قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والخمسون

كانت جويرية قد استعدت و لملمت أغراضها للذهاب الى الإختبار، فخرجت من غرفتها و هي تنادي بسرعة
(أنا خارجة يا أمي، لا تنسيني بدعواتك)
الا أن أمها هتفت من المطبخ
(لن تخرجي بدون فطور)
ضحكت جويرية و هي تقول
(لا وقت لدي يا أمي، اراك مساءا)
لكن و قبل أن تفتح الباب، وجدته يفتح و يدخل والدها مرهق الملامح، فأسرعت اليه جويرية تقبل كفه و هي تقول بقلق
(حمدا لله على سلامتك يا أبي، كانت سفرة مرهقة لك).

ربت والدها على وجنتها قائلا بتنهد
(آه يا جويرية، ساعات و ساعات من الشجار و الكلام و الإنفعال، ثم ساعات طويلة من السفر، أنا فعلا منهك تماما)
جذبت جويرية كفه و هي تقول بحنان
(تعال اجلس لتستريح قليلا)
تبعها والدها الى أن ارتاح على أقرب كرسي فخرجت زوجته من المطبخ تقول هاتفة
(حمدا لله على سلامتك يا حاج، لم أنم لحظة واحدة في انتظارك)
جلست بجواره بينما جثت جويرية على ركبتيها أمامه قائلة بصوت حزين.

(أنا آسفة يا أبي أنني كنت السبب في كل هذا الإرهاق الجسدي و العصبي لك)
ربت والدها على شعرها قائلا
(إن كان الموضوع يخص مستقبلك و حياتك يا جويرية، فما الذي يستحق أن أتعب لأجله غير ذلك؟)
تنهدت جويرية و هي تميل لتقبل ركبته ثم قالت بهدوء
(عامة الحمد لله أن كل هذا قد حدث، فها نحن قد تخلصنا من الخطبة الثقيلة على قلوبنا، و خطب ابن الرافعية نورهان ابنة عمي، فلا خوف من عودة الخصومة، و الكل راض و الحمد لله).

نقل والدها عينيه بينها و بين زوجته ثم قال ببساطة
(لكن عرابي لم يخطب نورهان)
نظرت كلا من جويرية و أمها الى بعضيهما بصدمة، فكانت أمها هي من تكلمت قائلة بدهشة
(لم يخطبها! كيف كان هذا؟)
قال الوالد بهدوء و جويرية تستمع الى كل كلمة بإهتمام بالغ
(عرضنا الأمر على كبار عائلة الهلالي، فما كان منهم الا أن اتصلوا بعرابي نظرا الى عدم قدرته على الحركة و السفر، لكنه رفض تماما، حتى أنه رفض رؤية صورة الفتاة على الأقل).

فغرت جويرية فمها و هي تنهض على قدميها ببطىء، بينما سألت أمها بحيرة
(علام اتفقتم اذن!)
نظر والد جويرية الى أمها و قال بهدوء ناظرا اليها بطريقة ذات مغزى
(كل ما يهمنا هو أن عرابي قد تخلى عن فرض الزواج على جويرية، و ابلغ الجميع أنه لن يجبرها على الإلتزام بموافقتها السابقة)
رفعت جويرية حاجبيها و هي تميل برأسها غير مصدقة، بينما سارع والدها يقول لزوجته.

(هيا يا أم جويرية، حضري لي لقمة من يديك الحلوتين، أكاد أن أموت من التعب و أريد النوم سريعا)
ثم نظر الى جويرية و قال بهدوء
(هيا يا ابنتي، اذهبي الى اختبارك وفقك الله و لا تشغلي بالك بأي شيء آخر)
خرجت جويرية من بيتها شاردة تماما تفكر فيما سمعته من والدها، غير قادرة على تفسيره، و بينما هي تستعد لتتحرك بسيارتها، سمعت صوت وصول رسالة على هاتفها، فرفعته تفتح الرسالة لتقرأها بسرعة.

وفقك الله في اختبارك، أتمنى أن يكون وجهي فأل خير عليك، عكس فأل وجهك علي، زمت جويرية شفتيها و ألقت الهاتف بعيدا و هي تهمس بغضب
حمار صحيح، لكنها حين نظرت الى المرآة أثناء خروجها بالسيارة، وجدت ابتسامة على شفتيها لم تحسب لها حسابا...

حين خرجت من كليتها منتهية من اختبارها سعيدة و راضية، كانت المرة الثانية التي يتصل فيها بها...
و على الرغم من أنها كانت قد لاحظت رقمه و ميزته جيدا، الا أنها ردت قائلة بعفوية كاذبة
(نعم، من معي؟)
سمعت ضحكته الخافتة ثم سألها بنبرة مستفزة خافتة
(ألم تسجلي رقمي بعد؟)
عقدت جويرية حاجبيها و هتفت فيه بحدة
(أنت مجددا؟، ألم آمرك الا تتصل بي ثانية؟، صدقني سأفضحك بين عائلتك)
رد عليها عرابي بسؤال مباشر.

(لماذا أجبت اتصالي بما إنك ترفضينه اذن؟)
قالت كاذبة بعصبية
(هل تتخيل أنني قد أميز رقمك؟، لقد أجبت دون أن أعلم أنه أنت)
رد عليها عرابي بطريقة مهينة
(آآآآآه)
اتجهت جويرية الى سيارتها و الهاتف على اذنها هاتفة بإنفعال
(اسمع يا هذا، كف عن ملاحقتي و احترم أننا من بلد واحدة على الأقل، الا نخوة لديك!)
أجابها عرابي متنهدا بحزن درامي.

(ملاحقتك؟، و هل عاد للعبد لله أي قدرة على الملاحقة؟، أين أيام الملاحقة الجميلة، حين كنت أتحرك على ساقين)
شعرت بتعاطف غريب تجاهه على الرغم من سخافة كلامه فقالت بنفاذ صبر و هي تفتح باب سيارتها
(كف عن لعب دور الصوص المصاب، حادث عابر و سيمر أثره أسرع مما تتخيل، عسى أن يكون سببا في توبتك عن ملاحقة بنات الناس)
قال عرابي ببراءة
(أنا لاحقتك بناءا على طلبك)
هتفت جويرية تسأله بذهول
(طلبي أنا يا كاذب يا دنيء؟).

أجابها عرابي قائلا ببساطة
(بالطبع، ماذا تتوقعين من الذكر بداخلي حين يسمع عروسه تتهمه بعجزه عن رؤيتها و البحث عنها حتى يجدها)
قالت جويرية بإمتعاض
(بما أننا في موسم التزاوج فكلامك ملائم جدا)
سألها عرابي ضاحكا
(كيف كان ادائك في اختبارك؟، أرجو الا أكون قد شغلت تفكيرك خلاله)
قالت جويرية و هي ترجع رأسها للخلف متنهدة بتعب
(أنت مصاب بخلل في عقلك، أتدرك ذلك؟)
لكنها رفعت رأسها و سألته بشك.

(كيف عرفت أن عندي اختبار أصلا؟، هل تراقبني؟)
عاد عرابي الى الإسلوب الدرامي المسرحي وهو يقول بطفولة
(أراقبك؟، و هل عاد لي جهد على مراقبتك و أنا ملقى على الفراش مجبر، مسكين القلب، عليل الروح و الجسد)
ابتسمت جويرية على الرغم منها، الا أنها عادت و زمت شفتيها و سألته ببرود قبل أن تفقد فضول يقتلها منذ الصباح
(بالمناسبة، عرفت أنك رفضت خطبة نورهان ابنة عمي، ما كان الداعي لهذه المسرحية الرخيصة التي قمت بها؟).

أجابها عرابي مبتسما بجذل
(ربما، أردت اثارة غيرتك)
شعرت جويرية بإحساس يدغدغ أنوثتها بلطف، الا أنها عبست و هتفت بذهول
(غيرتي! لا أنت مختل مفعلا، يا أخ أنا لم أراك سوى ثلاث مرات فقط لا غير، هل تظنها كافية كي أرتبط بك عاطفيا و أغار عليك؟)
أجابها عرابي بجدية
(و تكلمنا في الهاتف مرتين، مع رسالة نصية هذا الصباح، أعتقد أننا خلقنا معا ذكريات كافية و أسسنا بنية تحتية مناسبة جدا لإنشاء علاقة سليمة).

تنهدت جويرية و هي تقول ضاغطة أعلى أنفها بين عينيها
(عرابي، عرابي، حتى الإسم يصيبني بتشنج في أمعائي)
رد عرابي مبتسما بسعادة
(أعرف هذا الشعور، يسمى فراشات الحب، تمنحك احساس بالدغدغة في معدتك)
همست جويرية بيأس دون أن تفتح عينيها
(عسى أن تحل معدتك في طريق مزدحم لا تجد به ما تختبىء خلفه)
ضحك عرابي بصوت جذاب، ثم سألها بسعادة
(بما أنني عدت رجلا أعزبا من جديد، هل يمكنك الآن أن تقبلي صداقتي؟).

صرخت فيه جويرية بعنف و جنون و نفاذ صبر
(لااااااا).

لكن الإتصالات لم تنتهي...
لم يرضخ عرابي لأمرها بالتوقف، و هي لم تستطع هي نفسها أن تمنع نفسها من الرد عليه...
ثلاث اتصالات اضافية...
كلها شجار و استفزاز، و بضعة ابتسامات، ثم تغلق الخط بعد أن تصرخ فيه الا يتصل بها مجددا...
آخر اتصال كان في بيتها بعد العاشرة مساءا، و كان والدها قد نام لتعوده على النوم باكرا...

و كانت هي مستلقية في فراشها ممسكة بأحد كتبها تدرس بإهتمام منعزلة عن العالم تماما كعادتها...
و مع رنين هاتفها و معرفتها للرقم الذي باتت تحفظه جليا، وجدت نفسها تريد الرد و كأنها كانت محتاجة الى هذا الإتصال و في هذا الوقت تحديدا، و كأنه أصبح فرصتها كي تستريح من الدراسة قليلا
فردت بخفوت
(نعم، خير، ماذا تريد)
فرد عليها عرابي قائلا
(الا يوجد أمل في أن تردي مرة بلطف؟).

تركت كتابها جانبا و أمسكت بخصلة من شعرها تلفها حول اصبعها ببطىء، ثم قالت بفتور
(لماذا أكون لطيفة مع شخص غير مقبول في حياتي من الأساس؟)
أجابها عرابي مبتسما
(و لماذا تردين عليه من الأساس، طالما أنه غير مقبول في حياتك؟)
عضت جويرية على شفتها لحظة، ثم لم تلبث أن قالت بهدوء
(لا أنكر أنني أشعر بالفضول تجاهك، شخصيتك غريبة و تثير حيرتي، و عقلي يتعبني حين أترك معضلة ما دون حلها)
سألها عرابي بإهتمام.

(لما لا تشاركيني بتلك المعضلة؟، ربما ساعدتك في حلها)
استلقت جويرية على جانبها ثم قالت بخفوت
(ما هو عقلك؟، ما هي طريقة تفكيرك بالضبط؟، مستعد للزواج بمن تختارها أمك بل و تكون سعيدا بها، و أقرب الى الوقوع في حبها، كما أنك موافق و تبصم بالعشر على الزواج لغرض الصلح في قضية أنت لست طرفا فيها، دون حتى أن ترى عروسك، كيف لشاب في مثل عجرفتك أن يكون راضيا بالتقاليد الى تلك الدرجة؟).

ساد صمت قصير، ثم أجابها عرابي قائلا
(بصراحة أنا لا أريد الزواج بعد علاقة عاطفية، أفضل الحب الذي يأتي بعد الزواج، كما أنني ألمحت لك أكثر من مرة أنني لم أقع في غرام أي عروس مرشحة لي، كل ما هناك هو شعور بالقبول و أنا بطبعي شخص بشوش، لذلك اختلط الأمر عليك...
أما زواج الصلح، فهذا واجب لم أستطع الفرار منه...

قد أكون شابا و أريد على الأقل اختيار عروسي، لكن حين يمس الأمر هذا الموضوع تحديدا فإن الجميع يؤخرون مصلحتهم الشخصية أمام المصلحة الكبرى، و لا يستطيع الرجل منا رفض كلمة من باقي الرجال، إن كانت سوار الرافعي قد وافقت على الرغم من رفضها الداخلي، فهل أتدلل انا كالأطفال؟)
سألته جويرية بخفوت
(و ما هي المصلحة الكبرى؟)
رد عرابي قائلا بهدوء
(الا نفقد المزيد من الشباب بسبب ثأر قديم)
قالت جويرية ببطىء.

(هل تريد أن تفهمني أنك بالفعل تفكر في هذا الهدف السامي على حساب مصلحتك الشخصية؟)
سألها عرابي بنبرة مستفزة
(و هل هناك وجه استفادة آخر يجعلني أوافق على الزواج بك؟)
زمت جويرية شفتيها و قالت ببرود
(الا ترى أنك قليل الذوق؟)
رد عليها بلطف
(أنا فقط أوضح وجهة نظري)
صمتت غير قادرة على الرد للحظات، ثم سألها بإهتمام
(كيف حال دراستك؟)
عقدت حاجبيها و هي تسأله مشككة
(هل تريد أن تقنعني أنك مهتم؟)
أجابها بصدق واضح.

(بالطبع مهتم، لا أتوقع أقل من أن تكون زوجتي الأولى على دفعتها، كان حظك قليلا في الجمال، لذا على الأقل ليكن أفضل في مستواك العملي)
لم تتجاوب مع استفزازه هذه المرة، بل فغرت فمها و هي تقول
(زو، زوجتك؟، هل عدت للتهيؤات من جديد؟)
قال عرابي بنبرة واثقة
(لا تهيؤات، ستكونين زوجتي يا جويرية الهلالي، برضاك أو غصبا عنك، لذا أرى أن توافقي بإرادتك فهذا أفضل لكرامتك).

أغمضت عينيها و هي تحاول التقاط أنفاسها كي تسيطر على غضبها، ثم قالت مشددة من بين أسنانها
(أغلق الخط يا أخ و لا تتصل هنا مجددا، و أنصحك أن تتعالج، فحالتك صعبة)
أجابها بسرعة
(بالمناسبة، أردت أن أطمئنك بأن الحادث لم يؤثر على أي من)
صمت عن قصد، فعقدت جويرية حاجبيها تسأله بتوجس
(على أي من ماذا تحديدا؟)
قال عرابي بنبرة ذات مغزى
(تعرفين، على)
ازداد انعقاد حاجبيها و هي تقول بريبة
(على، ماذا؟)
أجابها عرابي متنهدا.

(على الأمور، الخاصة بالزواج و خلافه)
اتسعت عينا جويرية و احمر وجهها بشدة و هي غير مصدقة لما سمعت للتو، و ما أن وجدت صوتها الذي اختنق في حلقها حتى صرخت بعنف
(أنت قليل الأدب و، سافل)
سألها ببساطة و دهشة
(ما الأمر؟، رأيت أن من واجبي أن أطمئنك بما أنك خطيبتي، و المفروض أنك طالبة في كلية الصيدلة و هذه المواضيع طبيعية بالنسبة لك)
تلعثمت جويرية من شدة الخجل و هي تهتف.

(أنت، قليل الأدب، و غير محترم، أغلق الخط و لا تتصل هنا مجددا، و قبل أن تغلق أريد أن أخبرك ان زواجك بي بعيدا عن شاربك)
ثم أغلقت الخط بقوة و رمت هاتفها بعيدا، تعض على مفاصل اصبعها بتوتر و غضب و خجل...
ثم قفزت من سريرها تضع يديها في خصرها ناظرة حولها و هي تهمس بتلعثم
(مجنون، يتخيل أنني قد أتزوجه، هذه هي النهاية، لن أرد عليه مجددا).

شعرت جويرية بأن حلقها جاف تماما، فخرجت من غرفتها كي تشرب، الا أنها تسمرت في مكانها و هي ترى والدها يجلس في مقعده الوثير، يقرأ كتابا على ضوء مصباح جانبي، فاقتربت منه قائلة بخفوت
(ألم تنم بعد يا أبي؟)
نظر اليها والدها مبتسما ثم قال بهدوء
(لم أستطع النوم لفترة فخرجت للقراءة قليلا، خاصة أن والدتك قد نامت ففكرت في السهر معك ربما احتجت شيء، أعده لك).

ابتسمت جويرية و هي تقترب منه أكثر حتى جثت على ركبتيه أمامه ثم قالت بنعومة
(و هل يعقل هذا يا أبي؟، أنا من تحضر لك ما تريده)
ربت والدها على وجنتها قائلا
(انها سعادة لي أن أعد قهوة الدكتورة الصغيرة)
ضحكت جويرية برقة، ثم شردت عيناها للحظات، فسألها والدها وهو يخلع نظارته و يضعها على كتابه
(هات ما لديك، هناك ما تريدين قوله)
رفعت جويرية وجهها تنظر الى والدها، ثم قالت بخفوت.

(أبي، هناك شيء أريد إخبارك به، لأنك عودتني الا أخفي عنك شيئا، و أنا أشعر بعدم الراحة منذ ثلاثة أيام، بصراحة أخشى غضبك و في نفس الوقت سيكون معك حق لو غضبت، الا أنك تعرف ابنتك، حين ينتابها الفضول تجاه شيئ ما، قد تتهور أحيانا)
قاطعها والدها مبتسما بهدوء
(جويرية، أنت تثرثرين و هذه عادتك حين ترتكبين مصيبة، اعترفي بما فعلت مباشرة)
أخفضت جويرية وجهها و هي تشعر بالقلق، ثم قالت بخفوت دون أن تواجه عيني والدها.

(بصراحة يا أبي، لقد، اتصل بي عرابي الرافعي ثلاث مرات)
ارتفع حاجبي والدها وهو يقول بدهشة
(عرابي الرافعي؟)
تجرأت جويرية و رفعت وجهها الى والدها و قالت بتلعثم.

(ليس هذا فحسب، بل أنني زرته مرة في المشفى، على الرغم من أنه مخطىء، الا أن الطريقة التي عاملانه بها كانت السبب في ملاحقته لي فأصابه ما أصابه، فأشعرني هذا بشعور شيء جعلني أرغب في الإطمئنان على حالته لمرة أخيرة و أتمنى له التوفيق، ففي النهاية هو لا ذنب له في كرهنا لتلك الخطبة من البداية)
صمتت قليلا و هي لا تدري كيف تدير دفة الحوار، ثم تابعت بهدوء.

(لكن على ما يبدو أن زيارتي له جعلته يفهمني بطريقة خاطئة كبني جنسه، مما جعله يطلب مني أن نكون أصدقاء بصفة خاصة، ثم بدأت اتصالاته تتكرر بعد أن انتهى الأمربيننا و بينهم، و)
صمتت قليلا، الا أنها سارعت بالقول مستدركة
(لكنني لم أعطه رقم هاتفي يا أبي أقسم لك، و لا أعلم كيف حصل عليه)
صمتت مجددا حين صدمتها الإبتسامة الهادئة التي لا تزال مرتسمة على وجه والدها بخلاف ما توقعت...

صحيح أن والدها ذو عقل متحرر قليلا، الا أن له حدود معينة لا يقبل بتجاوزها، و الإختلاط بالنسبة له لا يتعدى الزمالة و الدراسة، لذا تخيلت أن مكالمات عرابي لها ستجعله يفقد الثقة التي منحها لها...
همست بقلق
(أبي، لماذا لا تزال مبتسما؟، لا أشعر بالراحة لهذه الإبتسامة!)
أجابها والدها قائلا ببساطة
(لأن عرابي أخذ الإذن مني في الإتصال بك بضعة مرات، كما أنني أنا من أعطيته الرقم بنفسي).

فغرت جويرية فمها و هي تسقط متربعة على الأرض أمام والدها، و حين طال بها الصمت مفتوحة الفم...
قال والدها يهدئها بعفوية
(الآن، قبل أن تسيئي أنت فهم الموقف و تظني بأنني سأجبرك على شيء و تبدأين في العويل، دعيني أشرح لك موقفي أولا).

هزت جويرية رأسها للحظات و هي تحاول الإستيعاب، خاصة و أن نبضات التمرد و العنف بداخلها بدأت تقفز الى سرعتها القصوى، الا أنها حكمت عقلها في النهاية و مدت كفها رافعة كتفيها الى صدرها قائلة بنبرة جامدة
(تفضل، كلي آذان)
اتسعت ابتسامة والدها اكثر، ثم قال بهدوء
(لقد رفض عرابي خطبة ابنة عمك نورهان)
قالت جويرية دون تسرع
(هذا ما أعرفه)
ثم صمتت عن قصد منتظرة أن يتابع والدها كلامه، و بالفعل قال.

(وصلني رده من خلال عمه الذي كان ينقل له كل تطورات جلسة كبارنا، و ما أن أبلغه العرض، حتى رفض عرابي، ثم اتصل بي فيما بعد اتصال مطول)
همست جويرية قائلة بخفوت
(فيما تحادثتما؟)
أجابها والدها ضاحكا...
(تحدث عن نفسه طويلا و بمنتهى التفصيل، حتى أنني و صدقيني لا أذكر معظم ما قال، لكنني بالتأكيد استوعبت جيدا المهم من الكلام)
سألته جويرية بتردد أكثر خفوتا
(و ما هو؟)
اعتدل والدها في جلسته قليلا و مال اليها قائلا.

(أخبرني بالحرف الواحد أنه كان مستعدا للقبول بزواج الصلح من أي من بنات الهلالية لو كان هناك قبولا بينهما، الى أن رآك و قابلك شخصيا، حينها وجد أنه لن يستطيع اتمام هذا الصلح الا معك، و لن يكون من الشهامة أن يتزوج فتاة بينما هو يفكر في ابنة عمها خاصة و أنها كانت عروسه من البداية).

أطرقت جويرية رأسها و قد احمر وجهها خجلا أمام والدها من الأحمق الذي يكلمه بكل صراحة دون حياء، لكن في داخلها كانت تشعر بأنوثتها تتوهج قليلا كأي فتاة في مكانها، تغتر بتمسك أحدهم بها...
بينما تابع والدها قائلا.

(بصراحة لم أتخيل أن أعجب بالولد، تعرفين أنك أغلى شيء في حياتي و كنت مستاءا جدا من احراج العائلة لي في اجبارك على الزواج من احد ابناء عائلة الرافعي، و بالفعل عزمت أن يتم فسخ تلك الخطبة مع الوقت، و حين رأيته عدة مرات عابرة لم أهتم بالتعرف اليه حقا، افترضت كبرا أنه سيكون أقل منك و أنك تستحقين الأفضل، زميل لك أو أستاذ من نفس دراستك، يفهمك و يشجعك)
صمت للحظة ثم نظر اليها قائلا.

(صحيح أن عرابي الرافعي مختلفا عنك تماما في الفكر و الدراسة و الحياة العملية، و حتى طبيعة النشأة، الا أنه في نفس الوقت لا يبدو رجعيا أو متأخرا، بالعكس، شعرت أن ما أعجبه بك هو دراستك و شخصيتك و استقلال فكرك عن الجميع، و قد أكد لي أكثر من مرة خلال اتصاله أنه سيكون أكثر من سعيد على تشجيع دراستك و عملك فيما بعد).

ساد صمت مشحون بينهما ووالدها يراقب تأثير كلامه عليها، بينما هي منخفضة الوجه و هلى ملامحها يبدو أن هناك صراعا شديدا عميقا بداخلها...
و بعد فترة قال والدها بهدوء
(لكنني على الرغم من اعجابي به، الا أنني أخبرته بمنتهى الصراحة برفضك، و بأنني يستحيل أن أجبرك على الزواج من شخص لا تقبلينه، فتفهم و لم ينفعل، بل طلب مني منحه الفرصة في محاولة اقناعك بنفسه، و طلب الإذن في الإتصال بك بضعة مرات، لعل و عسى).

لعقت جويرية شفتيها و هي تشعر بالحرج أمام والدها، فقد تبين أن عرابي هو من كان يتصرف في النور بينما هي من أخفت عن والدها، اتصالاته...
لم يترك لها والدها فرصة الحرج فقال لها بهدوء
(أنا لست غاضبا منك لأنك أخفيت عني يا جويرية)
رفعت جويرية عينيها تنظر اليه هامسة بخفوت
(حقا؟)
أومأ لها والدها و قال مبتسما.

(أعرف أنك لم تكوني لتخفي عني شيئا أبدا، لكن كما قلت لك كانت هذه الإتصالات محاولة لإقناعك بنفسه، لذا من الطبيعي أن تكوني قد شعرت بالرفض أولا، ثم الإرتباك، ثم الرغبة في سماع ما لديه، و في النهاية أتيت بنفسك لتخبريني)
ظلت جويرية تتلاعب بخصلات شعرها بعصبية لكن والدها بادرها بسرعة يطرق الحديد وهو ساخن
(الشاب أعجبك يا جويرية، اليس كذلك؟).

رفعت جويرية وجهها كالرصاصة و الإستنكار و الرفض يحتل ملامحها و هتفت بعنف
(ماذا؟، لا، لا تخدع نفسك يا أبي، بالعكس أنا أرفضه تماما و أشعر بالإستفزاز منه و من طريقته في الحياة، نحن على النقيض تماما)
مال اليها والدها أكثر و قال بجدية.

(القبول يا جويرية لا يتطلب أن يكون الطرف المقابل لك نسخة مشابهة من طريقة تفكيرك و دراستك و عقلك و شخصيتك، القبول هو شعور بالتقارب من هذا الشخص، الرغبة في سماعه و رؤيته، حتى لو كان على النقيض منا، المهم هو الا يحاول تغييرك الى طبعه و شخصيته)
شعرت جويرية بالإرتباك يغزوها بعنف و الصراع بدأ يشتد على ملامحها أكثر، ثم قالت بحدة و اختناق
(أشعر أنكم تحاولون اجباري على قبول هذا الزواج يا أبي).

تراجع والدها في مقعده قائلا
(هل هذا ما تظنينه في والدك يا جويرية؟)
تنهدت و هي تشعر بالندم على الفور ثم قالت بيأس
(آسفة، لم أقصد، أنا فقط)
الا أن والدها رفع كفه قائلا
(يمكنك الرفض الآن و حالا، و سأتصل به أمامك لأبلغه ردك و حينها لن يتصل بك مجددا)
نظرت جويرية الى والدها بصمت شاعرة بإحساس أجوف قليلا، فلعقت شفتيها مجددا، و نظرت جانبا بإضطراب و هي تهمس بخفوت.

(و هكذا أكون أنا الأنانية التي فضلت مصلحتها الشخصية على المصلحة العامة! بينما هو الشهم المظلوم، اليس كذلك؟)
رد عليها والدها قائلا بقوة
(جويرية يا ابنة الهلالية، مبروم على مبروم لا يلتف)
امتقعت ملامحها و ابتلعت ريقها، و شعرت بأن موقفها سيء، سيء للغاية، فهمست بإختناق
(أنا، أنا، ربما لو، اتصل مرة، أو مرتين، ربما ثلاث)
الا أن والدها قاطعها قائلا بصرامة.

(و لا مرة اضافية، انظري الى والدك يا فتاة، والدك قد يكون متحرر الفكر قليلا، لكن عند حد معين يستعر الجانب الشرقي مني فلا أفرق بين قريب و غريب)
عضت جويرية على شفتيها بصورة ملحوظة حتى بدت كطفلة على وشك البكاء، مما جعل والدها يتراجع برأسه ضاحكا بصوت عال أجفلها، ثم قال لها ببساطة
(الشاب يعجبك، لما كل هذا التوتر؟)
قفزت جويرية من مكانها هاتفة بعذاب يائس
(يا أبي إنه لا يعجبني اطلاقا، لما لا تصدقني؟).

أجابها والدها بتفحص
(لكنك تريدين أن تتكلمان مرة أخرى، و ستشعرين بخيبة الأمل لو لم يحدث هذا)
فركت جويرية أصابعها و هي تنظر الى والدها صامتة غير قادرة على الكلام، فقال لها يجنبها الرد الصعب
(لما لا تدخلين غرفتك و تصلين صلاة استخارة، ثم نذهب غدا لزيارته معا، فالواجب و الأصول تحتم على هذا حتى لو أنهينا الخطبة)
رفت جويرية بعينيها قليلا، و بدت عاجزة عن الرد فحثها والدها قائلا بهدوء.

(هيا اذهبي و لا تفكري الليلة طويلا، الحياة أبسط من ذلك و سترين الله سيقدر لك الخير حيث كان)
اتجهت جويرية الى غرفتها مطرقة الرأس و هي تفكر بتوتر يكاد أن يخنقها، فاغلقت الباب و استلقت على سريرها متبرمة تنظر الى السقف...
لا تريد الزواج من عرابي الرافعي، وهو لا يعجبها بأي طريقة كانت...
ما هو الصعب في فهم هذا؟

و بينما هي مستغرقة في التفكير، وصلتها رسالة على هاتفها فأمسكت به تقرأها بصمت و كما توقعت، كانت الرسالة منه...
أخشى أن ينفذ رصيدي، هلا أنجزت؟، ربما لو كان قد أرسل تلك الرسالة قبل ساعة لما كانت فهمت ما يقصد و اعتبرته مختلا لا يفقه ما يقول...
لكنها الآن تفهم مقصده تماما...
إنه يقصد أن اتصالاته التي سمح بها والدها له باتت محدودة و على وشك النفاذ، وهو لم يقنعها بنفسه بعد...

ابتسمت جويرية رغما عنها ابتسامة صغيرة، فوصلتها رسالة أخرى بعد لحظات...
يستحيل ألا تكوني نصيبي، لقد استشعرت هذا منذ قابلتك لأول مرة، لا تكوني غبية فترفضي النصيب في نوبة عند، تنهدت جويرية و هي تنظر الى سقف الغرفة مجددا شاعرة به ينخفض و يطبق على أنفاسها، فوصلتها رسالة ثالثة، نظرت اليها تقرأها بقنوط.

أنت خطيبتي رغما عنك و عن أهلك يا جويرية، و إن حاولتم انهاء الخطبة لن أسكت، هل تفهمين تلك الجملة أم أسجلها لك صوتيا كي ترتدعي؟، لن أسكت، ألقت جويرية هاتفها جانبا و هي تقول بحدة همسا
(قليل الأدب)
و مضت بضعة لحظات أخرى قبل أن تصلها آخر رسالة، قررت للوهلة الأولى أن تتجاهلها، الا أن الفضول تمكن منها في النهاية فأمسكت بالهاتف تقرأها على مضض...

هل لي أن أطلب منك طلب؟، لا تري الرسالة الأخيرة لوالدك، كنت منفعلا قليلا، لكن قسما بالله يا جويرية لن يتم فسخ الخطبة
ألقت جويرية الهاتف جانبا مجددا و هي تشتم بصوت عال، لكنها لم تلبث أن ضحكت و هي تغطي عينيها ضحكة أفلتت منها فعضت على شفتيها و هي تحاول التمسك بالغضب عبثا...

و حين أوشك رأسها على الإنفجار، نهضت من مكانها لتصلي صلاة استخارة، و كأنها كانت تخشى أن تؤديها اعترافا منها بأن المبدأ في القبول موجود، لكنها الآن اكتشفت أنها في حاجة اليها جدا حتى مع رفضها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة