قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والأربعون

للحظات ظل ليث يستمع اليها بملامح هادئة جادة تماما، الى أن أنهت كلامها الغاضب الحاد، دون أن يرد و ما أن انتهى حتى تركها و استدار عنها تاركا اياها تتلوى بنار القلق...
ثم قال أخيرا دون انفعال
(عامة هذه آخر مرة تزعجك فيها ميسرة، و قد تأكدت من ذلك بنفسي)
كان من المفترض أن يطمئنها كلامه، الا أنه على العكس، زاد من قلقها اضعافا.

لا شيء في هذا العالم يستطيع ايقاف ميسرة عن اقتحام حياتها و الترصد بها، الا لو، هدأت نفسها و نفذ لها ليث ما تريد من واقع احساسه، بالمسؤولية!
شعرت سوار بالدوار من تخيل ما قد يكون قد دار بينه و بين عمه، فلعقت شفتيها الجافتين
قبل أن تتمالك نفسها و تسأله بصوت باهت رغم جمود ملامحها
(ما الذي يؤكد لك هذا؟، ماذا فعلت؟، ماذا عرضت على عمك؟)
التفت اليها رافعا حاجبه وهو يقول بفتور.

(عرضت؟، لست في حاجة لأن أعرض مقابل لتتوقف ابنته عما يخالف الأصول، اطمئني و انسي الأمر، لا تفكري فيها مجددا)
ثم سوى كتفيه بتعب قبل أن يقول
(الآن اسمحي لي، التعب ينال مني و لا أظنني قادرا حتى على الأكل).

رأته سوار بعينين واسعتين غير مصدقتين وهو يتعامل مع الموضوع بهذه البساطة، و ظلت تنظر الى ظهره وهو يتجه الى غرفتهما، الا أنها لم تتمالك نفسها فجأة فاندفعت تجري خلفه، الى أن وصلت اليه و كان قد دخل الى الغرفة للتو، فتشبثت بذراعه تديره اليها بالقوة قبل أن تصرخ بحدة.

(انتظر هنا، هل تظنني سأغلق الموضوع لمجرد أن طمئنتني! أريد سماع التفاصيل كلها، على ماذا اتفقتما؟، طلب منك أن ترد ابنته الى عصمتك، اليس كذلك؟، و أنت لم تستطع الرفض اليس كذلك؟، انطق، اليس كذلك؟، أنا لن أنتظر دقيقة واحدة في هذا البيت، أنا لن أقبل أن تعيدها شريكة لي، مستحيل، مستحيل).

تركته و التفتت لتخرج من الغرفة مندفعة، الا أنها لم تجد الفرصة، فقد شعرت بدوامة تعيدها مجددا بفعل قبضته التي امسكت بذراعها وهو يلصقها بالجدار قبل أن تقبض يده الأخرى على فكها حتى رفعت عينيها المشتعلتين اليه، لكن ما أن فعلت حتى صدمها غضبه البارد الذي ظهر على ملامحه و في عينيه جليا
أيجرؤ على أن يكون غاضبا؟
كانت على وشك القاء المزيد من الكلمات الغاضبة في وجهه، و بالفعل فتحت فمها تنوي أن تبهره.

الا أنه سبقها و قال بقوة من بين أسنانه
(أنصحك الا تتفوهي بما تنوين التفوه به حاليا يا سوار إن كنت تريدين للمتبقي من هذه الليلة أن يمر على خير، و رأسك مستقرة فوق كتفيك. )
أرادت أن تتمرد، لكن غضبه كان حقيقيا و غير قابل للإستفزاز أكثر، لذا قررت لمرة واحدة في حياتها أن تتحلى بالصبر و بعض الذكاء، فلزمت الصمت عاقدة الحاجبين متقدة العينين، زامة شفتيها...

أما هو فرغم صلابة ملامحه الا أنه كان يبدو و كأنه قد شعر بخيبة أمل حادة، فأخذ نفسا عميقا قبل أن يقول متابعا بخشونة
(لقد تم القبض على الدجال النصاب الذي تتعامل معه ميسرة بعد أن احتجزه رجالي طوال الليلة الماضية، و قمت بإجراء توصيات قوية ضده، و تم جره هذا النهار جرا الى مديرية الأمن).

تحرك عنق سوار بتحشرج و هي تنظر اليه عاتبة، على الرغم من لحظات الضعف البشرية التي مرت بها و من خوفها من سحر هذا المشعوذ، الا أنها اكتشفت الآن أنها لا تأبه به، و لا تخافه.
كل ما تخاف منه حاليا هو ما اتفق عليه ليث مع عمه...
ظل صامتا ينظر اليها بتجهم للحظات، ثم قال بجفاء
(لقد طلب مني عمي أن أردها الى عصمتي كما توقعت، و تعهد الا يصدر عنها اي تصرف خاطىء مجددا، و أن تحترم وجودك و زواجنا حتى نهاية العمر).

فتحت سوار فمها و صرخت بجنون
(كنت أعلم أن)
الا أن ليث هذه المرة كتم فمها بكفه تماما حتى عجزت عن النطق و بقت عيناها واسعتان تغليان...
بينما هتف هو فيها غاضبا
(أنا الذي كنت أظنك أذكى من هذا)
صمتت سوار أمام صيحته الغاضبة و هي تتنفس بسرعة و توتر، بينما صمت ليث للحظة منفعلا، ثم تابع بصوت أهدأ لكنه أكثر جفاءا.

(إن كنت لا تثقين في مكانتك لدي حتى الآن، فعلى الأقل كلن عليك التأكد من أن ميسرة قد تخطت الحد الذي يستطيع أي رجل أن يثق بها بعده)
بدت سوار مرتبكة للحظات، ثم سألته بصوت متخاذل
(هل يعني هذا أنك رفضت عرضه؟)
لم يرد عليها ليث على الفور، بل ظل متجهما وهو ينظر الى عينيها، ثم قال أخيرا بخشونة
(كنت أتمنى أن تعرفين الجواب بنفسك)
عضت سوار على شفتيها و هي تستدير عنه قليلا مطرقة برأسها، ثم قالت بتوتر.

(لم أعد أستطيع تمالك نفسي يا ليث، عليك استيعاب هذا، أنا أعرف جيدا حس المسؤولية لديك و الذي يجعلك تفعل شيئا حتى و إن كان ضد رغبتك الشخصية)
صمتت للحظات ثم التفتت تنظر اليه بإنكسار هامسة
(أنا أحبك يا ليث كما لم أعرف معنى الحب من قبل)
لم تظهر معالم السعادة على وجهه كما يحدث كلما سمع اعترافها مؤخرا، بل ظل صامتا وهو ينظر اليها بجمود، ثم قال أخيرا بخفوت.

(أما أنا فقد شاب شعري و لا زال قلبي صبيا في حبك كما كان منذ سنوات و سنوات، حبك صغير السن يا سوار، بينما حبي معمر، يستحق منك احترما أكثر مما تظهريه)
زفرت سوار نفسا بطيئا و هي تدلك ذراعها بقنوط، ثم لم تلبث أن اقتربت منه مطرقة الرأس، حتى كادت أن تلاصقه، فرفعت عينيها بالكاد الى عنقه، قبل أن تداعب أصابعها صدره عبر فتحة قميصه برفق ما بين التردد و الدلال...

ثم همست تقول دون أن تجد الجرأة على رفع عينيها الى عينيه
(اصفح عني)
صمتت للحظة، ثم نظرت الى عينيه، فابتسمت على الرغم من تجهمهما، و همست مجددا
(ارجوك)
استمر على صمته و تباعده عنها الى أن ارتجفت ابتسامتها و توقفت أصابعها فوق صدره، ثم بدأت ملامحه تلين شيئا فشيئا دون أن تصفح تماما، الا أنه رفع كفيه و أحاط بهما وجهها ينظر الى عينيها طويلا ثم قال بصوت أجش.

(لا، تقحمين، أي، امرأة، في حياتنا، سبق و فعلت ميسرة و لم أستطع نسيانك أبدا و كان لها الدخل الأكبر في ذلك، فلا تفعلي أنت)
عقدت سوار حاجبيها و هي تقول بصوت خشن
(هل تقارن حبك لي، بما كان بينكما؟، أنت لم تحبها أبدا، لا تخدع نفسك، كنت تحبني أنا طوال الوقت)
اشتدت أصابعه فوق وجهها وهو يقول بصلابة.

(ضعي عنك غرورك قليلا يا ملكة القلب، حياتنا الآن ملكا لك و لي فقط، طالما تثقين في حبي لك، فإياك اذن و اقحام شريكة لنا تتوهمينها بنفسك، إنها أكبر جريمة قد تقترفينها تجاه زواجنا)
فغرت سوار شفتيها قليلا و همست بضعف
(أنا آسفة، الآن قل أنك صفحت عني، لن تدخل حياتنا أي امرأة أخرى مطلقا، أعدك بذلك)
تنهد ليث بعمق وهو يتأمل ملامحها بشغف رغم أن الابتسامة لم تلامس وجهه بعد، ثم قال بخفوت.

(انتهى كل ما تخشين يا سوار، و ما أخبرتك الا خوفا من توتر أعصابك في هذه المرحلة من الحمل، لم أتخيل أن تسبقني ميسرة و تخبرك بسفري)
أراحت كفيها على صدره و هي تنظر الى عينيه برجاء ثم سألته بحذر متردد
(سؤال أخير فقط، كيف تقبل عمك رفضك لأن ترد ابنته الى عصمتك؟، أريد أن أطمئن فقط، قدر موقفي أرجوك)
أجابها ليث بصوت هادىء.

(عمي كرجل يعرف في قرارة نفسه أن ابنته قد أقدمت على ما يغتفر حين فضحت امرأة تحمل اسم زوجها و شرفه بالباطل، و في بلدنا تعد هذه تهمة تستوجب العقاب عليها عقابا يردعها حتى آخر حياتها، الا أنه على ما يبدو كان مثلك، يراهن على حسي بالمسؤولية و الذي جعلني أتغاضى سابقا عن كثير من أخطائها، فحاول محاولة أخيرة يائسة، و لم يتفاجىء كثيرا حين أبلغته برفضي القاطع، حتى أنه لم يلح في الأمر).

صمت للحظة وهو يبعد خصلة شعر عن جبهتها برفق ثم تابع قائلا
(لقد عزم على تزويجها، و العريس موجود)
فغرت سوار فمها و هي تسأله بدهشة
(ميسرة ستتزوج؟، و على الرغم من ذلك لا تريد أن تتركنا لحالنا!)
تجنب ليث الحديث عن وضع الزوج المستقبلي الذي يعد مأساة تعيشها ميسرة حاليا بعد أن كانت زوجته، فهز رأسه قائلا بعدم اهتمام
(كانت محاولة يائسة كما أخبرتك)
همست سوار بقلق
(أتظنها ستنسانا أبدا حتى إن تزوجت؟).

عقد ليث حاجبيه و همس آمرا بحرارة ممسكا بكتفيها
(أنت انسها)
ظلت ساكنة للحظات، ثم لم تلبث أن أومأت برأسها دون أن تتكلم و هي تبدو قلقة، مما جعل ليث يربت على كتفها قائلا بنعومة
(لقد بذلت كل جهدي كي يتم القبض على هذا المشعوذ الذي تتعامل معه، لكن حتى لو لم أستطع فعل ذلك أو لو خرج بطريقة ما، عليك أن تقوي ايمانك أكثر لمواجة خوفك من تلك الخرافات، اتفقنا؟).

عادت لتومىء برأسها دون أن تنظر اليه، خجلة من نفسها، فظل صامتا للحظات وهو يبدو و كأنه يريد سؤالها شيئا ما، ثم فعل أخيرا
(الا زلت تتوهمين أنها السبب في، موت سليم رحمه الله عن طريق هذه الخرافات؟)
ظلت سوار مطرقة لفترة ثم هزت رأسها نفيا ببطىء قبل أن تهمس بصوت مختنق
(استغفر الله، لا بالطبع، لا أعلم ما الذي دهاني، ربما للحظة، أردت القاء الذنب على شخص، على شيء، لا أعلم).

اختنق صوتها تماما و تحشرج فصمتت، الا أن ليث أمسك بذقنها يرفع وجهها اليه، فقابلت عيناه عينيها الذهبيتين و كانتا مبللتين بدموع ساكنة كبركة في يوم حار، مما جعله يعقد حاجبيه أكثر وهو ينظر الى هاتين العينين، حتى انحدرت قطرة من احداهما...
رفع ليث اصبعه و لاحق بها تلك القطرة ببطىء، مطبق الشفتين، عميق النظرات، ثم سألها بخفوت
(هذه الدموع، لأجل سليم رحمه الله؟).

عضت سوار شفتيها معا و هي تلتقط أنفاسها كي لا تبكي، ثم نظرت اليه و همست بخفوت
(كذب من قال أن الحب واحد يا ليث، الآن ادرك أنك كنت حبي منذ سنوات و سنوات، ليتني فقط أدركت هذا الحب وقتها، لكن حبي لسليم رحمه الله لا أستطيع انكاره، لا أملك القدرة على نسيانه، سامحني يا غالي، سامحني).

عضت على شفتيها مجددا كي لا تسترسل في قول ما لا يجب قوله، الا أن ليث لامس ذقنها بأصابع مرتجفة وهو يلاحق ملامح وجهها، ثم قال بصوت أجش متحشرج
(أنا أغار عليك يا سوار من مجرد عين ترى جمال وجهك، و لم أكن لأسامحك مطلقا، لولا أنني أنا نفسي لا أملك القدرة على نسيانه، رحمه الله، سيظل سليم حيا بداخلنا طوال العمر)
فغرت سوار شفتيها المرتعشتين و همست تسأله بحذر و هي تلامس قلبه بأصابعها.

(بداخلنا، لكن ليس حاجزا بيننا، اليس كذلك؟)
أطبق ليث كفيه على خصرها بقوة وهو يقول مؤكدا و عيناه في عينيها
(لن أسمح لأي شيء أن يكون حائلا بيننا، فماذا عنك؟)
هزت رأسها نفيا بسرعة قائلة
(و أنا أيضا، أعدك أنني لن أكررها أبدا)
ظهر طيف ابتسامة على شفتيه الحانيتين رافقتها ابتسامة مماثلة على شفتيها رغم الدموع الحبيسة في عينيها.
مما جعله يحنى رأسه اليها ملتهما تلك الابتسامة، فارضا رجولته على قلبها...

خرج أنين من حلقها و هي ترفع ذراعيها تتعلق بعنقه بقوة و هي تمنحه الإذن بفرض تلك الرجولة، مسلمة له حصون قلبها يحتلها كيفما يشاء...
همست سوار بضراوة من بين قبلاته المتهجمة
(اشتقت اليك، اشتقت اليك جدا)
سمعت صوت تنهيدة حارة منه مرافقة لأنينها. قبل أن تشعر بكفيه تبعدان ذراعيها من خلف عنقه برفق، الا أنها رفضت للحظة قبل أن يزيحها عنه، فنظرت اليه عابسة من فورة انفعالاتها...

الا أنه ابتسم بعصبية قائلا وهو يربت على وجنتها
(أنا متعب و مغطى بغبار الطريق، من الأفضل أن تنامي الآن فقد سهرت بما فيه الكفاية)
تبرمت سوار معترضة، الا أنه ضحك بخفوت متحسرا، قبل أن يستدير ليخرج من الغرفة، لكن و قبل أن يجتاز اطار الباب، سمعها تقول من خلفه بصوت أنثوي رخيم
(هل تنوي التريث الليلة أيضا يا ليث؟).

عاد ليلتفت اليها ببطىء، الا أنه تسمر مكانه وهو يراها تفك الأزرار القليلة في صدر عباءتها و هي تبادله النظر مبتسمة بخبث، قبل أن تمسك بحافتيها لتخلعها من فوق رأسها...
زفر ليث نفسا بطيئا و هي تفاجئه كالعادة بما ترتديه أسفل العباءة، كل مرة تبادره بما يزعزع كل تماسكه...

و حين القت بعبائتها أخيرا على كرسي قريب، ازدادت ابتسامتها مكرا و هي ترفع كفيها الى مؤخرة رأسها لتحل وثاق شعرها و نفضته عدة مرات، تتخلله بأصابعها، حتى تحرر أخيرا على ظهرها، يكاد يكون أطول مما ترتديه!

ضاقت عينا ليث وهو يراقبها تتمايل حتى استلقت الى الفراش على جانبها، مستندة الى مرفقها، ثم تحولت ابتسامتها من الخبث الى عشق زادها اتساعا و تألقا دون خجل، بينما زم هو شفتيه قائلا بتذمر و عيناه تتحركان على ساقيها الممتلئتين قليلا...
(أنا متعب، و انت، أنت)
صمت قليلا و عيناه تصعدان لأعلى ببطىء، مما جعلها ترفع حاجبها مستفهمة و هي تسأله ببراءة
(أنا، ماذا؟).

زفر ليث وهو يغلق الباب داخلا الى الغرفة، يسارع بفك أزرار قميصه متوترا، مما جعلها تضحك عاليا ملقية نفسها للخلف بسعادة مغمضة عينيها، قبل ان تشعر بدوامة تبتلعها وهو يلفها بجسده و ذراعيه و مشاعره مما جعلها تكتم أنفاسها بتوهج، مصممة الا تفتح عينيها، مستسلمة لتلك الدوامة و دوارها اللذيذ...
حبيبها عاد اليها و لن يفرقهما مخلوق الى أن يفرقهما الموت...

في اليوم التالي...
كانت في المطبخ تدندن و هي تعد كل ما يحبه ليث من اصناف الطعام، لا تأبه للدوار الذي يداهمها أحيانا، و تتحامل على نفسها في مقاومة الغثيان، حتى أنها تقيأت مرتين ثم عادت مجددا لتكمل عملها...
اليوم سيكون خاصا جدا بينهما...

في الواقع هي تنوي أن يكون كل يوم من أيامهما المقبلة هو يوم خاص، لن تسمح بأن يضيع من حياتهما وقتا دون أن يكون شاهدا على هذا الحب القديم و الذي حفظه و رعاه الى أن سلمه اليها في النهاية. زائدا و ليس ناقصا...
ابتسمت سوار بخجل قليلا و هي تتابع تقطيع الخضروات، متذكرة تفاصيل ليلة أمس، لم يشكل تعبه فارقا، و لم يتذكر أنه كان من المفترض أن يتريث...
أحسته شابا متهورا، مشاعره لا تخضع لرقابة أو حذر...

و هي لم توقفه و لم تمانع، متيقنة أنه من المستحيل أن يقوم بإيذاء طفلهما، منذ متى كان الحب يؤذي طفلا!
رفعت وجهها تلتقط أنفاسها مجددا كي تحارب موجة الغثيان التي داهمتها مجددا، ثم نظرت الى الساعة.
لا يزال الوقت مبكرا على موعد عودته من عمله، الا أن الأطعمة التي تود تجهيزها لا يكاد الوقت أن يكفيها...

لذا حاولت الإسراع من عملها، ليته فقط لم يذهب للعمل اليوم، لقد ظنت بعد ليلة أمس أنه سيبقى معها كيوم من أيام شهر العسل الذي لم تستطع الإستمتاع به أبدا...
لكن على كل حال، فقد منحها هذا الفرصة كي تعد المأدبة التي تتمناها له...
و بينما هي تعمل بإجهاد، تعالى رنين هاتفها الموضوع على الطاولة أمامها، فنظرت اليه بتوجس معتاد...

لن تتعجب بعد الآن أن تكون ميسرة هي المتصلة، حتى ولو مرت السنوات و حتى إن تزوجت عشرات المرات، ستظل تلاحقهما، لا لأنها تحب ليث...
لقد تأكدت سوار الآن فقط أن مشكلة ميسرة معها هي تحديدا، ستظل هاجسا في حياتها دون أن تدري السبب...
جففت سوار كفيها بالمنشفة، ثم وضعت الهاتف على أذنها و هي تجيب بحذر صارم
(السلام عليكم، من يتكلم؟)
استمعت قليلا، قبل أن تغمض عينيها بمللل هامسة دون صوت.

ليس الآن، ليس الآن، ليتني ما أجبت الإتصال
ثم لم تلبث أن فتحت عينيها مجددا و هي تبتسم ابتسامة مفتعلة قائلة من بين أسنانها
(أهلا يا عمتي، كيف حالك حبيبتي، ما هذه المفاجأة الغالية؟ لا أتذكر متى كانت آخر مرة أتصلت بي فيها)
ردت عليها عمتها زهيرة بصوت ممطوط
(أهلا يا سوار، و هل أنت من تتصل يا ابنة غانم! من منا المفترض بها أن تتصل الكبيرة أم الصغيرة!).

عضت سوار على شفتيها بنفاذ صبر، الا أنها أجبرت نفسها على القول مازحة
(اذن أنت من عليك الإتصال يا عمتي، فأنت الأصغر)
ردت عليها عمتها بحدة
(كفى يا ابنة غانم، لن تسرقي عقلي بمثل هذه الكلمات الخائبة، المهم، لن أضيع وقتي في تعب القلب معك، فعلى ما يبدو أن ابن الهلالية قد سلب عقلك و انساك اهلك، بالحق أخبريني، هل تحملين طفلا أم لم يحدث بعد؟)
اغمضت سوار عينيها و هي تعض على باطن خدها...

لقد أتفقت مع ليث ان يتكتما الخبر لفترة. فهي لا تزال في الشهور الأولى و قد كانت الحياة معها قاسية، مما جعلها ترغب في حماية فرحتها الصغيرة بعد طول انتظار، و لا يحق لأحد أن يسألها في أمر خاص كهذا...
لكن ماذا تفعل الآن؟، هل تكذب؟
تنهدت سوار بوجوم و قالت بصوت حيادي
(كل بأمر الله يا عمتي)
الا أن عمتها لم تترك الأمر بل سألتها بنبرة ممتعضة مندهشة.

(لقد قاربت على اتمام العامين من زواجك من ابن الهلالي! و لم تحصلي على طفل بعد! من تزوجن معك لديهن الآن طفلين و الثالث في الطريق، و الاسم فقط متزوجة من ليث الهلالي! ما تلك الخيبة!)
حاولت سوار التماسك و السيطرة على نار الغضب التي اتقدت بداخلها، كانت قد عاهدت نفسها الا تغضب لهذه الدرجة مجددا، الا أن عمتها اتصلت اليوم لتفسد محاولتها...
فقالت ببرود مصممة الا تريح فضول عمتها.

(عمتي زهيرة، قلت في بداية كلامك أنه لا وقت لديك لتضيعينه، من الواضح أن لديك موضوع أكثر أهمية من حياتي الخاصة)
لكن عمتها قالت بنبرة اكثر استفزازا
(ما الذي يسكتك يا حمقاء كل هذا الوقت؟، ليث هذا عاش مع زوجته الأولى سنوات و لم تنجب و كنا نظن العيب منها، لكن فات عن بالنا أنه لو كان العيب منها لكان تزوج غيرها في وقت أبكر و حصل على أطفال عدة، ما الذي منعه من الزواج كل هذه الفترة إن لم يكن العيب منه؟).

بدأ جني الغضب المتهور يشتعل بداخلها، ينبئها أنها ستتهور و تخسر عمتها في نوبة جنون، الا أنها تمالكت نفسها و قالت بصرامة
(لا يا عمتي، لم يفت عن بالكم، كنتم تعرفون هذا الإحتمال جيدا، و قبلتم لأن زواجنا كان قرار من كبار العائلتين، لم يفكر أحد في مصلحتي أو يهتم إن كنت سأصبح أم أم لا، فلا تبدأي الآن لأنني أولا لن أقبل بأي كلمة تمس زوجي، و ثانيا لن أقبل التدخل في مثل هذه الشؤون شديدة الخصوصية من حياتي).

علي ما يبدو أن الذهول قد أصاب عمتها من شدة وقاحة ابنة أخيها، حيث ظلت صامتة معقودة اللسان قليلا قبل أن تهتف
(بنت يا سوار، كيف تتكلمين معي بهذه الوقاحة؟)
الا أن سوار كانت قد وصلت للحد الأقصى من التحمل، فتابعت دون توقف
(و لا تنسي أن ابنك كان معي في نفس الصفقة)
صرخت عمتها بذهول أكبر
(بنت يا سوار!).

حينها فقط أغمضت سوار عينيها و هي تتنهد بقنوط، متى فقط تسيطر على تلك القوة المنبعثة منها، رغم شدة تطفل عمتها لم تكن لتكلمها بهذا الشكل من قبل، لطالما كانت سوار الرافعي امرأة تحترم العائلة و تسير على القوانين دون اعتراض، لكن منذ عرفت التمرد و كأن كل ألجمة أحصنتها قد هربت من بين أصابعها...
حاولت تهدئة نفسها ثم قالت أخيرا بخفوت.

(دعك من حياتي يا عمتي، لم تكن مهمة لأحد من قبل و لن تصبح الآن، كيف حال عرابي؟)
للحظات بدت عمتها و كأنها تريد إغلاق الخط و لم تصفى بعد، الا أن الإمتعاض بداخلها انتصر فقالت بحدة
(حاله لا يسر عدو و لا حبيب، محقة أنت في أنها كانت صفقة نكبة علينا)
قالت سوار بيأس
(لم أقل هذا)
الا أن عمتها لم تسمعها و تابعت بحدة.

(كانت خطبة التعاسة كلها، لا نعرف لنا رأس من أقدام حتى الآن، كلما حاولت أن أخطب له، يصيب القلق أعمامك من أن تكون عائلة الهلالي لا تزال مرتبطة بالخطبة بيننا و بينهم و مع ذلك مصرون على رأيهم من الا يراها قبل أن تنهي دراستها، و هم ما يفعلون هذا الا ليمل ابني و يفسخ الخطبة، فيكون الحق علينا).

شعرت سوار بالغثيان ينتابها من جديد من التعب و الملل، فسحبت أحد كراسي المطبخ لتجلس عليه ثم اراحت جبهتها الى كفها و هي تقول بفتور
(همممممم، وضع صعب فعلا، أظن يا عمتي أن الصراحة في مثل هذه الأمور هي)
الا أن عمتها صرخت فيها مقاطعة
(و أنا لن أنتظر أكثر، عائلة الهلالي عاملتنا بطريقة مهينة، مدعين عادات لا يتعاملون بهما الا مع ابني، من حقه أن يرى خطيبته و يرفضها).

تنهدت سوار مجددا و هي تشعر ببوادر الصداع تشارك الغثيان بمحبة، ثم قالت بملل
(و المطلوب يا عمتي، من الواضح أنك لا تنتظرين مني النصيحة)
ظلت عمتها صامتة للحظات، ثم قالت أخيرا بقوة
(عليك مساندتي يا سوار، تعرفين انه شرعا لإبني حق في رؤيتها)
رفعت سوار رأسها عن كفها و هي تشعر بتوجس مفاجىء، ثم قالت ببطىء و حذر غير مطمئن
(ما المقصود بالضبط يا عمتي؟، ماذا تريدين مني؟).

(لا أعلم ما الذي دفعني للقبول؟، ما دخلي أنا؟، لماذا سحبت من لساني ووافقت؟)
كانت سوار تدور حول نفسها بعصبية في شقتها، ثم وقفت تعض على مفصل سبابتها، قبل أن تقول بحدة
(و ماذا في الأمر؟، بصراحة عمتي محقة، إنهم يتعاملون مع الولد بدونية و كأننا نحن القتلة! الا يكفي تنازلنا بالصلح!)
الا أن قلقها لم يهدأ، حتى أنها انتفضت ما أن سمعت جرس الباب، فجرت اليه و فتحته قائلة متنهدة
(ما الذي أخرك كل هذا الوقت؟).

دخلت هريرة الى الشقة و هي تنظر الى ساعة معصمها قائلة بقنوط
(خمس و أربعون دقيقة في مثل هذا الزحام ساعة الذروة، بعد اتصالك الآمر أن آتى على وجه السرعة! لو لديك خادم لكنت عاملتيه بشكل أكثر آدمية مما تعامليني، ما المشكلة؟ شجار جديد؟)
جذبتها سوار ثم أغلقت الباب بقوة قبل أن تستدير اليها و تمسك بكتفيها بقبضتين صارمتين، ناظرة الى عينيها قائلة بحسم.

(اسمعي يا هريرة، عليك أن تحددي انتمائك في الحال قبل أن أتكلم، هل أنت من الهلالية أم الرافعية؟)
لم تحتاج هريرة الى كثير من التفكير قبل أن تجيب ببساطة
(مع الهلالية)
رمقتها سوار بنظرة تهديدية قبل أن تعيد السؤال بشكل تحذيري
(هريرة، لآخر مرة سأسألك)
الا أن هريرة أجابتها بنبرة اكثر بساطة
(هلالية، مذكور في بطاقة الهوية)
شعرت سوار بالقنوط، ثم قالت برجاء هذه المرة.

(و ماذا لو طلبت منك أن تكوني عديمة الإنتماء ليوم واحد فقط؟)
ضاقت عينا هريرة و هي تنظر الى سوار ثم سألتها ببطىء
(لا أشعر بالراحة، و كأن أحدهم يقطر ماءا باردا في مؤخرة عنقي)
ردت عليها سوار بنبرة أكثر حزما
(أنت صديقة جويرية الهلالي، اليس كذلك؟)
رفعت هريرة حاجبها و قالت بحذر أكبر
(و،؟)
تركتها سوار و هي تستدير عنها قائلة ببراءة
(آخر مرة رأيت فيها جويرية كانت منذ سنوات طويلة، ترى ما هو شكلها الآن؟).

كتفت هريرة ذراعيها و هي تقول بغيظ
(سوار، اقتحمي الموضوع)
التفتت اليها سوار قائلة بنبرة استعطاف
(أريد منك خدمة، هريرتي حبيبتي الصغيرة الجميلة).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة