قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والستون

خرجت مسك الى الشرفة و هي تشعر بنفسها على وشك الإختناق...
تحتاج الى الهواء بشدة...
صخب الأطفال لم يكن مجرد صخب، بل كان دويا مريعا لم يتوقف للحظة.

ماما، أريد أن أشرب، ماما، أريد الذهاب للحمام، ماما، لا أستطيع تعديل ملابسي، ماما، أريد قطعة الدجاج الأخرى و ليست تلك، ماما، شبعت، ماما، أريد الجلوس على ساقيك، لا بل أنا الذي أريد الجلوس على ساقيك، لا أنت كبرت و ستؤلم لها ساقيها، ماما، أنا أحبك، خالي أمجد، تعال و العب معنا بالكرة، خالي أمجد، أنت تدغدغ كريمة أكثر مما تدغدغي، خالي أمجد، أنا أحبك أكثر من ماما، فهل تحبني أكثر من ألمظ؟،.

أغمضت مسك عينيها و هي تأخذ نفسا عميقا، لتملأ به رئتيها، علها تتخلص من الضغط الواقعة تحته...
للأسف لا تشعر بالحرية الا على صهوة جوادها، و الطاقة التي جمعتها اليوم، ضاعت تماما في زيارة كهذه...
علي ظهر الفرس، تطير، تطير بعيدا، تشعر و كأنها ملكة، لا ينقصها شيء...
أما هنا، فهي لا تمتلك شيئا...

(هل أنت بخير؟)
فتحت مسك عينيها و هي تنظر الى أمجد من خلفها، بنظرة مبهمة، ثم أعادت نظرها الى الخارج لتقول بهدوء بارد
(بخير)
اقترب منها حتى وقف بجوارها و أراح كفيه على حاجز الشرفة، ثم قال بصوت متصلب
(بدوت صامتة طوال الوقت، لم تجيبي حتى، الا مجرد كلمات مختصرة)
ردت مسك بسخرية.

(هل تشترط الزيارة، الإستفاضة في الحديث؟، لأنك تعرف بأنني لست من هذا النوع، خاصة و إن كانت كل الأحاديث بيتية لا تشغل اهتمامي مطلقا)
أظلمت عينا أمجد وهو ينظر اليها عاقدا حاجبيه من هجومها الساخر الغير مبرر...
ثم قال بصوت قاس مشتد، خافت
(ليست الإستفاضة في الحديث ضرورة، لكن على الأقل يمكنك التظاهر بالسرور أثناء جلوسك مع أمي و أختي خاصة و أنهما تبذلان كل جهدهما في الترحيب بك، و اشعارك بأنك عروس جديدة).

أفلتت من بين شفتيها ضحكة ساخرة لم تستطع منعها، فازداد انعقاد حاجبيه و قال بنبرة قاتمة
(ما معنى تلك الضحكة تحديدا؟)
لم ترد مسك على الفور، و لم تشأ أن تخبره بأنها غير مرحب بها على الإطلاق، سواء هنا أو في حياته بأكملها...
الا أنها قالت في النهاية ببساطة
(و لما التظاهر يا أمجد؟، طالما أنني لست مسرورة بالفعل، فكان الأجدر بي البقاء في بيتي اليوم).

احتدت النظرة في عينيه و قال بشدة دون أن يرتفع صوته عن الهمس الحاد
(اسمعيني جيدا يا مسك، أمي و أختي و أولادها هم كل من لي في هذه الحياة، و لن أسمح لمخلوق بإبعادي عنهم)
شعرت مسك بشيء حاد يجرحها في أعماق روحها دون أن تدري له تفسيرا، الا أنها قالت رافعة ذقنها متظاهرة باللامبالاة
(و هل طلبت منك أن تبتعد عنهم؟، أنا أتكلم عن نفسي)
رد أمجد منزعجا
(أنا و أنت واحد)
هزت مسك رأسها نفيا، ثم قالت ببساطة.

(بل اثنان، لكل منا حياته و أولوياته، و اهتمامته)
ازداد انعقاد حاجبيه أكثر و أكثر، بينما أخفضت مسك وجهها و استدارت عنه، فنظر اليها طويلا قبل أن يقول بصوت غريب
(سأذهب لأجلس معهم قليلا كي ننصرف سريعا، فأنا لا أقبل لهم أن تجلسي معهم مجبرة)
و دون انتظار ردها خرج مندفعا من الشرفة، أما مسك فظلت تنظر الى الخارج بنظارت واهية، صامتة، صمت آت من روحها، لا من حولها...

شعرت فجأة بشيء يداعب ساقها، فأخفضت وجهها لترى كريمة تقف بجوارها و تمرر أصابعها على جوربها الشفاف...
رافعة وجهها الحليبي ذو النمشات اليها بإبتسامة تدعوها للعب، فعقدت مسك حاجبيها و قالت بخفوت مقتضب
(ماذا تفعلين هنا؟، اذهبي الى أمك، فالجو بارد قليلا في الخارج).

لم تستمع كريمة الى كلامها، بل ظلت مكانها و أخذت تدغدغها في ساقها، فانتبهت مسك الى أنها تقلد ما يفعله أمجد معها، فزفرت بنفس مرتجف ثم قالت بصوت أكثر جدية و هي تشير للداخل
(هيا ادخلي، اذهبي الى أمك).

الا أن الطفلة ظلت واقفة و ضحكت، فتأففت مسك ثم انحنت اليها كي تدفعها قليلا، لكن ما أن اقتربت منها، حتى اشتمت عبيرها الطفولي، فعقدت حاجبيها قليلا، ثم وجدت أنفها يقترب أكثر و أكثر من عنق كريمة، حتى لامسه بنعومة و عندها اشتمت رائحتها بوضوح، فأغمضت عينيها و هي تزفر نفسا مرتجفا...
مرت بضع لحظات قبل أن تجثو على عقبيها أمام الطفلة الصغيرة، ثم رفعت ذراعيها بتردد حتى حاوطتها و جذبتها إلى صدرها ببطىء...

و ما أن فعلت، حتى تأوهت بصمت و هي تشدد من احتضانها مبتسمة، و همست بصوت غير مسموع
ما أروع هذا العناق! فتحت مسك عينيها فجأة، و استقامت واقفة قبل أن تخرج مندفعة الى غرفة الجلوس...
حينها ارتفعت الوجوه تنظر اليها بقلق، فتوقفت و أبطأت من خطواتها و هي تقول مخاطبة مهجة بنبرة جادة
(ابنتك في الشرفة، و ترفض الدخول).

شهقت مهجة و اندفعت جريا تجاه الشرفة، بينما نظرت الى أمجد الذي كان جالسا أرضا، يلاعب أحد أبناء مهجة بلعبة بنك الحظ...
رفع عينيه اليها عاقدا حاجبيه، ثم سألها مجددا وهو يلاحظ الشحوب البادي على ملامحها
(هل أنت بخير؟)
أومأت مسك برأسها دون أن ترد، فازداد انعقاد حاجبيه، و قال بجدية
(ربما علينا المغادرة كي ترتاحي).

أفلت منها نفسا مرتاحا و شعرت بالإمتنان، بل أنها صممت على أن تراضيه ما أن يصلا الى شقتهما، لكن و قبل أن تنطق بالموافقة، تحركت أم أمجد من جلستها و مدت يدها الى مسك و قالت بهدوء مبتسمة
(ليس بعد يا أمجد، لم أشبع منكما بعد، تعالي يا مسك خذي بيدي و أوصليني الى غرفتي، أريد أن أريك شيئا).

أغمضت مسك عينيها و هي تشعر بالإختناق يعاودها اكثر و أكثر، الا أنها لم تجد بدا من التحرك ببطىء حتى أمسكت بيد والدة مسك ثم ساعدتها و مشت بجوارها حتى وصلتا الى الغرفة، فقالت أم أمجد بمودة...
(اغلقي الباب حبيبتي، أريد أن أتكلم معك قليلا)
عقدت مسك حاجبيها بعدم ارتياح، الا أنها أغلقت الباب، ثم رافقتها حتى أجلستها على سريرها ثم جلست بجوارها و قالت بتحفظ
(خير، ما الأمر خالتي؟).

ربتت أم أمجد على كفها و هي تقول مبتسمة
(لما نبرة القلق في صوتك؟، أنا فقط أريد الحديث معك كأم لابنتها)
ازداد انعقاد حاجبي مسك اكثر...
لا لا لا، هذه البداية غير مبشرة اطلاقا...
هي ليس لها سوى أم واحدة توفاها الله بالمرض الخبيث، و لن تبدلها بأي امرأة أخرى و لو لدقائق حتى...
الا أنها أجابت بتصلب
(تفضلي، أنا أسمعك)
ربتت أم أمجد على كفها مجددا، ثم قالت بصوت حذر
(كيف حالك مع أمجد؟).

ضاقت عينا مسك بينما لم يظهر على ملامحها أي تعبير و هي تقول بفتور
(من أي جهة تحديدا؟)
بدت والدة أمجد أكثر ترددا و هي لا تدري كيف تبدأ الكلام، ثم قالت أخيرا بتودد
(أنا أشعر بأنكما لم تعتادا بعضكما حتى الآن)
لم ترد مسك على الفور، لكنها قالت أخيرا بجمود
(كيف تحديدا؟)
احمر وجه والدته بحرج أمام عيني مسك المحاصرتين لها، الا أنها قالت أخيرا بشجاعة...

(أنت تضعين الحواجز بينك و بين زوجك، لا تمنحينه نفسك بالكامل، و كأنك تدخرين من حياتك بعيدا عنه)
ساد صمت مشحون بينهما الى أن قالت مسك أخيرا بصوت غريب
(هل شكا لك أمجد من شيء يخصنا؟)
ردت والدته بسرعة
(الأم ليست في حاجة لشكوى كي تشعر بأن ابنها غير سعيد)
ارتفع حاجبي مسك و هي تردد بصوت كالحديد
(غير سعيد!)
أخذت والدته نفسا طويلا ثم قالت بترجي...

(أنت لا تعرفين أمجد بعد يا مسك، إنه رجل قوته كلها تكمن في قلبه، حين يحب، يصبح قادرا على منح حياته بأكملها لمن يحب، بشرط أن يجد المقابل منه، وأنت)
صمتت قليلا بحرج، بينما حثتها مسك تقول بحاجب مرتفع و صوت باتر
(أنا! تابعي رجاءا)
ردت أم أمجد تقول بحزن
(أنت يا ابنتي تعاملين زوجك من خلف باب مغلق، يسمعك لكن لا يراك، يشم عطرك لكن لا يلمسك، هل تفهمين ما أقول؟)
ردت مسك ببرود
(ليس تماما، هلا وضحت أكثر).

تنهدت والدة أمجد بتعب، ثم قالت بصبر
(ما أقوله يا حبيبتي هو أنك، لا تمنحين ابني ما يستحقه، حين جاءني أمجد ذات يوم يريد اقناعي بالزواج منك، قال لي، انتظري يا أمي حتى تعرفين شخصها، سترين أي امرأة رائعة هي، أما الآن فنبرته تغيرت، و العاطفة بها خبت، و لم يحاول ابهاري اكثر، و كأنه فقد الأمل في محاولة فتح الأبواب التي تغلقينها حول نفسك).

ساد صمت مهيب بينهما، ثم سحبت مسك كفها من بين يدي والدة أمجد ببطىء ثم نهضت من مكانها و هي تعدل ملابسها ببساطة قبل أن تقول بصوت بارد لا يحمل أي نوع من المشاعر...
(قلتها مرة لمهجة و سأقولها لك يا خالتي، أي كلام مماثل، يجب أن يقال لأمجد، و ليس لي، فإن أراد الإنفصال، فلن أقف في طريقه)
عقدت والدة أمجد حاجبيها بشدة و هي تقول بحدة
(انفصال؟، هل هذا ما فهمته من كلامي؟).

لم يبدو على مسك أنها قد سمعت اعتراضها، بل قالت بصوت أكثر ثباتا
(هذه هي أنا، هذا هو طبعي و قد قبل بي أمجد و عليه تحمل اختياره، لكن إن فشل في التحمل فله كل الحق في التراجع، لكن أي محاولة لتغييري لهي مهمة مستحيلة، و غير آدمية)
استدارت تنوي مغادرة الغرفة، الا أن صوت والدة أمجد اندفع من خلفها و هي تقول بصلابة مفاجئة...
صلابة أم تدافع عن ابنها...

(لقد قدم أمجد تضحية كبيرة لأجلك يا مسك، و لم يحاول مطلقا تذكيرك بها، لكنني كوالدته، أجد نفسي مجبرة على ذكرها، حين أجدك لا تقدمين لابني اي اشيء في المقابل، و أنا أعرف ابني جيدا لا يطلب الا قلب المرأة التي يحب، و هذا أبسط حقوقه)
توقفت مسك مكانها، و شعرت و كأنها ضربت بأول سهم من سهام المعايرة...
فأغمضت عينيها بألم، الا أنها استدارت و نظرت الى والدة أمجد لتقول ببرود
(و هل يطلب القلب يا أم أمجد؟).

بهتت ملامح أم امجد بشدة و هي تنظر الى مسك غير مبصرة، ثم همست مبهوتة
(الا تحبين ولدي؟، لماذا قبلت الزواج منه اذن و سمحت له بتقديم تلك الضحية لك؟)
ردت مسك بصوت ميت، بارد، قاس كالجليد
(حين قبلت الزواج من ابنك، لم أكن أعرف بأن هناك شروط و ثمن يجب دفعه، أنا لا أملك قلبا يا أم أمجد، لذا فأنا لا أملك الثمن المناسب لتضحية ابنك، و عليه أن يقرر إن كان قد حصل مقابل مجزي أم لا).

و دون انتظار خرجت من الغرفة بسرعة و أغلقت الباب خلفها، بينما بقت أم أمجد وحدها و يدها على قلبها و هي تهمس بلوعة
(حسرتي عليك يا ابني، ماذا فعلت بنفسك؟).

وضعت امتثال صينية الطعام على منضدة جانبية بجوار السرير الذي استلقت عليه تيماء...
و قالت مبتسمة بتعاطف...
(لن آخذ هذه الصينية قبل أن تنهين ما بها من طعام، إنها الليلة الثانية لك دون طعام، ستدمرين صحتك بهذا الشكل يا طفلتي، لا شيء يستحق، لا شيء مطلقا)
رفعت تيماء وجهها اليها و قالت بخفوت
(لست جائعة سيدة امتثال، صدقيني)
قالت امتثال بصرامة و استياء...

(و مع ذلك ستأكين، انظري الى وجهك الصغير المسكين، أين ذهبت تلك الشقاوة و العفرتة التي أتذكرها حتى الآن، عبر ملامح كلها حيوية و عينان تشعان ذكاءا)
ابتسمت تيماء ابتسامة باهتة و هي تقول بخفوت
(كان هذا منذ زمن طويل يا سيدة امتثال، حين كنت طفلة، أما الآن فقد كبرت و زادت همومي)
عقدت امتثال حاجبيها بشدة و قالت بحدة.

(تبا لرجل. جعل من فتاة لم تتجاوز منتصف العشرينات على الأكثر، امرأة عجوز أصابت الشيخوخة قلبها، كيف يا طفلتي؟، كيف فعلت هذا بنفسك؟، حتى الآن لم استطع استنتاج تفاصيل تلك العلاقة الغريبة بينكما)
أطرقت تيماء بوجهها و قالت بصوت متعب
(كانت رحلة طويلة، بدأتها حين سافرت اليه، و جئت الى هذه البناية تحديدا، و على باب شقته رأيته للمرة الأولى)
رفعت وجهها و ابتسمت ناظرة إلى امتثال و قالت بنبرة رقيقة.

(و كان نفس اليوم الذي رأيتك فيه للمرة الأولى كذلك سيدة امتثال، هل تتذكرين؟)
ابتسمت امتثال رغم عنها و جلست بجوار تيماء على حافة السرير و هي تقول متظاهرة بالغضب
(نعم أتذكر، حين عرفتني نفسك على أنك ابنة شقيقته)
ضحكت تيماء معتذرة و هي تقول و قد اجتاحتها نوبة من الذكريات الجميلة، ذكريات عمرها، رغم الحون المحيط بجوانبها، الا أنها تظل جميلة بوجوده فيها...

(لم أستطع منع نفسي، لم اعلم وقتها أن تلك الكذبة التي اختلقتها قديما، ستظل تلاحقني أمامك حتى شبابي)
عقدت امتثال حاجبيها و قالت بحدة
(ما أريد أن أفهمه، هو كيف لك أن ارتبطت بعلاقة بهذا المختل؟، ما أعرفه عنك أنك كنت فتاة متفوقة طوال عمرك و ذكية، و طفلة، مجرد طفلة، متى ارتبطت بعلاقة معه؟)
شردت تيماء بعينيها و همست بخفوت و قد ضاعت ابتسامتها.

(السؤال الأصح هو، متى لم أرتبط بعلاقة معه؟، أشعر و كأنني ولدت مرتبطة به، ما هي الا مجرد مسميات اختلفت ما بين مرحلة عمرية و أخرى، لكن في الحقيقة، هي علاقة واحدة ربطتني به منذ اليوم الأول الذي وصلت فيه الى بابه)
صمتت تيماء و قد اختنق صوتها في حلقها لفترة طويلة، فربتت امتثال على ركبتها برفق، ثم قالت بصوت متعاطف.

(لن أثقل عليك في الكلام الآن، ارتاحي قليلا و غدا تقصين على المزيد من علاقتك المشبوهة بالمختل، لكن عليك الاكل قبل أن تنامي، مفهوم؟)
أومأت تيماء برأسها، مبتسمة لها بامتنان، و راقبتها و هي تخرج من الغرفة الى أن أغلقت الباب خلفها...
فأرجعت تيماء رأسها للخلف تنظر الى سقف الغرفة بنظرات ضائعة...

مر يومان و هي تمكث هنا في شقة امتثال بعد أن تركها تخرج من بيته، يومان و هي تفكر في الأسى الذي ستشعر به ما أن تبتعد عنه للأبد...
إن كان مجرد يومين قد فعلا بها هذا، فكيف تستطيع الإستمرار المتبقي لها من عمر بعيدا عنه...
سمعت صوت رنين هاتفها بعد فترة، فنظرت اليه بطرف عينيها و هي تعرف بأن المتصل هو قاصي، بعد أن سمح لها أن تخرج من شقته بهاتفها، و أخبرها بصرامة خشنة بأنه سيلاحقها بإتصالاته الى أن تعود.

تنهدت تيماء ثم أمسك بالهاتف و ردت بخفوت
(نعم)
ساد صمت قصير بينهما، الى أن وصلها صوته يقول بجفاء
(أنتظرتك أن تعودي اليوم، لكنك لم تفعلي، فهل تريدين أن أقتحم شقة امتثال! لأنني سأفعل إن اقتضى الأمر)
ارتجفت شفتي تيماء قليلا، الا أنها قالت بثبات
(قاصي، عليك اعتياد فراقي، فهو سيحدث)
رد عليها قاصي بعد لحظة صمت مشحونة، و بصوت خفيض مخيف شرس.

(هل تختبرين صبري؟، لأنني لم أعد أمتلك الكثير منه، كما لم يتبقى شيء لأحطمه سوى رأسك العنيد)
ابتسمت رغم عنها، فقال بصوت خافت أجش و كأنه رأى ابتسامتها
(تعالي يا تيماء، اصعدي تلك الدرجات القليلة الفاصلة بيننا ستجدين باب شقتي مفتوحا لك كما كان دائما)
ابتلعت تيماء ريقها بصعوبة و شعرت بنفسها تتهاوى عن السرير المريح، الا أن سقوطها لا يتوقف، بينما جسدها ثابت مكانه لا يتحرك
صمت قاصي للحظات ثم قال بصوت خشن قاسي.

(أريد تقبيلك الآن أكثر من أي وقت مضى)
ارتفع حاجباها بدهشة و هي تسمع منه هذا الفاصل الغير متوقع، الا أنها تمالكت نفسها و قالت بهدوء
(أخشى أن هذا غير ممكنا)
الا أنه قال بجدية، و بنبرة أكثر اصرارا و جنونا
(تيماء، اصعدي إلى لأقبلك، ثم سأتركك تنزلين بعدها)
ابتسمت مجددا، الا أنها قالت بتلقائية
(تعرف بأنك لن تفعل)
أجابها بإهتمام
(ما هو هذا الذي لن أفعله؟، تقبيلك أم السماح لك بالنزول؟).

اسبلت جفنيها بخجل، ثم أجابت بخفوت
(السماح لي بالنزول)
رد قاصي بنفس الجدية، (أتعلمين لماذا لن أسمح لك بالنزول بعدها؟)
أفلتت منها ضحكة قصيرة، فاشتعلت نبرته وهو يسألها جادا
(هل تخجلين يا تيماء؟، بدأت أشك في هذا الامر بعد الفترة التي مكثتها معي، محاولة اغرائي بشتى الوسائل، ترتدين ملابس داخلية و خارجية لو قمت بتبديل أماكنها لما اختلف الأمر كثيرا)
بهتت ابتسامتها قليلا، ثم قالت بفتور
(ظننتك فقدت رغبتك بي).

لم يرد عليها، بل سمعت صوت تأوها حارا قبل أن يقول بصوت جاد
(اصعدي إلى و سأجيبك)
لعقت تيماء شفتها، ثم قالت بصوت مرتجف قليلا
(أنا أحتاج للإبتعاد عنك قليلا، أنا لم أعد أحتمل كل هذا التوتر الذي تفرضه على أعصابي، و إن حملت بطفلك، فلن يكون هذا مناسبا له)
قال قاصي بجفاء مفاجىء
(هل لي بطلب واحد؟)
أجفلت تيماء قليلا، الا أنها قالت بصوت متردد...
(إن أمكنني، ماذا تريد)
قال قاصي بنبرة سوداوية قاسية...

(لا تذكري موضوع الطفل أمامي مجددا، لا اريد السماع عنه، بل لا أريد سماع كلمة طفل مطلقا، لقد كرهت الأطفال بسببك و بسبب وجهك الفاقد لدماء الحياء)
ارتجف قلب تيماء بين أضلاعها، الا أنها قالت بخفوت
(كان هذا اتفاقنا)
هدر قاصي بها بعنف
(اللعنة على هذا الإتفاق، انسيه، لقد تراجعت عنه)
ساد الصمت بينهما مجددا، فقالت بخفوت واه
(اذن، لن يكون أمامي سوى السفر في أقرب وقت).

سمعت صوت أنفاسه المتحشرجة، الا أنه قال أخيرا بصوت لا يقبل الجدل
(ليس هذه المرة يا تيماء، ليس هذه المرة يا مهلكة، سأكون ملعونا لو تركتك تبتعدين عني مجددا)
أوشكت على رفض ما يقوله بحزم، الا أن صوت مكالمة واصلة اليها على الإنتظار جعلها تنظر الى الشاشة، ثم قالت متنهدة
(ثريا تتصل بي، سأغلق معك الخط الآن)
نادها بعنف كي لا تفعل، الا أنها أغلقت الخط و كأنها تغلق الباب أمام قلبها الخائن...

و ما أن أجابت اتصال والدتها بفتور، حتى وصلها صوت امها باكية شاهقة و هي تهتف
(تيماء، تعالي إلى يا ابنتي، أنا أحتاجك)
استقامت تيماء جالسة و هي تقول بقلق
(لماذا تبكين بهذا الشكل يا أمي؟، ماذا حدث لك؟)
أجابتها ثريا من بين شهقاتها المرتاعة...
(لقد ضربني، الحقير ضربني بشدة حتى تورم وجهي...

رتمى على الفراش وهو ينظر الى السقف بملامح متجهمة سوداوية...
أقسم أنه استطاع سماع نبرة الضعف و الحنين في صوتها، لكن اتصال أمها جعلها تغلق الخط في وجهه...
هتف بحنق وهو يضرب المصباح الجانبي بكل قوته حتى سقط ارضا متحطما الى شظايا
(تبا، تبا)
أغمض عينيه وهو يحاول السيطرة على غضبه، ثم همس لنفسه من بين أسنانه
(لا بأس، ستلين، ستلين، و ان شاء الله لن تكون حاملا أبدا)
فتح عينيه و همس متضرعا.

(يا رب لا تجعلها حامل كي لا تهرب به)
رنين الباب جعله يعقد حاجبيه للحظة، قبل أن تبرق عيناه وهو يستقيم ليقفز عن الفراش الذي جمعهما سويا، ثم اندفع اليه وهو متأكد من أنها هي، لقد جائت اليه بملىء ارادتها...
فتح الباب هاتفا باسمها، و بالفعل كانت واقفة هناك...
ناظرة اليه برجاء و هي تقول بصوت متوتر...
(قاصي أنا).

الا أنها لم تستطع النطق بكلمة أخرى اضافية، فقد اختطفتها ذراعه كالخطاف وهو يحاوط بها خصرها ليجذبها اليه قبل أن يغلق الباب، بينما أغلقت شفتاه كل باب أمام كلماتها المتبعثرة...
اتسعت عينا تيماء بذهول أمام هذا الطوفان الذي لفها فجأة، و لم تستطع التفكير بتركيز...

بينما كان يقبلها بضراوة و تسرع، يسترق الأنفاس من رئتيها قبل حتى أن تغادرها، و كلما همست باسمه مرتجفة أسكتها مجددا الى أن أنزلها أرضا وهو يلصقها بالجدار خلفها، ثم انحنى اليها بقوة كادت تطبق على أنفاسها...
حاولت دفعه، لكن أصابعها كانت مرتجفة بشدة أما كفاه فقد خلعتها عنها حجابها بقوة وتخللت أصابعه خصلات شعرها السلكية المتشابكة، فبات مجرد الهرب بوجهها من مرمى شفتيه يعد معجزة...

أغمضت تيماء عينيها بشدة و هي تتذكر قبلة، قبلها لها و هي في الثامنة عشر من عمرها، و على الرغم من أنها لم تكن ذكرى مشرفة لها، تحاول أن تتناساها، لكن في هذه اللحظة تذكرتها...
فإحساسها كان تقريبا واحدا، كيانها بأكمله يرتعش بين جموح قبلاته...
مختل، نعم هو كذلك، ما بين جنون غضبه و جموح عاطفته، يتحول الى مختل في لمح البصر...

رفع وجهه عنها قليلا وهو يمسك بفكها يتحسسه بأطراف أصابعه كلها، بينما كان ينظر اليها بطريقة غريبة، ثم انحنى مجددا ليقبل تلك الوحمة الوردية، و همس لها
(مذاقك لعنة، كلعنة عشقي التي تسري بدمك، مهلكة أنت يا صغيرة)
أغمضت عينيها في استسلام تام، بينما هبط وجهه اليها مجددا و بشغف أكبر، لكن ما أن شعرت بتمادي أصابعه فوق جسدها حتى فتحت عينيها و أفاقت لنفسها و هي تهتف بقوة و ذهول
(قاصي توقف، انتظر، اسمعني لحظة).

الا أنه همس لها بصوت أجش مبحوح
(بل استمعي انتي لي أولا)
ثم عاد ليقبلها مجددا، فاغمضت عينيها و كادت أن تذوب بين ذراعيه، الا أنها تذكرت مجددا فصرخت بقوة و هي تحاول مقاومته دون جدوى...
(قاصي، أرجوك، لقد جئت اليك لأمر طارىء)
أومأ برأسه بجنون بينما خصلات شعره تلامس بشرتها الحارة وهو يهمس لها
(أعرف، و فرقة الطوارىء كلها جاهزة لإستقبلالك).

أمسكت بوجهه بكلتا كفيها و بكل قوتها صرخت أمام عينيها كي يستجمع قواه العقلية و الجسدية...
(قاصي، أنا سأسافر الى أمي حالا، لقد ضربها الحقير زوجها و تبدو في حالة صعبة)
بدا غبيا، بل شديد الغباء وهو يقول بصوت أجش
(هاه؟)
شددت من قبضتيها على جانبي وجهه و هي تعيد ببطىء كي يستوعب
(أمي، مضروبة، ضربها زوجها، و أنا سأسافر اليها لكن الوقت متأخر و فكرت أن).

أغمض قاصي عينيه قبل أن يخفض رأسه هامسا بسيل من الشتائم النابية مما جعلها تترك وجهه لتضع كفيها على أذنيها حتى ينتهي، و ما أن فعل حتى رفع وجهه ينظر اليها بنفس غير ثابت...
و هي تنظر اليه بوجل و كفاها على أذنيها، قفال بصوت يائس
(أنت، و أمك)
صرخت بصرامة و قسوة
(اياك و اهانة أمي، هل تأتي معي، أم أذهب وحدي؟)
أخذ نفسا عميقا، قبل أن يسحبها من ذراعيها ليلقي بها بكل قوته على الأريكة، بينما قال بصوت غير مستقر.

(انتظريني هنا الى أن أستعد، سيل من الماء البارد لم يكن من أحلامي في هذه اللحظة)
استقامت تيماء لتجلس على الأريكة و هي ترتب الفوضى التي أحدثها في ملابسها، بينما كانت تختلس النظر اليه وهو يبتعد، الى أن اختفى، فزفرت بقوة و هي تهمس بضعف
لقد سقطت على ملىء وجهك يا بائسة،.

خلال عشر دقائق كان ينزل على الدرج بجوارها الى أن وصلا أمام باب شقة السيدة امتثال التي كانت تقف أمامه و هي تنتظرهما بقلق، و ما أن رأتهما حتى رفعت وجهها و قالت
(هل ستسافرين بالفعل يا تيماء؟، الوقت متأخر، لما لا تنتظرين حتى الصباح؟)
ردت تيماء بتوتر و هي تربت على ذراعها، (لن يمكنني قضاء الليلة و أنا أعرف بأن أمي مصابة، ادخلي أنت و ارتاحي و سأتصل بك ما أن أطمئن عليها).

نظرت امتثال الى قاصي بنظرة غاضبة، ثم قالت بإستياء
(و هل أنت واثقة من سفرك معه؟، لما لا أتصل بإبني وهو يسافر معك)
ارتفع حاجبي قاصي وهو يقول بنبرة مخيفة جعلتها تتراجع للخلف قليلا
(تتصلين بإبنك كي يسافر معها؟، لماذا، هل هي متزوجة من ذكر بط؟)
أخذت امتثال تتراجع أمام ملامحه المرعبة، بينما جذبته تيماء من ساعده و هي تقول بنفاذ صبر
(ادخلي سيدة امتثال رجاءا، سأتصل بك لاحقا).

و ابتعدت تجر قاصي خلفها، الا أنه ظل ملتفتا برأسه الى امتثال وهو ينظر اليها بنظرة مهددة، ثم قال بصوت خافت
(لن نتصل بك لاحقا، ادخلي سيدة أنتينال رجاءا)
اتسعت عيناها و هي تهتف بغضب من خلفهما
(بماذا دعوتني للتو؟، أنت أيها البغل، بماذا دعوتني؟).

أخذت تيماء تدق الجرس باستمرار و توتر، بينما وقف قاصي بجوارها عاقدا حاجبيه، ثم سألها
(ألست تملكين مفتاحا للشقة؟)
ضربت تيماء جبهتها بقبضتها و هي تقول بارتباك
(نعم، نعم، لقد نسيت من شدة التوتر)
فتحت حقيبتها بأصابع مرتعشة، و أخذت تبحث عن المفاتيح الى أن أخرجتها، لكنها لم تستطع فتح الباب بسبب ارتجاف أصابعها، حاولت مرة و مرتين، الى أن أمسك قاصي بكفها وهو يقول بصوت خافت قوي
(أنا سأفتح).

رفعت عينيها تنظر الى عينيه الآمنتين في تلك اللحظة، فتركت له المفاتيح و تراجعت خلفه...
ففتح الباب ثم دخل قبلها وهو ينادي بحذر
(ثريا، لقد وصلنا، ثريا).

تبعته تيماء بخطى متعثرة، الى أن سمعا صوت نشيج أمها آتيا من غرفة النوم فتجاوزته و هي تجري الى الغرفة بحثا عنها، و ما ان دخلتها حتى وجدت الفراش فوضويا، و اغطيته مبعثرة كحال كل شيء في الغرفة، بينما تتبعت مصدر الصوت الى أن وجدت أمها تجلس أرضا على الجهة الأخرى من الفراش و هي تغطي وجهها و تبكي بصوت مكتوم...
اقتربت تيماء منها بحذر و هي تقول بخفوت
(لقد أتيت يا أمي، أمي).

حين لم ترفع ثريا وجهها، انخفضت تيماء بجوارها و أمسكت بكفيها تبعدهما عن وجهها بحرص و هي تهمس
(أمي)
لكن و ما أن فعلت و رفعت ثريا وجهها حتى شهقت تيماء بقوة من منظر وجه ثريا المخيف...
فقد كان متورما و الكدمات المتفرقة تملأه، بينما شفتيها نازفتين كأنفها و بهما جرح عميق...
همست تيماء بارتياع
(يالله! ما كل هذا! ماذا فعل بك؟)
ارتجفت شفة ثريا السفلى بشدة كالأطفال الى أن همست بإختناق
(تيماء، تيماء).

ضمتها تيماء اليها بكل قوة و هي تهمس لها بخفوت بيينما قلبها يرتجف بقوة
(لا بأس، أنا هنا و لن أتركك، لا تخافي).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة