قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والستون

(هل طلبتني يا ليث؟)
رفع ليث وجهه عن أوراق عمله، لينظر الى دليلة الواقفة في باب مكتبه المفتوح بعد أن طرقته...
ثم قال بصوت هادىء وهو يشير اليها كي تتقدم و تجلس
(نعم يا دليلة، هناك ما أريد مكالمتك بشأنه، تفضلي اجلسي، لكن اغلقي الباب رجاءا)
عقدت دليلة حاجبيها قليلا، الا انها دخلت و اغلقت الباب خلفها، ثم تقدمت و جلست على المقعد المواجه له، لتقول مبتسمة بعصبية
(ما الأمر يا ليث؟، أقلقتني بصراحة).

تطلع ليث اليها بدقة، و ربما كانت هذه هي المرة الأولى التي، يدقق بها النظر رغم سنوات العمل الطويلة التي جمعتهما...
و للمرة الأولى يلاحظ أنها متوسطة الجمال و ربما أقل، بخلاف أنه يعرف عمرها جيدا...
لو أراد أن يسيء الظن بسوار لفكر أنها اختارت من هي أقل منها جمالا و أكبر عمرا، في الواقع هو متأكد من ذلك، و متأكد أن سوار لن تختار من هي أجمل و أصغر...

فعلى الرغم من كل قوتها و صلابة مشاعرها، الا أنها تمتلك نزعة غيرة لم تستطع السيطرة عليها و ظهرت لعينيه، و كم أرضاه هذا...
فقد ظنها غيرة حب، لكنه اكتشف أي واهم هو، ما هي الا غيرة لغرض الغيرة فقط...
أخذ ليث نفسا عميقا ثم قال مستهلا حواره بهدوء
(لا أعلم من أين أبدأ يا دليلة، فالموضوع الذي أود مفاتحتك به، أمر محرج و شخصي)
شحبت ملامح دليلة و ارتبكت، بينما أطرقت برأسها تنظر الى أصابعها المتشابكة...

الآن أصبح لديها شبه يقين عما يود ليث الكلام معها بشأنه...
دائما هي معروفة بثباتها، مهما تعرضت لمواقف محرجة، الا لم تتخيل أن يكون الأمر محرجا بهذه الصورة ما أن يفاتحها في الأمر...
ترى ماذا كان الحوار بينه و بين زوجته؟، و هل طلب مقابلتها ليعنفها بذوق أو ليرفض بذوق أيضا...
في كل الأحوال تعلم أنه لن يهينها، لأنها تعرفه جيدا...

لكن لا يزال الأمر شديد الصعوبة، لذا حاولت تثبيت ملامحها على قناع ثابت دون مشاعر او انفعالات معينة، منتظرة...
الى أن قال ليث أخيرا بصوت هادىء
(لقد، كلمتني زوجتي فيما دار بينكما من حوار)
امتقع وجه دليلة بشدة و اخفضت وجهها غير قادرة على المواجهة، أين قوتها و أين الجرأة التي تدربت عليها طويلا، و لم تستطع النطق، الا أنها أعفاها من المحاولة، فتابع يقول بصدق.

(و قبل أي شيء أود الإعتذار لك يا دليلة عما بدر منها، لا يحق لها مطلقا التصرف وفقا لحوار سمعته دون علم منك، و هذا شيء لا يغتفر لها)
ساد الصمت بينهما بضعة لحظات، الى أن تمالكت نفسها أخيرا و رفعت وجهها اليه ثم قالت بهدوء على الرغم من بعض الحياء الأنثوي المتبقي لديها...
(لكنه في النهاية حقيقي، زوجتك صادقة في ما سمعته مني).

تراجع ليث في مقعده وهو ينظر اليها باهتمام. فأخذت نفسا عميقا ثم نظرت الى عينيه و تابعت بثقة أكبر.

(اسمع يا ليث، أنا لست فتاة صغيرة في العمر، تتهور و تقع في غرام رجل متزوج، الأمر أبعد و أكبر من ذلك، أنا امرأة تجاوزت منتصف الثلاثينات، أرغب في الإستقرار، لكن مع هذا لا أحب التنازل في القبول بمن لا ترضاه نفسي، و أنا أشعر بأنني أتقبلك أنت، و بمعرفتي بأنك ممن يقبل بالتعدد، وجدت بأنني أنا أيضا لن أمانع، و كانت هذه هي صغية كلامي مع صديقة لي و التي تصادف و سمعتها زوجتك، و من الواضح أن زوجتك أيضا قابلة بالتعدد، لذا تدخلت و عرضت علي موافقتها بشأن زواجك مني، هذا إن رغبت أنت أصلا، و بالطبع تنقص موافقة زوجتك الأولى).

كان ليث يستمع اليها مندهشا، فهو لم يعتاد هذه الجرأة من امرأة في عرض الزواج على رجل من قبل...
فعلى الرغم من سفره و تعليمه، الا أن الزواج في بلدته يتم بصورة مغايرة تماما، و ربما لهذا فقد سوار منذ سنوات طويلة...
أسبل ليث جفنيه قليلا، ثم قال بهدوء
(لقد انفصلت عن زوجتي الأولى)
كان هذا هو دورها كي يرتفع حاجباها بدهشة، و لم تستطع منع نفسها من السؤال.

(متى؟، حين تكلمت مع السيدة سوار فهمت أنك لا تزال متزوجا من اثنتين!)
رد ليث باختصار مقتضب
(خلال السفرة السابقة، حصل الطلاق و ذهب كل منا الى طريقه، كانت تلك نهاية طريق طويل من الإختلاف بيننا، لذا استحالت العشرة أكثر من هذا)
رفعت حاجبيها أكثر و هي تهز رأسها لا تدري ماذا تقول، الا أنها قالت في النهاية بتهذيب، لكن دون مشاعر معينة
(آسفة لهذا)
قال ليث بخفوت
(كان أمرا مفروغا منه).

مرت بينهما بضع لحظات من الصمت، الى أن قالت دليلة بحذر و هي تختلس النظر اليه
(هذا يعني أنك زوج لامرأة واحدة الآن)
رفع ليث وجهه و نظر اليها، الا أنه و قبل أن يتكلم، بادرته هي متابعة بإباء
(أنا اعرف أنك ما طلبتني الا لتعتذر مني عما طلبته زوجتك سوار، لذا سأوفر عليك الحرج و أخبرك بأنني سأتعامل مع الأمر بنفس رياضية تماما و لن يتأثر العمل مطلقا، لذا انسى ما حدث رجاءا).

قال ليث ببطىء وهو يتلاعب بقلمه ناظرا اليه...
(دليلة، أنت امرأة مميزة، شجاعة وواثقة من نفسك، تدركين ما تملكين و تقدرين واقع ما تفرضه عليك الحياة، ناجحة جدا في عملك حد الإبهار، مثقفة و من أسرة محترمة للغاية، و كل هذه المواصفات، تجعلني واثقا بانك ستقدرين ما سأقوله لك بذهن واع)
شعرت دليلة بضيق في نفسها، و لم تتفائل خيرا، الا أنها أجبرت عقلها على الإستماع اليه، مهما كان الرفض مذلا...

فنظر اليها و قال بهدوء
(سوار، كان يفترض بها أن تكون زوجتي الأولى، لكن شاء القدر الا تكون كذلك، و تزوجنا بعد احدى عشر عاما من عرضي الزواج عليها، لم أحب و لن أحب غيرها، هذا خارج عن ارادتي)
شحبت ملامح دليلة قليلا، الا أنها أومأت برأسها بصمت، فتابع ليث قائلا.

(حدثت بيننا الكثير من الأمور، لنقل أنها أشد قسوة و قتامة مما أستطيع ذكره لك، لكن يكفي أن تعرفي بأنها فقدت زوجا، كان صديق العمر بالنسبة لي، و هذا أثر على حياتنا سويا، لكن مهما بلغ الخلاف بيننا، لن أتخلى عنها مطلقا، )
أطرقت دليلة برأسها، غير قادرة على الرد، بينما تابع ليث بصوت قاس مشتد.

(لقد وعدت نفسي يوما أن أحقق لها كل رغباتها، و رغبتها الاخيرة كانت حصولي على طفل من غيرها، لأنها تمر بظروف تجعلها غير قادرة على الإنجاب، و تقدمت من تلقاء نفسها و عرضت عليك الزواج مني لهذا الغرض)
رفعت دليلة وجهها تنظر اليه مذهولة، بينما كانت ملامح ليث صلبة، جامدة تماما وهو يتابع بهدوء
(و أنا أرغب في رؤية طفل لي قبل فوات الأوان، لذا إن كنت توافقين على هذه الشروط، فأنا أتشرف بعرض الزواج عليك).

فغرت دليلة فمها بذهول أكبر و هي تستمع اليه غير متوقعة لنهاية حواره مطلقا، و استمر الصمت بينهما طويلا الى أن قالت أخيرا بخفوت
(أي شروط؟)
رفع ليث عينيه اليها و قال بصوت خافت
(انني غير قادر على حب امرأة سواها، فهل تجدين نفسك قادرة على تقبل هذا؟)
صمتت للحظات قبل أن تقول بهدوء مماثل
(لا أطلب حبا، و لم أفعل هذا و الا لما كنت قبلت بالمشاركة من الأساس).

اومأ ليث برأسه مبتسما ابتسامة حزينة، فلقد قالت دليلة خلاصة القول
لم أطلب حبا، و الا لما كنت قبلت بالمشاركة من الأساس، لقد قالت ما كان يحتاج الى سماعه، فأظلمت عيناه وهو يشرد عنها بعيدا الى أن قال أخيرا بهدوء
(جيد اذن، اذن أنا أتقدم بطلب يدك للزواج)
ابتسمت دليلة ابتسامة قصيرة و بملامح ثابتة، ردت بنفس مرتاح...
(و أنا موافقة).

(تيماء، انتظري)
توقفت تيماء حين قصف صوت قاصي من خلفها بقوة بعد دخولهما للشقة، كانت تعلم أنه لن يمرر الأمر بهدوء كما حدث في بيت مسك و هي أدرى الناس به، فهذا التفهم المبالغ به ليس من عادته مطلقا...
بقت مكانها واقفة تنتظر و بالفعل قال بصوت قاتم النبرة من خلفها
(استديري و انظري الي).

استدارت تيماء و نظرت اليه بصمت مكتفة ذرعيها، فمرت عيناه عليها بتوتر، بدا جسده متشنجدا لدرجة حفزت عضلاته بأكملها، و كادت أن تخترق قماش قميصه...
كانت تحدق به بعينين واسعتين حذرتين و هي تراه يبعد شعره عن وجهه بأصابع مرتجفة...
ثم قال أخيرا
(لماذا ذهبت الى مسك بتلك الطريقة و في الخفاء؟)
فتحت فمها و أجابت بصوت فاتر
(سبق و سألتني هذا السؤال، و سبق و أجبتك، كنت في حاجة اليها).

انعقد حاجبيه بشدة أكبر و سألها بصوت متحفز.
(لكن لماذا اليوم تحديدا؟، لماذا بعد ما، ما كان بيننا؟)
عقدت حاجبيها و قالت بصوت منخفض
(لا علاقة لهذا بتلك، مجرد أنني استيقظت و شعرت بالحاجة لأختي)
اتسعت عيناه وهو يهتف ساخرا بغضب
(هل أنت حقا مقتنعة بما تهذين به؟، و منذ متى كانت مسك لك أختا تلجأين اليها من الأساس؟)
بهتت ملامحها قليلا، لكنها قالت بصوت خافت
(و لما لا أفعل؟)
لوح قاصي بذراعيه هاتفا بنبرة منفعلة.

(و لماذا تفعلين؟، بالله عليك، لقد كانت المرة الأولى التي تلجأين اليها بعد خمسة و عشرين عاما من حياتك!)
راقبته تيماء و هي تدرك أن الموجة آخذة في التصاعد و العلو، تعرف تعابير وجهه و تعي احمرار عينيه...
تحفظ تصلب أصابعه عن ظهر قلب، لذا وقفت مكانها منتظرة الى أن صمت فقالت بنبرة فاترة
(أنت تعطي الأمر أكبر من حجمه، الا ترى هذا؟).

كان يهز رأسه بطريقة انفعالية، ضاحكا باستهزاء و دون صوت، ثم نظر اليها و عض على شفته قليلا محاولا التماسك، الا أنه قال أخيرا بصوت جليدي خطير
(سؤال واحد و أريد اجابة عليه، هل كنت تنوين الرحيل بمجرد حصولك على فرصة حملك للطفل الذي تريدين؟)
ضاقت عينا تيماء و هي تنظر اليه طويلا، بينما بدا هو على حافة فقدان السيطرة، لذا قالت أخيرا بهدوء.

(بالطبع لا، سبق و اتفقنا بأنني سأمكث هنا فترة كافية، لن أذهب و أعود في مهام باردة مختصرة)
تبادلا النظر طويلا، الى أن تابعت بصوت أكثر خفوتا
(تعلم بأنني سأرحل يوما ما، اليس كذلك يا قاصي؟، لا أفهم سر غضبك، فرحيلي اليوم أو غدا أو بعد شهر لن يشكل فارقا، لقد انتهت حياتنا سويا)
لم يرد قاصي عليها، بل ضاقت عيناه و انعقد حاجبيه وهو ينظر اليها طويلا، ليقول أخيرا بصوت خافت مخيف.

(لن تذهبي الى أي مكان يا تيماء، مكانك هنا بجواري، أنت تنتمين الي)
تراجعت للخلف خطوة، ثم رفعت يدها الى جبهتها و هي تكاد تترنح، بالفعل شعرت بالعالم يدور من حولها، و ما أن استعادت توازنها حتى قالت بخفوت
(لم يكن هذا اتفاقنا!)
صرخ قاصي من خلفها فجأة بصوت جعلها تنتفض قافزة في مكانها
(انسي الإتفاق اللعين، من كنت تخدعين حين ظننت بأنني سأسمح لك بهجري؟).

اتسعت عيناها بشدة و هي تستمع الى صوته الهادر، فرمشت بعينيها و هي تقول بجمود
(ظننتك تنفر مني، بالكاد اقتربت مني لمرة، ظننتنا انتهينا)
رفع قاصي اصبعه وهو يحاول النطق من بين أسنانه المطبقى بإنفعال، الا أنه هدر في النهاية بعنف
(هذا لأنك غبية، غبية، غبية و لا تشعرين بذرة مما أعانيه، لكن على ما يبدو أن هذا لا يجدي، لذا من اليوم عدنا الى حياتنا و سنتابع زواجنا، بأطفال أو بدون، الخيار لك).

أغمضت تيماء عينيها بشدة، ثم همست بصوت مختنق
(نحن مخ، مختلفان، حياتانا لن تتقابلا مطلقا، أنا أريد متابعة دراستي و أنت، سينتهي بك المطاف في السجن يوما ما)
بهت لون قاصي تماما وهو ينظر الى ظهرها و كتفيها المتساقطين بإنهزام، و ساد الصمت خلفها طويلا، الى أن قال أخيرا بصوت غريب
(الآن لم اعد أليق بك؟)
ابتلعت تيماء غصة في حلقها، ثم همست بإختناق
(لم تليق بي منذ البداية).

و كأنها اطلقت عودا من الثقاب، الى صندوق من المفرقعات الخطرة، فهدر فجأة بقوة من خلفها وهو يضرب شيئا ليصيب به لوحة زجاجية فأسقطها أرضا متحطمة الى شظايا...
(كان عليك التفكير بهذا منذ سنوات طويلة، حين حذرتك من الإرتباط بي، لا الآن)
غطت تيماء أذنيها بكلتا كفيها و هي تطبق جفنيها بشدة، صارخة بعذاب
(كنت مجرد طفلة، لم أدرك خطورة الإقتراب منك، ).

سمعت صوت تحطم آخر أكثر خطورة فاستدارت على عقبيها و هي تنظر مذهولة الى شاشة التلفاز التي حطمها بتمثال قديم موضوع على احدى الطاولات...

فغرت تيماء شفتيها و هي تنظر الى هذه الكارثة التي حدثت للتو، بينما لم يتوقف قاصي عند هذا الحد. بل أمسك بكتفيها وهو يدفعها بقوة حتى ارتطمت بالجدار فأغمضت عينيها متأوهة، الا أنه لم يلحظ كعادته حين يصل الى تلك المرحلة من الغضب، فصرخ في وجهها بقوة مما جعلها تنظر جانبا كي تبعد وجهها عن مرمى صراخه...

(كانت تلك هي نفس الحجة، التي اتخذتها عند عودتك من السفر أول مرة، أتتذكرين؟، أعتذرت لي بتهذيب عن كونك كنت طفلة في ما مضى)
فتحت عينيها و نظرت اليه بملامح شاحبة ثم قالت بصوت خافت مرتجف أمام عينيه العاصفتين...
(و بزواجي منك أثبت لي صدق حجتي، ليتني كنت تمسكت بها قبل أن يحدث لي كل ما حدث)
كانت شفتاه ترتجفان كشفتيها، لكن من فرط الإنفعال لا الخوف، فنظر اليها لاهثا قبل أن يقول بصوت ميت.

(قلت أنك لا تلوميني على موت الطفل!)
فتحت فمها و قالت بنفس الصوت المرتجف
(بل قلت أنه الشيء الوحيد الذي لم ألمك عليه، بخلاف ذلك فأنا ألومك على كل لحظة من حياتنا سويا، كل لحظة ألم عشتها ألومك عليها، لقد ندمت على التضحية لأجلك، ليتني كنت عشت لنفسي منذ سنوات طويلة، لكان حالي غير حالي الآن).

انتظرت، انتظرت، و هي ترى فتحتي أنفه تتسعان و فمه يتوتر أكثر، بينما عيناه تتحولان الى قصة رعب و هو ينظر اليها، و حين ظنت أن كتفيها ستتحطمان اثر ضغط أصابعه...
رفعت قدمها و ركلت بها ساقه بكل قوتها، مما جعله يتأوه ألما بقوة، فخفت قبضتاه عن ضغطهما، حينها دفعته بعيدا و جرت الى غرفة النوم و أسرعت بغلق الباب بالمفتاح في وجهه قبل أن يصل اليها...

ثم استندت اليه و هي تلهث بقوة و عنف، بينما ضربات قاصي عليه تهدد بخلعه في أي لحظة...
هدر قاصي بقوة من وراء الباب المغلق
(أستطيع تحطيم الباب على رأسك يا تيماء إن أردت، افتحيه، افتحيه حالا)
مع كل كلمة يهدر بها كانت ترافقها ضربة من قبضته تنفذ الى ظهرها مباشرة و تجعلها تنتفض بينما هي تنظر الى البعيد بوجه شاحب...

لقد أحبته من جديد، أحبته للمرة الثالثة، مرة منذ البداية، و مرة بعد فراق دام لأكثر من خمس سنوات، و ها هي تقع في حبه للمرة الثالثة، حين توفي ابنها و حملته بين ذراعيها ظنت أن كل كل حب آخر قد مات في قلبها...
و تولدت لديها حالة سوداوية جعلتها لا تتمنى سوى طفلا بديلا عنه، علها تتقي الألم القاتل بداخلها...
لكن بعد ما كان بينهما منذ عدة ساعات، شيء آخر هاجم قلبها بقسوة، و كأنها صفعة أعادتها للحياة...

حين فكرت بإحتمالية حصولها على طفل أخيرا كما تمنت...
وجدت أمامها الحقيقة المرة، و هي أن الطفل الجديد لن يعوضها الذي ضاع مطلقا...
فالطفل الذي فقدته كان نتاج لحبها لقاصي، اما الطفل الجديد فهو كلمة النهاية لقصتهما...
جاء بطريقة لم تتخيل يوما أن تمتلك الجرأة كي تقوم بها...
و الأصعب، أنها ستبتعد عن قاصي، كما وعدت نفسها...
بعد أن أحبته للمرة الثالثة، بل الرابعة، الخامسة، العاشرة، الألف...

لقد أحبته كل يوم من أيام حياتها، كل صباح تستيقظ لتجد نفسها و قد وقعت في حبه من جديد، و كأن حبه هو مهمتها الوحيدة في الحياة...
رفعت رأسها و هي تغمض عينيها بأسى هامسة لنفسها
كنت قد حكمت عقلي، و الآن انتصر قلبي في جولة يائسة، لم يربحها العقل يوما، ضربة أخرى من قبضة قاصي على الباب من خلفها جعلتها تبتعد عن الباب بسرعة و هي تنظر اليه بخوف، بينما صوت قاصي يتعالى أكثر وهو يناديها بصوت جهوري.

(تيماء، افتحي الباب، أنا لا أضمن ردة فعلي إن كسرته و دخلت اليك)
أخذت تتراجع للخلف متعثرة الى أن اتسعت عيناها و هي ترى الباب يضرب بقوة أكبر، حتى فتح أمام عينيها بضربة أخيرة عنيفة، ليقف قاصي في اطاره، بمنظره المخيف و شعره المشعث...
أخذ يقترب منها ببطىء و هي تبتعد الى أن ارتطمت بطاولة الزينة، فقالت بصوت مرتجف
(اهدأ يا قاصي، لا تتهور، كان بيننا اتفاقا و).

قطعت كلماتها فجأة و هي تصرخ حين هجم عليها الا أنها استطاعت الفرار من بين ذراعيه، فارتطم بكل قوته بطاولة الزينة مما جعل الأغراض تتساقط من عليها، فصرخ بهمجية وهو يتناول احدى زجاجات العطر ليضرب بها المرآة فحطمها تماما، و لم تكن تلك المرة الأولى...
الا أن تيماء لم تنتظر لتتأكد من الخسائر...
بل فرت سريعا و هي تجري لتخرج من باب الغرفة، وهو يلاحقها كحيوان مفترس...

كانت أصابعها ترتجف و هي تحكم غلق باب الحمام الذي هربت اليه، ثم استندت اليه هو الآخر، و هي ترتعش أكثر، و نبضات قلبها تخفق بجنون مؤلم...
لكنها فقزت من مكانها صارخة حين فاجئتها ضربة من قبضة قاصي على الباب الذي تستند عليه وهو يصرخ
(أستطيع كسر هذا أيضا و بسهولة أكبر يا تيماااااااااء، افتحي حالا)
أغمضت عينيها و هي ترتجف بشدة، بينما هو يصرخ و يصرخ باسمها، الى ان صمت...

كانت تستطيع سماع صوت نشيج أنفاسه المجهدة من خلف الباب، ثم طرقه مرة أخرى وهو يقول بتعب
(تيماء، لماذا غادرت اليوم؟)
استدارت تيماء قليلا و هي تستند بكتفها الى الباب المغلق بينهما، تستمع الى صوته الذي هدأ فجأة...
ثم تابع مجددا بصوت أكثر خشونة و جفاء
(لن أسمح لك بأن تتخذيني كلعبة بين يديك، مرة تمنحيني عشقك دون شروط و مرة تمنعينه، لن أسمح لك يا تيماء، ليس بعد الآن).

ضرب الباب فجأة بقوة مما جعلها تنتفض مذعورة، الا أنها لم تبتعد، بل أغمضت عينيها بشدة
فتابع يقول بصوت متوتر
(تيماء، أرضي المهلكة، هل نسيت العهد الذي قطعناه؟، أخبريني بأنك تتذكريه، أخبريني و سأتركك في الحمام للصباح إن أردت و لن أزعجك مطلقا)
ارتجفت شفتاها بشدة و هي تفتحهما تنوي الكلام، حاولت مرة و أخرى، الى أن قالت في النهاية بصوت جامد متصلب
(لم أنساه)
ألصق قاصي أذنه بالباب وهو يهتف قائلا بلهفة.

(ماذا؟، ماذا قلت للتو؟، انطقي يا تيماء)
فتحت تيماء فمها مجددا، ثم قالت بصوت أكثر اختناقا و قسوة
(قلت، انني لم أنساه، و أنني، لن أتوقف عن حبك أبدا، فأنت كاللعنة التي تسري في دمي)
فغر قاصي شفتيه قليلا، قبل أن تميلا في ابتسامة حمقاء، لا تتناسب مع العنف الظاهر في عينيه...
بينما تابعت تيماء بصوت أكثر غضبا و قسوة.

(و اليوم، اليوم حين شعرت بقرب فراقي عنك، تذكرت لحظة فراق طفلي من جديد، فلم أشعر بنفسي الا و أنا أبكي بين أحضان مسك)
أغمض قاصي عينيه بقوة، أما هي فقالت متابعة تهتف بقسوة و الم
(أكرهك يا قاصي الحكيم، أكرهك من شدة حبي المريض بك)
أفلتت من بين شفتيه ضحكة خافتة متألمة دون أن يفتح عينيه...
لا يعلم كم من الوقت مر وهو على صمته الهائم، بينما هناك في أعمق زوايا قلبه كان يشعر بضوء أبيض، يظهر بخجل و على مهل...

قال قاصي بصوت هادىء، جاف من شدة الصراخ
(افتحي الباب، أريد أن أراك، لا أريد في هذه اللحظة سوى ان أراك)
لكن و قبل أن تجيبه، تعالى صوت رنين جرس الباب، رنين مزعج متواصل و طرق مرافق له...
فعقد قاصي حاجبيه وهو ينظر في اتجاه باب الشقة بإنزعاج، ثم لم يلبث أن اضطر للتحرك اليه وهو ينوي قتل من يتطفل على خلوتهما في تلك اللحظة...

لكن ما أن فتح الباب حتى فاجئته ضربة في منتصف صدره ثم دفعة قوية من يدي امتثال و هي تزيحه عن طريقها هاتفة بغضب و عنف
(ابتعد عن الطريق أيها الحيوان الهمجي)
لم يكن قاصي قد استوعب وجودها بعد، الا وهو يراها تتجاوزه و تندفع الى داخل الشقة و كأنها بيت أهلها...
و ما أن رأت اللوح الزجاجي المكسور و التلفاز المهشم حتى ضربت صدرها و هي تشهق هاتفة.

(ايها المجنون! أيها المختل المجنون! أين الفتاة المسكينة؟ ماذا فعلت بها؟)
و دون انتظار رده، دخلت تبحث عن تيماء، بينما هو ينظر الى دخولها مذهولا، ثم هتف مناديا خلفها
(تعالي هنا، الى أين تظنين نفسك ذاهبة؟)
الا أنها لم تتوقف لحظة كي تستمع اليه، بل اتجهت لغرفة النوم، فشهقت عاليا و هي ترى المرآة المكسورة، فخرجت و هي تهتف
(أيها البغل، أيها البغل عديم الأخلاق، ماذا فعلت بالفتاة؟، تيماء، تيماااااااء).

كان قاصي قد وصل اليها وهو عاقدا حاجبيه ينظر اليها بذهول و هي تطرق باب الحمام منادية بقوة
(تيماء، افتحي يا ابنتي، انها أنا امتثال، أنت في أمان الآن)
اقترب منها قاصي وهو يشير اليها قائلا بغضب محموم
(هل تدركين أنك اقتحمت للتو شقتي، و تطرقين باب الحمام على زوجتي؟)
نظرت اليه امتثال و هتفت فيه بقوة و صرامة
(بل و أكثر، سأطلب لك الشرطة إن لم تحرر الفتاة المسكينة حالا)
ارتفع حاجبيه أكثر وهو يقول ساخرا بجنون.

(أي فتاة تلك التي أحررها؟، الباب مغلق من الداخل، إنها في الحمام، هل تعرفين ما هو الحمام؟ إنه المساحة الخاصة للفرد حيث يفترض به أن يجد راحته فيه دون تطفل من الآخرين، و أقصد بالآخرين سكان البيت، لا الجيران!)
الا أن امتثال صرخت به بعنف
(و ماذا عن الصراخ و الأشياء المحطمة في الشقة، هل هي من كسرتها كذلك و صرخت بصوتك؟)
هدر بها قاصي بغضب وصل الى آخر مداه.

(شقتي، و أشيائي، أكسرها، أحرقها، أنا حر، ما دخلك أنت؟)
صرخت به امتثال بقوة و غضب مماثل
(لكنك لست حرا في الفتاة المسكينة)
صرخ بها مؤكدا
(بلى أنا حر بها، إنها زوجتي، أكسر عظامها أو أبللها و أشرب مائها، هي زوجتي)
ارتفع حاجبي امتثال اكثر و أوشكت على صفعه بالفعل، الا أن تيماء فتحت الباب في تلك اللحظة و تقدمت بينهما و هي تقول بصوت خافت
(لا داعي لكل هذا سيدة امتثال، أنا بخير).

نظر اليها قاصي عاقدا حاجبيه وهدر بها
(و لما العجلة؟، لما لم تنتظري للمزيد من الوقت، حتى تطلب لي الشرطة تتهمني بقتلك و اخفاء جثتك في حوض الإستحمام!)
التفتت اليها امتثال و اخذت تتفحصها بيديها قائلة بقلق
(هل أنت بخير طفلتي؟، هل بك أي اصابات؟، أرى أن نحرر محضرا من باب الإحتياط)
أصدر قاصي صوت ضحكة غاضبة مستنكرة من حلقه، بينما ردت تيماء بخفوت
(أنا بخير)
قالت امتثال بحزم.

(اذن ستأتين معي الى شقتي، فوجودك هنا غير آمن)
الا أن قاصي مد ذراعه أمامهما يمنعهما من التحرك وهو يهتف بقوة
(هاي، هااااااااي، الى أين تظنين نفسك آخذة زوجتي؟)
أمسكت امتثال بذراع تيماء تسندها، و هي تقول بصرامة مخيفة
(الى مكان به سلام نفسي، هي في أمس الحاجة اليه، و الذي تفتقد اليه هنا)
فغر قاصي شفتيه وهو يقول كمن يحادث مخبولا.

(سلام نفسي! هل ستأخذين زوجتي معك هكذا ببساطة، لأنها تحتاج سلام نفسي! هل ستلعبان اليوجا؟، ما الذي تقولينه أيتها السيدة؟، أنت في عقر داري و تمسكين بزوجتي، اتركيها حالا)
هتفت به امتثال تقول بغضب أعلى و كأنها تصرخ في احد أولادها...
(لن أتركها، الفتاة أعصابها منهارة)
رد قاصي هادرا
(أنا أريدها مجنونة، احبها مختلة، هذا ما يثيرني كزوج)
قلبت امتثال شفتيها و هي تقول بتقزز
(مقرف، بغل).

كان قاصي على وشك الإصابة بجنون فعلي وهو ينظر اليها بذهول، بينما قالت تيماء فجأة و هي تتمسك بكفي امتثال التي تسندها
(أنا أحتاج للخروج من هنا قليلا، أريد الذهاب الى شقة السيدة امتثال)
نظر اليها قاصي مصدوما، بينما رفعت امتثال ذقنها بتشفي و انتصار، ثم جرت تيماء معها و هي تقول ببرود
(ابتعد عن طريقنا يا أزعر)
تجاوزاه بكرامة و إباء، بينما استدار اليهما ليهتف قائلا
(بما دعوتني للتو؟).

التفتت اليه تيماء تقول بخفوت
(أزعر، مقطوع الذنب، سيء الخلق، خفيف الشعر)
ارتفعت عيناها الى شعره الناعم المبعثر الطويل، ثم عقدت حاجبيها و قالت لامتثال بتعاطف
(ليس خفيف الشعر، لكن بالنسبة للأخلاق و الذنب فمعك حق)
هتف قاصي من خلفها
(تيماء، لا تذهبي، بيننا حديث لم نتمه)
استدارت تنظر اليه مجددا، ثم قالت بخفوت.

(لا أجد نفسي قادرة على اتمامه، ساقي تتهاويان من تحتي، على الرغم من من استهزائك، فأنا بالفعل في حاجة الى سلام نفسي لبعض الوقت)
ثم تحركت مع امتثال، بينما هتف قاصي مجددا بغضب
(أستطيع منعك لو أردت)
توقفت تيماء، و مضت بضع لحظات، قبل أن تقول دون أن تستدير اليه
(نعم تستطيع، فهل ستفعل؟).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة