قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والستون

بعد مضي بضعة ساعات من التحضيرات على قدم و ساق...
نزلت سوار على السلالم العتيقة الخشبية و هي ترتدي عباءة شرقية، مطرزة بخيوط الذهب من بدايتها و حتى نهايتها...
و حول جسدها عباءة أخرى بيضاء، تخفيها تماما من مقدمة رأسها و حتى أخمص قدميها...
و ما أن خرجت من باب دار الرافعي، حتى تعالت زغاريد النساء بقوة و انطلقت الأعيرة النارية...
حتى تحولت السماء الداكنة الى ساحة احتفالات...

رفعت سوار وجهها تنظر عبر القماش الأبيض الشفاف الذي يغطي وجهها، لترى ليث واقفا بجوار الجمل الجاثي أرضا...
فغرت شفتيها مبهورة و هي تراه يقف و أقل ما قد يقال عنه، هو أنه، رائع...
الأربعيني الرائع...
بكل هيبته و جاذبية سطوته، بالشعر الأبيض الذي خط جانبي رأسه، و العباءة التي تحيط كتفيه مفتوحة، مما جعلت منه ملكا متوجا...

وقفت مكانها تتأمله مصدومة الى أن صعدت عيناها حتى تقابلتا مع عينيه، حينها فقط سرت رجفة في بدنها بأكمله...
كان ينظر اليها و كأنه قد حظى بها أخيرا، و كأنها لم تكن له يوما من قبل...
هو في نهاية العشرينات، و هي في الثامنة عشر...
كان هذا عمر قلبيهما في تلك اللحظة...

حين طال بها الوقوف، حثتها احدى زوجات أعمامها على التقدم، فتحركت بالفعل و نزلت السلالم القليلة أمام باب الدار، حتى وصلت الى الجمل الذي يحمل هودجا رائع الجمال...
حينها تقدم منها ليث مبتسما ليمسك بكفيها فرفعت وجهها تنظر اليه، الا أنها لم تجد الوقت لتتأمله مليا...
فقد انحنى ليرفعها بين ذراعيه بقوة، بينما شهقت هي برعب و هي ترى نفسها تطير في السماء قبل أن تحط على مقعد الهودج...

ما أن استقرت مكانها حتى رفعت كفها الى صدرها تلتقط أنفاسها، ثم نظرت الى ليث الذي كان ممسكا بستار الهودج وهو يراقبها مبتسما بجذل، ثم قال لها بخفوت همسا و تسلية
(أراك في دارنا يا وحش الليل)
و أسدل الستار بعدها، حاولت سوار تهيئة نفسها، الا أن الجمل انخفض بها للأمام فجأة بأقصى سرعة، فصرخت عاليا، و هي تتشبث بقوائم الهودج كي لا تقع على رأس الجمل...

ثم عاد ليرتفع وهو يلقي بها للخلف مجددا، فصرخت مرة أخرى وهي تمسك بقائمتي الهودج مغمضة عينيها بشدة و كأنها في احدى ألعاب الملاه المخيفة...
كانت تتنفس بسرعة و رعب، الى أن بدأ الجمل في الحركة، مع صوت الأعيرة النارية...
لكن فجأة توقف كل شيء، و ساد الصمت، فأزاحت سوار الستار قليلا لتنظر منه كي تتحقق مما يحدث...
لترى ليث واقفا وهو رافعا كفه، كي تصمت الأعيرة و الزغاريد...

ثم هدر صوته بقوة يشق هذا السكون الليلي...
(الليلة ليست عرسا جديدا، بل هي احتفالا مني بسليلة عائلة الرافعي، زوجتي، و هي تسترد كرامتها أمام الجميع، و ليشهد على هذا كل من يمر به هذا الهودج الذي يحملها)
ثم أشار بيده الى الجمال كي يتابع سيره، بينما تعالت الأعيرة النارية مجددا صاخبة و مرحبة...

جلس ليث على حافة الفراش وهو يراقبها مبتسما ابتسامة خطفت قلبها...
بينما وقفت أمامه ممسكة بحافتي عبائتها الطويلة، تنظر اليه عبر القماش الأبيض الشفاف...
الى أن قال أخيرا بخفوت
(اخلعي عبائتك حبيبتي، دعيني أرى جمالك يا مليحة)
دون اعتراض، رفعت سوار كفيها كي تفك أربطة العباءة الخارجية، ثم تركتها تسقط أرضا، بينما وقفت أمامه مطرقة الوجه و كأنها عروس صغيرة في الثامنة عشر...

توقفت أنفاس ليث بحلقه وهو ينظر اليها مشدوها...
كانت سوار كما لم يرها من قبل، آية من الجمال، و هي ترتدي عباءة حريرية بيضاء، مطرزة بالكامل بالخيوط الذهبية، و قد تركت شعرها منسدلا طويلا يكاد أن يلامس ساقيها في تموجات بسيطة طبيعية...
فقط رفعت جوانبه بمشابك فضية قديمة، تستخدمها العرائس في البلدة حتى الآن...

عيناها محكلتان بقوة صريحة، مرسومتان رسما بخط أسود ثقيل حول اللون العسلي الشاحب لهما مما جعلها تبدو كفاتنة دون مبالغة منه...
رفعت سوار وجهها تنظر اليه مبتسمة، بينما قلبها يدق بسرعة، و قبل أن يستوعب بعد كل هذا القدر من الجمال، كانت قد رفعت كفيها مرة أخرى و فكت العباءة المطرزة لتضعها جانبا بكل ملوكية...
حينها سقط فك ليث وهو يرى تلك الفاتنة الخلابة التي أخذت تريه من الجمال درجات حتى وقفت أمامه أخيرا.

بثوب من الحرير الخالص، بدا شفافا، و الضوء الجانبي يحاوطها...
مظهرا كتفيها و صدرها و جمال قوامها دون خجل، ثم ينساب عليها كعروس فضية خرجت من بين أمواج البحر للتو...
رفع ليث حاجبيه وهو يحاول الكلام، الا أنه لم يستطع...
فابتسمت له بمكر، قبل أن تتجه اليه متهادية حتى جلست بجواره ثم قالت ببساطة
(هل ستظل صامتا هكذا طويلا؟، ألم تكن أنت من اشتريت لي العباءة المطرزة دون علمي؟).

هز ليث رأسه قليلا، ثم قال بصوت مبحوح متحشرج
(ابتعت العباءة المطرزة، أما هذه)
رفع يده ليضعها على جانب خصرها وهو يمر بها على طول جسدها ببطىء، عاجزا عن الكلام...
فازدادت ابتسامتها تألقا و همست هي الأخرى...
(أحضرتها معي، قلبي أخبرني أنني قد أحتاجها)
أخذ ليث نفسا عميقا وهو ينظر اليها، ممتعا نظره بجمالها الذي يسلب العقل و القلب، ثم قال بصوت أجش
(لطالما أعبتني نظرتك البعيدة للأمور).

ضحكت سوار و هي تطرق بوجهها، بينما هو يتأملها و كأنه غير قادرا على اشاحة نظره عنها الى أن قالت و هي تنظر جانبا بخجل
(حسنا، أشعر بتورد وجنتي و هذا غريب جدا)
قال ليث بصدق
(من حقك أن تخجلي يا مليحة و أنت ترتدين ما لا ترتديه)
أفلتت ضحكة أخرى من بين شفتيها و هي ترفع أصابعها الى جبهتها بحرج، ثم نظرت اليه أخيرا و قالت بصدق
(ليث، كيف لي أن أشكرك؟).

اقترب منها ليث ببطىء وهو يميل عليها حتى تراجعت و استلقت على الفراش، ثم مد أصابعه ليخلع المشابك الفضية عن شعرها و يرميها أرضا قائلا بصوت أجش
(بأن تبدأين بخلع تلك الأسلحة الخطيرة مثلا)
ثم انحنى أكثر ليقبلها بنعومة وهو يبعد كتف قميصها الحريري ببطىء شديد وهو يهمس لها بشغف
(و هذا، من باب الإمتنان)
حاولت الكلام، الا أنه أصمت كل محاولاتها، و نست ما كانت على وشك قوله...

فتحت سوار عينيها ما أن أبعد وجهه عنها قليلا، فرأت وجهه مطلا عليها، ينظر اليها بعشق أسير عينيها، ليقول أخيرا بصوت عميق يرتجف
(احساسي الليلة و أنت الزوجة الوحيدة لي، فاق أي سعادة أخرى عرفتها في حياتي)
ابتسمت سوار برقة و هي تلهث بصمت، لكن فجأة، انعقد حاجبيها بشدة، بهتت ملامحها بينما شردت عيناها بعيدا...
ثم قفزت جالسة و هي ترفع كفيها الى وجنتيها مغمضة عينيها بهلع...

استقام ليث بجوارها وهو ينظر اليها عاقدا حاجبيه بقلق، ثم قال
(ماذا بك يا سوار؟، ما الذي غيرك بهذا الشكل؟)
ظلت سوار على نفس وضعها المصدوم، قبل أن تدير وجهها اليه ببطىء و عجز، ثم هزت رأسها و هي تهمس بذعر
(ليث، لقد تهورت، و فعلت شيئا سيئا للغاية)
ابتسم ليث وهو يداعب شعرها ليقول بمداعبة خبيثة
(سواء تهورت، تشقلبت، حتى و إن أضئت في الظلام، لن يعتقك شيء من بين ذراعي الليلة).

فغرت شفتيها بصدمة، ثم ابتلعت ريقها و هي تهمس بعجز
(ليث، أنا آسفة، لم أكن أعرف أنك تنوي فعل كل هذا لأجلي، ظننتك تريد اذلالي فقط)
عقد ليث حاجبيه مجددا و قال بخفوت
(ماذا بك حبيبتي؟، أخبريني بما فعلت، لكن اطمئني أولا أنه لن يبعدني شيء عنك مطلقا، لقد تعودت على غبائك و صلابة عقلك المزرنخ، لذا لا أعتقد أن هناك ما قد يصدمني أكثر)
أفلت نفس مرتجف من بين شفتيها، ثم همست بأسى و بصوت متقطع، ناظرة اليه بطرف عينيها.

(لقد، لقد خطبت، لك فتاة أخرى).

(انتظر يا ليث، أرجوك اسمعني لحظة فقط)
جرت سوار خلفه على السلالم و هي لا تزال في قميصها الحريري الشفاف، و شعرها ينتفض من حولها، يشاركها بعثرة كيانها كله...
الى أن أمسكت بذراعه و نشبت فيها أظافر كفيها، استدار ليث لينظر الى كفيها الممسكين به، ثم رفع عينيه الى عينيها، فصدمتها النظرة بهما و التي جمدتها في مكانها، الا أنها لم تبالي و صرخت بقوة.

(لقد آلمني تصرفك يا ليث، و ظننتك تذلني، أوجعتني جدا بكلامك عن احتمال حمل ميسرة بطفلك، و أنا غير قادرة على حمله لك، و فرضك الإنجاب على بالقوة، كل هذا جعلني كالمجنونة، لذا تصرفت دون تفكير، أردتك أن تحصل على طفل من أي امرأة الا ميسرة، لأنها هي التي شوهت سمعتي و أساءت الى شرفي، و أردت أن أجرحك كما جرحتني، أردت ضرب عصفورين بحجر، معاقبتك على تعاملك معي، و أيضا تحصل على طفل من امرأة، أنا من تختارها لك).

كان ليث يستمع اليها صامتا تماما، الى أن انتهت و هي تلهث بعنف، محمرة الوجه، مشعثة الشعر
ثم نفض ذراعه من بين كفيها و قال بنبرة خافتة مخيفة
(أنصحك الا تدعيني أسمع صوتك خلال الأيام المقبلة، فنبرته حاليا تقرفني).

بعد اسبوع...
لم يشعر أبدا أنه أكثر جوعا اليها، منه الآن، و هي بين ذراعيه...
يضمها اليه بكل قوة اشتياقه لها...
ينهل من حبها كالمجنون، دون رادع أو مزيد من الكبت...
رائحتها، بشرتها، ثغرها الواعد...
لكن الغريب في الأمر أنه كلما اغترف من حبها شعر بالشوق أكثر، شوق موجع...
فرفع وجهه عنها وهو يهمس لها بنفس مهتز، و صوت متحشرج بينما عيناه تلمعان بشرر مخيف
(أنا اتألم، جدا، لا تبتعدي. ).

ابتسمت له بإغواء، و تحركت شفتاها تحت نظراته المتربصة بهما، لتهمس له بصوت
ممتعض!
(أنا لن أذهب لأي مكان، استيقظ)
كانت نبرتها الممتعضة عالية، و تبدو شاذة على ميل شفتيها المغريتين و نظرة الوعد في عينيها...
مما جعله يعقد حاجبيه بشدة و يفتح عينيه، الم تكونا مفتوحتين من الأساس؟

فتح قاصي عينيه بنعاس، الا أنه انتفض وهو يشهق مبتعدا للخلف وهو يراها تستند بكلتا ذراعيها على ذراع الأريكة التي ينام عليها، جالسة القرفصاء بجواره تراقبه أثناء نومه!
مطت تيماء شفتيها بإمتعاض أكبر و هي تقول
(هل رأيت عفريتا؟)
رمش بعينيه عدة مرات، ثم هز رأسه كي يجليه و يستيقظ تماما، قبل أن يعاود النظر اليها...

كان شعرها مرفوعا لأعلى رأسها، بمشبك طويل عرضيا، مما جعل اطرافه تقف على هيئة ذيل طاووس منتفش، تعقد منديلا أحمر حول رأسها، مربوطا خلف عنقها، و ساقط قليلا على جبهتها...
بينما هناك قلما خلف أذنها و نظارة على أنفها...
شتان ما بين شكلها و هي تشرف عليه، تراقبه بالمقلوب، و بين منظرها في الحلم...
أخذ قاصي نفسا عميقا، ثم قال بصوت أجش
(كم الساعة الآن؟)
ردت تيماء بجفاء
(السادسة صباحا).

تأفف قاصي وهو يستقيم ليجلس على الأريكة، ضاغطا جبهته بأصابعه، ثم قال بإستياء
(لماذا توقظينني اذن؟)
ردت تيماء بخفوت
(أنا لم أوقظك، أنت من كنت تعاني كابوسا كالمعتاد)
عقد قاصي حاجبيه بشدة وهو ينظر اليها بارتياب، ثم قال بقلق
(هل تكلمت؟)
أومأت تيماء برأسها دون أن ترد، فقال لها متجهما، متمنيا الا يكون قد فضح رغبته الحمقاء بها...
(ماذا قلت؟).

لم ترد تيماء على الفور، بل نهضت من جلستها و اقتربت منه لتجلس على الأريكة قبل أن تنظر الى عينيه و تقول بخفوت
(كنت تتألم، و طلبت مني الا أتركك)
عقد قاصي حاجبيه بشدة، وهو يتأملها بتحفص مما جعلها ترتبك قليلا، ثم قالت بصوت متوتر
(أو هكذا ظننت، كنت تطلب من امرأة الا تتركك و تبتعد، فظننت، أنها أنا)
بدت لها كلماتها غبية حتى على سمعها هي...
ظنت أم تمنت؟
رفعت وجهها اليه و قالت بصوت أجش.

(هل كنت تحلم بوالدتك مجددا؟)
ظل قاصي صامتا قليلا، ثم قال أخيرا بصوت أجش
(كانت امرأة، مجرد امرأة، طلبت منها الا ترحل)
زمت تيماء شفتيها في خط مشتد، ثم قالت ببرود
(و بماذا أجابتك؟)
كانت عيناه تلاحقانها، تلاحقان كل حركة عصبية منها، و كل مرة أسنانها تعض بها على شفتها بتوتر...
حركة أصابعها الخرقاء، و اهتزاز ساقها بتوتر...
كل شيء منها بات يحفظه عن ظهر قلب...
قال أخيرا بجمود.

(لم تجب، فبفضلك، اسيقظت قبل أن تجد فرصة كي تجيب طلبي)
مطت شفتيها و قالت بنبرة جليدية...
(غدا اسألها مجددا، و أعدك الا أتدخل، ظننتك تعاني أحد كوابيسك فأتيت مسرعة على صوتك، لكن على ما يبدو أنه لم يعد لي مكان بها)
ثم نهضت باندفاع و هي تشعر بمشاعر غريبة تجتاحها، مشاعر أخذت تتراكم بداخلها خلال الاسبوع الماضي حتى أوشكت على الإنفجار...

توقفت تيماء بعد بضع خطوات، ثم استدارت اليه فجأة بقوة و كأنها قررت أن تواجهه بدلا من الهرب كما يريد تماما، فسألته بحدة
(لماذا تنام على الأريكة؟)
بدا قاصي مجفلا من سؤالها المفاجىء الحاد، فأخذ نفس عميق، ثم قال بصوت غير مقنع
(تثاقلت رأسي و نمت رغم عني)
لم ترد تيماء، و لم تتحرك من مكانها و هي واقفة تنظر اليه بنظرة قاسية و ملامح جامدة، ثم قالت بصوت لا يحمل أي تعبير.

(أنت تفعل هذا كل ليلة منذ وصولي الى هنا، لماذا لا تأتي الى فراشك)
لأنك تنامين به...
أراد الصراخ بهذا عاليا، أراد أن يهزها بقوة و انفعال وهو يصرخ مرارا و تكرارا بأنه غير قادرا على النوم بجوارها و تجاهلها...
يكفيه فقط الشعور بها متكورة برائحتها الطفولية حتى يترك لنفسه العنان...

كان بداخله في تلك اللحظة صراخا عاليا يكاد أن يصم اذنيه، الا أن ملامحه كانت جامدة و قد وضع أحد اقنعته الحجرية وهو يراقب نظراتها ذات الصقيع القاسي...
ثم قال أخيرا بفتور
(لا تضخمي الأمر يا تيماء)
أفلتت منها ضحكة ساخرة قصيرة، و هي تردد لنفسها همسا
(لا أضخم الامور! معك حق، كم أنا سخيفة! اعذرني اذن، سأتركك الى أحلامك و امرأتك المجهولة).

استدارت تبتعد عنه مندفعة، الا أنها عادت وتوقفت مجددا و هي تتنفس بسرعة، ثم قالت بقسوة
(هل عرفت امرأة أخرى؟)
ساد صمت غريب من خلفها، فشعرت بنفسها ترتجف بشدة، لا تعرف ان كانت تلك ارتجافة غضب أم، خوف!
تكلم قاصي قائلا ببرود
(و ماذا يهمك في الأمر؟، طالما أنك سترحلين في كل الأحوال؟)
أغمضت تيماء عينيها و هي تفغر شفتيها...
هل فعل حقا؟، ما الذي يمنعه؟، يظل قاصي الحكيم على الرغم من كل شيء...

كانت له قديما صولات و جولات...
شعرت تيماء بوجع غريب و مألوف في نفس الوقت يجتاح كيانها دون رحمة...
فقالت ببرود ميت دون أن تستير اليه...
(بلى أهتم، أهتم أن يأتي طفلي الى هذا العالم من أبوين مخلصين لبعضهما)
هزت رأسها يمينا و يسارا و هي تطبق عينيها بشدة، و شعرت بأنها على وشك أن تفقد سيطرتها على أعصابها التي بدأت تتفتت بتغيير مفاجىء منذ فقدانها لطفلها...
فهتفت بحدة.

(أعلم بأنك لم تهتم لموت طفلنا كما تدعي، والله كنت أعلم هذا، و أنا لا أطلب منك أن تمنحني شعور لا تمتلكه، لكن على الأقل حاول، حاول أن)
صمتت و هي تشعر بنفسها تهذي، فرفعت يدها الى عينيها و هي ترتجف، ثم استدارت صارخة فجأة
(لن أقبل بأن تخونني بينما أحاول أنا الحصول على طفل منك)
لم تكن قد استدارت بعد و هي تصرخ، لكن ترافقت آخر كلماتها مع ارتطامها بصدره وهو يقف خلفها مباشرة دون أن تشعر...

رفعت تيماء وجهها تنظر اليه، الا أن ذراعه أطبقت على خصرها فجأة حتى رفعها عن الأرض تماما، بينما أمسكت كفه الأخرى بيدها، و دار بها ببطىء...
رفعت تيماء حاجبا واحدا و هي تمد اطرافها محاولة لمس الأرض، الا أنها من الواضح كانت بعيدة، فقالت بصوت غريب باهت
(ماذا تفعل بالضبط؟)
رد عليها قاصي بجفاء و بنبرة خافتة وهو يتحرك بها في أرجاء المكان ببطىء
(أحاول)
عقدت حاجبيها قليلا، ثم قالت بعصبية و هي تهز رأسها.

(تحاول ماذا؟، أنزلني، ما الذي تظن أنك تفعله؟)
لم يرد عليها قاصي، بل ظل ينظر الى وجهها وهو يتمايل بها و هي لا تلامس الأرض بقدميها...
يدور بها ببطىء، و العالم يدور من حولها...
دوار غريب اكتنفها، و أضعف من مقاومتها، فقالت بصوت متعب
(ابتعد عني، لا أريد أن)
الا أن قاصي قال آمرا بصوت مشتد خفيض
(هل تودين المحاولة أم لا؟)
صمتت تيماء و هي تخفض وجهها بينما تركت نفسها الى ذراعيه تماما...
يراقصها كما يشاء!

دون موسيقى، كان صوته يهمس لها بلحن قديم...
يتأملها من تحت جفنيه المطبقين قليلا، و هي تشعر بأنفاسه تداعب الشعريات الدقيقة بجوار أذنها...
رفعت تيماء عينيها الفيروزيتين اليه، ثم همست تسأله بصوت أجش
(قاصي، هل تقربك مني يحتاج الى كل هذه المحاولة؟)
لم يرد عليها، بل دار بها مرة أخرى حتى تطوعت ساقيها للخلف...

أغمضت تيماء و هي تشعر بالدوار من تلك الدوامة التي لفتهما معا وهو يدور بها، و ما أن استقرت انفاسها حتى فتحت عينيها و نظرت اليه، ثم سألته بصوت ميت هامس، شديد الخفوت
(هل تخونني؟)
أيضا لم يرد، بل كان يدندن باللحن الذي تعرفه و رقصا عليه كثيرا في مراهقتها...
خطواته واسعة، و المكان بأكمله يدور بهما و حولهما...
بينما قلبها يخفق خفقات كانت تظن بأنها قد نستها...

و استمر رقصهما طويلا و هي مستسلمة له تماما، الى أن تباطئت حركاته، شيئا فشيئا، حتى أنزلها أرضا أخيرا على قدميها، و أسندها الى الجدار من خلفها برفق، ثم احتجزها بين كفيه و نظر الى وجهها المرتفع اليه بتساؤل...
عيناه كانتا تنطقان بالألم، بخلاف ما توقعت، ثم همس أخيرا بصوت خفيض عميق.

(بلى شعرت بالألم لفقد طفلي منك أكثر من أي شيء آخر في هذا العالم، لكن أتعلمين ما الذي أوجعني أكثر؟، وقوفي منبوذا أثناء دفنه دون أن يحاول أحد مواساتي و كأنني مجرد نكرة، قد تظنيني أنانيا، لكن وقوفي بعيدا و أنا أصرخ بداخلي، أنا والد هذا الطفل، و أنا زوج تلك الفتاة التي تقف بثبات رافضة حتى البكاء، أنا هو الوحيد المعني بالأمر، و أنا الوحيد الغير قادر على المطالبه بحقه في هذا كله، نعم تألمت لفقده يا تيماء، لكنني تألمت أكثر لفقد حقي بك).

فغرت تيماء شفتيها المرتعشين و هي تنظر اليه بعينين ضائعتين، وهو ينظر اليها بنظرة أشعرتها بأنها كل شيء له، و قبل أن تستطيع منع نفسها...
رفعت ذراعيها لتحيط بهما عنقه ببطىء و هي تستطيل على أطراف أصابعها ثم قبلته برفق...
للحظات ظل ساكنا أمام قبلتها الحنونة المتوسلة الا يرفضها، لعلها تمنحه ما افتقده...

ثم بدأ في التجاوب معها ببطىء وهو يغمض عينيه، ليتحول البطىء لسرعة، و السكون لشغف حاد كاد أن يذهب بأنفاسه...
مضت بهما دقائق طويلة و هما في عالم غير العالم المحيط بهما، الى أن رفع وجهه عنها أخيرا...
و ما أن فتحت فمها لتهمس باسمه مذهولة...
حتى أمسك بكفها وهو يجذبها خلفه بقوة...

خرج أمجد من غرفة نومه على صوت رنين جرس الباب، فقال بحيرة و قلق
(ترى من سيأتينا في الصباح الباكر؟)
لحقته مسك و هي تعقد رباط مبذلها الحريري قائلة بقنوط
(ربما كانت مهجة، تود دعوتنا الى الفطور، مجددا)
قال أمجد بقلق متزايد
(لا، كانت لتتصل بالهاتف)
فتح الباب بسرعة، ليجد تيماء واقفة عند الباب مطرقة الوجه، فقال بدهشة
(تيماء، صباح الخير، ماذا بك؟، هل أنت بخير؟)
رفعت وجها باهتا اليه، ثم ابتسمت بوهن و قالت.

(صباح الخير يا أمجد، أعتذر عن قدومي بمثل هذا الوقت، كنت فقط)
قاطعها صوت مسك من خلف كتف أمجد و هي تقول بقلق
(تعالي يا تيماء، ماذا حدث؟)
ابتعد أمجد عن الباب سامحا لها بالدخول، فدخلت بخطوات مرتبكة و نظرت الى مسك بحرج، و همست
(مسك، أنا آسفة جدا لتطفلي لكن)
وصلت اليها مسك و أمسكت بذراعها قائلة بسرعة
(كفى غباءا، ماذا بك؟، انطقي).

بدت تيماء مترددة و هي تنظر حولها بضعف و عجز، و كأنها تتسائل عما تفعله هنا، ثم نظرت الى مسك و همست بصوت غريب
(لقد فقدت طفلي)
انعقد حاجبي مسك قليلا و هي تنظر اليها، الا أنها همست بقوة، (أعرف، أعرف حبيبتي)
أخذت تيماء نفسا مرتجفا، ثم قالت بصوت متقطع و هي تهز كتفيها معتذرة
(لقد فقدت طفلي)
أومأت مسك لتقول بحرارة
(أعرف، أعرف).

ثم ضمتها الى صدرها بقوة، و حينها فقط، شعرت تيماء بنفسها تنهار و ثقل وزنها يشدها أرضا، فبدأت تقع بين ذراعي مسك و هي تشهق باكية فجأة بصوت عال مريع، فاغرة فمها على أقصى اتساعه، بينما أطبقت عينيها على بكاء عنيف...
نزلت معها مسك أرضا على ركبتيها دون أن تتركها من بين ذراعيها و همست لها بصوت خافت
(أعرف، والله أعرف حبيبتي).

لكن تيماء كانت قد عجزت عن الكلام أكثر، فظلت تبكي، و تبكي، بينما مسك تشدها الى صدرها أكثر...
هتفت تيماء بصوت مختنق متعثر بين شهقاتها الأقرب للصراخ
(أشعر بالوحدة، أكره هذا الشعور، أريد طفلي يا مسك)
أراحت مسك وجنتها على رأس تيماء و همست لها بخفوت
(سيمر، سيمر كل هذا).

و أثناء هذا، تراجع أمجد للخلف وهو ينظر اليهما بعينين مظلمتين بينما شعر بغصة في حلقة مؤلمة كجمرة نار وهو ينظر الى وجه مسك الساكن، و عينيها الغائرتين، دون قطرة دمع واحدة...
لكن الألم في عينيها ضرب قلبه، ضربه بكل قوة، فأغمض عينيه وهو يهمس بداخله
أنا أيضا أعرف حبيبتي، أنا أيضا أعرف،.

استمر غطه على جرس الباب في رنين متواصل عنيف، الى أن فتحت مسك الباب و هي تقول بحدة
(توقف، توقف)
هدر قاصي بقوة
(أين هي؟)
حاول تجاوزها بهمجية ليقتحم البيت، الا أن كف مسك منعته و هي تدفعه في صدره قائلة بصرامة
(انتظر يا بني آدم أنت، هل هي وكالة دون بواب؟، ام اسطبل، هنا بيتي، بيت مسك الرافعي و عليك احترامه).

وقف قاصي مكانه ينظر اليها وهو يتنفس بسرعة و الإنفعال يتلاعب بملامحه و يعصف بعينيه، فسألها بصوت متشنج
(كيف حالها؟)
تنهدت مسك، ثم قالت بهدوء
(أظنها صدمة متأخرة، لكنها بخير الآن، انفجرت فجأة ثم نامت فجأة)
رفع قاصي أصابعه ليتخلل بها خصلات شعره بقوة وهو يتنفس بسرعة هامسا بقلق
(أنا السبب، تبا لهذا)
عقدت مسك حاجبيها وسألته بصرامة.

(لماذا؟، ماذا فعلت بها؟، تبا لك يا قاصي، الا يكفيك ما أصابها؟، ما السبب في الحالة التي وصلت لها تيماء؟)
رفع قاصي وجهه ينظر اليها بعجز، الا أنه قال بقوة و حزم
(أين هي؟، أريد رؤيتها)
قالت مسك بنبرة قاطعة
(إنها نائمة)
رد عليها قاصي بحدة
(و إن يكن؟)
هتفت مسك بحدة مماثلة...
(يا ابني انظر حولك، هذا بيتي و السيد زوجي ليس موجودا، هناك أصول عليك احترامها).

فتح قاصي فمه ينوي صب جام غضبه عليها و على المحترم زوجها، الا أن صوت خافت جاء من خلفه جعله يصمت تماما...
(لا داعي لكل هذا، أنا مستيقظة)
دار قاصي على عقبيه بسرعة وهو ينظر اليها، قبل أن يغمض عينيه زافرا براحة لحظية...
كاد أن يصاب بالجنون حين اسيقظ و فتح عينيه فلم يجدها...
للحظات انتابته حالة همجية فأخذ يصرخ وهو يظن بأنها قد جنت و قررت انتظار نتيجة تقاربهما بعيدا عنه، بعد أن نالت مرادها...

لكن الحالة الهمجية، سرعان ما تحولت الى طوفان من القلق ما أن اتصلت به مسك لتخبره بما حدث مع تيماء...
حينها ارتدى ملابسه كيفما اتفق، ثم جاء اليها جريا كالمجنون...
نظر اليها قاصي بعينين مشتعلتين و اقترب منها بحذر، بينما كانت هي تقف هادئة ساكنة، شعرها الفوضوي يحيط بوجهها في هالة متشابكة، و ملابسها و كأنها قطعة من الشرق و قطعة من الغرب...

وصل اليها أخيرا و مد يده ليمسك بذراعها، الا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة قبل أن يمسها، فتشنج كفه قليلا، لينزلها الى جانبه كي لا تنتفض أو يصدر عنها تصرف قد يزيد من جنونه الكامن بداخله...
تكلم قاصي أخيرا بخفوت
(تيماء، هل أنت بخير؟)
أومأت برأسها و هي تنظر اليه بنظرة طويلة هادئة، فتأوه بداخله، راغبا في كسر أقرب شيء له...
لكنه أخذ نفسا طويلا كي يهدىء من روعه، ثم قال أخيرا بصوت أجش.

(لماذا غادرت صباحا بهذا الشكل؟)
ظلت صامتة قليلا، ثم قالت أخيرا بصوت متعب
(كنت في حاجة الى مسك، الأن أنا بخير، آسفة أنني أقلقتك بهذا الشكل)
انعقد حاجبيه قليلا بعدم راحة، ثم سألها بحذر
(اذن، هل نعود الى شقتنا؟)
بدت تلك اللحظة من أطول اللحظات التي انتظرها في حياته، و كأنها دهر، الى أن قالت أخيرا بهدوء
(خمس دقائق لأضع حجابي و اكون جاهزة).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة