قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والستون

خرج من الشركة أخيرا بعد يوم عمل طويل...
كان منهكا على غير المعتاد و هو حاله منذ عاد للعمل بعد اجازة زواجه القصيرة...
لم يتخيل أن يشتاقها الى هذا الحد، لقد اعتاد عليها أكثر مما تصوره مسبقا، و لو كان يعلم هذا لكان أصر على اجازة شهر عسل أطول، ليسافرا فيها الى مكان بعيد عن جميع البشر حولهم بمشاكلهم...
لكن رأيها هو ما تم تنفيذه، بعد اصرارها المتعجرف...

فقد أصرت، بل قررت أنها تريد شهر عسل قصير، كي يعود الى عمله سريعا...
و لم يشأ أن يفرض عليها شيئا في بداية زواجهما، بل أنه رفض الظهور بمظهر المتلهف على رحلة عسل معها أكثر منها، فعلى الرغم من كل شيء...
لديه كرامة تأبى مسك الرافعي الإعتراف بها...

لكنه كان يحتاج الى هذا الأجازة الطويلة، كان في حاجة الى رحلة طويلة معها، كي يتعرف عليها اكثر و اكثر، و يدخلها الى كيانه ببطىء، يدربها على أن تسقط أسلحتها جانبا باستسلام، فتبقى أمامه مهزومة، ضعيفة...
لم يتخيل يوما أن يتمنى زوجة مهزومة ضعيفة...
لكن هذا ما يتمناه لمسك، ولو لمرة واحدة، ليس لأجله، بل لأجلها هي...
تنهد بتعب، من فرط الشوق في العودة اليها و التنعم بأحضانها، حتى برودها اشتاق اليه...

ابتسم أمجد ابتسامة قصيرة وهو يتذكر ردودها المستفزة القصيرة على كل شيء، و كأنها خلقت للتحدي...
لكن ابتسامته اختفت تلقايئا حين اصطدمت عيناه بغدير التي تقف على الرصيف شاردة تماما...
مكتفة ذراعيها و غير مدركة لما يحيط بها...
حيث كان هناك شاب على بعد ينظر اليها بطريقة مقززة، و يهمس لها عن بعد بشيء ما، الا أنها على ما يبدو لم تسمعه، و لحسن حظها، يبدو أنه ليس من النوع المتطاول اكثر من هذا...

نظر أمجد الى ساعة معصمه، فوجد أنها قد تجاوزت مواعيد انصراف العاملين بفترة كبيرة...
لذا اقترب منها الى أن وصل اليها، ثم رمق الشاب بنظرة جعلته يجفل و يبتعد مسرعا، بينما لم تلحظ غدير اقترابه منها حتى هذه اللحظة...
فقال أمجد بهدوء...
(غدير)
أجفلت غدير و هي ترفع رأسها لتلتفت اليه فاغرة فمها قليلا، و ساد صمت غريب لم ترد عليه على الفور، بل كانت تنظر اليه و كأنها تتأكد من وجوده، ثم قالت أخيرا دون تفكير.

(كنت أفكر فيك للتو!)
أظلمت عينا أمجد و نظر بعيدا عن قصد وهو يزفر. بينما أدركت هي ما تفوهت به، فأرتبكت و قالت بخفوت
(لم نراك خلال اليوم)
قال أمجد بإيجاز مقتضب
(كان لدي عمل متأخر فلازمت مكتبي طوال اليوم، لماذا تقفين هنا وحيدة حتى هذه الساعة؟)
نظرت غدير اليه نظرة طويلة حزينة، بدت شاردة تماما، قبل أن تتنهد قائلة
(انتظر سيارة أجرة طلبتها، و تأخرت، لأن سيارتي في التصليح)
عقد أمجد حاجبيه و قال.

(ألن يأتي زوجك ليصطحبك؟)
مالت شفتيها في ابتسامة ميتة، ثم قالت بفتور
(لن يأتي اليوم، لديه ما يشغله)
ضاقت عينا أمجد وهو ينظر اليها مفكرا، ثم نظر حوله وهو يقول
(اذن لما لا توقفين احدى سيارات الأجرة المارة؟)
لم تتحرك غدير من مكانها أو تفك ذراعيها و هي تقول بصوت باهت
(إن رأيت احداها، فأوقفها لي).

نظر حوله مجددا وهو يعلم استحالة ايجاد سيارة اجرة لتمر من هنا في مثل هذا الوقت الضيق، فهي تمر ممتلئة بالفعل و الطريق شبه متوقف من الزحام...
أعاد عينيه اليها، ثم قال باختصار
(تعالي لاقلك معي اذن)
رفعت غدير وجهها اليه مجفلة أكثر، ثم استقامت في وقفتها و هي تخفض ذراعيها قائلة بارتباك
(لا، شكرا لك، اذهب أنت، انا، سأنتظر)
قال أمجد متذمرا وهو ينظر الى ساعة معصمه.

(ليست المرة الأولى التي أقلك بها، تعالي و كفى جدالا فقد تأخرنا بما يكفي)
نظرت اليه طويلا، تستعيد في ذاكرتها تلك الأيام...
نعم، لقد أقلها معه كثيرا...
كانت تشعر بأنها تطير على السحاب و هي تجلس بجواره في سيارته البسيطة دون بهرجة...
سيارة عملية و قوية، مريحة و أنيقة، الا أنها لا تقارن بسيارة أشرف الفارهة ذات اللون الخاطف للنظر...

أفترت شفتاها عن ابتسامة واهية، الا أنها سرعان ما عقدت حاجبيها و هي تقول متداركة وضعها
(اذهب أرجوك، ستأتي السيارة أكيد)
أجابها أمجد بصوت متحفظ...
(غدير، أنت لا تبدين بصحة جيدة، و كأنك على وشك السقوط أرضا، ووقوفك هنا لن يجدي، فطالما تأخرت السيارة حتى الآن، فلن تأتي و حينها ستضطرين لطلب أخرى، تعالى معي)
نظرت حولها بتردد، ثم قالت بعد فترة بتوتر
(حسنا، لا بأس، شكرا).

لم يرد أمجد، بل تقدمها الى حيث يوقف سيارته دون مزيد من الكلام، فتبعته بصمت و رفعت وجهها تراقبه بنظرات ضائعة...
لطالما كان حضوره يخطف قلبها...
شيء لم تستطع تفسيره مطلقا، فلقد كانت تشعر بالمثل تجاه أشرف...
حين تراه مع مسك، تشعر بنار تندفع مخيفة بداخلها، تهدد ألسنتها باحراق كل شيء آخر في عالمها...
نعم، أشرف كان يخطف أنفاسها...
لكن أمجد، يخطف دقات قلبها...
ترى هل هناك فارق؟

لم تتوقف طويلا أمام الفارق في المستوى المادي بينهما، فأمجد لا ينقصه شيء...
لكنها للأسف، كانت قد ارتبطت بأشرف قبلا، قبل أن ترى أمجد...
لقد ظنت في بعض الأوقات أنها تحب الإثنين...
حتى حزمت أمرها و تابعت طريقها في الزواج من أشرف...
لكن منذ هذا اليوم و هي ترى أمجد يحتل مساحة أكبر من تفكيرها و قلبها كل يوم أكثر...

و عادت ألسنة اللهب تندفع بنفسها من جديد و هي تراه في نهاية المطاف من نصيب الانسانة التي تأخذ كل شيء، كل شيء...
أي سخرية سوداء تلك!
تفقد قدرتها على الإنجاب و على الرغم من هذا تحصل على الرجل الذي أحبته هي!
حتى في خسارتها محظوظة!
دار أمجد حول السيارة و فتح بابه قائلا ببساطة
(ما بالك واقفة عندك؟، ادخلي يا غدير)
ثم احتل مكانه و أغلق الباب!

وقفت غدير مكانها بضعة لحظات و هي تنظر الى السيارة، أين ذهبت تلك الأيام التي كان يفتح لها بها باب السيارة بكل تهذيب...
أفلتت تنهيدة حسرة من بين شفتيها و أطرقت بوجهها قبل أن تجر قدميها جرا حتى فتحت الباب بنفسها و جلست دون حماس، ثم أغلقت الباب فاقدة الروح...
طال بينهما الصمت، وهو يقود مركزا عينيه على الطريق أمامه، و حين قطعا أكثر من نصف الطريق و بات الصمت أكثر شيئا ثقيلا مستحيلا.

نظرت اليه غدير بوجه شاحب ممتقع، ثم همست بصوت مرتجف
(كيف حالك يا أمجد؟)
لم يرد عليها على الفور، بل ظلت ملامحه هادئة تماما، دون حتى أن يجفل ولو للحظة، ثم قال ببساطة دون أن يلتفت اليها
(باحسن حال)
ساد الصمت مجددا لبضعة لحظات، ثم قالت بخفوت
(كيف هي أحوالك مع مسك؟)
الآن التفت اليها رافعا حاجبيه، لينظر اليها بنظرة غريبة ألجمتها، ثم قال بصوت هادىء لكنه يشوبه البرود...

(سؤال غريب يا غدير، خاصة و أنك لم تهنئيني حتى هذه اللحظة)
ردت عليه بقوة و دون تردد
(و لن أفعل يا أمجد، لن أهنئك على زواجك منها مطلقا)
تصلبت قسماته وهو ينظر اليها بنظرة خاطفة، ثم أعاد نظره الى الطريق و قال بهدوء
(مشاعرك غريبة، لم أستطع فهمك مطلقا)
لعقت شفتيها الجافتين ثم قالت بصوت مشتد يائس
(ما الذي لم تستطع فهمه؟، أنني لا أشعر بالسعادة كونك ضحيت بأبوتك للأبد؟، لأجل من؟، مسك الرافعي!).

لم يرد عليها بل ظل صامتا طويلا، ثم قال أخيرا بنبرة جامدة مشتدة...
(أستطيع الآن احراجك و نهيك عن إهانة زوجتي بكلمة، لكن الفضول بداخلي يحثني على سؤالك. لماذا حقا ترفضين هذا الزواج؟، لأنك تهتمين بأمري بشكل أو بآخر، بحكم العشرة مثلا تتمنين رؤية طفلا لي، أم لأنني اخترت التضحية لأجل مسك الرافعي تحديدا؟)
هزت رأسها نفيا قليلا، ثم همست بصوت يرتجف مشتد الأحرف
(ما الذي تقصده يا أمجد، أنني أغار من مسك تحديدا؟).

قال أمجد بهدوء و دون مواربة
(هذا بالفعل ما أظنه يا غدير، مسك تمثل لك عقدة أنت غير قادرة على تجاوزها حتى يومنا هذا، عليك المضي قدما بحياتك، و انزعيها من رأسك و حياتك)
نظرت اليه غدير طويلا، و همست لنفسها بعذاب و ندم
كيف لي أن أنتزعها من حياتي و قد سلبتها مني يوم أن حصلت عليك! ابتلعت غدير غصة في حلقها، ثم أخذت نفسا مرتجفا و هي تقول بصوت مختنق.

(أعلم أنني أخطأت يا أمجد، أخطأت بحقك، بل أن موقفي بالنسبة لك يبدو أكثر دناءة من الخطأ، لكن اسمعني فأنا)
رفع أمجد كفه عن المقود و قال بحزم يقاطعها
(إن كان هذا حديثا عن الماضي يا غدير فتوقفي و لا تفعلي، لأنني لن أسمح به، أنت الآن امرأة متزوجة و أنا كذلك)
ردت غدير بقوة تقول، متوسلة بحرارة
(بل ستسمعني يا أمجد، لمرة واحدة ستسمعني و لن أكرر هذا الكلام مجددا).

بدت ملامحه أكثر قسوة وهو ينظر الى الطريق دون أن يظهر عليه أدنى قدر من التعاون، الا أنه على الأقل لم يمنعها، فأخذت نفسا آخر مرتجفا ثم تابعت تقول
(حين بدأت العمل في هذه الشركة، كنت مرفوضة من الجميع، بسبب تفضيل أشرف لي على مسك، كنت أواجه طوفانا من الغضب العارم، حتى هو كان بعيدا عني لفترات طويلة، بسبب مواجهته لعائلته، و بقيت أنا وحيدة، و أنت تعلم جيدا حياتي و ما أعاني بها و مع أمي، ثم ظهرت أنت...

كنت، كنت الشيء الوحيد في هذه الحياة و الذي يجعلني أشعر بجمالها، لأجدني في فترة قصيرة، لأجدني، أحبك بكل جوارحي)
قاطعها أشرف بصرامة متوترا
(غدير)
الا أنها تابعت بصوت أكثر اختناقا و قد تشوشت الرؤية أمام عينيها بسبب الدموع المحتجزة أمام حدقتيها...

(نعم أحببتك، و لم أجد القدرة على الإعتراف لك بأنني مرتبطة، كنت أخجل من هذا الإرتباط المعلق على حبال الإنتظار، الى أن يتنازل أهل أشرف و يمنحونة الموافقة على الزواج بي)
صمتت قليلا و هي تحاول ابتلاع الغصة المؤلمة في حلقها مجددا، ثم همست بأسى.

(هل لديك فكرة عن مدى امتهان الكرامة الذي كنت أشعر به و هو يحاول اقناعي كل مرة بأن توسلاته لوالده و جده ستجدي نفعا، علما بأنهم وافقوا على زواجه من أخرى لعدم قدرة مسك على الإنجاب، لكن رفضهم كان لي أنا شخصيا، فقد كنت في نظرهم بديلا دون المستوى لمسك الرافعي، هل لك أن تتخيل ذل تلك الفترة التي عشتها؟، لم أستطع اخبارك بإرتباط مخزي كهذا، و في نفس الوقت كنت قد بدأت أضعف تجاهك، و أنت لم ترحمني، كيف يمكن لفتاة مثلي أن تقاوم هذا القدر من السحر الذي تقدمه لأمرأة جذبت قلبك!).

صمتت قليلا و هي تطرق بوجهها، ثم همست بصوت مرتجف واه
(أنت حين تحب يا أمجد الحسيني، تصبح خطيرا على صحة عقل المرأة التي تحب)
لعقت شفتيها بينما انسابت من عينيها دمعتان على وجنتيها بصمت، ثم تابعت مرتعشة...
(كيف كان لي مقاومة السقوط في هوة حبك؟، أنا بشر)
صمتت للحظة و نظرت اليه و هي تبكي بصمت، ثم همست بنشيج متوسل
(أنا أضعف البشر يا أمجد).

ساد صمت طويل بينهما بينما هي تنظر اليه باكية دون صوت، تتوسله أن يفهمها، لكن ملامحه الجانبية كانت قاسية دون تعبير أو تعاطف...
الى أن قال أخيرا بصوت جامد و دون أن ينظر اليها...
(لقد أغفلت شيئا هاما يا غدير، وهو السؤال الذي كان عليك سؤاله لنفسك قبل وقت طويل)
صمت لحظة وهو ينظر اليها، ثم سألها بنبرة مباشرة وهو ينظر الى عينيها
(هل أحببت أشرف في أي يوم من الأيام؟).

ارتعشت شفتا غدير و هي تبادله النظر مصدومة، ثم همست ببطىء
(ظننت أنني أحبه، ثم تبين لي خطأي فيما بعد)
ابتسم أمجد بسخرية وهو يقول
(اذن لماذا لم تحلي نفسك من الإرتباط به، حين شعرت بحبك لي؟، لماذا تابعت طريقك في الزواج منه؟)
شعرت و كأنه قد لكمها في منتصف وجهها، فتراجع رأسها للخلف قليلا و هي تنظر اليه، بينما أدار هو وجهه الى الطريق و كأنما كان متأكدا من عدم وجود رد مناسب عندها...

لكنها همست في النهاية بصوت مرتجف
(لم أستطع، أن أخلف وعدي له، حين وافقت عائلته أخيرا)
أرجع أمجد رأسه للخلف وهو يضحك عاليا بطريقة جعلتها ترتجف من قمة رأسها و حتى أخمص قدميها، فصرخت بتوتر بينما دموعها تنساب على وجنتيها اكثر...
(لا تضحك هكذا، لماذا تضحك؟)
خفتت ضحكات أمجد قليلا، الا أنها لم تتوقف، خاصة وهو يقول بأسف.

(آسف لوضع زوجك، حقا آسف له، بعد أن تخلى عن الألماس، حظى بامرأة وافقت على الزواج به حفاظا على الوعد، لا أكثر)
بهت وجهها بشدة، و همست دون وعي
(ألماس؟)
اختفت الضحكات عن ملامحه و بقت هادئة ثابتة، ثم قال ببساطة
(عفوا، اقصد مسك، فهذا ما أدعوها به عادة)
شعرت غدير بالنيران تكاد أن تعمي عينيها...
ألماس! هل هكذا يراها؟، أم هو مجرد اسم تحبب لها؟
الحريق يكاد أن يلتهم قلبها...

كيف يدللها؟، أي جمال يسحرها به كل نهار و مساء؟، فهي تعرفه جيدا...
لقد حظت بحبه ذات يوم، و لم تجد الفرصة كي تنهل من هذا الحب كما تشتاق...
لذا قالت أخيرا بصوت ميت، شديد القسوة كزجاج مبتور
(لا تأسف له، و لا تأسف لها كذلك، فمعرفتك لمسك عام على الأكثر، لا تعادل سنوات طويلة من معرفتي بها، و هي بخلاف ما تظنه)
قاطعها أمجد ليقول بصوت هادر دون أن ترتفع نبرته.

(لا تزيدي يا غدير، لأنني لن أسمح، قد تسمحين لنفسك بأن تهيني زوجك أمام آخر، أما انا فكرامة مسك عندي خط أحمر)
أوقف السيارة فجأة و بطريقة متهورة مما جعلها تندفع للأمام قليلا، و حين نظرت اليه مذهولة، كانت ملامحه ثابتة قوية وهو يقول بجمود
(وصلنا، تفضلي)
نظرت غدير حولها فلاحظت أنهما قد وصلا بالفعل، ثم أعادت عينيها الى أمجد، الا أنه كان يرفض النظر اليها بإصرار، منتظرا أن تغادر سيارته...
فقالت بصوت ممتقع.

(أمجد)
الا أنه قاطعها ليقول بصرامة
(أراك غدا، الى اللقاء)
هتفت غدير بصوت مختنق
(أمجد، لا تفعل هذا، لقد فتحت لك قلبي و بحت لك بكل ما مررت به، فلا تعاملني بتلك الطريقة)
لكنه قاطعها بطريقة مهينة أكثر وهو ينظر من نافذة سيارته، مبعدا عينيه عنها.

(أنا حقا أشفق على زوجك، حاولي أن تحبيه، فهو على الأقل واجه أهله و تخلى عن ابنة عمه لأجلك، حتى ولو كان هذا تصرفا غاية في الخسة في نظري، الا أنه يجب أن يساوي شيئا في نظرك)
ساد صمت مرير بينهما، ثم قالت غدير بصوت مهتز من فرط العذاب و القسوة في آن واحد.

(ألم أطلب منك الا تشفق عليه، ففي هذه اللحظة تحديدا، أشرف الرافعي يقف في إحدى زوايا النادي، يراقب مسك على صهوة جوادها، و ليست تلك هي المرة الأولى، لقد اعتاد على هذا منذ فترة، منذ أن عاودت نشاطها، و كأنه يراقب مسك التي تركها قديما، ذات الجموح و الصحة)
التفت امجد ينظر اليها بعينين خطيرتين، متوهجتين بلون الشر و ما أن فتح فمه ينوي أن يردعها، حتى قالت بنبرة اكثر تسلطا و بؤسا.

(و هي تعرف بمراقبته لها، و تستمتع بذلك)
ساد صمت طويل، طويل، الى أن قال اخيرا بصوت بارد
(اخرجي من السيارة)
فغرت فمها المرتعش و هي تنظر اليه بوجه شاحب كالأموات، ثم اطبقت جفنيها على دموع انسابت مجددا اكثر و اكثر، قبل أن تفتح باب السيارة و تخرج متعثرة، تجر أقدامها الى باب بنايتها...
أما أمجد، فقد ظل مكانه ناظرا أمامه دون أن يبصر شيئا...
مسك اليوم في نادي الفروسية بالفعل، لكن...

أغمض عينيه وهو يهز رأسه قليلا، قبل أن يحرك السيارة لينطلق بها، محدثا صريرا عاليا، جعل غدير تستدير مجفلة و هي ترى اندفاعه بالسيارة دون أن يلقي نظرة واحدة خلفه، مما جعلها تغمض عينيها الباكيتين بألم أشبه بالحريق المستعر...

هنا، كان حيث عرض عليها الزواج في نوبة تهور، دون حساب أو تفكير، ما أن رآها تسقط عن الفرس...
و هنا شعر بدقات قلبه تتورط بها في لحظة خاطفة...
و هنا يقف في زاوية بعيدة، يراقبها...
بنفس بهائها و جمال طلتها و هي تعتلي الجواد الجامح...
طاقة من الكبرياء تحيط بها و هي منتصبة الظهر، و ذقنها مرتفعة بإباء...
جمالها يخطف الأنفاس، الا أن أنفاسه كانت متوقفة و كأنه يراقبها بروح ميتة، ملامح جامدة دون تعبير...

فهناك، في زاوية أخرى، كان يقف رجل يعرفه جيدا...
يقف بثبات وهو ينظر اليها مبتسما ابتسامة باهتة، يدس كفيه في جيبي سترته الغالية و لا يشعر بشيء من حوله، فقط ينظر الى مسك دون أن يتحرك أو يلتفت بوجهه عنها...
أشرف الرافعي...
انحنى أمجد ليجلس على أقرب مقعد له وهو ينظر الى أشرف عن بعد، بملامح لا تنم عن شيء...
فقد كانت ملامح أشرف كافية...

ملامح رجل، ينظر للماضي، متمثلا في امرأة أحبها ذات يوم، و جاء اليوم ليندم على حب ضاع منه...
لم يرى أمجد جمال زوجته في تلك اللحظات، بل لم يبصر سوى نظرات أشرف لها...
و مضى الوقت ليس بالكثير، فقد كان يعلم أنها ستنتهي الآن، يعلم جيدا جدولها اليومي، لكنها استثنت ذكر وجود أشرف ضمن روتينها كل يوم...

قفزت مسك عن ظهر جوادها، ثم أمسكت بلجامه كي تسحبه معها الى الممر المؤدي لإسطبلات الأحصنة خلف السياج الخشبي، و حينها أخرج أشرف كفيه من جيبي سترته، و تحرك هو الآخر مسرعا و كأنه ينوي اللحاق بها...
نظر أمجد اليه بصمت، الى أن اختفى عن ناظريه، ثم نهض ببطىء، و لحق بهما...

سلمت مسك لجام الفرس الى السائس، ثم ربتت على أنفه بنعومة مبتسمة قبل أن تستدير عنه، الا أنها توقفت و هي ترى أشرف يقف خلفها...
فرفعت حاجبيها و قالت مبتسمة ببساطة
(مرحبا)
ظل أشرف على ابتسامته الباهتة وهو ينظر اليها، الى أن رد عليها أخيرا ببطىء
(كنت متألقة اليوم)
نزعت مسك القبعة عن شعرها الناعم و حركت رأسها لتحرره قليلا، ثم نظرت اليه و قالت مبتسمة باناقة
(شكرا لك، كنت عادية فقط).

رفع أشرف حاجبه و قال بنفس الصوت البطيء الشارد
(عادية! لقد عدت لنفس مستواك السابق و أفضل)
ضحكت مسك بطريقة ساحرة، ثم قالت بعفوية
(لم أعد صغيرة العمر كالسابق)
هز أشرف رأسه و قال بخفوت
(بل أفضل من السابق)
أمالت مسك رأسها و هي تقول شاكرة
(هذه مجاملة، لكنني أميل لتصديقها، شكرا لك)
نظر أشرف خلفه، ثم قال بتلقايئة على الرغم من أن ملامحه كانت أبعد ما تكون عن التلقائية
(ما رأيك لو دعوتك لشرب شيء؟).

مطت مسك شفتيها و هي تقول بأسف
(لن أستطيع، يجب أن أغادر قبل عودة امجد، أراك لاحقا)
و ابتعدت بضعة خطوات، ثم استدارت و قالت ببساطة أثناء ابتعادها
(ربما تمكنا يوما من الإجتماع أربعتنا، سيكون هذا رائعا)
ثم لوحت له مبتسمة دون أن تنتظر منه ردا، أما هو فلم يحاول حتى الرد، بل بقى مكانه يراقب انصرافها...
غير مدركا لوجود أمجد، يراقب ما يحدث، دون حتى أن يحاول التدخل...

أخرجت هاتفها من حقيبتها مبتسمة بعد أن بدلت ملابسها في غرفة التبديل في النادي، ثم ردت بمرح
(ليتني كنت أفكر في مبلغا ضخما، لكنت حصلت عليه الآن)
ساد الصمت لبضعة لحظات، ثم وصلها صوت أمجد الهادى ليقول دون مرح
(هل افهم من ذلك انك كنت تفكرين بي؟)
ضحكت ضحكة قصيرة، ثم قالت
(يبدو هذا يا حسيني، كنت أفكر أنه ربما خرجنا لتناول الطعام في الخارج اليوم، اسمع، لما لا تمر على في النادي، ثم نخرج سويا).

عاد الصمت من جديد، ثم قال بصوت جاد
(ليس اليوم يا مسك، اليوم نحن مدعوين على الغذاء عند أمي)
تصلبت ملامح مسك و هي ترفع عينيها للسماء، بينما زفرت لتضرب الأرض بساقها، و أبعدت الهاتف عن أذنها حتى تحاول السيطرة على رفضها و نفاذ صبرها...
ثم لم تلبث أن أعادته الى أذنها و قالت بصوت هادىء
(ألم نكن مدعوين منذ أربعة أيام، و قبلها بخمسة أيام، لما لا نعتذر اليوم و نخرج معا؟).

لم تحب فترات الصمت التي تسبق جوابه، لماذا يتاخر في الرد و كأنه غير متحمس!
لكنه رد أخيرا بصوت بدا باردا، مختصرا
(أمي لا تفعل هذا كي تفرض نفسها على حياتنا، بل لأنها تفترض أننا متزوجين حديثا و عليها أن تدللك)
عقدت مسك حاجبيها و هي تقول بحذر
(تفترض! هل أنت بخير؟)
قال أمجد بهدوء
(بخير، لماذا تسألين؟)
ردت مسك بصوت بدا متحفظا و كأنها قد وضعت دروعها ذات الأشواك الحادة...

(لا أعلم، تبدو متضايقا من شيء ما، عامة، لما لا تذهب أنت و تعتذر لوالدتك بأنني متعبة قليلا، الحقيقة أن صخب أطفال مهجة يضايقني)
مجددا فترة الصمت الغير مريحة، ثم قال بصوت متصلب قاسي
(بل سنذهب سويا يا مسك، و ستتحملين صخب الأطفال متنازلة، أنا بالقرب منك، سأمر عليك خلال دقائق، أراك)
ثم أغلق الخط دون أن ينتظر منها رد...

وقفت مسك تنظر الى الهاتف المغلق بعينين واسعتين، قبل أن تشتد ملامح وجهها في أوتار دقيقة حادة...
أما أمجد، فكان يراقبها أثناء مكالمته معها، و رأى كم الرفض الذي شعرت به لذهابها لزيارة والدته.
فرفع وجهه متنهدا بتعب، الآن فقط بدأ يشعر أنه يحارب في معركة خاسرة...

(ألن تتناول فطورك؟)
نادته سوار بصوت قوي، متصلب، وهي تراه خارجا من الغرفة التي اتخذها لنفسه منذ عودتهما من البلدة...
مستعدا للذهاب الى عمله، دون تعبير على وجهه و دون حتى ان يلقي عليها التحية أو يعيرها أي اهتمام...
مرت ثلاث أيام وهو يتجاهلها، بأبشع صور التجاهل...
وصل به الأمر أن تكلمه، فيدير لها ظهره و يدخل غرفته مغلقا الباب في وجهها بهدوء و كأنها مجرد حشرة.

تلك المعاملة لم تكن لتتحملها سوار الرافعي الا بمعجزة...
لكنها تحملت، بمعجزة بالفعل، الا و هي حبه الذي احتل قلبها بقوة...
لم تتخيل أن يطول به الخصام معها و بمثل هذه القساوة لثلاث أيام كاملة، حتى بدأت كرامتها تحتقن و تتقرح...
لذا قررت اليوم أن ترمم الصدع الذي حدث بينهما و بأي طريقة...

فاستيقظت من الصباح الباكر و أعدت له مأدبة افطار ملوكية، و قبلها اعدت خطبة طويلة، ظلت تحفظها طوال الليل، لتشرح له سبب تصرفها...
ستقنعه، فقط لو منحها الفرصة للكلام، متأكدة بأنها ستفعل...
لكن ما أن خرج من غرفته بدا و كأنه لم يرها من الأساس، فنادته بقوة
(ألن تتناول فطورك؟)
لكنه لم يرد عليها، بل تابع طريقه الى باب الشقة، فنظرت اليه مذهولة لتتدارك نفسها و نادته بصرامة أكبر.

(ليث، أنا أكلمك، على الأقل أجبني، فما تفعله لا يصح)
توقف ليث مكانه و للحظات ظل موليا ظهره لها، الى أن استدار اليها أخيرا بملامح صدمتها...
كانت هذه هي المرة الاولى منذ ثلاثة أيام، و التي ينظر فيها الى عينيها من جديد، الا انها كانت نظرة موجعة، ضربت قلبها بقسوة...
و كأنها نظرة فقدان للأمل، نظرة النهاية...

أخذت سوار نفسا مرتجفا جراء تلك النظرة التي آلمتها، و فقدت القدرة على قول المزيد، حتى انها تراجعت خطوة للوراء...
بينما قال ليث بصوت بارد، جامد
(لا يصح! هل لديك أي فكرة عن الفرق بين ما يصح و ما لا يصح يا ابنة الرافعية؟)
عقدت سوار حاجبيها و شعرت بشيء موجع يسد حلقها، فقالت بصوت مهتز
(ابنة الرافعية! هذه المرة الأولى التي تلقبني فيها بهذا اللقب!)
ارتفع حاجبه بسخرية و قال ببرود
(الست ابنة الرافعية!).

ابتعدت شفتاها عن بعضهما قليلا و هي تنظر الى هذا البرود الجليدي المحيط به و الذي يحوي قنبلة موقوتة، تعرف بأنها ستنفجر في أي وقت...
كان الوحيد الذي يلقبها دائما ب ابنة وهدة الهلالي
و على الرغم من أنه يعتبر عيبا في بلدتهم، مناداة اي أحد باسم امه، الا أنها كانت تشعر بها فخرا منه...
فينتقل الفخر لها تلقائيا...
الوحيد المسموح له بهذا اللقب، فيخرج من فمه بعزة و كرامة، كما يليق باسم أمها...

قالت سوار أخيرا بصوت متوتر، و كأنها قد نست كل ما حفظته طوال الليل
(ليث، علينا أن نتكلم، لن يفيدنا الصمت بهذا الشكل، على أن أشرح لك، أوضح لك موقفي)
ارتفع حاجباه الآن وهو يقول هازئا
(توضحين موقفك؟، ترى أي موقف هذا مهما بلغت صعوبته، يجعلك تمنحين زوجك لأخرى بمحض ارادتك، راضية بالمشاركة؟، ترى هل كان هذا عقاب لي؟ أم هو دافع نبيل منك كي أحصل على طفل لا تريدين منحه لي بكامل ارادتك؟).

صمتت سوار و أطرقت برأسها محاولة التذكر، تذكر النقاط التي حفظتها طوال الليل كي تبرر موقفها، لكن عقلها بدا فجأة كصفحة بيضاء تماما...
فقالت بصوت مختنق
(ليث، أنا)
رفع ليث رأسه و أخذ نفسا قويا قبل أن يقول بصوت قوي مقاطعا
(أنت على حق، يجب أن نتكلم، لكن ليس الآن، و اعدك أن أرضيك، كما حاولت دائما)
رفعت سوار عينيها اليه، و هي تشعر بخوف مفاجىء...

لم تتفائل برغبته في الكلام، فنبرته كانت غريبة، غير مطمئنة، و حين نظرت الى عينيه، صدمتها نظرة الألم الرجولي بهما...
رباه، الى اي حد أسائت الى رجولته في غمرة ما عاشته من صدمات متتالية!
فتحت فمها مجددا و قالت بصوت مختنق
(ليث)
الا أنه استدار عنها و تركها واقفة، ليخرج صافقا الباب خلفه، بينما انحنت سوار لتجلس بضعف و هي تشعر بساقيها غير قادرتين على حملها، لسبب مجهول بالنسبة لها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة