قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل العاشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل العاشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل العاشر

انتفضت مسك على صيحته الغاضبة فنظرت اليه بحاجبين مرتفعين، بينما كان هو ينظر الى الطريق بملامح متشنجة، و عينين غريبتين، عميقتين بألم...
التفت اليها فجأة فتراجع رأسها للخلف، بينما همست تيماء في الهاتف
(من كان هذا.؟، ماذا حدث؟)
قالت مسك بخفوت
(سأهاتفك فيما بعد يا تيماء، سلام)
أعادت مسك هاتفها الى حقيبتها، ثم نظرت الى والدها بسرعة و الذي لم يبد عليه انه قد استيقظ من نومه...

ث نظرت الى امجد و هتفت همسا من بين اسنانها
(هلا اخبرتني عما كانت تلك الصيحة المجنونة منك؟)
نظر اليها امجد بجنون وهو يشير اليها باصبعه هامسا بتشنج عنيف و غاضب
(أنت أكثر امرأة ميتة الإحساس قابلتها في حياتي)
هتفت مسك بنفس الجنون همسا
(و كأنني أهتم برأيك من الأساس!)
هتف بها أمجد باختناق
(لا تذكري الموت مجددا، هل أنتِ بليدة الإحساس الى تلك الدرجة؟)
هتفت مسك به و قد جن جنونها...

(لقد تعايشت مع الموت أكثر مما تعتقد، مع كل يوم مرت به أمي خلال مرضها، و مع كل يوم مررت به أنا في نفس المرض، أنا لا أخاف الموت)
أغمض أمجد عينيه، و لم ترى ملامحه و السيارة تسير في هذا الطريق المظلم، كانت تود رؤية تعبير وجهه في تلك اللحظة...
الى ان همس بخفوت
(الموت مخيف)
أجفلت مسك و هي تنظر اليه...
نعم هو محق، و هي مخادعة...
انها تخشى الموت، جنازة بعد جنازة ينتابها بعض الخوف و تتسائل متى سيكون دورها...

لكنها تخضع هذا الخوف تحت حكمها...
تحاول على الأقل، فهي لا تملك أكثر من ذلك...
همس أمجد أخيرا بصوت مختنق
(مخيف لمن هم حولك، من يهمهم أمرك، الا تملكين ذرة شعور تجاههم؟)
صمتت مسك تماما، و هي تنظر اليه...
نبرة صوته الخافتة جعلتها ترغب في البكاء، و بعنف، لكنها و قبل أن تستسلم لضعفها، قالت بفتور و هي تدير وجهها الى النافذة
(يفترض بك أن تكون مؤمنا)
همس أمجد بعد لحظات، بصوت لا يكاد يسمع.

(و يفترض بكِ أن تكوني انسانة، لا بطلة خارقة، يوما ما ستموت روحك يا مسك)
أغمضت مسك عينيها و هي تتنفس بصعوبة و اختناق...
تبا له، من أين ظهر لها؟، لا تريد أمثاله في حياتها...
تكلم أمجد أخيرا بهدوء
(لقد وصلنا)
فتحت مسك عينيها لترى أنه قد أوقف السيارة فعلا أمام بنايتها...
أخذت نفسا عميقا، ثم التفتت اليه مبتسمة و هي تقول بتهذيب لا يحمل حياة
(شكرا لك، و آسفة على تعبك، سأساعد والدي من هنا)
رد عليها امجد متصلبا.

(سبق و قلت أنني لن أتركك، الا عند باب شقتك)
و فعلا كان يسند والدها الى ان اوصله حتى الأريكة داخل غرفة الجلوس بشقتها، ثم قال بتهذيب
(هل أنت واثق أنك بخير سيد سالم؟، بامكاني استدعاء طبيب لك كي نطمئن فحسب)
رفع سالم كفه ملوحا ثم همس بخفوت
(أنا بخير يا أمجد، شكرا لك، و، يؤسفني أنك اضطررت الى حضور ما حدث)
نظر أمجد الى مسك بطرف عينيه، ثم قال بخفوت
(كل شيء نصيب، أنا واثق أن الآنسة مسك تستحق الأفضل).

نظرت اليه مسك نظرة طويلة، و بادلها النظر، قبل ان يتنحنح قائلا
(سأغادر الآن)
ثم اتجه مطرق الرأس الى حيث الباب المفتوح، فتبعته مسك، بفستانها الذي يصدر حفيف مهيب على الأرض...
وقفت في الباب بعد خروجه لتمسك باطاره قائلة
(شكرا مرة اخرى)
التفت اليها امجد، ليناولها مفاتيح سيارتها بصمت، فالتقطتها منه تحرص الا تلمس يداها راحة كفه، الا انها فعلت، فجذبت يدها و المفاتيح بسرعة...

مطرقة بوجهها، منتظرة سماع خطوات رحيله كي تسارع باغلاق الباب، و البقاء وحدها أخيرا...
الا أنها لم تسمع صوت خطواته، فرفعت وجهها تنظر اليه، لتجده لا يزال واقفا مكانه ينظر اليها...
نظرة عميقة، عميقة و كأنها قادرة على اغراقها...
ثم قال بصوت أجش مبحوح
(لماذا لم تخبريني من قبل؟)
كانت تعرف قصده تماما، و لم تكن جبانة كي تتظاهر بالعكس...
فقالت بصلابة و هي تنظر اليه.

(من المؤكد أنك تشعر بالخداع الآن، أنني وافقتك على عرض زواجك المجنون في البداية، لكنني لم أفعل ولو للحظة، لكن ما المفترض بي فعله حينها؟، أن اعترف لشخص غريب تماما بأدق أسراري لمجرد أنه قدم لي عرض زواج؟، في الحقيقة أنا أقدر خصوصيتي أكثر من هذا)
صمتت لعدة لحظات ثم رفعت ذقنها و قالت بترفع
(انتظرت أن تقتنع بنفسك بجنون الفكرة، الا أنك تماديت، لذا كان علي ايقافك، قبل أن تعرف و ترفضني بذوق).

هتف أمجد بسرعة، الا أنه عاد و اخفض صوته كي لا يسمعه والدها
(كان من حقي أن أنال الفرصة، لقد حكمتِ بأنني أجبن من أن أتحمل الحقيقة)
اتسعت عينا مسك و هتفت بحدة
(أي فرصة؟، فرصة الشعور بالشفقة تجاهي؟، أم أنك تظنني مجنونة كي أتخيل استمرارك في عرض الزواج بعد معرفتك بالحقيقة؟، هل تظنني غبية الى تلك الدرجة؟)
هتف أمجد بها وهو يقترب منها خطوة
(كان عليكِ اخباري، لربما فاجئتك)
هتفت هي الأخرى.

(أنظر الى نفسك، ترتدي ثوب البطولة، بينما انت تدرك في قرارة نفسك استحالة اقدامك على الزواج بي، بالله عليك، لم تتوقف أمك في كل مرة قابلتها بها عن ذكر أمنيتها الغالية في حمل أطفالك بين ذراعيها، أنت نفسك كنت تحدثني عن ابنتك التي لا تزال في علم الغيب، أنت تريد بيت و أسرة و أطفال، طلبك ليس عندي، هناك الكثيرات، ممن يتمنين عرضك الكريم، فلماذا تصر على عرضك لي أنا تحديدا رغم عدم وجود أي مشاعر خاصة بنا، أتعلم؟، ليس لدي سوى اجابة واحدة على هذا السؤال، و هي اجابة تنقصك من نظري).

كتف أمجد ذراعيه و قال بصوت يرتجف بشحنات من الغضب و الإختناق
(هلا اطربتِ آذاني، فمن الواضح أنكِ قد وصلتِ الى حكم بشأني بالفعل)
كانت مختنقة، متعبة، و أي امرأة أخرى مكانها الآن ستكون مدمرة...
الا أنها لن تسمح لنفسها بالدمار، بل أخذت نفسا عميقا و ابتسمت سخرية مرسومة قبل أن تقول ببساطة.

(ما دمت قد طلبت، لذا لن أحرمك من الجواب، أنت تريد الزواج مني لا لشيء الا لتحرق قلب غدير، أنت تعرفها كما أعرفها أنا و تعرف أن نقطة ضعفها الأكثر ايلاما، هي مسك الرافعي، فمن ستكون أفضل منها كزوجة بعد أن تركتك غدير و فضلت عليك أشرف الرافعي!)
صمتت مهنئة نفسها على قدرتها الفذة على التماسك...
و كانت تتوقع أن يتراجع و يبتعد، للأبد، بعد أن عرته أمام نفسه...

الا أنها لم تتوقع أبدا أن يفك ذراعيه، ثم يصفق برتابة و امتعاض!
ثم قال بملامح غاضبة...
(أهنئك، انتِ لستِ مختلة مغرورة فقط، بل ذكائك محدود، الى درجة تثير الشفقة أكثر من مرضك)
هتفت مسك من بين أسنانها
(أنا لا أسمح لك)
الا أنه قال بصوت أكثر تشنجا و قسوة
(و من طلب سماحك! بلى، اسمحي لي أن أخبرك مجددا أنكِ غبية، حين تعتقدين أنني قد أغيظ التراب بالألماس)
تسمرت مسك مكانها تماما، ماذا يقصد؟

هل فهمت قصده فعلا أم تراها قد تحولت الى محدودة الذكاء فعلا؟
استدار أمجد ليبتعد عنها بخطوات غاضبة، بينما هي تراقبه بذهول، لكن و قبل أن تغلق الباب...
رأته يتوقف لعدة لحظات دون أن يستدير اليها، فانتظرت بقلب وجل، الى أن استدار اليها فعلا...
ناظرا اليها بملامح حزينة، و عينان لم تفقدا غضبهما بعد، ثم همس بصوت مبحوح
(هل، هل أنت بخير الآن؟)
تنهدت مسك بنفاذ صبر و هي تهتف بحدة
(بالله عليك! للمرة العاشرة أنا).

الا أن امجد قاطعها بنبرة تذيب العظام، خافتة، عميقة، بها خوف لم تستطع تفسيره، أو ربما خافت تفسيره...
(هل أنتصرتِ على مرضك؟)
ارتجفت شفتاها، و أوشكت فعلا على البكاء، فعضت عليهما بقوة توقف ارتعاشهما، ثم همست بقوة
(أتتذكر نهار ذاك اليوم، الذي رأيت به أختى المجنونة، تضرب مؤخرة سيارة ابن عمنا، و الذي أصبح زوجها؟)
صمتت مسك و هي تلعق شفتيها بنعومة، تلاعب الباب برقة، ثم رفعت وجهها اليه و همست مبتسمة بصعوبة.

(كان هذا النهار هو موعد كشفي الدوري، الذي اثبت لاحقا أنني نقية منه تماما، حتى الآن على الأقل)
حتى الآن على الأقل...
لن تكون مسك الرافعي ان لم تضيف لمستها الغبية الأخيرة كي تنقش وشما موجعا بصدر من يهدد قشرتها الصلبة...
لم يعرف ان كان عليه ان يهنئها ببرود لن يستطيعه، ام يأخذها بين أحضانه مخترقا المحرمات...
أغمض عينيه و تنفسا هواءا موجعا، ثم همس دون أن يفتح عينيه
(مع من ذهبتِ يومها؟).

كانت مسك تتأمله في وقفته، مغمض العينين، و يداه في خصره تحت السترة المفتوحة...
ينتظر الجواب بملامح تتحداها الا تنظر اليها طويلا حتى الثمالة...
لذا همست أخيرا عله يبتعد، للأبد
(ذهبت، وحدي)
انعقد حاجباه بألم، دون أن يفتح عينيه، ثم همس بصوت متحشرج
(راهنت نفسي)
ساد صمت مهيب بينهما، قبل ان يفتح عينيه بنظرة اوجعت قلبها ثم همس
(عمت مساءا يا مسك، عسى أن يأتيكِ نهارا يمحو بجماله ألم هذه الليلة).

ابتسم ابتسامة حزينة ثم اشار اليها باصبعيه هامسا
(أراكِ الأحد في الشركة)
لم تستطع مسك الرد و هي تراه يبتعد ليستقل المصعد، ثم اختفى عن ناظريها، بينما بقت هي واقفة مكانها تنظر الى المصعد المغلق بصمت، و عيناها تتشوشان عبر غلالة تترجاها ان تنساب على وجنتيها...
التقطت مسك أنفاسها، ثم تراجعت و أغلقت الباب...
لتواجه والدها...
فأوان الدموع لم يحن بعد، فقط حين تغلق الباب وحيدة في غرفتها...

دخلت مسك ببطىء، تجر أقدامها الى أن وقفت أمامه، تنظر اليه بصمت، لا تحتاج للكلام، فهو سيتولى المبادرة، هذا ها هي متأكدة منه...
و بالفعل رفع سالم وجهه الشاحب عن ظهر الأريكة لينظر اليها طويلا بنظرة، أدركت معها القادم...
فقال بخفوت أجش مجهد...

(لماذا؟، هذا ما أعددت نفسي لسؤالك اياه، قبل أن أعرف الإجابة، تيماء هي السبب، هي من تدخلت في اللحظة الأخيرة لتفسد زواجك، و أنت سمحت لها! لم أظنك أبدا بمثل هذا الغباء يا مسك، و تتصرفين بتلك الطريقة، كيف سمحتِ لها بإقناعك أن تخربي زواجك، كيف؟)
خرجت كلمته الأخيرة كصرخة بصوت أجش مختنق، وهو ينهض من مكانه مندفعا ليواجهها...
بينما وقفت مسك أمامه بهدوء، متحملة المواجهة التي لا بد منها...

تنظر اليه بلا تعبير، و مع ذلك نظرة تكاد أن تخترق النفس، شفافة دون تفسير...
ثم قالت بخفوت
(كنت مستيقظا و سمعت مكالمتي معها)
كانت تقر واقعا، لا تطرح سؤالا، الا أن والدها صرخ بقوة.

(نعم سمعت، و ياليتني ما سمعت، وضعت كل الأجوبة المحتملة في رأسي عن سبب تصرفك المتهور و الذي حط من قدري أمام أعمامك، الا أنني لم أتخيل أن يكون الجواب هو تلك الفتاة التي باعت نفسها الى عديم الأصل الذي تحكم بها و نال بها انتقاما من عائلتنا، لم يكفها أن باعت نفسها دون ثمن، بل و أرادت أن تفسد عليكِ حياتك كي لا تكوني أفضل منها بشيء، أنا أصدق أنها تفعل هذا، لكن ما لا اصدقه هو أن تنجح في مسعاها، و أنتِ تسهلين لها خطتها).

نظرت مسك الى سالم بملامح جامدة و هي تقول بهدوء خافت
(اهدأ قليلا يا أبي، الغضب الى تلك الدرجة سيضرك، أرجوك اهدأ)
صرخ سالم بغضب ارتجف له جسده.

(الآن تخشين على صحتي؟، و ماذا عن حفل زفافك الذي تحول الى فضيحة سيتحاكى عنها الجميع لسنواتٍ طويلة قادمة؟، الم تفكري و انتِ تضعين شرطك أمام المأذون أنني قد أموت من شدة الخزي بعد انهاء زواجك قبل أن يبدأ؟، لقد تمنيت الموت هربا من الوقف الذي وضعتني به، كيف سمحتِ لها يا مسك، كيف؟، انها تغار منكِ و قد بدأت ترى الفرق بين زيجتك و الطريقة التي زوجت بها نفسها الى فتى ابن زنا عديم الأصل، يتحكم بها كجارية).

هتفت مسك فجأة و قد عيل صبرها
(تيماء ليست السبب يا أبي، أنا كنت سأضع شرطي في العقد من البداية، أنا أستحق ذلك)
صرخ بها سالم بقوة
(لقد سمعتكما، لا تكذبي)
هتفت مسك و هي تلوح بكفيها.

(أنا لا أكذب أبدا، كنت سأضع شرطي، و كنت سأعرضه على زاهر قبل عقد القران بيني و بينه، كل ما في الأمر أن تيماء أخبرتني بما جعل عقابه علينا أكثر ارضاءا لي، لو قبل شرطي لتزوجته و لكنا في طريقنا الى تمضية شهر عسلنا الآن، لكنه فعل ما أكد ظنوني وهو ما أخبرتني به تيماء، ما يعرفه الجميع يا أبي، حتى أنت...

وهو أن زاهر ينوى جعلي الزوجة الثانية قدرا، لا ترتيبا، عن سبق اصرار و تعمد، فهو ينوى الزواج من فتاة تحمل له الولد، بينما انا لمتعته الشخصية ليس الا)
صمتت قليلا تلتقط أنفاسها بهياج قبل أن تصرخ ضاربة الأرض بقدمها...
(الجميع يعرف يا أبي أنني بضاعة معطوبة و زاهر قرر شرائها على أن يخزنها لحين الحاجة اليها، و أنت كنت تعرف، كنت تعرف أنه ينوى الزواج في أقرب فرصة، و رغم هذا لم تمانع).

لم يستطع سالم الرد لعدة لحظات وهو ينظر اليها بألم، ثم قال باختناق.

(نعم كنت أعلم، اعلم أن لا رجل سيقبل أن يرحم من نعمة الولد وهو بكامل صحته، بينما الشرع أعطاه الحل، و حلل له زوجة ثانية و ثالثة و رابعة، أنا لم أفاتحك في الأمر من قبل لأنني أعرف كم سيوجعك وهو يوجعني أكثر منكِ، لكنني كنت أظنك أكثر ذكاءا، الذكاء هو تحديد ما تملكينه و ما لا تملكينه، و التصرف بناءا عليه، لا التصرف عنجهية عمياء، لا رجل سيتزوجك دون أن تشاركك أخرى به يا مسك، هذه هي الحقيقة مهما أوجعتنا أنا و أنتِ...

و أنا كنت أتمنى أن اراكِ في بيت زوجك، ابن عمك، ليحميكِ و يرعاكِ، أن تكبرين و أنا لن أبقى لكِ في هذه الدنيا طويلا)
ساد صمت مدقع بينهما، و كل منهما ينظر للآخر بنفس متسارع...
لكن سالم تأوه بصمت وهو يرى نظرة الألم في عيني مسك، و كأنه قد طعنها بخنجر مسموم...
و كأنه كان الأخير الذي تنتظر منه سماع مثل هذا الكلام...
فتحت مسك شفتيها أخيرا، ثم قالت بهدوء
(اعذرني أنا متعبة، تصبح على خير يا أبي).

و دون أن تنتظر منه ردا، رفعت حافتي فستانها ثم أسرعت الخطى الى غرفتها قبل أن تحكم غلق بابها خلفها...
بينما ارتمى سالم جالسا على الأريكة ليدفن وجهه بين كفيه...
من كان يظن أن أميرة البنات ينتهي بها الحال و كأنها بضاعة معطوبة كما ذكرت عن نفسها...
من كان يظن أن شقائه و تعبه في هذه الدنيا سيصفى لغيره، دون ولد او حفيد...
لقد ارتضى ان زوجته رحمها الله لم تأتيه بالولد...

لقد أتته تيماء في نزوة، و كان يتمنى أن تكون صبيا، حينها كانت الأمور ستختلف...
لكنه ارتضى حكم الله في الا يرزق بالصبي الذي يتمناه الجميع ليحمل اسمه من بعده...
ايكون هذا جزاءه؟
ان تفعل به كلتا الابنتان ما فعلتا؟، لقد تحول اسمه الى علكة بين أفواه الجميع في العائلة...
لقد تعب و شقى، للاشيء...

أغلقت مسك باب غرفتها باحكام، حريصة الا تصفقه أو تظهر انفعالها...
و ما ان استندت اليه، حتى وقعت جالسة أرضا لترفع ساقيها الى صدرها...
تدفن وجهها بين طيات فستان الزفاف الفخم، لتبكي بخفوت، و بصوتٍ لا يسمع...
ابنتك العاقر تتشرط...
نعم أنا عاقر...
لا رجل سيتزوجك دون أن تشاركك أخرى به يا مسك
لا رجل سيقبل أن يرحم من نعمة الولد وهو بكامل صحته، بينما الشرع أعطاه الحل.

زاهر ينوى جعلي الزوجة الثانية قدرا، لا ترتيبا، عن سبق اصرار و تعمد
كانت الكلمات تطوف في ذهنها بعنف، تصفعها بلطمات متتالية، دون رحمة، لتجبرها على أن تبخس من قدر نفسها...
لكنها لن تفعل، والله لن تفعل...
رفعت مسك وجهها المبلل بالدموع و الملطخ بسواد زينتها التالفة و المنسابة من عينيها مع جداول دموعها الصامتة...
هي ليست غبية كي تظن في نفسها أكثر مما يستطيع رجل تقديمه لها...

لكنها كانت تنوي اعطاء زاهر الفرصة، فقد كان متمسكا بها للغاية حتى أنه لم يحاول الزواج، ثم الزواج بها كمتعة...
كانت ستعرض عليه شرطها سرا، وستراقبه و بحدسها ستعلم، ان كان صادقا ام لا...
و لو تأكدت من صدقه، كانت لتتهاون في هذا الشرط...
لكن اتصال تيماء المفاجىء بها، و هي ترتدي ثوب الزفاف، جعلها تقف أمام المرآة طويلا...
و تقرر ما فعلت، ليكون علنا و أمام الجميع...

لقد بدأ التواصل بينها و بين تيماء منذ اسبوعين، لمرتين فقط...
زيارة من مسك لتيماء، و اتصال من تيماء الى مسك...

منذ أسبوعين...
كانت تقف أمام المرآة تراقب علاماتٍ خلفتها ساعات عاصفة منه اليها...
كان غاضبا و قلقا، لذا تركته ينفس عن غضبه، عبرها...
لم تعترض، فهي تعلم أنه حين يصل الى تلك الحالة، لا سبيل لتهدئته سوى تركه الى نوبة جنونه حتى يهدأ بنفسه...
الآن باتت تعرف أنها المسكن له كي يهدأ...
راقبت عينيها الواسعتين في مرآة الحمام...
شفتيها متورمتين و محتقنتين، و العلامات تزين عنقها و فكها...

لم يكن هذا عنفا، بل كان هربا بها، امتلاكا لها كي لا تهرب هي منه...
أجفلت تيماء حين رأت باب الحمام يفتح، قبل ان يدخل قاصي منه ثم يغلقه ليستند اليه و ذراعيه خلف ظهره...
ينظر اليها عبر المرآة بملامح متجهمة و نظراتٍ غامضة...
بادلته النظر لعدة لحظات، ثم قالت بخفوت
(هل استيقظ عمرو؟)
لم يرد عليها على الفور، ثم قال بصوت جاف بعيد
(ليس بعد).

أومأت تيماء بوجهها دون أن ترد، ثم انحنت لتقذف وجهها ببعض الماء، ثم استقامت تنظر اليه في المرآة قائلة بخفوت
(جيد، هلا خرجت اذن، كي أرتدي ملابسي، ثم أعد لكما الفطور)
تكلم قاصي بنبرة أكثر خشونة و انخفاض
(تيماء)
انتظرت أن تسمع ما يريد، الا أنه صمت و كأنه لا يعرف كيف يصيغ كلماته...
اسمها الذي نطق به للتو كان يحمل نبرة مختلفة، و كأنها نبرة اعتذار...
لكنها لا تريد اعتذاره، لا تريده...

هي ليست غاضبة منه كي يعتذر، إنما هي تحتاج لما هو أكبر و حينها ستكون سعيدة بأن تسلخ حية إن كان هذا سيهدىء من الخوف الذي يسكنه دون رحمة منذ طفولته...
بدا قاصي منخفض الوجه، لا يتحرك من مكانه، فاستدارت اليه لتستند الى الحوض خلفها بكفيها، ثم قالت بخفوت
(ماذا؟)
رفع وجهه اليها و كانت ملامحه متجهمة، و حاجباه منعقدان، بينما عيناه تلاحقان آثاره على بشرتها الحساسة، ثم قال بصوته الأجش الذي يحمل ادانة ذاتية.

(لقد آذيتك)
عضت تيماء على شفتها السفلى...
تنتظر أكثر، تحتاج ما هو أكبر...
الا أنها قالت بهدوء
(لا، لم تؤذني، و إن كنت أريد معرفة السبب الذي جعلك تعاقبني بهذه الطريقة!)
انتفض قاصي وهو ينظر اليها بصدمة غاضبة، ثم قال بصوت مشتد أكثر
(أعاقبك؟، هل هذا ما شعرتِ به بعد ساعاتٍ قضيتها بين أحضاني؟)
قالت تيماء بحذر.

(لم أشعر أنني كنت بين أحضانك مطلقا، بل شعرت بك تحاول امتلاك روحي و السيطرة على عقلي قبل جسدي، و أنا حتى الآن لا أفهم السبب، أنا سلمتك نفسي و حياتي بكامل ارادتي، فلما تحاول السيطرة علي بتلك الطريقة؟)
هتف قاصي بصوت تردد صداه عبر الجدران الزلقة
(أنا لا أحاول السيطرة عليكِ)
قاطعته تيماء بهدوء و كأنها تحادث طفلا صغيرا، لا رجل صرعها حبا و عصف بها شوقا كي لا ترى سواه...

(أخفض صوتك، لو استيقظ عمرو، لن يكون وضعا سليما أن يرانا هنا، خاصة و أنه ليس المكان المناسب للمناقشة)
ترك قاصي الباب و اقترب منها، الى أن وصل اليها حتى رفع كفيه و أمسك بكتفيها الصغيرين من فوق المنشفة الضخمة التي تلف نفسها بها...
كانت أصابعه تداعب علامة زرقاء على كتفها، بينما عيناه شاردتان بتلك العلامة...
ثم قال أخيرا بخفوتٍ شرس
(أنت تتلاعبين بي يا مهلكة)
ارتفع حاجبي تيماء و هي تقول.

(و كيف هذا؟ّ! أنا هنا، معك، لن أذهب الى اي مكان)
اشتدت أصابعه على كتفيها غير مباليا بالعلامات الموجعة تحتها، ثم هزها قليلا وهو يهمس بشراسة
(تشعرينني بأنني الرجل الوحيد بحياتك، ثم تعبثين بقدرتي على السيطرة حين أراكِ تحتمين مني بآخر)
ارتفع حاجباها اكثر و همست
(هل تقصد والدي؟، هل تغار من سالم الرافعي؟)
هتف قاصي فجأة بعنف
(لا تنطقي بكلمة والدي تلك، لا أطيقها، لا أحتملها)
نظرت اليه تيماء طويلا ثم قالت بهدوء.

(و أنا لا أطيق حقيقة انك متزوج من غيري، و لا أملك أي حل لتلك المعضلة، لذا علي تقبلها و التعامل معها، اذن)
صمتت قليلا و هي تتلوى كي تبعد كفيه عن كتفيها ثم قالت ببرود
(اذن عليك أنت أيضا تقبل حقيقة أن سالم الرافعي هو والدي، الحقائق لم توجد كي نحبها، بل لنتقبلها، أو ستداهمنا رغما عنا)
هدر بها قاصي غاضبا وهو يعود و يلف خصرها بذراعه كي يمنعها من الخروج
(أو ربما علينا تطويعها)
هتفت به تيماء بقوة.

(اذن ستسحقك، كما حدث ليلة أمس، ترى كم ليلة مثلها سأتحمل؟)
اتسعت عيناه بينما همس بوجوم
(تيماء، لا تتكلمي معي بتلك الطريقة، لقد اتيت اليكِ كي أسترضيكِ، فلا تزيدي من فلسفتك و الاستفاضة في الشرح، أنا لا أعلم ماذا دهاني، كنت غاضبا و لم أتصور أنكِ قد تتسللين أثناء نومي كي تهاتفينه)
رفعت تيماء أصابعها كي تعدد عليها و هي تقول بقوة.

(أولا أنا لن أتوقف عن الإستفاضة في الشرح، هذا عملي، رزقي الذي احصل منه على قوت يومي، ثانيا أنا لم أتسلل أثناء نومك كي أتصل به، بل هو من فعل، ثالثا، هو ليس رجلا غريبا لتغار منه، هو والدي، هل فقدت قدرتك على التمييز؟)
هتف بها قاصي محاولا اقحام الكلمات في عقلها
(سالم الرافعي لن يهدأ قبل أن يبعدك عني، لن يرضيه أو يشفي غليله أقل من هذا)
ردت تيماء بيأس و هي تهز رأسها.

(و ماذا عني؟، هل تظن أنني مغيبة و مغمضة العينين كي أستسلم لما لا أريد؟، لم أفعلها و انا مراهقة في الثامنة عشر، فهل سأفعلها الآن و أنا أستاذة جامعية ناضجة و قادرة على اتخاذ قراراتي؟)
تنفس قاصي بعمق و همس بصوت أجش
(تيماء، لقد اصبحنا كيانا واحدا، و قريبا سيكون لنا طفل يكمل هذا الكيان، اخرجي سالم الرافعي من الصورة لأنني سأفعل و بكل قوتي، لا مجال للصلح بيننا و بينه)
عقدت تيماء حاجبيها و قالت بصوت غريب.

(ماذا عن رأيي في الأمر؟)
عقد قاصي هو الآخر حاجبيه وهو يراقبها بنظرة غريبة، ثم قال بحذر
(و هل لكِ رأي آخر؟)
زفرت تيماء بقوة و هي تغمض عينيها، تحك جبهتها بعنف، الطريق أمامهما طويل و مظلم وهو لا يحب الظلام، اما هي فلا تخشى الظلام...
ستصبر، ستصبر، ستصبر...
انخفض وجه قاصي ليقبل العلامة الزرقاء على كتفها الغض، فارتجفت تيماء بين يديه...

تحاول الإبتعاد عنه بأنين خافت، الا أنه همس لها برفق وهو يقبل العلامة مجددا
(أنا آسف، سامحيني يا مهلكة)
تنهدت تيماء بصمت هي تحيط عنقه بذراعيها لتهمس له بدلال و رقة
(أسامحك بشرط)
ارتفع حاجبه بحذر و قال
(ما هو؟)
ردت تيماء و هي تلامس أنفه بأنفها
(أريدك أن تذهب معي الى مكان)
رفع وجهه عنها وهو يقول بشك
(أي مكان هذا؟)
أدارت تيماء حدقتيها عاليا و هي تضع اصبعها على فكها هامسة
(أين يا تيماء، أين يا تيموءة، آه عرفت).

اعادت وجهها اليه و قالت برقة و بخفوت بطيء
(طبيب خاص، أنا و أنت)
ارتفع حاجبي قاصي و انخفضت نظراته الى بطنها تلقائيا وهو يهدر بقوة
(هل آذيت الطفل؟، هل تشعرين بألمٍ أو نزيف أو أي عارض؟)
هزت تيماء رأسها نفيا بيأس ثم قالت بقوة
(اهدأ يا قاصي و كفى كلاما عن الطفل الذي لم نتأكد من وجوده بعد، أنا أتحدث عن طبيب نفسي، لي و لك، كلانا نحتاجه، ما رأيك؟)
ارتفع حاجبيه ببطىء، بينما سكن جسده تماما وهو يقول مرددا.

(طبيب، نفسي!)
أومأت تيماء ببطىء دون أن تجيب و هي تشعر بالقلق من أن تصيبه احدى نوبات غضبه، الا أنه انفجر ضاحكا بقوة وهو يضمها الى صدره بقوة، رأسها لا يكاد أن يتعدى عضلاته القوية...
ثم لم يلبث أن هتف من بين سعال ضحكاته
(طبيب نفسي يا مهلكة؟، أتظننيني مجنونا لمجرد انني هجمت عليكِ مشتهيا؟، تلك العلامات ما هي الا علامات امتلاكي لكِ، لا جنونا مني)
امتلاكي لكِ، من أفضل منها ليعرف أن تلك هي الحقيقة المرة...

لكن هجومه عليها لم يكن اشتهاءا كما ادعى، بل هجوما بريا يمثل غريزة البقاء بداخله...
قالت تيماء محاولة اقناعه
(أنا لم أقصد ليلة أمس تحديدا، بل قصدت حياتينا معا، لقد عانى كل منا الكثير و لا نحتاج سوى شخص نتحدث معه، فقط حديث مريح لا أكثر)
تهادت ضحكات قاصي وهو ينظر اليها طويلا حتى صمتت الضحكات، و بهتت الإبتسامة، و تحولت ملامحه الى احدى تلك الأقنعة التي تكرهها، قناع ساخر، غير مقروء...
ثم قال بلهجة غريبة.

(حديث مريح! أتظنين أن حديث مريح قد يعالجني من كابوس رؤية ذبح أمي كل ليلة؟، أم سيعيد xxxxب الساعة للخلف فأمنع عمران من انتهاك عرضها، أتتخيلين أن الحديث مريح سينسيكِ الألم الذي مررتِ به، و أنت تصرخين منادية باسمي بينما ينتهكون جسدك، و لم تكوني سوى مجرد مراهقة...
هل سيجعلك الحديث المريح تتصالحين مع نفسك فتغفرين لسالم، و تبدآن معا صفحة بيضاء، و ربما سامحت أنا عمران الرافعي و غسلت يديه من دم أمي!

هل هذا الهراء هو ما تدرسينه في الجامعة؟، ستكون جريمة أخلاقية اذن لو أنكِ تفعلين)
ارتجفت شفتي تيماء و هي تشعر به يضغط باصبعه على جروحهما المتقرحة...
علها تفيق حين تتاوه ألما...
و قد نجح، لقد آلمها بشدة كي يعيدها الى مرارة الواقع دون الرغبة في أملٍ زائد...
حين لاحظ شرودها الحزين، ضمها اليه و قال متشدقا.

(هيا يا مهلكة، لا تكوني حزينة بهذا الشكل، ربما لم نحظى بماضٍ سعيد، الا أننا نمتلك الأيام الآتية، أنا و أنتِ و عمرو و الطفل القادم، أربعتنا نمثل قوة لا يمكن هزيمتها أبدا، قوة لن نحصل عليها من مجرد حديث مريح تافه، )
ارتجفت تيماء قليلا فمر بكفيه على كتفيها و طول ذراعيها يستشعر قشعريرتها الى أن أمسك بكفيها
ثم رفع ذقنها اليه، لينظر الي عينيها الفيروزيتين، و همس بصوت أجش.

(أستطيع تناولك على الإفطار، فما رأيك؟)
ابتسمت تيماء رغم عنها، فمال اليها يقبل ذقنها بنعومة قبل أن يهمس في أذنها
(أنا اشعر بالقلق على الطفل، ماذا لو كنت قد)
ردت تيماء بخفوت و هي تتقبل نعومة شفتيه على عنقها
(لم يحدث له شيء)
قال لها بخشونة
(كيف يمكنك التأكد من هذا؟، لست مطمئنا)
قالت له تيماء باستسلام
(جسدي انعكاس للطفل، كل ما سيعانيه سأشعر أنا به، و أنا بخير، فلا تقلق)
قال قاصي بعصبية.

(أعتقد أنني لن أودع القلق مطلقا منذ اليوم، حتى بعد وصوله الى الحياة، ستبدأ رحلة قلق مختلفة)
كلامه عن الطفل بهذا الهوس الجميل يقتلها...
يجدد الشك بداخلها، في أنه لم يتمسك بها الا رغبة منه في أن تحمل له ابنة الرافعية طفلا من صلبه...
تعلم بأنها متجنية عليه في شكها هذا، لكنها لا تملك حيلة في عدم الشعور بألمه...
اقترب منها قاصي ليمنحها قبلة الحياة في النهاية، فرفعت له وجهها عله يمحو شكها بقبلته...

الا أنه و قبل أن يقبلها فعلا سمعا طرقا على باب الحمام فابتعدا عن بعضهما قبل أن يقول قاصي بصوت متذمر
(ماذا تريد؟، عد للنوم)
قال عمرو من الخارج بصوت ناعس
(أحتاج الى الذهاب للحمام)
زفر قاصي بغضب قبل أن يمسك بكفها قائلا بامتعاض
(شهر عسل بائس).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة