قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأربعون

(مصطفى! ماذا تفعل هنا؟)
ابتسم مصطفى دون مرح وهو يقول بخشونة
(هذا البيت لا يزال بيت والدي أنا أيضا)
للحظات رأت مسك مشاعر متعاقبة على وجه أمجد، أولها كان اشتياق كبير مؤلم، ثم خذلان، و في النهاية باتت ملامحه كمرآة معتمة لا تظهر شيئا...
أبعد أمجد مسك الى الخلف وهو يقول بجفاء، (أنت من تركته بمحض ارادتك)
كتف مصطفى ذراعيه وهو يقول متحديا
(كنت أظنك قد تغيرت ولو قليلا، لكن من الواضح أنني كنت مخطئا).

رد أمجد بخشونة
(ما الذي سيجعلني أتغير؟، أنا من ظننتك عدت الى رشدك، لكن من الواضح أنك لم تفعل)
كانت مسك تنقل عينيها بينهما بقلق، ثم أمسكت بمعصم أمجد و هي تسأله بحيرة
(ما الذي يدعو الى كل هذا الخلاف؟)
لم يرد أمجد عليها، بل نظر الى أخيه نظرة فيها خيبة أمل لم تختفي حتى بعد عامين، مما جعل فكه يتوتر و عيناه تظلمان، الا أنه قال ساخرا، مخاطبا مسك.

(دعيني أنا أتطوع لأخبرك بما يخجل زوجك، كل الأمر أنني تزوجت من امرأة لم تنل رضاه)
ارتفع حاجبي مسك و هي تنظر الى أمجد المتجهم و سألته بحيرة
(هل هذه هي كل المشكلة حقا؟)
نظر اليها أمجد طويلا، ثم قال بخشونة
(هو حر، لقد اختار حياته بنفسه)
ابتسم مصطفى بغضب وهو يعض على جانب شفته، ثم سأل أمجد بنبرة غريبة
(كما فعلت أنت؟).

انعقد حاجبي أمجد بشدة من سؤال أخيه، الا أن صوت بكاء مفاجىء جعل ملامحه تجفل وهو يرهف السمع قائلا بتوتر
(ما هذا الصوت؟، هل هذا صوت طفل؟)
ضحك مصطفى قبل أن يدخل الى المطبخ الذي خرج منه منذ قليل، و سرعان ما خرج وهو يجر العربة المزدوجة، مما جعل عينا أمجد تتسعان بصدمة...
أما مصطفى فقال بهدوء مبتسما
(عائشة و عبد الرحمان).

ساد صمت غريب موحش بين ثلاثتهم و أمجد يحدق في الطفلين بملامح غريبة و نظرات أوجعت قلب مسك بشدة، و بعد فترة طويلة رفع وجهه الى مصطفى قائلا بجفاء
(هل أنجبت زوجتك؟)
السؤال في حد ذاته زاد من الغضب القاتم في عيني مصطفى، الا أنه قال بتحدي قاس
(و زوجتك لم تفعل على ما يبدو)
اتسعت عينا مسك، بينما برقت عينا أمجد بتعبير مخيف ثم همس ببطىء شديد
(إياك، إياك يا مصطفى)
الا أن مصطفى قال متابعا بحدة و قد علا صوته.

(لقد تزوجت الفتاة التي أحببتها رغما عن الجميع، مخالفا كل عقل و منطق، حرمت نفسك من نعمة الأبوة لأنك أحببتها، بينما أنكرت على نفس الشيء سابقا)
اتسعت عينا أمجد بذهول غاضب قبل أن يهدر عاليا وهو يفقد أعصابه مشيرا الى مسك
(من تقارن بها؟، انظر اليها، امرأة ناجحة متعلمة يتمناها أي رجل له ذرة عقل، بينما زوجتك).

شعر مصطفى بنفس الإهانة القديمة التي كانت السبب في خروجه من البيت، فصرخ عاليا بنبرة متحدية يقاطع أمجد عن تكرار اهانته
(و على الرغم من ذلك فإن زوجتي هي من أنجبت طفلين، بينما زوجتك الجميلة التي تليق بك لا تستطيع)
شعرت مسك أنها وقعت ضحية غضب شاب في مقتبل عمره يقذف بسهامه دون مراعاة...
لكن ما لم تتوقعه هو أن يندفع اليه أمجد و في لحظة لكمه بقوة مما جعله يتراجع للخلف مصطدما بالجدار من خلفه...

صرخت مسك بقوة و هي تمسك بأمجد بكل قوتها
(أمجد، لا تفعل)
بينما استقام مصطفى في وقفته وهو يمسح فمه ببطىء، ثم نظر الى أمجد مبتسما دون مرح و سأله بجفاء
(لم تستطع تحمل كلمة قد تؤلمها، وقعت في الحب الخطأ بكل جوارحك، فاقتنصت فرصتك في السعادة دون التفكير في العواقب)
لم يرد عليه أمجد الذي كان يلهث من فرط الغضب، و مسك تمسكه، متشبثة به كي لا يتهور مجددا...

بينما ازداد بكاء عائشة علوا و قد أزعجها الصوت العالي، مما جعل مصطفى ينحني اليها ليأخذها بين أحضانه وهو يربت على ظهرها و يهمس في أذنها برقة كي تهدأ...
و فجأة، علا صوت آخر...
صوت أمهما، و التي خرجت من غرفتها تتلمس الجدار و هي تهتف بلهفة
(مصطفى، هل هذا أنت يا ابني؟، هل أنت هنا حقا؟)
حمل مصطفى، ابنه عبد الرحمان على ذراعه الأخرى قبل أن يتجه الى والدته ببطىء حتى وصل اليها فهمس بصوت مختنق.

(لست وحدي يا أم أمجد، لست وحدي، افتحي ذراعيك)
فتحت أمه ذراعيها بصدمة و الدموع تغرق عينيها قبل أن تشعر مصعوقة بجسمين صغيرين ينبضان على صدرها و يتحركان بفوضى محببة، فشهقت بنفس مختنق
(أطفالك؟، أطفالك يا ابني! أحفادي؟)
دمعت عينا مصطفى و تحشرج صوته و بدا غير قادرا على النطق بينما أغمضت أمه عينيها الغير مبصرتين و هي تبكي بقوة و تأثر محتضنة الطفلين بقوة، بينما مصطفى يقبل جبهتها بإنفعال...

أما مسك فقد كانت تراقب أمجد بقلب منهار...
ملامحه في تلك اللحظة كانت كفيلة بأن تجعلها تخر على ركبتيها باكية بكل ما يعتمل في صدرها...
رفعت مسك كفها لتضعه على صدره و همست بخفوت
(أمجد، هل أنت بخير؟)
نظر اليها أمجد فجأة بنظرة عميقة قبل أن يضع كفه على جانب وجهها وهو يسألها همسا بخشونة
(هل أنت بخير؟).

أومأت مسك برأسها بسرعة تؤكد له أنها بخير، فأخفض كفه يمسك بيدها بقوة وهو يجرها خلفه حتى خرجا من باب الشقة و لم يترك يدها حتى دخلا الى شقتهما، و غرفتهما...
فجلس أمجد على حافة الفراش وهو يفك زر قميصه العلوي بصعوبة دون أن يترك كفها فإضطرت للجلوس بجواره دون صوت و هي ترى ملامح التوتر و الغضب على وجهه، فهمست مجددا
(هل أنت متأكدا من أنك بخير؟)
أخذ أمجد نفسا مرتجفا، ثم قال أخيرا بصوت أجش دون أن ينظر اليها.

(أنا بخير الآن)
منحته مسك بعض الوقت، الى أن هدأ وأطرق برأسه ناظرا الى البساط بصمت، فسألته بخفوت
(لا أصدق أن الخلاف بينكما لمجرد أنه تزوج فتاة لم تنال موافقتك)
رفع أمجد وجهه ينظر اليها، ثم قال بنبرة باهتة كئيبة
(فتاة؟)
ارتفع حاجبي مسك و ضحكت بعصبية قائلة
(نبرتك غير مريحة)
قاطعها أمجد قائلا بلا تعبير
(امرأة تكبره بخمس عشر عاما)
اتسعت عينا مسك و فغرت فمها غير مصدقة، بينما تابع أمجد بصوت أكثر قتامة.

(حين التحق مصطفى بكلية الهندسة، شعرت و كأن ابني هو من فعل، كانت سعادتي لا توصف، و مرت السنوات ببطىء وهو ينجح بالكاد، و أنا لم أضغط عليه كي يتفوق، لكن فجأة بدأ كل شيء يتغير، رسب عاما، ثم الآخر، و بدأت طباعه تختلف و يتغيب عن البيت كثيرا...

فراقبته الى أن صعقتني الحقيقة المرة، الأستاذ ترك دراسته، ترك كليته التي ساعدته بكل ما استطيع كي يلتحق بها، و عرفت فيما بعد الخبر الأكثر صدمة، أنه على علاقة بإمرأة أكبر منه بخمسة عشر عاما، و لم تكمل تعليمها حتى)
صمت أمجد وهو يتمتم بشيء غير مسموع، بينما كانت مسك تستمع اليه مصدومة كذلك...
ثم تابع بصوت عنيف محتد النبرات...

(ظننتها مجرد نزوة فحاولت جهدي أن أمنعه عنها، الا أنه صدمني الصدمة الثالثة وهي أنه يريد الزواج منها، حينها فقدت أعصابي و أقسمت بأغلظ الأيمان أن أقف لها بنفسي، حينها خرج من البيت بكل بساطة، و لم يعد، و عرفت بعدها أنه تزوجها بسرعة و عاش معها في بيتها كي تنفق عليه، و الآن هو يعمل في ورشة تخصها)
ساد صمت ثقيل بينهما، و مسك تنظر اليه غير مصدقة، ثم نظرت أرضا أخيرا و هي تزفر نفسا مرتجفا قبل أن تقول ببطىء.

(أتفهم أنها كانت خيبة أمل لك)
رد عليها أمجد دون أن يرفع وجهه
(خيبة الأمل لا تصف الشعور بالخذلان الذي أشعر به تجاهه، لقد أفسد حياته)
لم ترد مسك على الفور، بل ظلت صامتة للحظات ثم قالت أخيرا بهدوء
(ربما، لكنها حياته وهو اختار)
رفع أمجد وجهه ينظر اليها ببطىء ثم قال بنبرة غريبة
(ماذا؟)
عرفت مسك أنها تخطو في منطقة خطرة في تلك اللحظة، الا أنها أجابته قائلة بحذر.

(حياته، أي كانت الطريقة التي اختارها، فهي في النهاية حياته و سيحياها كما يريد)
قفز أمجد من مكانه وهو يهتف غاضبا
(ما الذي دهاك يا مسك؟، لا أصدق أنني أسمع هذا الكلام منك أنت تحديدا؟، لقد ترك دراسته و يعمل عملا أقل مستوى مما كان يستحقه، و تزوج امرأة تكاد أن تكون في عمر أم له، تنفق عليه و يسكن بيتها، أي فشل آخر ينتظره أكثر؟)
نهضت مسك من خلفه و هي تقول بإصرار.

(أنا لا اقول أنني راضية عن حياته، لكنها حياته هو، لست مجبرة أن أكون راضية عنها، المهم أن يكون هو راضيا)
صرخ أمجد قائلا بعنف
(لا، لا، الأمور لا تتم بهذه الطريقة، ليس الهدف الوحيد من الحياة أن يكون الإنسان راضيا عنها فقط، فلمن حوله حقوق عليه)
ابتسمت مسك و هي تهزر رأسها شاعرة بنفس الألم يتسرب اليها من جديد، ثم نظرت اليه و قالت بهدوء.

(الآن فقط فهمت سبب عودته، لقد عرف بزواجك من امرأة لا أمل لها في الإنجاب، بالنسبة له، أنت أيضا قمت بنفس الشيء الذي أنكرته عليه)
هتف أمجد بحدة غاضبا بذهول
(اخرسي يا مسك، اخرسي، لا تجرؤي على مقارنة نفسك بها، أنت)
صرخت مسك بإنفعال مفاجىء و هي تقاطعه بجنون طال كبته.

(أنا امرأة عاقر، لقد تزوجت امرأة عاقرا ضاربا بأمنية أمك عرض الحائط، لقد اخترت سعادتك دون النظر الى أي منطق أو عقل، إن كان هو قد تخلى عن دراسته فقد تخليت أنت عن أبوتك، أيهما أهم يا أمجد؟، كن صادقا مع نفسك و أخبرني أيهما أهم؟)
صمتت أخيرا و هي تعض على شفتيها ترتجف من أعلى رأسها و حتى أخمص قدميها، ثم تابعت بحدة و هي تلوح بذراعها.

(لقد عاش التجربة، و احتمال كبير أن تفشل، لكن حتى و إن حدث هذا فسيكون قد خرج بطفلين، حفيدين لوالدتك، و سيكمل حياته و يعوض ما فاته، و ربما تكون زوجته قد حصلت على فرصتها الأخيرة في الإنجاب كذلك، لذا ستخرج هي أيضا من التجربة رابحة)
صمتت مجددا و هي تلهث، ناظرة الى ملامحه المصدومة و نظراته الذاهلة...
فاستدارت عنه غير قادرة على مواجهة عينيه أكثر، ثم أغمضت عينيها و همست بصوت مختنق.

(أعتقد، أنا أرى، أن تخرج أنت أيضا من التجربة بأقل خسائر ممكنة، لقد أخطأنا في زواجنا يا أمجد، إن كنت ترى أن مصطفى قد أفسد حياته، فمن الأفضل ألا تفعل أنت)
شعرت بالأرض تميد بها، الا أنها تابعت قبل أن تفقد شجاعتها
(طلقني يا أمجد)
شعرت أن الكلمة خرجت من بين شفتيها كطلقة نسفت قلبها، لكنها قوت نفسها و انتظرت الرد...
انتظرت و انتظرت، الى أن سمعت صوتا لشيء يرتطم فوق البساط...

فاستدارت ببطىء لتجد امجد و قد ضرب كرسيا في منتصف الغرفة...
عقدت مسك حاجبيها و هي تسأله بصوت مختنق
(ماذا تفعل؟)
رد أمجد عليها بصرامة
(سنكمل كلامنا الذي قطعناه صباحا)
شعرت مسك بالقلق و الخوف، بينما ترك هو الكرسي و اتجه الى دولابه ليفتحه، فقالت مسك بعصبية
(لن نتابع أي كلام يا حسيني، أنا خارجة من هنا الى أن تفكر فيما قلته لك للتو، لأنه على ما يبدو تتظاهر بأنك لم تسمع).

ثم اتجهت الى الباب لتخرج، الا أنها فوجئت بأمجد يقطع عليها الطريق ممسكا في قبضتيه ربطتي عنق من أربطته، و ملامحه قاسية بشكل غريب خاصة وهو يجيبها بصرامة
(بل سنفعل يا صبارة)
و قبل أن تستطيع الهرب منه، انحنى ليرفعها على كتفه و اتجه بها الى حيث الكرسي بينما هي تتلوى و تصرخ بغضب، فأنزلها على الكرسي بقوة...

سارعت مسك تحاول النهوض من الكرسي، الا انه كان أسرع منها فثبتها وهو يمسك بمعصمها و بمهارة عالية قيده في ذراع المقعد بإحدى ربطتي عنقه...
ثم قيد المعصم الآخر بالربطة الاخرى...
تسمرت مسك مكانها و هي تنظر بذهول الى معصميها المقيدتين بذراعي الكرسي، ثم لم تلبث أن صرخت بغضب مجنون
(فك معصمي حالا يا حسيني).

الا أنه لم يهتم لصراخها، بل اتجه ليجلس مجددا على حافة السرير المواجه لها، ثم نظر اليها مبتسما بهدوء و هي تحاول مصارعة قيدها، ملوحة بساقيها، فقال أمجد ببساطة
(توقفي عن المقاومة لأنك لن تتسببي الا في وقوعك بالكرسي، و أن حدث هذا فسنكمل كلامنا و أنت ملقاة أرضا، الخيار لك)
نظرت مسك اليه بعينين غاضبتين همجيتين و هي تتوقف عن المقاومة، ثم صرخت عاليا
(أنا لا أحب تلك الأساليب المتخلفة يا حسيني)
رد عليها ببرود.

(لم تتركي لي خيارا آخر، لقد فاض بي الكيل من غبائك يا ألمظ)
ظلت تتنفس بسرعة و هي غير قادرة على التحكم في غضبها، بينما تابع أمجد يسألها بجدية
(حين طلبت مني أن نكفل طفلا في بيتنا)
تأففت مسك متظاهرة بالملل و قالت ببرود
(ألازلت تتذكر هذا الموضوع؟، كان مجرد اقتراح سخيف)
راقبها أمجد بتفحص ثم قال بجدية.

(لو كنت تدركين كم أعرفك أكثر مما تعرفين نفسك، لأدركت أنك لا تطلقين اي اقتراحات سخيفة دون تفكير مسبق، الآن لنبدأ من جديد، لماذا أردت أن نتخذ طفلا ليس بطفلنا؟)
رفعت مسك عينيها اليه و أجابت بحدة
(لأنني لن أنجب أي أطفال، و بدا هذا اقتراحا مناسبا، هل يحتاج الامر الى ذكاء؟)
ضاقت عينا أمجد وهو ينفذ الى أعماقها، ثم سألها بصوت أجش.

(هل تريدين الطفل لأن غريزة الأمومة لديك تشتاق اليه، أم لأنك كنت تبحثين عن حال لجعل حياتنا أكثر استقرارا؟)
ردت عليه مسك بإقتضاب
(و هل يشكل هذا فارقا؟)
لم يرد أمجد على الفور، بل نهض من مكانه ببطىء و اقترب منها حتى جثا على عقبيه أمامها و يده على كفها، ثم قال بخفوت
(فارقا ضخما، للغاية، أجيبيني)
هتفت مسك بإختناق و هي تشعر بنفسها على وشك الإنفجار بكاءا...
(ماذا تريد مني يا امجد؟، ما الذي تريده مني؟).

رد عليها بخشونة هاتفا، بجواب آمرا
(أحبيني)
نظرت مسك الى عينيه الغاضبتين، العميقتين بشدة، فارتجف قلبها و شعرت و كأن أضلعها تلتوي ألما، بينما اعاد هو بنبرة أكثر فظاظة
(أحبيني، فقط أحبيني)
أغمضت مسك عينيها بتعب مضني الا أنه أحاط وجهها بكفيه وهو يقول بحدة
(لا، لا لا، افتحي عينيك، لن أسمح لك بالهرب مني)
فتحت مسك عينيها بألم و هي تنظر الى عينيه الغاضبتين، ثم همست أخيرا بإختناق.

(ربما كانت غريزة الأمومة تلح على بشوق بين الحين و الآخر، لكنني حين رغبت في طفل كان هذا كي يكون بيننا رابط للأبد، لأنني)
صمتت للحظة و هي تلتقط أنفاسها بصعوبة قبل أن تهتف بقوة
(لأنني أموت في اليوم ألف مرة منتظرة اللحظة التي ستعود فيها الى رشدك، و تتركني)
أغمض أمجد عينيه وهو تأوه عاليا قبل أن يخفض رأسه ببطىء حتى ارتاحت جبهته فوق ركبتيها...
و ظلا على هذا الوضع طويلا الى أن قال اخيرا بتعب.

(كم عمرا سأحتاج، كي أثبت لك أنني ببساطة أحبك، و لن أتركك طالما في صدري نفس يتردد، أخبريني يا ألماس كم عمرا أحتاج؟، لو كنت تملكين من الحب نصف ما أكنه لك لربما وثقت في حبي ولو قليلا)
شهقت مسك باكية و هي تقول بإختناق
(لا يدوم الحب طويلا، صدقني)
رد عليها أمجد قائلا بخشونة
(الحب الذي لا يدوم، لم يكن حبا في الأساس، بل شعور مريض و إياك و أن تقارني حبي لك به، إياك).

ارتجف صوت بكائها حتى سالت الدموع على شفتيها و هي تنظر الى رأسه مبتسمة، منتحبة...
ثم همست أخيرا بضعف
(هلا حللت قيدي الآن أرجوك)
رد عليها أمجد بصوت قاس منفعل
(و لماذا أفعل هذا؟، أمنحيني سببا واحدا لأفعل)
ضحكت باكية و هي تهمس بألم
(لأنني أريد أن أتخلل شعرك بأصابعي)
رفع أمجد وجهه اليها ببطىء ينظر الى عينيها بعينين لا يكذب حبهما الا أعمى لا يبصر...
لكنه لم يحل وثاقها، بل قال بجفاء آمرا
(أحبيني).

أومأت برأسها بسرعة و همست من بين دموعها بقوة
(أحبك، أحبك، أقسم بالله أحبك يا حسيني)
للحظات ألجمت الكلمات امجد و كأنه كان يائسا من سماعها، ثم لم يلبث أن سارع بفك وثاقها بأصابع مرتبكة، حتى أصبحت حرة تماما...
فارتمت عليه حتى أسقطته أرضا و هي على صدره، تقبل كل ذرة من ملامحه و هي تهمس بنحيب خافت
(أحبك، و أكره تضحيتك من أجلي و اكره أنانيتي في اغتنام سعادتي بالقوة).

ضمها أمجد اليه بالقوة وهو يغمض عينيه يستمع الى تلك الكلمات التي طال لها الإنتظار...
ثم همس بصوت أجش خشن
(اغتنمي كل فرصة للسعادة يا ألماس، فأنا نفسي فعلت حين اغتنمت فرصتي فيك).

(لن أسمع أي كلام قبل أن أرى بدور بنفسي)
هتف أمين بتلك الكلمات في بهو دار عمه، وهو يجيل عينيه في كل مكان بقلق متزايد، بينما عمه و زاهر يقفان أمامه ينظران اليه بغضب فور وصوله...
ثم قال عمه بخشونة
(لنتكلم أولا يا أمين، الأمر لن يمر بهذه البساطة، )
استدار أمين اليه وهو يقول بصرامة
(و انا قلت أنني لن أتكلم الا بعد أن أرى بدور بنفسي)
نظر كلا من زاهر ووالده للآخر، ثم قال زاهر أخيرا بخشونة
(اتبعني اذن).

ثم تحرك بإتجاه الغرفة في الطابق السفلي، و دفع بابها الخشبي يتبعه أمين وهو يحاول أن يتجاوز كتفي زاهر بعينيه القلقتين...
كانت الغرفة مظلمة، لا يظهر منها الا شعاع الضوء الداخل من شق الباب...
حتى فتحه زاهر ثم أشعل الضوء...
للحظات بدت الغرفة لعيني أمين خالية، الا أنه حين دقق النظر وجد كومة سوداء ملقاة أرضا بجوار السرير...
ضاقت عيناه للحظة قبل أن تتسعا وهو يهتف بصوت اجش شاعرا بشيء مفزع يضرب أعماقه
(لا، لا).

ثم تجاوز زاهر ليندفع حتى هذه الكومة. و انحنى أرضا يبعد الشعر الذي وجده عن وجهها، مناديا بصرامة
(بدور، بدور أجيبيني)
لكن أصابعه تشنجت وهو يرى الكدمات في وجهها فاتسعت عيناه ارتياعا، لم يرى يوما امراة مضروبة بتلك الطريقة من قبل، حتى هو لم يضربها بنفس الوحشية على الرغم من صدمته فيها و خداعها له، و الأفظع أن كفيها كانا مقيدين الى أحد أعمدة السرير...

التفت أمين الى زاهر الذي كان يراقبه متجهما، و عمه الذي دخل الى الغرفة، و هتف بقوة غير مصدقا
(لما كل هذا؟، فقط كيف استطعتما؟)
ارتفع حاجبي عمه وهو يهتف بغضب
(هل تعاتبنا يا ولد؟، زوجتك أخطأت خطأ كبيرا، فضيحة لا تغتفر في بلدة كبلدتنا)
صرخ أمين بغضب أكبر
(إن كانت قد أخطأت، فيتوجب عليكما انتظار قدومي، هذه زوجتي و أنتما تخطيتماني)
زمجر عمه قائلا
(لا عجب أنها استهانت بك و فعلت ما فعلت).

فتحت بدور عينيها بضعف تنظر الى والدها مما استرعى انتباه أمين الذي هتف على الفور
(بدور، هل أنت بخير؟، هل تستطيعين تحريك نفسك؟، هل تشعرين بأي كسور؟)
فتحت بدور فمها و حاولت الكلام، الا أن شفتاها الجافتان لم تستطيعا النطق سوى بإسمه، فهمست متوسلة بنحيب متوجع
(أمين)
سارع أمين ليفك كفيها ثم لف ذراعيه حولها بحرص، الا أنها تأوهت عاليا ثم صرخت بضعف...
توقف أمين على الفور وهو يقول عاقدا حاجبيه بصدمة.

(ياللهي، و كأن جسدك لم يعد به جزءا سليما)
أبعد المزيد من الشعر عن وجهها المتورم، ثم همس في أذنها
(هل تستطيعين الوقوف على قدميك؟)
أومأت برأسها بضعف، فأمسك بذراعيها وهو يقول بحزم
(سأساعدك، تشبثي بي)
نهض أمين من مكانه وهو يرفعها اليه و هي تتأوه عاليا مع كل حركة الى أن وقفت على قدميها بالفعل، الا أنها ترنحت قليلا فارتمت على صدره...

وجد أمين ذراعيه تحيطان بها قبل أن يستطيع منعهما، فإحتضنها بقوة مما جعلها تئن عاليا...
همس أمين بخشونة
(لا بأس، لم أقصد الضغط عليك، هيا بنا لنخرج من هنا، لنعد الى البيت)
الا أن عمه هدر قائلا بخشونة
(ليس قبل أن نضح حدا لما حدث اليوم)
انقبضت أصابع بدور بضعف فوق صدر أمين الذي شعر برعدة تسري جسدها بوضوح، مما جعله يعقد حاجبيه و يقول بصوت عاليا عنيفا
(لن يقترب منها أيا منكما مجددا، كفى تعذيبا بها).

لوح عمه بذراعيه و هتف غاضبا
(لا تكن لينا بهذا الشكل، اجمد يا ولد و أجبرها على احترامك، أو ستقدم على ما فعلت كلما شعرت بالملل و رغبت في وصم كرامتك، كن رجلا)
لم يرد أمين و لم يشعر بالإهانة، بل على العكس، نظر الى عمه بنظرة أعلى و أكثر تفوقا، و كان أن يتغاضى عن إجابته...
الا أن صوت بدور علا فجأة و هي تقول بأحرف مشددة
(أمين رجل، لن أسمح لأحد بأن يهينه).

ارتسمت الصدمة على ملامح والدها وهو يسأل بنبرة تفيض بالشر
(هل تردين كلمتي بكلمة يا حيوانة؟)
صرخت بدور فجأة
(أنا لست حيوانة، لست حيوانة)
قال أمين بصرامة
(اصمتي الآن يا بدور، دعينا نخرج من هنا)
بينما جن جنون والدها وهو ينظر حوله صارخا بغضب
(والله لن تخرج من هنا، أين الخرطوم، أين هو، كان في يدي، من أخذه؟)
أزاح أمين بدور خلفه و قال قاطعا
(لن يمسها أحد)
الا أن بدور لم تصمت، بل صرخت مجددا بشجاعة.

(و انا لن أوقع يمين قسمك و لن أخرج من هنا، لأنني مصممة على طلب الطلاق)
استدار اليها أمين صارخا بقوة
(اخرسي يا بدور، اخرسي حالا)
لكن كلا من والدها و أخاها حاولا الوصول اليها عبر أمين الذي قام بإعتراض هجومهما بكل قوته وهو يصرخ
(لن يضربها أحد)
أمسك عمه بمقدمة قميصه وهو يهتف به غاضبا
(الا تسمعها؟، زوجتك تطلب منك الطلاق بعد أيام من زواجكما بكل عين متبجحة وقحة، الا تمتلك بعض النخوة؟).

فتح أمين فمه ليرد بقسوة، الا أن بدور صرخت من خلفه بغضب و جنون
(أمين يمتلك من النخوة و الشهامة ما جعله يتستر على ابنتك)
اتسعت عينا أمين بذهول وهو يستدير الى بدور ناظرا اليها بعدم تصديق، الا أن ملامحها كانت عنيفة بشكل غريب و كأنها فقدت كل ما تخاف منه أو عليه...
صرخ فيها أمين بصرامة
(قلت لك اخرسي)
الا أنها هتفت بعنف و هي تنظر الى والدها الغير مستوعب.

(لن أخرس، أنا أطلب الطلاق لأنني لا أستحق رجلا كأمين، رجل تستر على بعد أن سلمت نفسي لراجح)
ساد صمت مجنون بين الجميع وهم ينظرون اليها بذهول، فصرخت أكثر
(نعم، راجح جعلني زوجته ثم تخلى عني، و أمين هو من تستر علي، يمكنك قتلي الآن لا آبه)
كان أمين عاجزا عن الكلام غير مصدقا لما فعلت بينما هجم عليها زاهر وهو يصرخ بذعر
(سأقتلك، سأقتلك يا بنت الحرام)
أما والده فصرخ بصوت يرتجف.

(أين السلاح؟، أين السلاح؟ سأقتلك، سأقتلك؟)
بينما سقطت أمها على ركبتيها أرضا و هي تضرب وجنتيها بقوة مولولة...
للحظات ظل أمين متسمرا مكانه، الى أن اتخذ قراره بسرعة، فاندفع الى زاهر و أبعده عن بدور بالقوة صارخا
(لن تستفيد شيئا من قتلها سوى الفضيحة، تعقل يا غبي، هي الآن زوجتي و أنا قررت أن يدفن هذا الأمر للأبد).

لم يبدو على زاهر انه قد سمع شيئا، وهو يحاول الوصول الى عنق بدور مما جعل أمين يلكمه بكل قوته فترنح زاهر قليلا، فانتهز أمين الفرصة و قبض على مقدمة ملابسه يصرخ في وجهه كي يستوعب
(أفق يا زاهر، لقد أصبحت أختك زوجتي أمام الجميع، فلماذا تفضح أسرتك، أفق)
توقف زاهر عن المقاومة وهو ينظر الى أمين بذهول لاهثا، ثم الى بدور التي وقفت متشبثة بأحد أعمدة السرير تنظر اليهما ببريق مخيف يظهر في عينيها...

أما والدها الذي أراد الخروج ليبحث عن سلاح، توقف مترنحا ليمسك بإطار الباب وهو يحني هامته، شاعرا بدوار عنيف...
فهتف امين بقوة...
(تخلى عن فكرة السلاح يا عمي، ابنتك لم تخالف الشرع، لذا ليس عليها اقامة حد أو تطهير شرف، فما الداعي للفضيحة الآن بعد أن أصبحت امرأة متزوجة أمام الجميع)
رفع عمه كفه ليحك بها جبهته التي أخذت تتعرق بغزارة بينما جحظت عيناه بشكل مخيف...
فانتهز أمين فرصة صدمتها و صرخ فيهما يقول.

(هل تريدان أن أطلقها لتقتلاها و تنتشر الفضيحة؟، هل هذا حقا ما تريدان؟)
ساد الصمت مجددا، صمت لا يقطعه الا عويل أمها...
و طال أكثر و أكثر، الى أن قال أمين أخيرا لاهثا
(هذا أفضل، أرى أنكما قد بدأتما تفكران بالعقل، سآخذ بدور في يدي الآن و أخرج من هنا، فلا تحاولان اعتراض طريقنا لمصلحة الجميع، و سيدفن هذا السر بين جدران هذه الغرفة للأبد)
ثم استدار الى بدور و مد كفه اليها، قائلا بصرامة
(تعالي).

كانت بدور تنظر اليه بعينين متوسلتين أن يتركها لمصيرها بعد أن حاولت دفع ثمن ما فعلت للمرة الأولى في حياتها، الا أنه حذرها بعينيه الصارمتين كيلا تتجرأ و تعارضه...
اقتربت بدور منه تعرج بصعوبة و عيناها على عينيه، الى أن وضعت يدها في كفه، فأطبق عليها و جذبها خلفه كي يخرج بها من هذه الغرفة الأشبه بغرفة تعذيب من القرون الوسطى...
لكن ما أن حاولا تجاوز والدها، حتى رفع يده و أمسك بذراع أمين قائلا بصوت مهزوم.

(معروفك، لن أنساه أبدا يا ولدي، لقد أنقذت سمعة عمك بعد ما فعلته الفاجرة)
رمقه أمين بنظرة طويلة، ثم قال أخيرا بجفاء
(لا داعي للكلام يا عمي، بعض الجروح لا يصلح معها أي علاج، فقط تترك كي تندمل وحدها، الا أنها ستترك أثرا لا ريب).

نظرت تيماء الى وجه قاصي وهو يجلس على درجات السلالم أمام بيتهما بعد أيام طويلة من البحث المضني
ملامح وجهه كملامح أبا، سرق ابنه الوحيد...
مدت يدها تمسك بمعصمه و همست بخفوت
(سنجده يا قاصي، صدقني، لا تصمت هكذا يا حبيبي)
لم ينظر اليها قاصي، بل ظل مكانه يتلاعب بغصن جاف خشن، ثم قال أخيرا بصوت خالي من أي شعور
(بحثنا عنهما في كل مكان، لقد ضاع عمرو للأبد)
جلست تيماء بجواره تتمسك بذراعه قائلة بلهفة.

(لا تقل هذا، لا أطيق نبرة اليأس تلك، سنجده يا قاصي أعدك بهذا، عد الى الشقة معي أرجوك، منذ أيام و أنت تقضي لياليك هنا في البيت على أرض خاوية بعد بحث منهك...
أرجوك لا تفعل بي هذا، قلبي لا يحتمل أن يراك بهذه الصورة)
ظل قاصي صامتا وهو يكسر الغصن بشراسة الى آلاف القطع، ثم ألقى بها بعيدا...
قبل أن ينظر اليها بملامحه المظلمة المرهقة، و قال بخفوت.

(ابني، ابني يا تيماء، ابني ضاع مني لأنني استهنت بقدرات راجح، أنا السبب في ضياعه)
أغمضت تيماء عينيها و هي تحني رأسها لترتاح على ذراعه، شاعرة بغصة مؤلمة...
ينتابها نفس الرعب على الرغم من محاولاتها في تهدئة رعبه...
لكن ماذا لو سافر راجح و اصطحب عمرو معه للأبد؟
ارتعش جسدها و هي تتخيل حالة قاصي حينها، مما جعلها تشدد من احتضانها له بقوة...

و بقيا على هذه الحال طويلا بينما الشمس تميل الى الغروب، حتى سمعت صوت رنين هاتفها مما جعلها تستقيم و هي ترد بالهاتف شاعرة بالتشاؤم منه رغما عنها...
لكن ما أن ردت حتى وصلها صوت غريب يقول
(عفوا، لدينا طفل هنا، أعطانا رقم هاتفك لأنه الرقم الوحيد الذي يحفظه، اسمه عمرو)
قفزت تيماء هاتفة
(عمرو! أين هو أرجوك؟)
رفع قاصي وجهه اليها و قد اتقدت ملامحه، فنهض مندفعا يختطف الهاتف منها وهو يجيب بلهفة و صرامة.

(أنا والد عمرو، أين هو؟)
رد الصوت الغريب قائلا بإرتباك...
(والده! عفوا ما فهمناه أنه كان مع والده، و قد قام أحدهما بإطلاق رصاص عليها فأصابت والده، وهو الآن في المشفى بحالة مستقرة، لكن الطفل مصمم على الرجوع الى قاصي و تيماء)
نظر قاصي الى تيماء بعينين واسعتين، فسألته دون صوت عما يجري...
الا أن قاصي سأل الرجل بتوتر قائلا
(ماذا عن والده؟، هل هو في حالة خطرة؟)
رد الرجل عليه قائلا.

(الإصابة في ساقه، و قد تضررت بشدة، لكن حالته مستقرة)
أغمض قاصي عينيه وهو يقول ملتقطا أنفاسه
(سآتي على الفور لأخذ الطفل).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة