قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل العشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل العشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل العشرون

أخذت ترمق جدها بنظرة حانية...
كان لا يزال محافظا على هيبته و سطوته، و رأسه مرتفعا، لم يحنه مطلقا...
لكن عيناه لم تستطيعا خداعها، كانت بهما نظرة منكسرة...
جعلتها تهمس بخفوت و هي تقترب منه في مقعده حتى انحنت على كفه الممسكة برأس عصاه تقبلها برفق
(ما عاش من تسبب لك في هذه النظرة يا جدي)
نظر اليها سليمان الرافعي بنظرته الصقرية النافرة من بين تضاريس الزمن القاسية، ثم قال بصوت مهيب.

(عشتم يا سوار، عشتم و احنيتم ظهري بآخر أيامي، و كأن الله يعاقبني على جرم ارتكبته في شبابي و أيام سطوتي، جعل كل أحفادي يحطون من قامتي قرب النهاية، ابنة سالم، وولدي عمران...
بينما طاقة النور الوحيدة في هذه العائلة، لم تدم، فمات سليم و تزوجت انت فداء الدم، لتغادر درة عائلة الرافعي بيتها للأبد)
أظلمت عينا سوار و هي تشعر بغصة كبيرة في حلقها، كيف تجادله، كيف تقنعه بأن الآتي أفضل؟

أي أمل في أحفاد عائلة الرافعي سوى الأمل في الله...
قالت سوار بخفوت و هي تشدد من قبضتها القوية فوق أصابعه
(ربما لم يكن كل الذنب على الأحفاد يا جدي، انهم يحملون ثقل خطايا ابائهم، لا تلقي كل اللوم عليهم)
نظر اليها سليمان يقول بصوت خفيض أجش
(اللوم كل اليوم يبدأ من رأس العائلة، مني أنا، أنا هو من لم يستطع احكام السطوة عليهم)
قالت سوار بهدوء.

(لا تكن قاسيا على نفسك يا جدي، لم تنقصك السطوة يوما، لكن لم تكن هي ما هم في حاجة اليه، لقد افترى عمي عمران جدا، و لم يجد من يردعه، و الآن ولديه يعيشان طريقه أحدهما اختار الطريق بملء ارادته و الآخر يحيا قسوة الظلم الذي تعرض له هو و أمه...
و عمي سالم فرق بين ابنتيه، فكان ان استقلت ابنته البعيدة و اختارت طريقها بنفسها هي الأخرى)
تنهد سليمان بقوة وهو يقول بأسى.

(و ماذا عن سليم؟، كيف أنساه، كيف أهون على نفسي فراقه؟)
أغمضت سوار عينيها بقوة و هي تغلق قلبها على جرح لم يندمل بعد، فهمست بصوت خافت
(رحمه الله يا جدي، رحمه الله، اللهم لا اعتراض)
فتحت سوار عينيها لتنظر اليه، ما أتت اليه هو المهم الأكثر بغضا على قلبها...
و رغم أنها لم تنسى و لن تنسى أبدا ما فعله راجح بها، و لن تؤخر وسيلة في الإنتقام منه، الا أنها كانت مضطرة، حفاظا على سمعة بدور...

لذا أخذت نفسا عميقا، ثم قالت ببطىء
(جدي، لن استطيع المكوث معك لفترة طويلة و أنت تعلم أن خروجي اليوم يعد معجزة، لكن هناك أمر خاص أود محادثتك به)
نظر اليها سليمان الرافعي بعينين ضيقتين، ثم قال بصوت أجش
(علمت من نظرة عينيك يا ابنة غانم أن هناك طلبا لك، وهو لن يروق لي مطلقا)
أسبلت سوار جفنيها و هي تشدد من قبضتها على كف جدها الممسكة، ثم قالت بهدوء ثابت...

(وهو لا يروق لي مطلقا يا جدي، لكن، ضميري يجبرني على مناقشتك في أمر زواج بدور من راجح)
اشتعلت عينا سليمان الرافعي و نهض بقوة وهو يقول
(زواج بدور و راجح انتهى، لقد طلقها و انتهينا منه، لماذا تفتحين مناقشة الأمر؟)
نهضت سوار تتبعه و هي تقول بعزم
(اسمعني يا جدي، أعرف أنه حقير و قذر و انا لم و لن أسامحه مطلقا، لكن ما ذنب بدور؟، أرى أن نتمم زواجهما، على أن يبقى بعيدا، أو تعاقبه بالطريقة التي تراها، ).

استدار سليمان اليها رافعا حاجبيه وهو يقول مصدوما بصوت جهوري
(نتمم زواجهما؟، هل جننت يا سوار؟، لماذا أزوج حفيدتي من عديم الرجولة مثله؟)
اخذت سوار نفسا عميقا و هي تعلم أنها تحارب في قضية خاسرة، الا أنها قالت بشجاعة و هي تبذل اقصى جهدها انقاذا لبدور
(اسمعني لحظة يا جدي، لقد عقد قرانهما لفترة طويلة و هذا سيؤثر على فرصتها في الزواج، و هي ابنتنا و لا نريد أن).

ارتفع حاجبي سليمان وهو ينظر اليها و كأنه ينظر الى مجنونة
(لقد أصاب شيء ما عقلك يا سوار! أتوقع هذا الكلام من امرأة جاهلة و ليس منك، ما الذي يعيب حفيدتي؟، انظري الى ابنة عمك مسك التي طلقت هي الأخرى وقد حرمت من نعمة الرزق بالبنين و ها هي تتشرط و تتمنع بثقة، لماذا أقبل بأن أزوج بدور براجح بعد فعلته الحقيرة؟)
قالت سوار بسرعة
(لا يعيبها شيء مطلقا يا جدي، أنا فقط قصدت أنها ربما تكون السبب في اصلاحه).

زمت شفتيها و هي تخفض وجهها غير مقتنعة بما تقوله، حتى صوتها غريبا لأذنيها، فقال سليمان الرافعي فجأة وهو يرفع وجهه إلى الباب يقول
(و لماذا أحكم أنا، ها هو والدها قد جاء بنفسه، اقنعيه بنفسك لو استطعت)
انتفضت سوار و هي ترى عمها والد زاهر و بدور يدخل غرفة جدها متجهم الوجه كعادته، فتوترت تلقائيا.

كان لديها أمل أن تقنع جدها بالحكمة، بالرغم من سطوته الا أنه أكثر تفهما من عمها، لطالما كان شديد الطباع دون تفكير أو تمييز، و لا أمل لها في اقناعه...
قال والد زاهر متجهما بصوت أجش
(ما الذي أتى بك يا سوار و أنت لا زلت عروس؟)
رفعت سوار ذقنها و هي تقول بثقة
(هل أصبحت ممنوعة من دخول دار الرافعية يا عمي؟)
زفر عمها وهو يقول بحدة.

(ها قد بدأنا في وقاحة فتيات هذه العائلة، كان يجب كسر أضلاعكن منذ طفولتكن، كي لا تعيبونا في شبابكن)
أرادت سوار الصراخ به أنها ليست فتاة، بل هي امرأة، أرملة و الآن متزوجة من آخر و قد رأت من الدنيا ما يجعلها أقدر الناس على المواجهة و الدفاع...
الا أنها لزمت الصمت بقوة كي لا تفسد ما جاءت لأجله...
نفض عمها عباءته وهو يتابع بخشونة آمرة
(المهم، ما الذي تريدين اقناعي به؟).

ظلت سوار صامتة، بينما تطوع جدها وهو يشير اليها قائلا بجفاء
(سوار تظن أنها المسؤولة عن طلاق بدور من راجح، و هي تود لو منحته فرصة جديدة كي يعقد على بدور من جديد)
الذهول الذي ارتسم على ملامح عمها كان كفيلا باعلامها رأيه بمنتهى الوضوح...
كان ذهولا ممتزج بالعنف و الغضب الأسود، قبل أن يهتف مستنكرا
(منحه ماذا؟، أتريدين مني رمي ابنتي لهذا الجبان؟ و لماذا؟، ماذا يعيب ابنتي؟)
زفرت سوار بصمت و هي تعيد برتابة.

(لا يعيبها شيء يا عمي، أنا فقط يصعب على أن أكون سببا في خراب البيوت، بدور لا ذنب لها)
هدر عمها بقوة...
(كفى، كفى يا بنت غانم، و لا تتدخلي فيما لا يعنيك، بدأت أشك في نواياك فيما يخص غيرك من بنات عمك بعد ما أصابك)
شحب وجه سوار و أجفلت ملامحها من هذا الإتهام الباطل، بينما علا صوت سليمان بقوة
(كفى يا ولدي، لا يحق لك اهانة أحب حفيداتي الى قلبي، و أرملة الغالي أبن الغالي)
عمها بقوة و غضب.

(اذن فلتهتم بنفسها و تعود لدار زوجها، ابنتي، سأزوجها لمن يستحق نسبها و يقدره، أما الحقير راجح فلو خطت قدماه الى ارض البلد فسأقتله بنفسي)
أحاطت سوار رأسها بوشاحهها جيدا، قبل ان تقول بصوت حازم قوي
(سأغادر الآن يا جدي)
انصرفت مرفوعة الرأس، ثابتة الخطوات، بينما ناداها جدها من خلفها بصوته المهيب
(سوار)
استدارت تنظر اليه طويلا، فقال لها بصوته الحاني الخاص بها وحدها
(لا تغيبي عني يا سوار، سيظل هذا دارك دائما).

ابتسمت سوار و هي تقول بخفوت حزين
(لن يمنعني أحد عن داري يا جدي، اي كان)
ثم غادرت و هي تشعر بمشاعر غريبة، ما بين الغضب، الاسى، و الرفض...
الرفض لكل شيء و كأنها بدأت فجأة ترفض كل القوانين التي اعتادت على احترامها...
ترفض ما ستتعرض له بدور مهما كان ما اقترفته في حق نفسها، الا أنها سترى الويلات خاصة حين يتم اجبارها على الزواج من آخر...

ترفض رفض ليث قدومها الى هنا، دارها، و الذي لم تعترف بغيره دارا حتى الآن...
ترفض صفقة زواجها كصلح بين العائلتين لحقن الدم...
ترفض ان أحدا لم يتحرك للأخذ بثأر زوجها...
ترفض اتهام عمها لها، و طرده لها من دارها...
و بينما هي تسير في الرواق الطويل، ارتفع جفناها و هي تنظر الى الباب المغلق البعيد...
باب جناحها هي و سليم رحمه الله...
وقفت مكانها و هي تتنفس بصوت خافت ناعم، قبل أن تهمس
سليم،.

كانت و كأنها تسمع صوت انشاده من خلف الباب المغلق...
أرهفت السمع جيدا، و كادت تقسم على ذلك...
حلاوة صوته تصل الى اذنيها بوضوح، و دون أن تدري كانت قدماها تقودانها ببطىء الى الباب المغلق...
حتى وصلت اليه، و فتحته و هي تبحث عنه بعينيها...
كان حال الجناح كما تركته تماما، لم يتغير به شيء، فدخلت و أغلقت الباب خلفها...

ابتسمت سوار و هي تنظر الى المكان الجميل الذي اعتاد سليم أن يجلس به متربعا ينشد من ابتهالاته...
ضيقت عينيها فرأته جالسا أمامها، يبتسم لها و صوته يرن في أذنها بحلاوته
همست سوار مبتسمة بحنين
(سليم!)
اقتربت منه الى أن جلست ببطىء على مكانه، تربت على نعومة تلك الأغطية التي عرفت طيب رائحته...
فهمست مجددا و هي تغمض عينيها
(أكاد أشعر بوجودك، مكانك خال، لا يحتله سواك).

تراجعت بظهرها للخلف، الى أن اتكئت و هي لا تزال مغمضة عينيها...
صوته لم يغادرها الا و قد سرقها معه في غفوة صغيرة، رأته فيها، يمد يده لها مبتسما وهو يهمس باسمها...
لم تجد حرجا من أن تحرر شعرها طويلا على ظهرها، رغم وجودهما في حقل واسع زاهي بالخضار...
أما هو فقد ازداد وجهه جمالا عما تتذكره، و كأنه يشع نورا، و ابتسامته خلابة...
فضحكت و هي تهمس
أحب ابتسامتك يا سليم، تشعرني بأن كل شيء سيكون على ما يرام،.

حينها فقط رد عليها دون أن يفقد ابتسامته
كل شيء سيكون على ما يرام،
ارتجفت شفتيها و هي تهمس بأسى مفاجىء
سليم، أنا آسفة، لا ترحل قبل أن تسمعها،
لكنه كان قد اختفى من أمام عينيها، التفتت حولها تبحث عنه في كل مكان، الا أنها كانت وحيدة تماما، فأخذت تناديه خائفة
سليم، أنا آسفة، أترجاك لا ترحل سريعا،.

انتفضت سوار فجأة جالسة في متكئها، و هي تتنفس بسرعة واعية الى وجودها في جناحها القديم، و كان الظلام قد بدأ يرخي ستاره قليلا...
ضيقت سوار عينيها و هي تعتدل في جلستها الا أنها شهقت فجأة بصوت عال و هي ترى الظل الجالس في مقعد وثير بعيد...
فصرخت فجأة بقوة
(راجح!)
لم تكن قد تبينت شكله بعد، الا أنه لم يتحرك من مكانه، بل ظل جالسا بهيمنة، واضعا ساقا فوق الأخرى، ينظر اليها بملامح صلبة، غير واضحة...

ثم سمعت صوته يقول أخيرا بهدوء قاتل
(بل ليث، زوجك)
رفعت سوار يدها تلامس بها وجنتها الباردة، و هي تهدىء من تنفسها المتسارع، ثم قالت بعدم فهم
(ليث؟، ماذا تفعل هنا؟ متى أتيت؟)
ساد الصمت بينهما عدة لحظات قبل أن يقول بنفس النبرة الهادئة العميقة
(سؤالان، الأصح أن أسئلهما أنا، و أنتظر منك الجواب)
تداركت نفسها و نهضت بأناقة من مكانها لتقول بخفوت و هي تبحث عن وشاحها الذي سقط عن رأسها.

(يبدو أنني غفوت قليلا، لقد تعبت اليوم جدا في الإعداد للزيارة المفاجئة، و لم أشعر بنفسي و أنا أسقط نائمة)
لم يرد ليث على الفور، بل ظل ينظر اليها بحدة دون أن تستطيع تبين ملامحه في الظلام المحيط بهما نسبيا ثم قال أخيرا بصوته الذي لا تعلو نبرته و مع ذلك يظل خطيرا، مسيطرا.
(حين تشعرين بالتعب أو الإرهاق، فمكانك هو سرير زوجك، بغرفته، في بيته، هذا هو ما أفهمه)
شعرت سوار بالعصبية تملأها فقالت بحدة.

(هل تنوي أن تصنع منها قضية يا ليث! أتيت الى بيت عائلتي و غلبني النوم قليلا، فنمت، الأمر بسيط، لكن الغير بسيط هو دخولك الى هنا، الى هذه الغرفة تحديدا، هذه الغرفة تخص سليم رحمه الله و انت تنتهكها بدخولك لها دون اذن و التصرف فيها بحرية)
نهض ليث من مكانه فجأة ليقترب منها بخطوة واسعة، الى أن واجهها لا يفصلهما سوى خطوة، ثم قال بنبرة خافتة مشتدة.

(لن نتكلم هنا، و ردا على ملاحظتك المحترمة، أنا سأتواجد بأي مكان تكون فيه زوجتي، ان كان صاحب الدار نفسه قد أذن لي بالدخول اليك، فكيف لك منعي!)
قالت سوار بشدة خافتة
(أمنعك يا ليث، أمنعك من دخول هذا الجناح، لا مكان لك به)
بدا ليث على وشك ضربها، فقط من نظرة عينيه التي أجفلتها، و انتظرت منه رد فعل عنيف، الا أنه حزم أمره في النهاية و قال بصوت آمر
(جهزي نفسك، سنغادر حالا).

فتحت فمها لتعارض، دون أن تدرك حتى وجه اعتراضها، الا أنه كان أسرع منها فرفع اصبعه محذرا
(لا تجادليني، و احذريني الآن)
زمت سوار شفتيها و هي تنظر اليه بإباء، تنفسها يتسارع بحدة و الدم يغلي في عروقها...
لكنها آثرت أن تمتثل لأمره و تتبعه، فهي لن تختفي هنا في جناحها القديم مع سليم للأبد...
لذا و دون كلمة اضافية لفت رأسها بالوشاح، بل و غطت وجهها أيضا كي لا تسمع المزيد من الإعتراضات...

(توقفي مكانك)
تسمرت سوار مكانها على تلك النبرة الرجولية المتسلطة من خلفها في غرفتة نومها بدار ليث...
لم تعتد أن يحادثها أحد بتلك النبرة من قبل، مما جعل كل أعصابها تتحفز و عضلات جسدها تتوتر...
أغلق ليث الباب خلفه ثم نظر الى ظهرها المشتد و رأسها المرفوع دون أن تستدير اليه فتابع آمرا
(انظري الي)
استدارت سوار تنظر اليه بصمت دون أن تحيد بعينيها العسليتين عن مستوى نظره بتحدي.

نظر ليث اليها طويلا نظرة تجمد الدم في عروق أعتى الرجال، لكن ليس بعروقها هي...
اقترب منها خطوة قبل أن يخلع عبائته و يلقي بها بعيدا، ليبقي بقميصه و بنطاله، يواجهها بملامح غير قابلة للتفاوض حتى، ثم قال أخيرا بصوت قوي،
(هل تعتقدين أنك تتصرفين بطريقة تليق بك و بمكانتك الجديدة؟)
رفعت سوار وجهها و قالت بعنفوان
(أنا دائما أتصرف بطريقة تليق بي و بمكانتي، مكانتي عالية، لا جديدة أو قديمة).

انعقد حاجبي ليث بشدة وهو يقول بصوت تردد صداه بهيمنة
(و هل مكانتك العالية تجعلك تتحدين كل ما أطلبه منك، كل الأصول التي كان عليك مراعاتها قبل أن ألفت نظرك اليها)
لوحت سوار بذراعيها و هي تخلع عباءتها ووشاحها بعصبية لتلقي بهما بعيدا هاتفة
(كل هذا لمجرد زيارة الى بيت عائلتي، لم أعلم أنك متسلط الى هذا الحد!)
لمعت عيناه ببريق الخطر وهو يقطع المسافة بينهما ليمسك بذراعيها وهو يقول بصوت خافت مهدد.

(لا تتمادي يا سوار، فهناك حدود لقدرتي على لجم غضبي)
رفعت وجهها المشتعل اليه و هتفت
(و لماذا أنت غاضب من الأساس؟، لأنني عيصت أوامرك؟ الأمر كان هاما و عليك الثقة بي)
قال ليث من بين أسنانه و أصابعه تشتد على كتفيها
(الثقة لن تحصلي عليها غصبا يا سوار، عليك اقناعي أولا)
ضحكت بعصبية و هي تهز رأسها قائلة
(اقناعك بماذا؟، أيجب على اخبارك بسبب الزيارة؟ لأنه لن يحدث هذا، انه أمر لا يخصني).

هزها قليلا للحظة وهو يقول محتدا
(لم تجرؤي حتى على اخباري بذهابك)
هتفت سوار
(لأنك وقتها كنت سترفض، إما أن أخبرك عن سبب ذهابي و إما أن تمنعني، و الموضوع كان خدمة لأحد يحتاجني، فكيف أرده؟)
ضحك ليث بسخرية قاتمة وهو يقول
(كيف ترد سوار الرافعي أحدا طرق باباها! و ماذا عني؟)
انعقد حاجبيها قليلا و هي تقول بتوتر
(ماذا تقصد؟، منذ أن تزوجنا و أنت تحصل على كل ما تريد).

هزها مرة أخرى وهو يقول بلهجة خافتة. حادة و حارة كادت أن تلفح وجهها
(هل تدركين شعوري و أنا أراك نائمة في غرفة زوجك الراحل، تهمسين باسمه، و ما أن تفتحين عينينك حتى تناديني باسم رجل ثالث!)
اتسعت عينا سوار و فغرت شفتيها و هي تتذكر أنها بالفعل قد حلمت بسليم، و نادته كثيرا، و حين فتحت عينيها تصورت أن راجح على وشك خطفها مجددا...

ظلت مصدومة الملامح لعدة لحظات، غير قادرة على الرد عليه، بينما تابع هو و أصابعه تحترق على كتفيها كنظرة عينيه لها تماما
(أنا أغار عليك من رجل ينظر الى وجهك، فكيف بما اختبرته منذ قليل، في جناحك القديم!)
ظلت صامتة و كأنها قد فقدت القدرة على النطق، عيناها متسعتان و هي تراقبان اللهيب في عينيه يحتد و يحرقها وهو يهمس بشدة
(انطقي، كيف تتخيلين شعوري وقتها؟)
لعقت سوار شفتها بتوتر، قبل ان تقول بخفوت.

(ليس جيدا على ما اعتقد)
هتف ليث بصوت اجش وهو يهزها قليلا
(مدمر)
سحبت سوار نفسا مرتجفا بعد صفعتها كلمته القوية، ثم قالت بخفوت و هي تبعد عينيها عنه
(أحلامي عن سليم رحمه الله، لا يد لي بها، كيف تحاسبني عليها؟)
قربها منه دون ان يحرر كتفيها، بل زادت سطوة اصابعه وهو يهمس لها بعنف
(أتدركين أنك تهمسين باسمه معظم الليالي أثناء نومك! و أنا أنظر اليك و أصبر لأنني لا أملك سوى الصبر).

ارتجفت شفتيها للحظة، لكنها همست بخفوت دون أن تنظر اليه
(ان كنت تريدني أن أقتل ذكرى سليم بقلبي يا ليث فهذا ما لن ألبيه لك، لأنني أرفض قتل ذكراه، ارحمني)
همست الكلمة الأخيرة متمنية منه أن يتفهمها، الا أنه شدها اليه و هتف فوق جبهتها بعنف
(أتطلبين الرحمة! ارحميني أنا، ارحمي قلبي)
أمسك يدها بالقوة ليضعها على صدره محل القلب، فهالها أن تشعر بتلك الطاقة الجبارة التي تضخ تحت راحتها...

(اشعري بهذا القلب و ارحميه، لا تكوني بمثل هذا الجحود)
ابتلعت سوار ريقها بصعوبة و هي تحاول سحب يدها من تحت يده، الا أنها كانت كمن يقاوم قيدا حديدا...
فقالت بضعف و هي تحاول ابعاد وجهها عنه
(ليث، أرجوك)
الا أنه ابتعد بوجهه عنها دون ان يحررها، لينظر الى عينيها طويلا بنظرة لم تفهمها، ثم همس لها بصوت اجش
(لماذا ناديتني باسم، باسمه)
لعقت شفتها مجددا و هي تهمس
(كنت احلم)
شدد ليث من قبضتيه عليها وهو يقول بقوة.

(قصدت رااااا)
صمت قليلا وهو يتمالك نفسه، ثم تابع بمرار أجش مخفضا صوته و كأنه ينطق اسما بمعنى الصدأ...
(قصدت، راجح)
نظرت اليه بحدة قبل ان تهتف بغضب...
(لأنني حين فتحت عيني و نظرت اليك في الظلام، ظننته، موشكا على خطفي مجددا، )
رفع ليث يده ليقبض على فمها بقوة وهو يهمس بعنف
(هشششششش)
الا انها كانت هي من قبضت على كفه لتنزعها عن فمها بقوة و هي تهمس بحدة و صلابة.

(لا، لن أصمت، ان كنت تخاف آذان الجدران فلم يكن عليك بدء الحوار. أنت من خالفت أوامرك في عدم فتح الموضوع مجددا. )
همس ليث بصوت أجش وهو ينظر الى عينيها
(هذه المرة لم أخاف آذان الجدران، بل لم أستطع سماع ما حدث مجددا)
ظلت سوار تتنفس بصعوبة، كسرعة أنفاسه المعقدة و كلا منهما ينظر للآخر...
الى أن نطق أخيرا بهمس عنيف أجش
(ماذا يمثل لك؟)
عقدت سوار حاجبيها بشدة و هي تقول
(ماذا تقصد؟).

ابعد ليث يده عن قلبه، ليضع يده هو على قلبها، ثم قال بصوت خافت يحترق
(الا زال في قلبك؟)
هتفت سوار بحدة و جنون
(أنا لا أسمح لك بأن)
الا أن ليث هدر فجأة بعنف ألجمها و سمرها في مكانها
(اجيبيني)
تسمرت سوار من هول صيحته الجهورية و شحب وجهها قليلا قبل أن تهمس بخفوت
(لا يوجد في قلبي تجاهه سوى الرغبة في ايذاءه)
اخترق ليث عينيها بعينيه، كعيني الليث بعنفوانه، و كأنه يريد قراءة ما هو مسطور على قلبها حقا...

ثم قال أخيرا بتعب
(ماذا فعل حين كنتما)
رفعت سوار يدها تلامس فمه و هي تهمس لتقاطعه
(لا، لا تفعل)
الا أنه أمسك بأصابعها فوق فمه و همس
(أجيبيني، ارحميني)
قالت سوار بشدة رغم أن كلامهما سويا لم يتعدى الهمس
(سبق و أجبتك، تعرف ما حدث)
كان ينظر اليها كرجل يتألم، ثم قال بصوت أجش
(لا رجل قادر على مقاومة سحرك)
ابتسمت سوار رغما عنها، خانتها شفتاها و ابتسمت، قبل أن تهمس
(هذا ما تراه أنت فقط، و زوجتك غريبة الأطوار).

قبل أصابعها التي لا تزال على شفتيه وهو ينظر اليها
(أنت زوجتي)...

ارتجفت أصابعها بملمس شفتيه و همست و كأنه صوت غير صوتها
(و ميسرة؟)
فقال ليث بخفوت و كأنه يفشي سرا بغدر
(القلب لك أنت، و الحب لم يخط لسواك)
أسلبت سوار جفنيها و هي ترتجف، ثم قالت بخفوت
(أنت غريب، و كأنك شخص غريب لم أعرفه من قبل، لست أنت من علمني حمل السلاح، لست أنت من علمني حب هذه الأرض بقوانينها، لست أنت من استقيت منه القوة و الهجوم)
قال ليث بخفوت
(بلى، هو أنا، لكن عيناك لم تبصران العشق بداخلي).

نظرت سوار أرضا، يده لا تزال على قلبها و يدها على شفتيه، لم تستطع منع الكلمات الرجولية من التسلل الى أذنيها...
همست أخيرا بخفوت
(لكنني لم اعد نفس الفتاة المراهقة التي أحببتها قديما)
قال ليث بصوت أجش خافت
(الغريب في الأمر أنني بدأت أحبك أكثر منها، و صدقيني لا أعلم السبب)
رفعت وجهها تنظر اليه بعينين مختلفتين، تصارعان شيئا مجهولا، خفيا...
فهمست بعنف.

(لا أملك ما أستطيع منحه لك، لم أعد قادرة على البهجة و، الحب)
تركها ليث لكن لا ليحررها، بل ليحيط وجهها بكفيه، ثم همس لها بخشونة
(لا تبذلي أي جهد، دعيني فقط أذيقك حبي، عله يلون قلبك و يصيبك بعدواه)
فغرت سوار شفتيها، و الألم ظاهر في عينيها جليا، ثم همست بيأس
(ليث، أنا، أنا أنوي أن)
الا أنه كتم اعترافها، وجدت شفتيه تسكتان الإعتراف الأخرق الذي أوشك على الإفلات منهما...

حنان دافق غلف شفتيها بحلاوة الشهد، فكيف لكلمة الثأر أن تنافس هذا الجمال؟
شعرت سوار بنفسها ترتفع عن الأرض فجأة و ليث ينحني ليحملها بين ذراعيه، فتعلقت بعنقه شاهقة و هي تهمس بخفوت سحري
(ألم تكبر قليلا على حملي كل مرة؟، خاصة و أن عظامي في وزن عظام الرجال)
نظر اليها ليث طويلا قبل أن يهمس لها بجفاء
(تجدد شبابي بك، و سأحملك كل ليلة عقابا لك، لتعليقك على عمري).

خانتها شفتاها مجددا فابتسمت رغما عنها، و تاهت عيناها بعينيه، فقد كان ينظر اليها بطريقة غريبة...
طريقة أخبرتها أنه لم يسامحها بعد، بل كان غاضبا، غيورا، لكنه كان عاشق، ينوي أن يذيقها من حبه كما وعد...
و بداخلها سرى ضعف لم تعتده من قبل، وهن جميل كانت في حاجة اليه بعد عناء هذا اليوم، لذا قررت تأجيل محاربتها لاقتحامه العاطفي للغد، أما الليلة فستغمض عينيها للدلال...

فتحت سوار عينيها ما ان شعرت به يقترب من فراشهما فهمست بقوة
(ليث)
وقف مكانه عاقدا حاجبيه وهو يلمح نبرة الخوف في صوتها، فهمس لها بقلق
(ماذا يا حبيبة ليث؟)
قالت سوار بخفوت و هي تدفن وجهها في عنقه
(لا أريد هذا الفراش، و لا هذه الغرفة)
ازداد انعقاد حاجبيه قبل أن يهمس لها بعدم فهم
(هذه غرفتنا، و هذا فراشنا)
لم تظن يوما أن تكون ناعمة الى هذا الحد و هي تهمس له بخفوت
(أدخلني غرفة أخرى، رجاءا).

و لم يكن ليرد لها رجاءا ناعما كهذا، و دون كلمات، وجدته يتحرك بها الى باب الغرفة فهتفت بخجل
(أنزلني أولا، قد يرانا أحد)
الا ان ليث ابتسم لها رغم غضبه منها و قال بخفوت
(والله لا تدخلي غرفتك الا محمولة بين ذراعي كل ليلة)
فغرت سوار شفتيها بذهول و هي تراه ينحني ليفتح الباب، ثم يخرج بها، متجها الى احدى الغرف المعدة.

بينما كانت هي تنظر اليه و تختبر جفاءا لم تعرف أجمل منه من قبل، فلو كان هذا جفاءه فكيف يكون حبه؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة