قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السبعون والأخير

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السبعون والأخير

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السبعون والأخير

(لا بأس، أنا هنا و لن أتركك، لا تخافي)
كانت ثريا ترتعش بقوة بين ذراعي تيماء التي ضمتها اليها اكثر...
لقد اعتادت على فعل هذا كثيرا منذ طفولتها، كلما مرت أمها بنوبة ضيق و كم كانت كثيرة تلك النوبات...
لكن الآن كانت تشعر بحال أمها مختلف، فقد كانت ترتعش حقيقة، و جسدها ينتفض بالكامل، بينما لاحت في عينيها نظرة انكسار مؤلمة، لم تراها تيماء بعيني ثريا من قبل...
نظرة اذلال موجعة...

وضعت تيماء شفتيها على جبهة ثريا و همست لها بخفوت
(اهدئي يا أمي، خذي نفسا عميقا و هدئي من روعك)
رفعت ثريا وجهها المتورم المكدوم، تنظر الى عيني تيماء بذهول و ارتياع، ثم هتفت بصوت مختنق من بين شهقات بكائها المتتالية
(انظري ماذا فعل بي هذا الهمجي، انظري الى وجه أمك يا تيماء).

رفعت تيماء كفيها، لتمسك بجانبي وجه ثريا برفق و هي تطالع الألوان المخزية التي تفسده، فأظلمت عيناها و توترت شفتاها اكثر، الا أنها قالت بصوت قاس مشتد
(كان عليك توقع هذا منه يا أمي، إنه مجرد كتلة عضلات تبيع نفسها بالمال لمن تحتاجه، فماذا كنت تنتظرين منه أكثر!)
رفعت ثريا كفها لتلامس بأصابعها المرتعشة موضع الكدمات و هي تهمس ذاهلة بشرود و كأنها تهذي...

(و أنا لم أمنع عنه شيئا، لقد كنت أعطيه كل ما يطلب، حتى قبل أن ينطق به، لكنه لم يكتفي بي و بدأ في خيانتي، ثم لم يعد يكتفي بما أعطيه من مال، فبدأ يطلب أكثر)
انعقد حاجبي تيماء بشدة و هي تستمع الى أمها، ثم قالت بنفس النبرة القاسية
(و ما الذي حدث و فجر الأمور الى هذا الحد؟)
نظرت أمها اليها بعجز و هي تهز رأسها بإشارة غير واعية، ثم رفعت كفها تقول يائسة.

(واجهته بخيانته لي، فلم ينكر، حينها جن جنوني و أمرته أن يبتعد عن الحقيرة التي يعرفها، أو أكثر، لا أعلم كم مرة قام بخيانتي فيها، الا أنه رفض بكل وقاحة، حينها لم أستطع السيطرة على جنوني، ظللت أصرخ و أصرخ و أخبرته بألا ينتظر مني قرشا واحدا، و صفعته، حينها بدا لي و كأنني حررت وحشا لا أعرفه من قيوده، رأيته أمامي يتحول الى كائن مرعب، صفعاته و لكماته تتوالى على وجههي قبل حتى أن أستوعب ما يحدث).

صمتت فجأة و هي تنظر الى عيني تيماء مجددا، ثم التوت شفتاها على نحو مثير للشفقة و هتفت بنشيج ذليل...
(لم أستطع فتح فمي بكلمة من شدة الرعب، ظللت أتلقى ضرباته الى أن وقعت أرضا، فغادر بعدها و لم يعد حتى الآن)
أغمضت تيماء عينيها دون كلمة، بينما بدا وجهها شاحب و ملامحها ميتة المشاعر...
أما قاصي فكان يراقبهما عن بعد بعينين عميقتي النظرات، داكنتين حد الظلام...

لطالما كانت تيماء بالنسبة له هي الأم، و ثريا هي الإبنة...
منذ طفولتها و هي التي تعتني بثريا بكل طريقة ممكنة، بينما ثريا، تزيد من تدللها على تيماء حتى بلغت درجات من الأنانية في الكثير من الأحيان...
لم يستطع الآن الشعور بأي تعاطف مع ثريا، على الرغم من وجهها المكدوم المثير بالشفقة، و عمرها الذي بات لا يسمح بما حدث لها...
الا أن تعاطفه بالكامل كان تجاه تيماء...

فملامحها الباهتة الصامتة دون تعبير كانت اكثر اثارة لكل خلايا تعاطفه معها، و حتى خوفه عليها...
لو كان الأمر بيده لأمسك بيدها و سحبها بعيدا عن هنا و لتتحمل ثريا نتائج اختيارها...
فتحت تيماء عينيها أخيرا و كانتا متوهجتين كحجرين من الفيروز القاسي، ثم قالت بصلابة
(تعالي معي يا أمي، لنرحل من هنا، هيا)
رفعت ثريا وجهها الممتقع الى تيماء، و هي تمسح دموعها بأصابعها المرتجفة، ثم قالت بصوت باهت مرتعش.

(الى، الى أين؟)
عقدت تيماء حاجبيها بشدة و قالت بصوت أكثر حزما و تعجبا
(ستعودين معنا بالطبع، أتيت كي آخذك معي)
كان هذا دور قاصي كي يعقد حاجبيه بشدة، بينما برقت عيناه رفضا، الا أنه لم يتكلم، بل تكلمت ثريا قائلة بصوت أكثر ارتباكا
(لكن هذا بيتي، لماذا أتركه؟)
ارتفع حاجبي تيماء لتقول بحدة.

(ستتركيه لأنه سيعود في أية لحظة، فهو كالكلب لن يترك عظمة حتى ينهيها تماما بأسنانه، ثم يليقي بها بعيدا ما أن تصبح غير ذات نفع)
بدت ثريا أكثر ترددا و ارتباكا أمام عيني تيماء الذاهلتين، الى أن قالت أخيرا بصوت خفيض ذليل و هي تخفض وجهها أرضا...
(لكن يا تيماء، إنه، ربما، أقصد)
صمتت و هي لا تدري كيف تصوغ كلماتها، فعقدت تيماء حاجبيها بشدة و هي تقول بشك ذو نبرة شرسة شريرة...

(أمي! هل تنوين البقاء معه بعد ما فعله؟ أم أنني أتوهم فقط بسبب نوازع حاقدة داخلي لا أكثر!)
ساد الصمت لبضعة لحظات، الى أن رفعت ثريا عينيها العاجزتين الى تيماء و همست
(افهميني يا تيماء، لو كان يريد تركي لكان طلقني قبل أن يخرج، لكنه لم يفعل، أعي أنه أخطأ خطأ لا يغتفر لكن ربما لو)
انتزعت تيماء كفيها قبل ان تقفز على قدميها واقفة و هي تصرخ بذهول و استنكار.

(لا أصدق ما أسمع، لا أصدقك، هل وصلت الى هذا الدرك من اذلال الذات؟، و لماذا؟، ما هو هذا الشيء الساحر الذي يقدمه لك و لا تستطيعين الإستغناء عنه!)
هتفت ثريا بألم و قسوة في نفس الوقت
(اخرسي يا فتاة و لا تنسي أنني أمك)
ضحكت تيماء عاليا بعصبية و هي تصرخ بقسوة أشد
(بل نسيت، نسيت هذه المعلومة منذ سنوات، فأنت دائما ما تضعين نفسك في موقف العاجز و أقوم أنا برعايتك و حمايتك و الدفاع عنك).

صرخت ثريا هي الأخرى و هي تبكي بشكل مثير للشفقة و النفور
(لم أتصور يوما أن تقفين أمامي هذه الوقفة و تذليني بما قدمته لي من مساعدة، بينما أنا منحتك الحياة نفسها و رفضت التخلص منك كما كان يريد والدك)
كانت تيماء تنظر اليها بذهول و قد عجز الكلام عن الخروج الى شفتيها، مما ترى و تسمع...

فهزت رأسها و هي تحاول جاهدة السيطرة على نفسها و أعصابها، ثم لم تلبث أن أغمضت عينيها و رفعت وجهها تأخذ نفسا عميقا مرتجفا، قبل أن تعاود النظر الى وضع أمها المخزي، ثم قالت بقسوة و برود
(لماذا اتصلت بي اذن طالما أنك لا تريدين تركه؟، ما هو المطلوب مني؟)
لعقت ثريا شفتيها المرتجفتين، ثم همست بعد فترة طويلة.

(ربما لو بقيت معي حتى يعود، و قمت بتهديده و تحذيره من أن يكرر فعلته، فلن يعيدها و هو يرى بعينيه أنني لست وحيدة)
فغرت تيماء شفتيها أكثر، و هي تظن أن الذهول قد نضب لديها، لكن على ما يبدو أن أمها لن تتوقف عن ابهارها...
لذا قست ملامحها و قالت بنبرة صارمة لا تقبل الجدل
(انسي، لست هنا لأتفاوض مع هذا القذر، لا أصدق أنك أحضرتني الى هنا سفرا ليلا، كي أحذره من أن يضربك مجددا! أي ذل هذا؟).

لمعت عينا ثريا فجأة بالغضب على الرغم من احمرارهما و الكدمات المتورمة من حولهما، فصرخت بقوة و عنف
(اذن اخرجي، اخرجي من هنا، لا اريد منك شيئا)
بهتت ملامح تيماء للحظة و لم تستطع الرد، فتدخل قاصي في تلك اللحظة وهو يفك ذراعيه، ليمد كفه اليها قائلا بصوت عميق قاتم
(هيا بنا لنغادر يا تيماء، لقد قمت بما عليك)
انتبهت ثريا لوجوده للمرة الأولى، فالتفت رأسها اليه و هي تنظر اليه بذهول غاضب، قبل أن تصرخ به.

(أنت، أنت السبب، لقد كنت أنت السبب منذ سنوات في ابتعاد طفلتي عني، أنت من غذيت الكره بداخلها تجاهي عاما بعد عام)
انعقد حاجبي قاصي بشدة، بينما ازداد لونه عينيه قتامة، الا أنه قال متهكما بسخرية
(حين أذكر كم مرة ساعتك فيها خلال هذه السنوات، و كم كنت تلجئين إلى كي أساعدك على قضاء أمر ما، أشك في ما تقولين الآن)
صرخت ثريا من مكانها أرضا كحيوان محتجز يصارع في لحظاته الأخيرة و ينهش كل من يقترب منه.

(لأنك كنت تتقاضى ثمن ما تفعل، لا تجعل من نفسك فارسا شهما)
ضحك قاصي بقسوة وهو يقول بنفس الإستهزاء
(لقد رقصت معي في هذه الشقة الكثير من المرات، و أكلت معكما مرات أكثر، أما عن ما تقاضيته فقد كنت أساعدك سرا بالمال حين تنفقين كل ما لديك، حتى بعد سفر تيماء)
فغرت تيماء شفتيها بذهول و هي تنظر الى أمها مصدومة، الا أن ثريا اخفضت رأسها عن مرمى عيني ابنتها بخزي، ثم لم تلبث أن صرخت مصممة.

(أنا فتحت لك بيتي و أشفقت على حالك، الا أن وضيع الأصل يظل وضيعا طوال عمره، فقد انتهزت الفرصة و تسللت الى ابنتي و جذبتها اليك بخسة، بينما كنت أنا عمياء)
شعرت تيماء رغم عنها بالوجع عليه، فنظرت اليه بلهفة خائنة، و بداخلها حافز غادر يدفعها الى أن تقترب منها و تضمه الى صدرها بقوة...

أما هو فقد تحولت ملامحه الى القناع الصلب الذي تعرفه جيدا و الذي يخفي تحته ألما لا يسمح لأحد بأن يراه، ثم قال ساخرا بطريقة مهينة
(تلك هي نفس اسطوانة سالم الرافعي، حاولي ابتكار اتهام جديد، فقد مللتها)
صرخت ثريا بجنون و غضب غير مسيطر عليه.

(لماذا أتيت؟، كيف تمتلك الجرأة كي تأتي الى هنا برفقة ابنتي بعد كل ما تسببت فيه من ألم لها، منذ أن عرفتك و هي تقع في كل مصيبة و اخرى حتى لم تعد قادرة على رفع رأسها بين الناس)
ساد صمت موحش بين ثلاثتهما، و تحولت ملامح قاصي الى قناع آخر، أشد رمادية و تحجر، أما عيناه فنظرتا الى عيني تيماء التي كانتا تنظران اليه بصمت، نظرات عميقة، شديدة العمق...
و طال بهما النظر...

الى أن قطع هذا التواصل المؤلم، ثم أعاد عينيه الى ثريا و قال باستهزاء
(بصراحة لا أرى هنا من لا تستطيع رفع سواك، من شدة الصفعات و الكدمات التي تملأ وجهك، و هذا بالتأكيد لأنك توقفت عن الدفع)
صرخت تيماء فجأة
(قاصي)
نظر اليها بنظرات متحجرة، خالية المشاعر، الا أنها صرخت مجددا بنبرة تهديد غاضبة
(انتظرني خارجا، رجاءا)
نقل قاصي عينيه بينهما، فهتفت تيماء بحدة
(أريد الكلام مع أمي على إنفراد).

رمقها قاصي بنظرة أخيرة، لم تفهم معناها تماما، الا أنه خرج من الغرفة ناظرا الى ثريا بنظرة اشمئزاز...
لم يبتعد، لم يجد القدرة أو الرغبة في الإبتعاد خوفا من أن تملأ ثريا رأس تيماء بأفكار شريرة كي تهجره...
فوقف بجوار الباب، مستندا بظهره الى الجدار وهو يرهف السمع دون خجل أو أي ذرة من تأنيب الضمير...
اما تيماء فقد أخذت نفسا مجددا أشد حدة، ثم التفتت الى أمها و قالت بصرامة.

(هذه هي فرصتك الاخيرة يا أمي، دعيني أساعدك و أبدل لك ملابسك، ثم نخرج من هنا لنحرر ضده بلاغا في قسم الشرطة، ثم تسافرين معي)
هتفت ثريا بألم و رفض
(أنت لا تفهمين، هذه هي فرصتي الأخيرة بالفعل، هذه الزيجة هي فرصتي الأخيرة بعد سنوات من الحرمان، إنها التعويض عن)
صرخت بها تيماء بقسوة
(أي تعويض؟، أي تعويض بالله عليك، انهضي و انظري الى نفسك في المرآة، أي تعويض تنتظريه من شخص كهذا؟).

كانت ثريا في أسوأ حالاتها فباتت تجرح دون وعي، و قالت بصوت يحترق
(كيف لك أن تلوميننني على شيء أنت تفعلين أسوأ منه، أنا من تنظر الى نفسها؟ بل انظري أنت الى نفسك، انظري لكل شيء خسرتيه بحياتك لأجله...
تذكري كل اهانة مررت بها بسببه...
هل نسيت هروبه منك و ما فعله بك والدك بسببه؟
هل نسيت طفلك الذي حملته داخلك شهور طويلة، ثم فقدته وهو غير موجود بجوارك...

و ماذا عن دراستك التي توقفت؟، أخبريني عن انجاز واحد قمت به منذ عودتك من السفر، و منذ عودتك اليه؟، لا شيء، صفر، بل كنت تخسرين فقط...
و الأغرب من كل هذا هو أنك لازلت معه، فكيف لك أن تلومينني)
أغمض قاصي عينيه في الخارج، وهو يرجع رأسه للخلف، يضربها في الجدار دون صوت، بينما انقبضت كفاه بشدة حتى ابيضت مفاصل أصابعه...
أما تيماء فقالت بصوت بارد، لم يستطع محو نبرة الألم به.

(اتركي قاصي خارج الموضوع يا أمي، لأن الأمر يختلف)
صرخت بها ثريا
(لا شيء يختلف، أنت اخترت أن تقضي حياتك جريا خلف رجل أقل منك في كل شيء، الأصل و النسب و التعليم و المال، و لم أستطع إيقافك، فهل تلومينني الآن لمجرد أنني أريد البقاء مع رجل أقل مني عمرا!)
كانت تيماء مطرقة الوجه طويلا و هي تسمع ثريا بصمت، بينما خلا وجهها من أي تعبير...

و ما ان انتهت أمها من تفريغ كل ما بداخلها من شحنات سوداوية، حتى ساد صمت كئيب مضني لبضعة لحظات، ثم رفعت تيماء وجهها...
و نظرت الى عيني ثريا طويلا، الى أن صرخت فجأة بنبرة مريعة جعلت أمها تنتفض مكانها
(قاصي، قاصي، قاصي، الجميع يحاكمني على وجود قاصي في حياتي، بينما عليكم أن تحاكموا أنفسكم قبلا، أنتم السبب، أنتم من أقحمتوه الى حياتي، حين اشتد عودي قليلا، لم جد غيره في حياتي، والدا و أخا و صديقا...

أتدرين ماذا؟، لقد اكتشفت مؤخرا أنني لم أحظى يوما بصديقة، لأنني لا أستطيع، لم أتعلم كيفية الحصول على أصدقاء، افتقدت وجود الأخت الوحيدة و التي لم أعرفها...
افتقدت وجود أبي الذي رفضني تماما و كأنني مجرد حيوان أجرب، و أرسل قاصي نيابة عنه
و افتقدت وجودك، لطالما تتشدقين بالتمنن على لأنك لم تتخلصين مني كما طلب منك أبي، الا انك نسيت شيئا هاما بعدها، نسيت أن تكوني أما...

لم أشعر بك أم لي أبدا، بل كنت مجرد حملا على عاتقي، ادافع عنك و أرعاك...
و أثناء ذلك كنت أشعر بالوحدة، وحدة لم يملأها سوى قاصي...
أنتم السبب في لعنة اسمها قاصي الحكيم دخلت الى حياتي و تمكنت منها...
لأنه حل محل كل واحد منكم و ملأ الفراغ الذي تركه...

عليكم أن تحاكموا أنفسكم قبل أن تحاكموني على علاقتي به، فربما لو كنت نشأت في أسرة سوية، من والدين و أخت، لما كنت سمحت له بدخول حياتي، و لكنت رأيت الفروق التي تحدثت عنها بكل تقزز للتو)
أطبق قاصي عينيه بشدة و هو مستمرا في ضرب رأسه بالجدار دون صوت...
لو أرادت تيماء قتله قتلا بطيئا، لما نجحت كما فعلت للتو...
ليس هناك أكثر وضوحا من كلامها، أو أكثر قسوة ووجعا...

أما تيماء فكانت تحاول التقاط أنفساها من صدر مجروح نازف، ثم رفعت وجهها الباهت تنظر الى أمها و تابعت بصوت ميت
(لا عليك يا أمي، انسي كل ما قلته للتو، فلا أظنك قد استوعبت منه شيئا كما هي العادة، أنا هنا لأساعدك، تعالي معي، قبل أن يدمر هذا الوغد حياتك أكثر)
كانت الدموع تغرق وجه ثريا و هي تنظر الى تيماء بنظرات شبه كارهة، مما جعل تيماء تبادلها النظر بدهشة، لما تنظر أمها اليها بهذا الكره...

ماذا أخطأت في حقها بعد كل هذه السنوات، كي تنظر اليها بهذه النظرة...
فقالت بصوت قاتم.

(أمي، هل تدركين أن أبي هو من ينفق عليك و على زوجك حتى الآن، بناء على صفقة عقدتها معه كي أترك قاصي للأبد، و حتى هذه اللحظة لم أره منذ عودتي لقاصي، لذا توقعي في أية لحظة أن يمنع عنك المال، فلماذا سيبقى معك زوجك حينها؟، و حتى إن لم يفعل والدي، الا تشعرين ببعض الخزي كونه ينفق عليك و على زوجك الشبيه باللوح الخشبي طولا و عرضا؟، بالله عليك تحلى ببعض الكرامة).

التوت شفتا قاصي في ابتسامة ميتة قاسية، و تتوالى صفعات المهلكة له بكل انتقام...
بينما هو يقف هنا و يسمع، لا يملك المزيد كي يفعله...

أما ثريا فهتفت بألم و عذاب
(افهميني يا تيماء، لقد ضاع شبابي كله بسببك، كان بإمكاني الزواج، الا أنني رضخت لأمر والدك في عدم الزواج كي تنشأين مرفهة، فهل هذا جزائي؟، أنت لا تعرفين ما هو شعور امرأة مثلي ضاع شبابها و هي تتمنى وجود رجل في حياتها، أنت، كيف أشرح لك، أنا)
صمتت و هي تطرق بوجهها غير قادرة على المتابعة...
اما تيماء فكانت تنظر اليها متقززة، ثم قالت بصوت جامد.

(أفهمك، و افهم ما تحتاجينه من هذا الحيوان زوجك، الا أنه ثمن بخس جدا لقاء الإمتهان الذي تعيشينه بالمقابل، إنها مجرد شهوة مخزية يا أمي، لرجل يبيع نفسه بالمال لإمرأة أكبر منه سنا، لو كنت مكانك لما)
قاطعتها ثريا و كل جسدها ينتفض من اهانة ابنتها لها دون حياء أو رحمة، فقالت بصوت أسود، شديد السواد
(لو كنت مكاني؟، يبدو أن عقاب والدك لك منذ سنوات جعلك غير قادرة على ادراك ما أمر به).

شحبت ملامح تيماء فجأة و تراجعت للخلف و كأنها تلقت صفعة مفاجئة أوشكت على رميها أرضا...
لكن و قبل أن تستوعب ما قالته أمها تماما، و التي بدا عليها الندم مما نطقت به للتو...
كان قاصي قد اقتحم الغرفة و أمام عينيها الذاهلتين، انحنى ليلتقط أول ما طالته يده، و كان خف ثريا البيتي، ثم رماها بها فضرب صدرها دون ضرر...

شهقت ثريا و اختفت الألوان من وجهها بذهول و صدمة مما حدث للتو، بينما رفعت تيماء كفيها الى فمها المفتوح بنظرات مصعوقة...
أما قاصي فقد صرخ في ثريا بجنون
(أي أم أنت كي تعايري ابنتك بشيء كهذا مقارنة بك؟، حتى الحيوانات لا تفعل هذا؟)
لم تستطع ثريا الرد و هي تنظر اليه بنفس الصدمة المريعة، و الخف ملقى بين أحضانها...
أما تيماء فقد وجدت صوتها و صرخت به بغضب.

(قااااااااااااصي! هل جننت؟، ما الذي دهاك؟، كيف تضرب أمي؟)
الا أن قاصي لم يرد عليها، بل التفت اليها و مد يده ليمسك بكفها و جرها خلفه بقوة وهو يقول بنبرة خطيرة
(هيا، لنخرج من هنا، قبل أن أرتكب جريمة)
حاولت تيماء مقاومته دون جدوى وهو يسحبها بلا جهد حتى خرجا في اتجاه الباب الشقة...
الا أنهما توقفا فجأة وهما يريان الباب يفتح فجأة، ليدخل زوج والدتها وهو يصفر غير مباليا أو عابئا بشيء...

توقف مكانه مصدوما وهو ينظر الى قاصي و تيماء، فرفع حاجبيه للحظات، ثم لم يلبث أن قال ببرود
(أهلا أهلا، ما سر هذه الزيارة المتأخرة؟، على الأقل كان عليكما اخبار رجل البيت قبلا)
نسيت تيماء قاصي تماما و حاولت تجاوزه مندفعة و هي تصرخ بجنون، تنوي الهجوم على زوج أمها
(أي رجل هذا أيها الحقير الحيوان الدنيء، هذا البيت بيتي و انت غير مسموح لك بالبقاء هنا لحظة اضافية، لكن ليس قبل أن أمزق وجهك بأظافري).

كانت تهجم بكل قوتها محاولة الوصول اليه، الا أن قاصي كان يمنعها وهو يكبل خصرها بكلتا ذراعيه، فصرخت بجنون و هي تلوح بذراعيها و ساقيها
(اتركني، اتركني يا قاصي، اتركني)
الا أنه حملها بين ذراعيه من خصرها حتى أرجعها الى باب غرفة أمها ثم أوقفها على قدميها و هدر بها
(ادخلى الى أمك و لا تفتحي الباب مطلقا).

فتحت تيماء شفتيها تنوي مجادلته، الا أن نظرة واحدة من عينيه كانت كفيلة بأن تجعلها، تدرك أنه وصل الى الحد الأقصى من اثارة غضبه...
لذا امتثلت و تراجعت الى الغرفة مغلقة الباب خلفها بإحكام...
أما قاصي فقد استدار عائدا الى حيث يقف زوج ثريا ناظرا اليه بإستهانة وهو يلاعب مفاتيحه، ثم قال وهو ينظر اليه يقترب ببطىء بملامح قاتمة خطيرة
(هل من المفترض أن أخشاك الآن؟)
رد قاصي بصوت هادىء الا أنه مخيف.

(هذا يعتمد عليك، يمكنك أن تطلقها و تنسحب محتفظا بآخر بقايا كرامتك، او تريقها هنا فنضطر الى تنظيف المكان خلفك و أنت تخرج جريا بدون ملابسك)
ضحك رامي بعصبية وهو يحرك مفاتيحه متوترا، وهو يرى قاصي يخلع ساعة معصمه في حركة شهيرة قبل أي معركة أو اشتباك بالأيدي، ليضعها جانبا بحرص...
ثم نظر الى رامي و قال ببساطة معتذرا
(اعذرني، فهي غالية الثمن و لن يسعني تعويضها. فبخلافك أنا لا أعتمد على مال النساء، كال).

هتف رامي بانفعال
(أنصحك الا تحاول استخدام القوة الجسدية معي. فأنا لم اتردد على مراكز التقوية الرياضية من فراغ)
كان قاصي قد وصل اليه، فقال بنفس الهدوء بينما سبقت قبضته لسانه و هي تطير الى وجه رامي
(أما أنا فأروض خيول يا روح أمك)
تراجع رامي مترنحا حتى ارتطم ظهره بالباب من خلفه بقوة، بينما نزفت أنفه، لكن عيناه لمعتا شرا وهو يستعيد توازنه سريعا ليحاول الهجوم على قاصي شاتما بأقذع الألفاظ...

لكن قاصي كان في انتظاره فانحنى أرضا بسرعة على عقبيه، فاختل توازن رامي فوقه، فاستقام قاصي ليحمله للحظة فوق ظهره ثم يلقي به على الأرض بكل قوة...
تأوه رامي بألم، الا أن قاصي لم يرحمه، بل أفرغ به كل شحنات وجعه لما سمع من حوار بين تيماء و امها.
فجثا على صدر رامي و أخذ يضربه عشوائيا، بينما الأخير يحاول المقاومة دون جدوى، فهو لن يكون أقوى من فرس هائج بأي حال من الأحوال...

صرخ قاصي به وهو يمسك بمقدمة قميصه يضرب رأسه في الارض
(طلقها، حالا)
هتف رامي بصوت يرتعش وهو يبصق دما من فمه
(لن أطلقها قبل أن أسمع هذا منها)
رفع قاصي قبضته ينوي ضربه من جديد، الا أن صوت ثريا أتى من خلفه بائسا حزينا
(هل تبقيني لو علمت أن والد تيماء قد أوقف ما يمنحي من مال؟، و أنني لم أعد أمتلك اي منه، و عليك الإنفاق على كلينا؟، لو فعلت فأنا أنوي مسامحتك).

التفت كل من قاصي و زوجها اليها، و ساد صمت مشحون و كل منهما يلهث...
الى أن قال رامي أخيرا بصوت متخاذل بعد وقت طويل
(أنت، طالق)
أغمضت ثريا عينيها بأسى و هي تغطي وجهها بين كفيها المتعرقتين، بينما جذبه قاصي من ملابسه التي تمزقت حتى أنهضه على قدميه، ثم دفعه في اتجاه باب الشقة صارخا
(ابتعد من هنا و لا تدعني أرى وجهك على بعد شارعين من هذه البناية).

خرج رامي متعثرا، يلملم أذيال الخيبة، بينما صفق قاصي الباب خلفه بعنف، ثم استدار ينظر الى ثريا و تيماء التي خرجت من الغرفة خلفها...
و لم تستطع مقاومة قلبها أكثر، فضمتها الى صدرها و هي تقول بخفوت
(لا تفعلي هذا بنفسك يا أمي، أقسم بالله رجل كهذا يطلق عليه اسم أخجل من أن أخبرك به، مجرد اقترابك منه، قذارة عليك التطهر منها)
تشبثت ثريا بملابس تيماء باظافرها و هي تبكي و تشهق بعنف، ثم همست بإختناق.

(لم أشعر يوما أنني كبرت كما أشعر الآن، أشعر أنني عجوزا جدا، جدا)
ربتت تيماء على كتف أمها و هي تضمها اليها أكثر ثم همست بخفوت
(لا يا أمي أنت لست عجوزا أبدا، أنت امرأة جميلة، بل جميلة جدا، لا تفكري فيما ضاع من عمرك، فكري فقط ان لكل مرحلة عمرية جمالها، لا تحتاجين لرجل كي يثبت لك كم أنت جميلة، يكفي أنني أغار منك حتى الآن).

ثم ابتعدت عنها و سحبتها الى المرآة المعلقة في الرواق فوقفت خلفها و همست لها برفق و هي تربت على شعر ثريا الناعم.

(انظري تحت تلك الكدمات القبيحة، ستجدين امرأة جميلة، عيناها بلون أخضر شارد، و شعرها لا يزال ناعما كالحرير، جسدها جميل جدا بالنسبة لعمرها، الذي هو بالمناسبة ليس كبيرا جدا، هناك الكثير من النساء تتزوج في مثل عمرك، المهم أن تجد الرجل الذي يصونها في هذا العمر، فمرحلة التحمل قد انقضت يا أمي، انت تحتاجين رجلا يرعاك و يربت عليك، يحترم روحك قبل جسدك، يقدرك و يكون بجوارك في المرض قبل الصحة).

سقط وجه ثريا و هي تبكي بعنف، بينما تيمار تربت على شعرها بحنان و تهمس لها بكلمات خافتة كي تهدئها من تلك الحالة الشرسة التي انتابتها...
فعلى الرغم من كل شيء، ليس من السهل لإمراة في مثل عمرها أن تتعرض الى تلك المعاملة المذلة...
حتى والدها لم يفعل بها هذا...

رفعت تيماء وجهها الى قاصي الذي كان واقفا عن بعد يراقبهما متحفزا لكن بنظرات عميقة، تكاد أن تحاصرها من كل مكان، و آذان تتربص بكل كلمة تخرج من بين شفتيها و كأنه يراقبها في كل صغيرة و كبيرة تصدر عنها...
تكلمت تيماء أخيرا و قالت بصوت خافت
(يمكنك العودة يا قاصي، فأنت و أمي لن تتوافقا حاليا و أنا لن أتركها)
لم يرد عليها على الفور، بل ظل ينظر اليها بنفس النظرة، ثم قال أخيرا بصوت قاتم لا يقبل الجدال.

(استعدا و حضري اغراضها، سأنتظركما في الخارج، سنحرر محضرا ضده أولا، ثم نعود سويا، الى بيتي)
قال كلمته الأخيرة مشددا على أحرفها، بصوت يتحداها أن ترفض، و بصراحة، لم تجد القوة على الرفض...
فوجودها مع ثريا وحدهما في هذه الفترة مؤلم لكليهما، فكلا منهما توجع الأخرى بعد حصيلة لا بأس بها من الذكريات السيئة، ووجود قاصي معها، يطمئنها، يشعرها بأنها ليست وحيدة.

حتى و إن كان وجوده مؤقتا، ثم يختفي بعدها كعادته دائما...
لكن هذه المرة ستختفي هي قبله، كي تقي نفسها من جزع اختفاءه...

علي الصباح كانت تيماء قد دثرت أمها جيدا بعد وصولهم الى شقة قاصي...
و كانت أمها تعاني من حالة من الإعياء الشديد، و الهبوط، فساعدتها على تبديل ملابسها برفق، اعطائها بعض العصير، حتى تساقط رأسها في شبه إغماءة...
وقفت تيماء تنظر اليها طويلا بملامح غائمة حزينة، ثم تنهدت و خرجت من الغرفة لتغلق الباب خلفها بحذر...
الا أنها وقفت مكانها و هي ترى قاصي واقفا في نهاية الرواق، متحفزا و يداه في منتصف خصره...

ينظر اليها بتلك النظرة المحاصرة الى أن قال بصوت خفيض
(الى أين؟)
ترددت قليلا و هي تنظر حولها...
صحيح، الى أين؟
و بدا ترددها على ملامحها الشفافة فسألها رافعا حاجبه الشرير
(هل تنوين العودة الى شقة امتثال و ترك أمك لي؟)
ارتبكت تيماء أكثر، الا أنها قالت بصلابة
(بالطبع لا، سأظل هنا، الى أن)
صمتت و هي لا تدري بماذا تتابع كلامها الا أن قاصي سألها بإصرار و تحدي
(الى أن، ماذا؟).

تنهدت تيماء و هي تحك رأسها، ثم قالت بإرهاق
(هلا أجلنا تلك الحرب الباردة الآن من فضلك، فأنا لم أذق النوم منذ يومين)
لانت ملامحه قليلا، ثم قال بخفوت
(اذن تعالي لترتاحي)
وقفت مترددة ترفض التحرك اليه و قالت بارتباك
(س، سأذهب لأنام بجوار أمي)
رفع قاصي حاجبه وهو يسألها بنبرة مستفزة
(لماذا خرجت اذن؟)
برقت عيناها غضبا و هتفت بحدة
(هل هو تحقيق؟، خرجت لأشرب).

بدت ملامحه صلبه، جافة و كأنه لم يصدقها، الا أنه قال أخيرا بخشونة
(نامي على الأريكة و سأحضر لك الماء)
الا أن تيماء قالت من بين أسنانها...
(أخبرتك بأنني س)
الا أنها لم تجد الفرصة كي تتابع كلماتها المستفزة، فقد تحرك تجاهها بسرعة و حملها فوق كتفه ليلقي بها على الأريكة بفظاظة...
استقامت تيماء و هي تصرخ...
(توقف عن التصرف بهذه الطريقة).

الا أنها صمتت مجددا و اتسعت عيناها و هي تراه يخلع قميصه ببساطة ثم القاه بلامبالاة...
فقالت بحذر
(ماذا تفعل بالضبط؟)
لمعت عيناه بخبث و ظهر العبث بهما، فارتفع حاجبيها توجسا و قالت بتوتر و حدة
(لا تتهور يا قاصي، أمي في الداخل، و نحن هنا على الهواء مباشرة).

التوت شفتاه في ابتسامة أكثر عبثا وهو يخلع حزام بنطاله الجلدي، ثم ألقاه هو الآخر، بينما اقترب منها ببطىء، فاستقامت تنوي الهرب، الا أنه ألقى بثقله عليها حتى احتجزها تماما في زاوية الأريكة...
أخذت تقاومه و هي تضرب صدره هاتفة همسا من بين أسنانها...
(ابتعد يا قاصي، أمي في الداخل)
الا أنه قيد معصميها تماما، ثم مال اليها ينظر الى ملامح وجهها المشتعلة، بعينين أكثر اشتعالا، ثم همس لها بصوت خافت.

(ما هي حكايتك؟، مرة تتحججين بإمتثال و مرة بثريا، ما تلك التصرفات الخاصة بشوؤن الطلبة؟، لا ينقصني سوى طابع دمغة و ختم منهما كي أقترب منك)
برقت عيناها بغضب أكثر و هي تحاول مقاومته اكثر، لكن دون جدوى فضحك بشر وهو مستمتع بمقاومتها، فصرخت به
(الا تمتلك قطرة دم يا قاصي؟، أمي ملقاة في الداخل مضروبة و مصابة و أنت لا تفكر سوى في، في)
ابتسم برقة و قال مداعبا حين اختنق صوتها.

(أفكر بماذا؟، أتعلمين، أحيانا تكونين أكثر النساء جرأة ووقاحة، بينما احيان أخرى تخجلين حتى من الإشارة الى العلاقة الطبيعية بين الرجل و زوجته)
زمت شفتيها المتبرمتين و هي تبعد وجهها عنه و قد ارتبكت ملامحها أكثر...
فتابع قاصي يقول ببساطة
(ثم أن والدتك نائمة في الداخل و ليست ملقاة، فقد قمنا بإنقاذها و حصلت على طلاقها من شبيه الرجال هذا، لذا فقد حققنا نصرا علينا الإحتفال به).

نظرت اليه تيماء بحدة و هتفت بغضب
(الإحتفال الوحيد الذي أريده حاليا هو النوم)
ضحك قاصي وهو يراها تعود للتلوي من جديد، فقال بنبرته المتسلية
(لم يكن في تفكيري سوى النوم على صدرك، لكن مقاومتك العنيفة تلك تشير إلى بأفكار أخرى)
توقفت تيماء عن الحركة على الفور، و سكنت تماما، فضحك قاصي بصوت عال مما جعلها ترمقه بحنق لتهمس من بين اسنانها
بغل، توقفت ضحكات قاصي و انعقد حاجاه بشدة ليقول بجدية خطيرة
(ماذا قلت للتو؟).

قالت تيماء بصوت متراجع
(لم أقل شيئا، هلا تركت معصماي، لقد تخدلا)
ظل قاصي ينظر اليها نفس النظرة الغاضبة، ثم حررهما أخيرا، و قال بصوت فظ
(أنصحك ان تنامي اذن قبل أن تتسببي لنفسك في قص لسانك الأطول منك هذا)
قالت تيماء بإستياء
(هل سأنام و نحن في هذا الوضع؟، أنت تنام فوقي)
انزاح قاصي قليلا مما جعل وزنه يسحقها في الزاوية أكثر و ما أن انتهى حتى عقدت حاجبيها و قالت بحدة.

(لم يحدث أي تغيير يذكر سوى أن ركبتك مغروسة في بطني)
أبعد قاصي ركبته عنها و قال بجفاء
(هذا أقصى ما يمكنني فعله لك، يمكنك النوم الآن لأنني متعب بعد السفر ذهابا و عودة)
و دون أن ينتظر منها ردا كان قد وضع ذراعه تحت رأسه و أغمض عينيه ببساطة، فظلت تيماء تنظر اليه طويلا و هي تشعر بدفئه يحيط بها من كل مكان...
أغمضت عينيها بضعة لحظات و هي تتمتع برائحته التي تتخلل كيانها كله، ثم فتحتهما لتنظر اليه مجددا و همست.

(قاصي)
رد عليها دون أن يفتح عينيه
(هممممممم)
سألته بخفوت
(هل نمت؟)
ساد الصمت لبضعة لحظات. ، ثم قال بخفوت أجش
(نعم، نمت و حاليا أحلم بنا أنا و أنت و نحن نمثل فيلما خارجا، انتظري لحظة، آه ها أنت ترتدين بعض الريش، بينما أتت نسمة لطيفة طيرته كله، اممممم هل ازداد وزنك قليلا؟، هذا رائع)
تأففت تيماء و هي تقول بنفاذ صبر
(انت أحيانا تصبح شخصا لا يطاق)
فقال ببساطة.

(أتمنعين عني الحقيقة و الحلم أيضا؟، أي قاسية الفؤاد أنت؟)
أسندت ذقنها الى قبضتها المضمومة قليلا، و اخذت تتأمله...
ملامحه، كم تعشق ملامحه الغريبة...
ليس الجميع يحبها، فهي جذابة للبعض، و منفرة للبعض الآخر بشعره الطويل المبعثر، لكنه في كل الأحوال لا تنقصه الرجولة أبدا...
قالت تيماء بخفوت
(أرجو أن تتوقف كوابيسك).

فتح قاصي عينيه ببطىء و نظر اليها قبل أن يمد أصابعه ليبعد خصلاتها المجعدة عن وجهها، ثم قال بصوت أجش
(توقفت منذ أن احتللت أحلامي)
ارتبكت و اهتزت حدقاتها قليلا، فأخفضت وجهها تنظر الى خط عنقه، و ظلت صامتة، بينما سألها بهمس حذر
(ماذا عن كوابيسك أنت؟، هل توقفت؟، لا أذكر أنني سمعتك تنازعين في نومك منذ أن انتقلت الى هنا)
همست تيماء بفتور دون أن ترفع عينيها اليه
(توقفت منذ الولادة).

بهتت ملامح قاصي قليلا، الا أنه استمر في ابعاد خصلات شعرها التي تثير عواطفها أكثر بملمسها السلكي الخادش لبشرة أصابعه، ثم قال بخفوت
(جيد)
أومأت رأسها ثم قالت دون حياة
(يبدو أن عقلي الباطن يقوم بعمل تحديث لأكثر ما يؤلمني، فيبدو ما سبقه أقل أهمية)
تنهد قصي تنهيدة حارة مما جعلت انفاسه تلفح وجهها فشعرت بالدفىء أكثر و تنعمت به للحظات، ثم همست
(قاصي)
هذه المرة رد عليها بصوت أجش عميق.

(أنا مستيقظ، فأنت في الحقيقة أجمل من الأحلام، شعرك السلكي ووجهك المتمرد، و عضلاتك المتحفزة استعدادا لضربي إن قمت بأي حركة دنئية، نعم أنت في الواقع أجمل بكثير من الأحلام)
ابتسمت تيماء رغما عنها، ابتسامة من تاقت للسعادة، للحياة دون فواجع...
الا أنها قالت بخفوت دون أن تستطيع رفع عينيها اليه
(أشكرك على وقوفك معنا اليوم، أعتدت أنا و أمي على التصرف وحدنا، لكن أحيانا وجود رجل بجوارنا يشكل فارقا).

عقد قاصي حاجبيه وهو ينظر الى السقف بصمت، ثم قال بصوت خفيض
(أنت زوجتي)
و كأن تلك الكلمة كانت كل ما يحتاجه من تفسير، الا أنه تابع و قد استمتع بمذاقها في فمه
(أنت زوجتي يا مهلكة، و منذ اليوم ستجديني بجوارك دائما، سأكون عائلتك و كل أهلك، ما أن تحتاجيني حتى تجديني، لن تسافري إلى و لن أسافر اليك، لا مزيد من الصفقات أو إعادة التفكير، أعدك الا أخذلك مجددا).

صمت قليلا وهو يتابع النظر الى السقف بعينين مظلمتين، بينما لم تتوقف أصابعه عن اللعب بخصلات شعرها، ثم قال أخيرا.

(ظننت أنني كنت معك في سنوات طفولتك و مراهقتك، ظننتك أنني كنت هناك كلما احتجت الي، لكن اليوم و أنا أسمع الى كلماتك مع ثريا، أخذت أفكر. ، كم مرة سافرت اليك فيها؟، مرة كل شهر؟، ثم مرتين في الشهر، و حين أدركت بأنني أود رؤياك تحججت فأصبحت مرة كل اسبوع، و أقصاها حين ارتبطنا بعهد بيننا، كنت آتي اليك مرتين في الأسبوع، لكن ماذا عن كل الأوقات التي قضيتها بمفردك؟، تعتنين بثريا و تراعينها كطفلة، تتحملين نوبات بكائها و رغباتها و طلباتها التي لا تتوقف، تحلين كل مشكلة توقع نفسها بها، و تدبرين أمر المال الذي يرسله اليكما والدك كي لا تنفقه بالكامل، ثم تقومين بأعمال المنزل و تتابعين دراستك فتتفوقين بها؟).

صمت قاصي قليلا بينما رسم الحنين و الندم في عينيه ذكريات بعضها جميل عذب بشكل لا يصدق، و البعض الآخر يجعله يشعر كم تخلف عنها فلم يمنحها حياته بكاملها، بكل أنفاسه، لأنها تستحق...
ثم تابع بصوت أكثر همسا...

(أين كنت أنا؟، كنت أحارب شعورا بالخزي من توق بداخلي تجاهك، لم يعرف ضميري معنى التأنيب بالنظر الى امرأة الا بعد أن عرفتك، كنت تهليكني، فحاولت محاربة هذا الشعور، غير مدركا أي حرب من الوحدة و المجهود تخوضين، ليتني احتللت كل لحظة من حياتك لأعلم معنى أن أكون بجوارك متى احتجت الي)
صمت قليلا، ثم نظر اليها وهو يهمس بصوت أجش
(تيماء أنا).

الا أنه صمت حين رآها قد غابت عنه في سابت عميق و قد انتظمت أنفاسها من التعب، فظل يلامس شعرها الى أن تابع بصوت جاف هامس
(أنا أعشقك يا مهلكة)
ثم ضمها اليه بقوة جعلتها تئن قليلا، بينما أغمض عينيه وهو يشم عبير شعرها الأخاذ الشبيه برائحة الحياة...
و مضت الدقائق طويلة وهو يتنعم بوجودها بين أحضانه، يتذكر كم أبعدها عن الجميع كي يظل الوحيد لها...
كي تظل في حاجة له دائما...

فتح عينيه و هو يحاول ابعاد الطعم المرير في حلقه و الشبيه بطعم الصدأ...
كم كان أنانيا معها؟، حتى الطفل الذي تمنته من الحياة كي يشاركها اياها فقدته سريعا دون مقدمات...
نظر قاصي اليها طويلا، ثم تحرك لينتزع ذراعيه من حولها بحذر كي لا تستيقظ...

و ما أن حررها حتى نهض من الأريكة، ثم بحث عن هاتفه الى أن وجده، و كان الوقت حينها في الصباح الباكر كما اعتاد أن يتصل بها دائما، فطلب رقمها و انتظر الى أن وصله صوتها الهادىء الملول
(هل أنت موصوف لي في مثل هذه الساعة من صباح كل يوم؟، لقد بدأ زوجي يشك بنا)
ضحك قاصي ضحكة مختصرة، خشنة، ثم قال بهدوء
(كلمة زوجي خارجة من فمك كالخبز البائت، يؤسفني أنها لا تليق بك)
ردت عليه مسك بإمتعاض.

(يبدو أن الزواج بأكمله لا يليق بي)
عقد قاصي حاجبيه، ثم سألها بحذر
(لماذا أشعر بأن عبارتك الفظة تحمل أكثر مما تبدو! ما الأمر يا مسك؟)
أجابته بقوة و ثقة
(لا تشغل بالك بي، بعض العوائق التي توقعت حدوثها، المهم، دعك مني و أخبرني عن سبب اتصالك، من المؤكد أنك لم تتصل بي كي تقول صباح الخير)
قال قاصي بصوت متردد، غير راض تماما...

(مسك، ألم تخبريني منذ فترة عن رغبتك في زيارتنا أنا و تيماء؟، اممم حسنننننا، أنا موافق و أمري الى الله، هاتي زوجك و تعالي)
ارتفع حاجبي مسك و هي تسأله بدهشة
(هل هذه دعوة لزيارتكما؟، لأنني أكاد أسمع دعائك الداخلي كي أرفض)
رد قاصي بصراحة
(هذه الدعوة أتت على مضض و أنتم بالفعل غير مرحب بكم في حياتنا في مثل هذه المرحلة، الا أنني أحكم ضميري للمرة الأولى)
قالت مسك محاولة الإستيعاب.

(أنا حقا لا أفهم، لماذا ترغم نفسك على استقبالنا، هل أجبرتك تيماء على ذلك؟)
قال قاصي بصوت مبهم
(بل هي لم تعرف بعد، أنا أريدكما أن تكونا جزءا من حياتها، و ليث و سوار كذلك)
عقدت مسك حاجبيها بدهشة حقيقية، ثم قالت ببطىء
(ليث و سوار؟، ما الذي تحاول فعله تحديدا؟)
نظر قاصي من النافذة بنظرة طويلة ثم قال أخيرا بصوت مستسلم
(أنوي تكوين عائلة لها، فإن حدث و تركتني، لا تكون وحيدة دون سند أبدا).

نكمل في الجزء الثالث من طائف في رحلة أبدية.

تمت
الجزء التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة