفع
(أتعرف من أكون؟)
أومأ فواز برأسه و قال بصوت متهدج
(السيدة سوار الرافعي، زوجة سليم الرافعي رحمه الله)
فتحت سوار شفتيها اليابستين و همست بصوت يحترق
(تقتله، ثم تترحم عليه؟)
لم يستطع فواز النطق، الا أن سوار لم تنتظره، فقد كان لديها سؤال مؤجل منذ أكثر من عام كامل...
نطقت به على الفور بنبرة حاقدة، تشدد على كل حرف.

(لماذا؟، سؤال يحرق قلبي منذ أكثر من عام، لماذا؟، لماذا سليم؟ و كيف بينما الثأر لنا نحن؟)
أطرق فواز برأسه و تاهت عيناه أكثر، فهتفت به سوار بقلب يحترق أكثر
(لماذا، فقط أجبني، لماذا؟؟)
قال لها قاصي بخفوت
(اهدئي قليلا سيدة سوار)
لكن فواز هو من رفع رأسه و قال بنبرة متحسرة.

(لم يكن لهذا أن يحدث، أقسم بالله. ، حتى الآن و بعد مرور اكثر من عام، لا أزال غير مصدقا أنني قتلت سليم الرافعي بنفسه، سليم الرافعي الذي يتحاكى الكبير قبل الصغير على حبهم له، كان زين الشباب و حبيب البلد بأكملها)
كانت سوار تستمع اليه بروح تنزف دما حاقد في كل كرة حمراء منه، بينما تابع فواز يقول بخفوت.

(لم أكن بفي وعيي تلك الليلة، بعد يوم طويل من معرفتي بخبر موت والدي في السجن بعد خمس و عشرين عام كاملة، أنتظره، ليموت قبل خروجه مباشرة)
صمت قليلا ثم همس بصوت أجش...
(ليلتها أخذت سلاحي و نويت الهجوم على حظائر عائلة الرافعي، أردت قتل بهائهم و خيولهم، و ربما حرق كل ما يخصهم)
همست سوار بصوت فاتر ميت
(و لماذا طالما الثأر كان لنا؟)
ضحك فواز وهو يقول بسخرية حزينة.

(أتعرفين أن والدي سلم نفسه لقتله واحدا من عائلة الرافعي قتل بدوره أربعة من عائلة الهلالي دفعة واحدة؟، لقد خرج لهم و قطع طريق سفرهم في سيارة أجرة تضم رجلين و ولديهما ففتح النار عليهم و قتلهم جميعا، و كان والدي هو من قتله أخذا بالثأر، و كان من المفترض أن يكون لدينا ثأر من ثلاث غيره، لكن تمت المصالحة بزواج وهدة الهلالي و غانم الرافعي، بينما بقى والدي في السجن ربع قرن، أنا نحن! لقد ذقنا المرار و الجوع في غيابه، لقد نستنا العائلة على الرغم مما قدمه والدي لهم، و بتنا نمد ايدينا و نتسول).

صمت وهو يطرق برأسه متنهدا، بينما سألته سوار دون تعاطف
(اخبرني عن تلك الليلة)
نظر اليها فواز بحزن و قال
(والدي كان بطلا، رأيته بطلا، قتله بطلقة واحدة من قتل أربعة من عائلتنا، لكن عمره ضاع خلف القضبان، و ضعنا من بعده، و في النهاية مات في السجن قبل أن يقضي ليلة واحدة على فراشه...
لذا أردت احراق قلب عائلة الرافعي بشيء يفجعهم، لكنني لم أتخيل أن يعترض سليم طريقي...

كنت أسير على الدرب الى دار الرافعية و أنا لا أرى أمامي، فظهر لي سليم رحمه الله فجأة...
لقد استشعر من منظري أنني أنوي الشر خاصة أنه علم صباحا بوفاة والدي و قدم التعزية...
حاول منعي و ايقافي، الا أنني رفضت و تشاجرنا بشدة)
صمت فواز وهو يشعر بالإختناق من مجرد الذكرى، الا أنه تابع بأسى.

(لقد، نعته بأقذع الألفاظ و قد تلبسني شيطان من الغضب. أعمى بصيرتي، بينما هو الذي لم نرى منه الا الخير و لم نسمع من لسانه الا طيب الكلام)
صمت قليلا وهو يفتح كفيه غير مستوعبا، ثم تابع...
(فجأة سمعت صوت طلقة من سلاحي، ووجدت سليم يسقط أرضا أمامي غارقا بدمائه)
رفعت سوار يدها الى فمها بينما أطبقت جفنيها و هي تبكي بشدة، دون صوت، بكاء مكتوم أوشك على أن يفتك بها...
أما فواز فقال بصوت متهدج يرتعش.

(حين رأيته ملقى أرضا تحت أقدامي، و دمائه تغطي ثوبه الأبيض الطاهر، أفقت على نفسي، زال الغضب و هرب شيطان الإنتقام، و تبقى الهلع مما فعلت، لقد قتلت سليم الرافعي، أنقى و أشرف الرجال)
تعالى صوت شهقات بكاء سوار، غير قادرة على فتح عينيها، بينما قال فواز وهو ينتفض كالمحموم.

(مر العام و أنا هارب، هارب من القانون و البلد، غير قادر على رؤية زوجتي و اولادي، لكن مهما هربت، لم أستطع الهرب من صورة سليم وهو غارقا في دمائه، يدي لم تتطهر منذ تلك الليلة، و كأن دم سليم لا يزول عنها مطلقا)
فتحت سوار عينيها تنظر اليه بصمت، ثم سألته أخيرا بصوت واه مذبوح
(و لماذا قمت بتسليم نفسك؟)
رد فواز بصوت مختنق.

(وصلتني رسالتين عبر زوجتي، إحداهما منك، وهي أنك على استعداد لنسيان الثأر إن قمت بتسليم نفسي، و الأخرى من السيد ليث، فقد تعهد بأن يتولى أسرتي بالكامل، و يتكفل بها إن قمت بتسليم نفسي أيضا، فهو لا يضمن أن تتغاضي عن ثأرك، لذا حين فكرت مليا، خفت أن يعرف أولادي الجوع الذي عرفته بسبب سجن والدي)
لعقت سوار شفتها و هي تنظر اليه بعينيها المحتقنتين الحمراوين، ثم قالت بصوت ميت.

(لقد ضمنت مستقبل أولادك، فهنيئا لك، بينما خسرت أنا سليم للأبد)
أطبقت جفنيها بشدة، و هي ترتجف ثم قالت مخاطبة قاصي بإختناق
(قاصي، أريد الخروج من هنا أرجوك)
لكن و قبل أن تخرج من باب المكتب، ناداها فواز بتوسل
(سيدة سوار، سامحيني أرجوك)
وقفت سوار مكانها قليلا تنظر اليه ثم همست بصوت مختنق
(منك لله، فليسامحك برحمته و مغفرته، أما أنا فسأظل حاقدة عليك المتبقي من عمري).

أطرق فواز برأسه و دون أن يستطيع منع نفسه، بكى بدموع الرجال، و كم هي مريرة دموع الرجال.

خرجت سوار برفقة قاصي في صمت تام، لكن شيئا ما جعلها ترفع رأسها و تنظر أمامها...
فتسمرت مكانها و فغرت شفتيها و هي تهمس
(ليث!)
كان ليث يقف في انتظارها بنهاية الرواق، ناظرا اليها بقلق و حنان غامر بينما وجدت ساقيها تتحركان اليه ببطىء، ثم أسرع و أسرع، الى أن جرت اليه حتى ألقت بنفسها على صدره و هي تبكي بعنف...
ضمها ليث الى صدره بقوة وهو يغمض عينيه مرتاحا، أما هي فهتفت بإختناق
(لماذا لم تخبرني بأنك تعرف).

رد ليث عليها بخفوت وهو يربت على ظهرها بحنان
(أعرف أنك تنظرين الى بسوء كلما حاولت التدخل في هذا الأمر تحديدا، خاصة تسليم فواز لنفسه بينما أنت تريدين الثأر لسليم رحمه الله، فلو كنت أتيت بك الى هنا بنفسي لظننتيني متآمرا عليك كي أحرمك من ثأرك)
رفعت سوار وجهها المتورم لتمسح دموعها بظاهر يدها، ثم همست بصوت مجهد و هي تنظر الى عينيه الحبيبتين الغاليتين.

(لكن ما لم تعرفه، هو أنني تخليت عن فكرة الدم منذ أن أحببتك)
نظر اليها ليث مصدوما بينا توترت عضلات جسده بشدة وهو ينظر اليها مشدوها، ثم عاد ليضمها اليه بكل قوته، غير قادرا على النطق بكلمة واحدة...
أما سوار فقد ابتسمت بخجل و هي تقول
(ليث، أظن أنه يتعين علينا الخروج من هنا، قبل أن يتم القبض علينا ونحن على هذا الوضع)
أحاط ليث وجهها بكفيه وهو ينظر الى عينيها العسليتين، ثم همس بصوت أجش.

(سيوصلك قاصي الى البيت، بينما أذهب أنا الى العمل لأني بعض الأشغال ثم أتفرغ اليك. فلدينا حوار لم ينتهي منذ الفجر)
وجدت سوار نفسها تهتف فجأة بقوة
(أريد الذهاب معك، أرجوك، أرجوك، أرجوك)
ضحك ليث وهو يقول بخشونة
(لا بأس، على شرط الا تخطبين لي السيدة تحية المرة المقبلة).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة