قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والعشرون

قال أمجد بجدية و شبه قسوة
(ارفض تصديق هذا)
هزت مسك كتفيها و هي تقول بخفوت
(صدق ما شئت، المهم في النهاية الا تطالبني بما يفوق قدراتي)
لم يرد أمجد على الفور، بل ظل يراقبها طويلا، الى أن قال في النهاية بجدية
(لماذا غيرت رأيك بهذه السرعة يا مسك؟، كنت رافضة الزواج مني تماما و فجأة غيرت رأيك، هل لي أن أعرف السبب؟)
ارتبكت مسك للحظة، الا انها نظرت اليه بتماسك رائع و هي تهز كتفها قائلة بلامبالاة.

(لقد الححت في الطلب)
ابتسم أمجد وهو يراقب عنفوانها و جلستها المغرورة، قبل أن يقول بمزاح صاف
(اكبحي جماح ثقتك سيدتي قليلا، لسنا أهلا لهذه الهالة من الأنوثة الطاغية بعد)
مطت مسك شفتيها عن قصد بسخرية، الا انها لم تفعل هذا الا لتكبح ابتسامة حقيقية أوشكت على الظهور الى شفتيها، ثم قالت ببساطة
(كما سبق و أخبرتك، ان اردت تغيير رأيك، فأرجوك تصرف بحرية و لا تتردد).

لم يتنازل امجد حتى للرد على هذه الجملة الأخيرة. ، ...
بل قال بجدية
(هل غيرت رأيك كرد فعل سريع على عقاب عائلتك لك؟)
نظرت مسك اليه رافعة حاجبيها و هي تقول ببرود
(هل ظنك بي أنني بمثل هذه السطحية؟، أوافق على زواج و أبدأ حياة جديدة، بل و أحرم رجلا من أبوته لمجرد أن أرد الضربة الى عائلتي؟، رأيك بي مشرف حقا)
قال أمجد مبتسما بهدوء.

(لقد انتابني الشك للحظة فاعذريني، لقد توالت الأحداث سريعا، لذا هل تتكرمين باخباري عن سبب تغيير رأيك سريعا؟)
رفعت مسك عينيها الى عينيه، ثم قالت أخيرا بهدوء يجمد الحمم
(أنت فرصة مناسبة)
أغمض أمجد عينيه و تأوه بصوت عال، فعقدت مسك حاجبيها و هي تقول بقلق
(ماذا بك؟، أمجد؟)
فتح أمجد احدى عينيه ليقول بصوت متألم
(كان هذا صوت تهشم كبريائي الرجولي، الذي سحق تحت صخور اجابتك الفظة و لسانك الأشبه بمنشار قاتل).

زفرت مسك و هي تقول بخفوت
(لا أصدق ما أنا فيه حاليا، أنا و أنت!)
ابتسم أمجد قائلا بزهو
(رائعين معا، اليس كذلك؟)
نظرت اليه مسك و قالت بجدية
(بل اضحوكة، و كارثة توشك على الحدوث)
قال أمجد بهدوء
(توقفي عن هذا التشاؤم و أجيبي سؤالي، لما رأيتني فرصة مناسبة؟)
رفعت وجههها تتأمله بحذر قبل أن تهز كتفها قائلة.

(حسنا أنت رجل محترم، مستواك المادي مناسب حتى و إن كان ليس مطابقا تماما لمستوى والدي الا أن هذا أمر طبيعي، و فوق هذا كله، أعتقد أنك ستكون الوحيد الذي يقبل بحالتي دون شروط)
ظل أمجد يستمع اليها بصمت الى أن أنهت كلامها تماما...
لم يكن هذا ما يتمنى سماعه منها أبدا، لكنه أيضا لم يكن متفائلا للدرجة التي تجعله يتخيل أن تكون قد وقعت في غرامه...
لكن أن يكون فرصتها الوحيدة!
ليس هذا ما تمناه أبدا...

نظرة واحدة من عينيها الى تعابير وجهه، استطاعت بها قراءة ما يجول في خاطره، أو جزء منه على الأقل...
فقالت بثقة
(لا تعتقد أنني أقلل من شأن نفسي، أنا فقط امرأة واقعية، أدرك تماما ما أمتلكه و العكس، لذا و بما أنني وصلت الى السن المناسب للتفكير في الإستقرار، يجب على الإعتراف ان فرصة قبول رجل بحالتي تعد فرصة نادرة من نوعها، لن اجدها كثيرا، هذا ان وجدتها من الأساس).

ظل أمجد صامتا لعدة لحظات ثم قال أخيرا بخفوت
(لكن ماذا لو كنت أريد منك أكثر من هذا؟)
بادلته مسك النظر بصمت قبل أن تجيب بلامبالاة
(حينها يؤسفني أن أعود الى سابق قراري في رفض عرضك، الأمر كله عائد اليك، إما أن تقبل بي ككل و ليس بعضا مني، و إما أن تتركني و تبحث عن فتاة أحلامك)
قال أمجد بعد فترة
(لقد حلمت بك لثلاث ليال متتالية، الا يخبرك هذا بأنك أصبحت فتاة أحلامي؟)
ارتبكت مسك قليلا، لكنها قالت بهدوء مبتسمة.

(بل يخبرني بأنه مجرد افتتان سطحي، جعلني أسكن عقلك الباطن لفترة، ليس هذا مقياسا لزواج ناجح مطلقا)
ابتسم أمجد و قال
(سأقبل به، أنا حر بافتتاني، و كوني أنت حرة بمقاييسك الباردة يا ألمظ)
عبست مسك و هي تقول بعصبية
(سبق و أخبرتك أنني لا أفضل تلك الألقاب)
لم يفقد أمجد ابتسامته وهو يقول بعذوبة
(عليك البدء في اعتياد الكثير من أسماء الدلال التي سأمطرك بها ألماس)
تنهدت مسك و قالت بيأس.

(كن جديا قليلا من فضلك و دعني اخبرك بما أتيت من أجله)
قال أمجد ببساطة بينما عيناه تلفانها بنفس الغيمة الدافئة و كأن نظراته تراقصها برقة و بطىء
(تفضلي، كلي آذان مصغية)
أخذت مسك نفسا عميقا، ثم استدارت في جلستها كي تنظر اليه بجدية قبل أن تبدأ قائمة عكفت على حفظها خلال الساعة الماضية...
(أمجد، هناك عدة معوقات، قد تقف في طريق هذا الزواج)
رد عليها أمجد ببساطة
(لن أسمح لها)
الا أنها قالت بحدة قليلا.

(اسمعني أرجوك، و دع عنك درعك الحديدي هذا، أول عقبة عليك ادراكها هي أنني من عائلة ذات قوانين متوارثة منذ أجيال و أجيال، و هي أن الفتاة لا تتزوج الا من أحد أبناء الأعمام، و من تتمرد على هذا الوضع تصبح مطرودة من هذه العائلة، الا لو سامحها كبيرها)
رد عليها أمجد بهدوء دون أن يجفل
(سبق و لمحت لي بهذا من قبل، لا تقلقي و اتركي الامر لي)
انعقد حاجبيها بتفكير عميق، قبل ان تقول بجدية و اتزان.

(مبدئيا عرضك سيقابل بالرفض لا محالة، فهل تدرك هذا و لا تزال مصمما على التقدم؟)
قال أمجد مبتسما برفق ابتسامة منحتها ثقة غير متوقعة في مدى احتمالية نجاح تلك الزيجة
(أنا مصمم منذ شهور، السؤال هنا، هل أنت على استعداد لخوض تلك الحرب معي؟)
رمقته مسك بنظرة طويلة، كانت عيناه تسألانها سؤالا و تتمنى منها اجابة خاصة، ذات نغمة نبذتها منذ سنوات...
لذا قالت بجمود، و دون مشاعر.

(هذا أمر طبيعي، طالما أنني واقفت على عرضك)
قال أمجد باصرار
(لكن الحرب ليست مجرد موافقة، الحرب تحتاج الى قلب ينبض بالحب، الذي يستمد منه الأسلحة اللازمة لخوض تلك الحرب)
شعرت مسك بشعور غريب يربكها و يزلزل أعماقها الباردة مهددا بزعزعة الغلاف الجليدي المحيط بقلبها منذ سنوات...
الا أنها شدت على شفتيها و قالت بنبرة ساخرة خافتة
(لم أكن أعلم أنك شخص حالم الى هذه الدرجة، و هذا عيب خطير على التأقلم معه في شخصك).

لم تجفله فظاظتها المحببة، بل أنه بدأ يعتاد عليها و، يحبها...
لذا لم يشعر بالحرج وهو يقول بخفوت رقيق ناظرا الى عينيها
(أنا لست حالما يا مسك، لكنني أعلم ما أحتاج اليه، دون حرج أو شعور بالنقص)
أطرقت مسك برأسها و هي تحاول جاهدة تركيز ذهنها، ثم قالت أخيرا بهدوء
(عامة، أظن أن علينا الإنتظار الى أن نمهد الأمر لأبي، لذا أعتقد أن فترة من بضعة أشهر ستكون مفيدة في حالتنا كي)
قاطعها أمجد رافعا حاجبيه بذهول.

(بضعة أشهر! تريدين مني الإنتظار بضعة أشهر؟ لقد كنت أختار تصميم مطبخ شقتنا منذ ساعة عن طريق الإنترنت! بالمناسبة، هل تفضلينه من الخشب أم من الأليمونيم؟، أعتقد أن للخشب مشاكل كثيرة و)
قاطعته مسك محتدة
(أمجد، أمجد، توقف رجاءا، أخبرتك أنك لن تتقدم الى أبي رسميا قبل أشهر من الآن)
لم يرد أمجد، و نظرت اليه بتوجس، فرأت ملامح غير مريحة، و بالفعل قال أمجد بهدوء و براءة
(أظن أن هذا لم يعد ممكنا).

(أظن أن هذا لم يعد ممكنا)
بهت لون مسك و رفعت حاجبا شريرا و هي تقول بارتياب
(لماذا؟، ماذا فعلت؟)
قال أمجد معتذرا رغم الإبتسامة الخبيثة المرتسمة على شفتيه
(حضري نفسك، و ارتدي أجمل ما لديك، فأنا آتيا الليلة كي أطلب يدك من والدك رسميا، قهوتي بلا سكر بالمناسبة)
انتفضت مسك من مكانها و هي تميل إلى مكتبه مستندة بيديها على سطحه هاتفة
(ماذا؟، هل قررت دعوة نفسك أم فاتحت أبي بالأمر فعلا).

بقى أمجد مكانه جالسا ينظر اليها باستمتاع، ثم قال أخيرا بتسليم
(فاتحته و هو ينتظرني الليلة)
أغمضت مسك عينيها و هي تهتف بغضب
(لا، لا، لماذا تسرعت؟، الأمر أصعب مما تتخيل)
رد عليها أمجد مبتسما وهو مرتاحا في جلسته
(دعي الأمر لي، أنا لم أخبره بسبب زيارتي بعد، الا أنه استنتج الأمر بلا شك، اجلسي يا مسك و اهتدي بالله، أنا في النهاية ابن اسرة محترمة، لا داعي لهذا الخوف).

ارتمت مسك جالسة في مقعدها من جديد و هي تقول بنفاذ صبر
(أنت لا تعلم ما أقدمت عليه)
قال أمجد بنبرة سعيدة،
(بلى أعرف، أنا مقدم على الزواج بالقمر)
نظرت اليه مسك بطرف عينيها، ثم قالت بخفوت
(لقد بدأت الحرب و لست مستعدة بعد)
ارتفع حاجبي أمجد وهو يقول برقة، مقتربا منها
(مسك الرافعي بذات قدرها، ليست مستعدة؟ هذا اعتراف مهم جدا)
مالت هي الأخرى اليه على سطح المكتب ثم قالت بصرامة
(و أمك؟)
انعقد حاجبيه بتوجس، ثم قال.

(هل هذه شتيمة؟)
هزت رأسها بنفاذ صبر ثم قالت من بين أسنانها،
(بل أسألك عن موقف أمك، هل عرفت بحالتي أم لا تزال على جهلها؟)
قال أمجد بصرامة وهو يميل اليها كمن يهمسان بسر قومي الى بعضهما
(أولا احترمي نفسك في الكلام عنها و انتقي ألفاظك، ثانيا لقد عرفت و انتهى الأمر)
تراجعت مسك للخلف في مقعدها و هي تقول مصدومة
(عرفت حقا؟، و ماذا كان ردها؟)
اطرق امجد برأسه قليلا، ثم قال ناظرا الى اصابعه، محاولا التحدث برفق.

(تعرفين أن الأمر صعب يا مسك و الطريق طويل، فقط امنحيها بعض الوقت)
شعرت مسك بشعور غريب من القنوط بداخلها، لم تتخيل ان تحتدم الامور الى تلك الدرجة في وقت واحد، حتى اصبحت حياتها الخاصة مشاعا بين الجميع...
ما بين تعاطف و شفقة و شماتة و خلاف حاد و رفض، تترواح مشاعر جميع المحاوطين بها و هي تائهة في تلك الدوامة...
نظرت مسك الى امجد و قالت بجمود.

(كانت ستعلم على اية حال، لكنني متعجبة قليلا، فمنذ ايام كنت على استعداد لالصاق تهمة العقم بنفسك، ثم سارعت باخبار امك و كأنك تتمنى رفضها كي يرتاح بالك و تتهرب من تلك الزيجة)
انعقد حاجبي أمجد بشدة قبل أن ينهض من مكانه مندفعا، ليدور حول المكتب الى جلس أمامها مباشرة، ثم قال بصرامة آمرا
(انظري الي)
ابقت مسك وجهها مرتفعا باباء، بعيدا عن مواجهته، الا انه قال بقوة
(انظري إلى بنفسك، أو ادير وجهك بنفسي).

اندفعت مسك بوجهها تنظر اليه لتقول ببرود و تحدي
(لن تجرؤ)
ابتسم امجد وهو يقول بصوت عذب
(على الأقل نظرت الي)
كتفت مسك ذراعيها و هي تقول بصرامة
(حسنا، قل ما لديك، علما بأنني كنت أكثر اصرارا منك على أن تعرف امك بالحقيقة كاملة)
قال أمجد بهدوء و بطىء ناظرا الى عينيها
(لم أكن أنا من أخبرها، و قد كنت جادا تماما في الصاق تهمة العقم كما تطلقين عليها بغبائك، بنفسي، لكن الظروف لم تمهلني).

عقدت مسك حاجبيها و هي تنظر اليه قائلة
(اذن من أخبرها إن لم يكن أنت؟، لا أحد يعرف سواك ب)
صمتت مسك فجأة، و لا تزال الكلمات متجمدة على شفتيها الفاغرتين، الى أن همست ضاحكة بذهول
(لا، لا لا، لا تقل، غدير تطوعت و اخبرت أمك، اليس كذلك؟، لا احد سواها يعرف و يستطيع التواصل مع والدتك)
ابتسم أمجد دون مرح و قال بخفوت
(قدراتك التحقيقية عالية للغالية، على مراعاة ذلك بعد زواجنا، حيث سيصعب على اخفاء اي شيء عنك).

رفعت مسك اصابعها تلامس ابتسامتها المذهولة بينما نظرة الألم في عينيها كانت أشد عنفا من قدرتها على اخفائها...
فأغمضتهما و هي تضحك برقة مؤلمة، حينها شعر أمجد بوجع شرس ينهش أحشائه، فقال بخشونة
(توقفي عن هذا يا مسك)
الا انها كانت تحاول بكل صدق أن تتوقف دون جدوى، حتى دمعت عيناها، أو ربما كان من السهل أن تنسب تلك الدموع الى ضحك، أكثر من خزي انسابها للبكاء...

زفر أمجد بقوة وهو يميل تجاهها، مستندا بمرفقيه الى ركبتيه، ثم همس بصوت اجش
(أعلم تماما ما تشعرين به، الغدر أمر صعب، )
توقفت مسك عن ضحكها الخافت، و هي تمسح الدموع عن عينيها، قبل أن تنظر اليه بابتسامة ساخرة، قاسية، ثم قالت أخيرا
(الغدر! أصبحت تلك الكلمة أكبر من تصرفات غدير تجاههي، لقد غدرت بي مرة قديما، أما ما تفعله الآن، فهو مثير للشفقة)
أومأ أمجد برأسه قائلا.

(نعم هو كذلك، و أنا لن أسمح لها أو لمخلوق أن يمسك بسوء بعد الآن، أعدك بذلك)
هزت مسك رأسها قليلا و هي تقول بخفوت
(لو أعرف فقط لماذا؟، لماذا؟، لماذا خانت العشرة بتلك السهولة؟، و ماذا عن الآن؟، لماذا تتعقبني مترصدة حركاتي؟ تريد هدم أي شيء أحاول بنائه، لماذا؟)
قال أمجد بنبرة قوية خافتة
(لأنك الأفضل، لطالما كنت الأفضل يا مسك، ).

نظرت مسك الى عيني أمجد طويلا، نظرات جامدة، صلبة، لكن لم يختف منها الألم بعد، فقالت بصوت هادىء خافت
(كانت صدمة لوالدتك، اليس كذلك؟ يمكنني تخيل الأمر)
أخذ أمجد نفسا عميقا، ثم قال بثبات
(منذ لحظات وعدتك بخوض الحرب معك أمام عائلتك، ترى هل أبالغ لو طلبت منك المثل؟)
ظلت مسك تنظر اليه طويلا، الى أن قالت أخيرا بخفوت
(الأمران ليسا متشابهين)
أكد أمجد بحزم و قوة.

(بل الأمر واحد، أنا و أنت أصبحنا شخصا واحدا، في مواجهة حربين)
رفعت مسك وجهها ثم قالت بحزم
(لن أمضي في الأمر الا بعد أن أقابل والدتك، و أسمع موافقتها بنفسي)
تراجع أمجد للخلف في مقعده، ينظر اليها بدقة ثم قال أخيرا بصوت اجش
(لك ما طلبت)
رفعت مسك ذقنها و شدت من ظهرها، قائلا بثقة
(جيد، في هذه الحالة أنا في انتظارك الليلة).

كان أمجد ينظر اليها مبتسما وهو يستند بمرفقه الى ذراع مقعده، واضعا ساقا فوق أخرى، يراقبها كمن يراقب لوحة فنية نفسية، ثم قال أخيرا بجذل
(قمر، و ربي قمر)
احمرت وجنتاها قليلا و هي تخفض وجهها أمام هذا الغزل الصريح منه، بينما لم يرحمها هو من ابتسامته أو نظراته التي لا تهدأ...

وقف ليث أمام أبواب الشرفة الواسعة المطلة على البحر الأزرق الواسع...
شارد الفكر تماما حيث ترك قلبه على بعد مئات الأميال، حيث المليحة ذات أجمل عينين أبصرهما يوما...
مرت أيام منذ تركها و سافر الى المدينة مصطحبا ميسرة معه الى المدينة طلبا الى العلاج...
و خلال هذه الأيام لم تترك ذهنه ولو لمرة، يفكر بها و يشتاق اليها، يشعر بأن عشقه لها تضاعف مع كل يوم يبتعده عنها...

شعر فجأة بذراع أنثوية تلتف حوله من الخلف و تحيط بصدره، بينما الكف ذو الخواتم الذهبية يداعب صدره، و صوت ميسرة يهمس في أذنه بدلال
(لماذا تقف وحيدا هكذا؟، ما الذي يشغل بالك؟)
تنهد ليث دون أن يجيب بينما انطبعت شفتاها الحمراوين على بشرة كتفه و هي تهمس بنعومة
(هل تفكر مثلي في الطفل الذي اتينا لأجله؟، أشعر أن الله سبحانه و تعالي سيحقق أملي هذه المرة، و سفرتنا هذه لن تخيب).

رفع ليث يده و ربت على ظاهر كفها قائلا بخفوت دون أن يستدير اليها
(ان شاء الله يا ميسرة، ان شاء الله)
بداخله طاقة كبيرة من الإحساس بالذنب، ففي اعمق اعماقه، هو لا يريد سوى طفل سوار فقط...
اما رغبته في الأبوة فقد ماتت بالنسبة لميسرة...
ولولا خوفه من الله، و اتقائه فيها، لكان رفض هذه السفرة من الأساس و اقنعها بضرورة القبول ما كتب عليهما...

لقد ماتت كل مشاعره تجاه ميسرة منذ فترة طويلة، حتى قبل زواجه بسوار...
لم تترك له الفرصة ليحي في قلبه أي احساس تجاهها، كان كل تصرف منها يزيد من نقمته عليها، و هي لم تتوانى عن الابداع في اختيار كل ما يرفضه في الحياة...
و لو عليه لطلقها منذ زمن، الا أن طلاقه لابنة عمه لم يكن بالأمر اليسير، كما أنه لم يشأ أن يظلمها رغم كل ما تفعل...
همست ميسرة مجددا و هي تريح وجنتها الى ظهره بنعومة.

(كم أتمنى رؤية طفلي منك أخيرا يا ليث، ابن الكبير، سأربيه على العز و الفخامة، و سيكون غير كل الأطفال، سيكون ملكا بينهم، بالطبع أليس هو ابن الكبير!)
زفر ليث بخفوت دون أن يلتفت اليها
(ادعي الله أن يأتي أولا يا ميسرة، قبل أن تحددي ملوكيته بين باقي الاطفال)
ضحكت ميسرة بميوعة و هي تقول
(أنت دائما تتفنن في قتل أحلامي، دعني أحلم به و اتخيل كيف سيكون)
قال ليث بخفوت.

(ليرزقك الله بالطفل السليم الذي يرضي اشتياق قلبك يا ميسرة)
استدارت ميسرة حوله الى أن أمسكت بذراعيه و هي تهمس بخفوت
(و ماذا عن قلبك يا ليث؟، ألن يرضي قلبك أنت أيضا؟)
ارتبكت نظرات ليث قليلا، الا أنه قال متهربا من نظراتها، ناظرا الى البحر
(ما الذي يجعلك تظنين هذا يا ميسرة؟)
قالت ميسرة و هي تعض على شفتها بغضب مكتوم، و حقد يلمع في عينيها السوداوين...
(أشعر بأنك لا تريد هذا الطفل! هل هذا هو العدل في نظرك؟).

عقد ليث حاجبيه و خفض وجهه لينظر اليها قائلا بخفوت
(أي عدل تتكلمين عنه يا ميسرة؟، ما أن طلبت مرافقتي في السفر طلبا للمحاولة من جديد لم اجعلك تكررين طلبك مرتين، و اصطحبتك معي كي تنالي كل فرصة ممكنة في العلاج، فما هي شكواك الجديدة؟)
هزت ميسرة راسها و هي تقترب من ليث أكثر الى أن استندت بكفيها الى صدره القوي و هي تهمس له بخفوت ناعم.

(لا أتكلم عن أفعالك، بل قصدت ما في قلبك، أريد الشعور بأنك تتمنى هذا الطفل أكثر مني، أريد الشعور بأنك تحبني يا ليث)
عادت عقدة الذنب في داخله ازدات تعقيدا، كيف يجيبها الآن؟
انحنت ميسرة الى ان قبلت صدره بشفتيها هامسة بغنج
(ألم أكن مثال الزوجة التي تمنيتها خلال الأيام السابقة يا ليث؟، كنت أحقق لك ما تريد قبل حتى أن تطلبه).

نعم، منذ ان سافرا معا و هي تتصرف على نحو مخالف لطبيعتها تماما، تحاول اسعاده قدر استطاعتها...
لكن ماذا تفعل بضعة أيام امام سنوات طويلة من تصرفاتها المقيتة التي أطفئت بداخله أي أمل في حبها...
تابعت ميسرة تقول بخفوت
(هل تأكدت الآن من أنك لم تكن أبدا عادلا، لقد حققت كل ما كنت تطلبه مني، لكنك لم تتغير كما اوحيت الي، أنت تعامل ابنة وهدة أفضل مني)
اظلمت عينا ليث وهو ينظر اليها محذرا.

(أخبرتك الف مرة يا ميسرة، سوار خط أحمر لا تتجاوزيه)
برقت عينا ميسرة ببريق يشبه شياطين تتقافز في عمقهما، الا أنها كتمت شعورها بقوة و هي تقول بخفوت و تظلم
(أنت تفرق بيننا يا ليث، هذا ليس ما أمرك به الشرع)
عبس ليث و قال بصرامة
(نعم أفرق بينكما، فأنت تنالين حقوقا أكثر منها، و هذا ما أنوي تصحيحه ما أن نعود)
أغمضت ميسرة عينيها لعدة لحظات و هي تكتم بداخلها نارا توشك على حرق الحرث و النسل...

كلامه يحرقها، و يجعلها ترغب في احراق سوار بالمثل، تحلم بصوت صرخاتها و هي تشتعل أمام كل ليلة في الحلم، فتصحو منتعشة لتبدأ يومها على هذا الحلم الرائع...
فتحت ميسرة عينيها مجددا و هي تقترب منه هامسة بدلال.

(لما لا تمنحني الفرصة يا ليث، ربما وجدت أنك تحبني أكثر منها، و ستفاجىء كيف بامكاني اسعادك بما يفوق كل أحلامك، إنها أنا، ابنة عمك، الشريفة التي رغم بعض طباعها الفظة قليلا، الا أنها عفيفة، تحفظ اسمك و عرضك و شرفك)
ازداد انعقاد حاجبي ليث أكثر، و بداخله تصاعد شعور بالنفور غير مريح، الا انه قال بخشونة
(اهتمي بحياتك و دارك يا ميسرة، و اخرجي سوار من تفكيرك، حينها فقط سترتاحين).

ابتسمت ميسرة ابتسامة زائفة باردة و هي تتلمس بشرة صدره بشفتيها هامسة
(سأحاول، لكن فقط إن ركزت أنت معي و أخرجتها من تفكيرك طالما نحنا معا، فهل أطلب الكثير؟)
تنهد ليث وهو يدرك بأنها تطلب الحق للمرة الأولى في حياتهما معا، الا أن هذا ما هو عاجزا عن فعله...
لقد تمكنت منه سوار حتى تخللت منه مجرى الدم و سكنت أوردته...
حاول ليث الإبتسام لها، الا أنها جذبته قائلة بدلال.

(كفى كلاما و تعال معي لترتاح، فغدا أمامنا يوم طويل، من متابعة الفحص ثم الخروج للتبضع و شراء الهدايا)
استسلم ليث الى يدها وهو يحاول جاهدا، اخراج سوار من عينيه، عبثا...

أغمضت عينيها تستنشق رائحة البخور المنبعثة من المبخرة الممسكة بها و هي تبخر غرف دارها كما اعتادت أن تفعل كل ليلة، أما الصباح فقد كانت تعكف على القراءة من المصحف بصوت خافت...
بداخلها نفور من أعمال السحر التي تعلم جيدا أنها لم تنقطع من دارها رغم سفر ميسرة...
لم تكن يوما غبية أو ساذجة، فهي تعلم من اليوم الأول على من تعتمد ميسرة في اقتحام خصوصية دارها و حياتها...

لكنها صمتت كي تستغل هذا التعاون في هدفها...
وضعت سوار المبخرة الفضية فوق طاولة الزينة، قبل أن تنظر الى نفسها...
نفس الملامح الأبية الحزينة، لكن في عينيها نظرة جديدة، لم تعتدها سوار في نفسها من قبل...
رفعت يدها ببطىء كي تنزع الوشاح الشفاف الملقى حول راسها بإهمال...
ثم التقطت الفرشاة لتمشط بها شعرها ببطىء و هي تنظر الى هاتين العينين المتوهجتين...
لقد اشتاقت اليه...

و هذا هو ما لم تحسب له حسابا مطلقا، لقد اخترق ليث بعضا من الحواجز الصارمة التي فرضتها حول نفسها كي لا تضيع عن هدفها...
منذ أن سافر مع ميسرة، و هي تفكر بهما طويلا، تتخيلهما معا، فتنتفض بنفور مؤلم!
شعور اشبه بال، التملك...
لقد منحها مشاعرا لم تختبر مثلها سابقا، ثم ابتعد مع ميسرة و كان من المفترض بها أن تكون راضية و تبدأ في العمل على خطتها...

الا أن تلك المشاعر الحادة بداخلها تتلاعب بها و تتركها وحيدة، ترتجف قليلا و هي تتذكر آخر ليلة لهما معا...
كم أشعرها بأنها ملكة، ملكة بكل بهائها و جمالها، حتى أنه همس بتلك الكلمات في أذنها في أكثر لحظاتهما الخاصة معا...
زفرت سوار بقوة و هي تلقي بالفرشاة بعيدا، قبل أن تستدير حول نفسها متنهدة بصمت، تتأمل الغرفة الواسعة و الخاوية جدا بعد سفره...
انجذابها البطيء اليه لم يكن ضمن الخطة الموضوعة أبدا...

ابتعدت سوار عن طاولة الزينة و هي تتهادى في عبائتها الحريرية الى أن جلست على حافة السرير بلا هدف...
الا أنها قفزت فجأة ما أن سمعت رنين هاتفها الخاص، فسارعت الى التقاطه من فوق الطاولة الجانبية و هي تنظر الى الإسم بلهفة، رغم معرفتها أن لا أحد سيتصل بها في مثل هذه الساعة الا هو...
أخذت سوار نفسا عميقا، ثم ردت بهدوء قائلة
(السلام عليكم).

مرت لحظة من الصمت، سمعت خلالها صوت تنفسه الذي باتت تعرفه جيدا، قبل أن يصل الى أذنيها صوته الرخيم وهو يقول مبتسما، لقد سمعت الإبتسامة في صوته
(سلمت لي تلك النبرة، ليتها لا تنتهي أبدا)
عضت سوار على شفتها للحظة بينما اربكتها نبرته، الا أنها قالت بهدوء
(مرحبا بابن خالي)
رد عليها ليث قائلا بنفس الصوت المميز
(مرحبا بك أنت يا مليحة، يا سيدة الحسن و الجمال).

ابتسمت سوار رغم عنها، الا أنها قالت بهدوء، رافضة أن تنخدع بهذه الكلمات بينما هو بين أحضان زوجته الأولى، يبحث معها سبل حصولهما على طفل
(كيف هي سفرتكما؟، أرجو أن تكونا قد وفقتما)
ساد الصمت بينهما مجددا قبل ان يهمس ليث بخفوت
(هل افتقدتني؟)
أسبلت سوار جفنيها و تلامس قماش عبائتها بشرود، ثم قالت أخيرا بهدوء
(بالتأكيد يا ابن خالي)
رد ليث عليها بصوت قوي رغم خفوته
(الى أي حد افتقدتني؟).

لعقت سوار شفتيها و هي ترفع رأسها تلتقط أنفاسها، ثم قالت أخيرا
(لا أظن أن ميسرة بجوارك في تلك اللحظة)
ساد الصمت مجددا، بينما هي تنتظر رده بترقب، و حين لم تحصل على الرد سألت باصرار
(اليس كذلك؟)
قال ليث بهدوء
(لا، ليست بجواري، فلك عندي كلام، لا يصح لغيرك سماعه).

توردت وجنتي سوار قليلا و هي تشعر بتلك الخصوصية في نبرته، و ارتجفت أعصابها، الا أنها نهضت من مكانها عائدة الى مرآتها و الهاتف على أذنها، ثم وقف تتأمل نفسها قائلة
(لا أفضل التطفل على وقتكما معا)
رد ليث بخفوت
(و أنا لم أكن أفضل تركك بمفردك)
قالت سوار بسرعة و دون تفكير
(اذن لماذا فعلت؟).

زمت شفتيها بغضب و هي ترغب في ابتلاع هذا السؤال الذي يجعلها تبدو كامرأة بائسة، تجلس في البيت المهجور، لا هم لها سوى انتظار زوجها...
قال ليث بخفوت
(لأن لها حقوق، لا يمكنني اغفالها، هل تغارين؟)
نظرت سوار الى عينيها في المرآة، و باغتتها الحقيقة المرة، الا انها لم تستطع الرد، فقال ليث بقوة اكبر
(سوار، هل تغارين؟).

تود الكذب عليه و ليسامحها الله، لكنها لم تجد القدرة على الكذب كذلك، لذا قالت ببساطة و هي تنظر الى عينيها في المرآة
(نعم)
ساد الصمت بينهما مرة أخرى، الا أن صوت تنفسه القوى و الحاد كان أكثر وضوحا، ثم قال بصوت أجش
(هل تتكلمين بجدية؟، سوار. )
ابتسمت رغما عنها، فأطرقت بوجهها، قبل ان تقول بنبرة هادئة مستفزة
(نعم)
سحب ليث نفسا حادا، قبل ان يقول آمرا
(هل تغارين؟)
ردت سوار ببساطة
(نعم).

عاد ليتنهد بقوة، تنهيدة كادت أن تلفح بشرة صدغها بلهيبها المستعر، قبل ان يقول بصوت أجش خافت
(و هل سيكون طمعا مني لو سألتك، إن كنت تفكرين في لحظاتنا الخاصة معا و أنت وحيدة؟)
عادت لتبتسم رغما عنها و هي تقول بهدوء
(نعم)
قال ليث بعنف حميمي
(نعم للطمع، أم نعم تفكرين بلحظاتنا سويا؟)
قالت سوار بنبرة هادئة مستفزة و هي ترفع حاجبا خبيثا
(للاثنين).

سمعت صوت تنهيدة أخرى مما جعل الابتسامة تتسع على شفتيها، قبل ان يهمس باسمها قائلا
(سوار)
ردت سوار باستفزاز مبتسمة
(نعم)
قال ليث بصوت عميق
(هل تعلمين أكثر ما أفتقد اليه أنا؟)
احمرت وجنتيها اكثر و اكثر، و تسارعت نبضات قلبها في مؤشر غير مبشر بالخير، الا انها قالت برزانة
(ما هو؟)
قال ليث بخفوت
(حملك كل ليلة).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة