قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس عشر

(و أنا أعشقك يا مهلكة، أعشقك)
للحظات كانت لا تزال تبكي و كأنها لم تسمع منه شيء، الا أن الكلمات سرعان ما اخترقت حاجز دموعها الضبابي ببطىء، ثم تخللت عقلها كي تستوعب ما نطق به للتو...
أعشقك يا مهلكة، أعشقك، توقف نشيجها و هي تنظر أمامها بذهول صامت...
هل نطق حرفيا بالكلمات التي طالما انتظرتها منه؟، أم أنها من شدة البؤس الذي تحياه، بات الوهم يصور لها أماني خادعة؟

رفعت عينيها المنتفختين اليه، تنظر الى ملامحه المتجهمة رغم ذلك البريق الظافر في عينيه...
بريق قادر على احراقهما سويا، فقد نال أقصى ما تمناه يوما...
أن تحمل له المهلكة ابنة عائلة الرافعية طفلا من صلبه، ابنه، ابنهما سويا...
همست تيماء بعدم فهم
(ماذا قلت للتو؟)
التوى فم قاصي في ابتسامة قاسية وهو يهمس بصوت متحشرج
(هل أتأهجأ لك ما قلت؟)
أومأت و هي تقول بجدية بينما عيناها تنظران اليه بذهول ضائع...

(نعم، من فضلك)
أمسك قاصي بوجهها بين كفيه، يرفعه اليه ليتأمل اللون الفيروزي في عينيها الحمراوين المعذبتين...
أصابعه تتحرك على وجنتيها في حركة باتت تعرفها منه تماما و كأنه يحادث ملامحها سرا، لمسا، دون الحاجة للنطق
ثم لم يلبث أن أخفض يده ليضعها على بطنها المسطحة، ليوليها حصتها من حواره الصامت...
ثم همس بجموح خافت
(أ، ع، ش، ق، ك، يا مهلكتي).

فغرت تيماء شفتيها المرتعشتين بينما الدموع تنساب على وجنتيها الشاحبتين بصمت، من عينين واسعتين، ذاهلتين، ثم هزت رأسها و هي تهمس باختناق غير مستوعبة بعد
(أنت، أنت لم تنطقها من قبل)
التوت شفتي قاصي في ابتسامة اكثر قسوة وهو يقول ساخرا
(و هل كان سماعها ضرورة؟)
صرخت تيماء فجأة بكل الجنون الذي انفجر بداخلها في لحظة واحدة لتضرب صدره بقبضتيها
(نعم كان ضرورة، تبا لك يا قاصي الحكيم، و أقصى ضرورة).

اخذت تشهق و تبكي بانهيار حتى سقطت جبهتها بتعب على كتفه، بينما هو يمسك بكتفيها الصغيرتين يدعمها و فمه يغرق بين موجات شعرها الكث وهو يغمض عينيه بقوة، و يده تتحسس بشرة بطنها برقة غريبة...
كان يرتجف اكثر من ارتجافها هي، يطبق جفنيه بقوة و فكه يتوتر ألما...
الا أنه كان الألم الأكثر روعة من كل آلامه السابقة...
رفعت تيماء وجهها بعد فترة طويلة، لتمسح وجنتيها بظاهر يدها و هي تهمس باختناق.

(من الأفضل أن نتم هذا الحوار بعد أن أنظف نفسي، و أنظف الأرض)
نظر اليها قاصي و كان قد نسي أنها تقيأت للتو، فنظر إلى الفوضى بينهما قبل أن يقول بقلق
(ليس هذا أمرا هاما، المهم أن يكون قد زال غثيانك)
هتفت به تيماء بحدة
(بلى هو أمر هام جدا، فأنا أريد أن أكون نظيفة الفم على الأقل حين تختار أن تعترف لي بحبك للمرة الأولى).

ابتسم قاصي رغم عنه وهو ينظر بعطف الى وجهها الطفولي الشاحب، تحتله فجوتان كبيرتان فيروزيتان، بلون أحمر يحيط بهما يجعل منها طفلة بجدارة...
و تسائل كيف يمكن لتلك الطفلة القصيرة المجنونة أن تقود دفعة جامعية كاملة، تستحوذ على انتباه كل طالب منهم، كما أسرت انتباهه منذ المرة الأولى التي اقتحمت فيها حياته...
نهض قاصي من مكانه و جذبها بحرص وهو يقول بصوت اجش خافت
(تعالي، سأساعدك).

نهضت تيماء مستندة الى ذراعيه و هي تنظر الى الكارثة التي تسببت بها على بساط الغرفة فهمست باستياء مختنق
(تبا لك يا قاصي، من بين كل الأوقات خلال عشر سنوات، لا تختار سوى تلك اللحظة الكئيبة كي تعترف لي بحبك)
ابتسم بجموح و أنفاسه تحترق بعبيرها، حتى لو تقيأت كل يوم، ستظل مهلكة...
الا أنه همس بنفس الصوت الغريب المتحشرج
(لو كنت أعلم انك تهتمين لسماعها بهذا القدر لكنت أسمعتك اياها كل يوم).

هتفت تيماء و هي تضربه مجددا، على صدره و كتفيه و ذراعيه
(كاذب، كاذب، لقد أخبرتك، لا مرة، بل مئات المرات و أنت تتهرب من نطقها و كأنني أتوسل الحب منك)
أمسك بمعصميها و نظر الى عينيها المتورمتين الحانقتين، ثم قال بخفوت
(أنت لم تتوسلي الحب مني يوما، بل تطالبين بحقك و أنا أيضا، لهذا حاولت افهامك مرارا، ما بيننا ليس مجرد حب، بل هو حق، ملكية)
أغمضت عينيها و هي تهز رأسها بعنف.

(أخرس، أرجوك اخرس، لا أريد سماع أي من هذا الكلام، أنا أريد تنظيف نفسي و الإستعداد لسماعها مجددا، فلا تفسد الأمر كما تفعل دائما، و كأن الإفساد هو المهمة الأكثر نجاحا لك على مر السنوات)
ابتسم قاصي بشيطانية وهو يهمس لها محيطا خصرها بذراعه
(لن أفسد أي شيء هذه المرة، تعالي يا أم الصبي و انا سأساعدك)
رفعت وجهها اليه و هي تستسلم الى مساعدته لها، فقدميها غير ثابتتين بعد، ثم قالت بدهشة.

(هل قررت أنه سيكون صبي؟، أنت حقا أخرق يا قاصي، و لا أعلم ما الذي ينتابك كلما تكلمنا عن هذا الطفل!)
اتسعت ابتسامته أكثر و مد يده الى بطنها يقول بشوق
(الا تعلمين؟)
تنهدت تيماء باستسلام و هي تذوب للنظرة المهلكة في عينيه الى بطنها، نظرة حمقاء كلها سعادة و انتصار و كأنه ينظر الى الطفل فعلا، و كأنه يرى ملامحه و يكاد أن يضمه الى صدره
من يستطيع مقاومة تلك النظرة!

نظرة رجل عاشق، عاشق لهذا الطفل الذي جعله يعترف بعشقه لأمه للمرة الاولى بعد عشر سنوات كاملة...
تنهدت تيماء مرة أخرى و هي تهمس بقلب يرجف
(ساعدني أرجوك، أرفض اتمام هذا الحوار على هذا الحال المزري)
ساعدها قاصي حتى دخلت، و ما ان اوشك على الدخول معها حتى اوقفته بدفعة من يدها الى صدره و هي تقول بصرامة...
(توقف هنا، اريد بضع لحظات مع نفسي، احتاجها)
عبس قاصي وهو يقول بحدة.

(لن اتركك بمفردك على هذا الحال، فقد تصابين بالدوار، فتقعين ارضا و تدق عنقك أو تكسر رأسك)
مطت تيماء شفتيها و هي تقول بامتعاض
(دعني أخمن، أنت قلق على طفلك)
رد قاصي عابسا دون تردد
(طبعا)
وقفت تيماء تنظر اليه بيأس، ثم همست أخيرا بفتور
(لا تقلق فهو طفلي أنا أيضا، لن أصيبه بأي أذى)
استند قاصي بكفه الى اطار الباب و مال اليها ليقول متجهما...

(اخر ما اتذكره هو انك كنت تقفزين على منصة القفز كالبلهاء دون اي حس بالمسؤولية)
برقت عينا تيماء و هي تهتف بحدة
(و فكرة من كانت تلك؟، اظن ان من اقترحها كان أكثر بلها ممن نفذها، خاصة انه اصر عليها)
ثم مطت شفتيها و أخذت تهز رأسها و هي تقلد صوته قائلة
(أريد رؤية النجوم بعينيك، اقفزي يا تيماء، أعلى يا تيماء، كوني أكثر عتها يا تيماء)
انعقد حاجبيه بشدة وهو يهتف بها غاضبا.

(أنا لم أكن أعلم بحملك، أنت من كنت تعلمين منذ البداية و تخفين الأمر كاللصوص و قطاع الطرق، لا أصدق مدى مبالغتك و أنت توزعين أدلتك الكاذبة في كل مكان، ولو أنك بالغت بشكل شديد الغباء لما كنت شككت في الأمر...
أشارت اليه تيماء و هتفت بقوة
(قلت انك شككت في الامر، اي انك مدانا مثلي تماما، بل اكثر مني، لانك في الواقع انت من لا يحمل اي حس بالمسؤولية، أنا هي من تتحمل دائما عقبات لحظات تهورك).

عقد قاصي حاجبيه وهو يقول بسخرية مستاءة
(الا تبالغين قليلا! لم نتم شهر زواج بعد، لذا اخلعي نظارة استاذة الجامعة تلك و تذكري تلك الأيام التي كان طولك فيها لا يتعدى الشبرين و انت قفزين على قدم واحدة بضفيرتيك المسننتين و انت تصرخين. احتاج الذهاب للحمام حالا يا قاصي، لا استطيع الصمود اكثر يا قاصي، )
ضربته تيماء بقوة على صدره و هي تقول غاضبة بشدة.

(توقف عن هذا، توقف عن هذا، و الا ذكرتك بالمرة التي اضطررت فيها الى قضاء حاجتك على الطريق)
عقد حاجبيه و قال محتجا...
(كنت مضطرا)
تأففت تيماء و هي تصرخ ملوحة بكفيها بين موجات شعرها الكث
(انا فعلا لم اعد اطيق الكلام معك)
صمت قاصي لعدة لحظات قبل ان يقول محتدا
(لا بأس اذن، لا داعي فعلا لنتابع الحوار الذي أردته، فهو حوار اخرق من الاساس و انا غير مقتنع بالكلام عنه اصلا).

هجمت عليه تيماء بقوة تجذبه من مقدمة قميصه كما يقبض على المتهمين، ثم استطالت على أطراف أصابعها و هي تهمس بأرنبة أنفها امام فمه بنبرة تهديد شرسة خطيرة.

(اياك، اياك حتى التفكير في محاولة الهرب من هذا الحوار، ستعيدها مرارا و تكرارا و تفسرها و تعيد شرحها حتى أملها، قد تكون حاليا في أغبى صورك بعيني لكنني لن أتنازل عن الحصول على هذا الإعتراف كما يجب أن يكون، هل فهمت أم أستخدم معك القوة الجسدية كي تستوعب أهميته بالنسبة لي؟)
تلاقت نظراتهما الشرسة الطويلا بشرارات متقدة أشعلت المكان من حولهما، قبل أن يخفض قاصي نظرته اليها عمدا، وهو يقول بخفوت.

(حسنا، استخدام القوة الجسدية في اثبات مدى اهمية هذا الإعتراف لك يوحي إلى بأفكار لا ترفض)
اخفضت تيماء عينيها تنظر الى حيث ينظر فاستوعبت أنها لا تزال واقفة بملابسها الداخلية، فارتبكت و هي تقول بحدة
(هذا هو كل ما يشغل بالك، حاول أن ترتقي قليلا)
ارتفح حاجب قاصي بخبث وهو يقول معبرا
(أرتقي! لا أستطيع فعل هذا و أنا معك، خاصة و أنت تبدين على هذا الشكل البري، مغطاة بالوحل و الأوساخ)
صرخت تيماء و هي تضربه مجددا.

(هذا ليس وحلا، انها مجرد فضلات من التقيؤ، ربما لو أمكنك أن تحمل طفلا بداخلك لقدرت موقفي و تحليت ببعض مراعاة الشعور)
اقترب منها قاصي وهو يقول بخفوت عابث أجش
(تعالي الآن و سأثبت لك كم المراعاة التي امتلكها، رائحتك الآن تفوق العطور الغالية عندي جمالا)
ارتبكت تيماء قليلا، و ارتجف قلبها الغبي لهذا الاعتراف الذي بدا لا أجمل غزلا سمعته منه على الإطلاق...

يبدو أنه عاطفيا اليوم و يعاني من موجة اعترافات بالجملة، و هي ستستغل الأمر لتحصل على كل كلمة بخل بها خلال السنوات الماضية...
تراجعت تيماء للخلف و هي تقول بصرامة مزيفة
(أنا في حاجة للإختلاء بنفسي قليلا، و أنت اذهب و اغتسل و غير قميصك لأنني تقيأت عليك، ثم انتظرني الى حين خروجي)
قال قاصي بخشونة دون أن ينظر الى قميصه حتى...
(أنت لا تمتلكين سوى حماما واحدا، فأين أغتسل؟، في حوض المطبخ!).

هتفت تيماء بحدة و هي تضرب الباب المفتوح بقبضتها منهية الجدال
(نعم يا قاصي، اغتسل في حوض المطبخ لو اقتضى الأمر، و أريدك في أجمل حالاتك، لا مزيد من الجدال)
و دون ان تسمح له بالمزيد، دخلت الى الحمام و صفقت الباب بعنف أمام وجهه...
أما هو فقد ظل واقفا مكانه، ينظر الى الباب المغلق، و قد تغيرت ملامحه، فسقطت الأقنعة واحدا تلو الآخر...
قناع القسوة، يليه قناع السخرية، ثم قناع اللامبالاة...

و بقت ملامحه الحقيقية عارية مجردة من التخفي...
ملامح رجل متعب، مجهد، لم يعرف يوما سوى الشقاء، لكن الحياة لا تزال في عينيه المتوهجتين...
اليوم تأكد من وجود طفل له، ينمو برحم المرأة الوحيدة التي افسدت كل رغبة أخرى له في النساء على وجه الأرض لآخر يوم بعمره...
اليوم نال جزءا من انتقامه، جزءا من حياته، و جزءا من امرأته...
اليوم هو اليوم الذي تأكد فيه أن تلك المخلوقة لن تتركه و لو أزهق ارواحا و اهدر دما...

اليوم اصبح له من يدافع عنه بشراسة، نفس شراسة نيته على الإنتقام...
ابتعد قاصي عن الباب وهو يفك أزرار قميصه بينما عيناه تبرقان مع كل خطوة، الى ان خلعه و القاه بعيدا باهمال، ثم اتجه الى المطبخ ليحضر منه بعض ادوات التنظيف ليعود به الى غرفتهما...
و جثا على الأرض ينظف تقيؤها بكل قوة وهو ينظر الى باب الغرفة علها تظهر في أي لحظة...
انتهى من تنظيف الأرض و هي بعد لم تخرج...

فعاد للمطبخ و بدأ في تنظيف نفسه بأن انحنى على الحوض واضعا رأسه تحت الماء المنساب...
و ترك الماء يبرد من الجموح بداخله قبل أن يبدأ بتنظيف صدره ووجهه...
حين طال انتظاره لها اتجه الى الحمام عاقدا حاجبيه بقلق وهو يشعر بأنه لم يكن عليه تركها وحيدة بعد أن أصابها الغثيان.
فضرب الباب بقوة مناديا
(تيماء، لماذا تأخرت؟، هل أنت بخير؟).

كانت تيماء لا تزال واقفة مكانها لم تتحرك و هي تنظر الى نفسها في المرآة، بعينين واسعتين ووجه أحمر و شفتين فاغرتين...
قلبها يخفق بعنف و كأنه قادر على تحريك صدرها عوضا عن رئتيها المتخاذلتين...
الا أنها انتفضت على صوت قاصي الذي أفزعها...
فقفزت من مكانها و هي تنظر الى الباب بهلع، ثم لم تلبث أن صرخت بغضب
(ماذا، ماذا، ماذا، أخبرتك أنني أحتاج الى بعض الدقائق مع نفسي، الا يحق لي هذا؟)
هتف قاصي من الخارج بعنف.

(لقد تأخرت)
صرخت به بجنون
(بضعة دقائق مع نفسي رجاءا)
سمعت صوته وهو يتذمر شاتما مبتعدا و على الأغلب فهي المعنية بالشتائم التي جاد بها، لكنها لم تهتم بل أعادت عينيها الى المرآة تنظر الى نفسها مجددا بنظرة مختلفة...
كانت يدها مفتوحة على بطنها و البريق يرسم جمال لون عينيها الفيروزي...
و كأن اللون بها قد ازداد وهجا...
شيء ما تغير بها، شكلها تغير، لكنها لا تستطيع تحديد ملامح التغيير تماما...

هل الحمل أدى الى حدوث تغيير في جسدها بهذه السرعة؟ أم أنه اعتراف قاصي المفاجي لها على حين غرة هو ما أشعل الجمر الأزرق في عينيها!
كانت ترتعش حتى أنها أمسكت الحوض بكلتا قبضتيها تدعم نفسها ثم همست بخفوت شديد
(أنا أحمل طفلك داخل احشائي، و حبك في قلبي، وعشقك في أذني، فماذا ينقصني أكثر من هذا لأكون أسعد العاشقات؟، لماذا أشعر بالخوف؟ أين تلك القفزة المجنونة التي أقسمت عليها ذات يوم لو اعترفت لي بحبك؟).

صمتت قليلا و هي تلعق شفتيها المرتعشتين، ثم همست و هي تهز رأسها قليلا
(السعادة لا تصف ما أشعر به، في ساعة واحدة حظيت بنبأ حمل طفلك، و سماع اعتراف عشقك، فلماذا يخون الخوف سعادتي و يفسدها، ألن تكتب لي تلك السعادة صافية دون شوائب مطلقا؟)
عادت لتصمت و هي تتنهد رافعة يدها الى صدرها الخافق تهدىء رجفته ثم قالت بعزم و هي تنظر الى عينيها
(سأحصل على هذا الآعتراف كما يجب أن يكون).

أومأت باصرار مشجعة نفسها في المرآة، ثم أضافت بخفوت
(و لينتظر الخوف جانبا)
عند هذا القرار استدارت لتغتسل، ثم عادت الى المرآة مجددا و كانت سعيدة بأنها سبق و تركت في الحمام بنطالا من الجينز الضيق و قميص قطني قصير يليق بمراهقة...
حسنا لا يمكنها الاعتراض حاليا، فيكفي انها تعودت ترك بعض أدوات زينتها في الحمام كذلك، لذا فهي اكثر من راضية...

ارتدت ملابسها ووقفت امام المرآة بسرعة و هي تنفض شعرها يمينا و يسارا علها تحصل على الهيئة الأكثر جاذبية، لكنه كان دائما كسنابل القمح التي تطيرها الرياح دون ان تنام أو تهدأ...
اقتربت من المرآة و هي تظلل عينيها بكحل ثقيل اسود هامسة
(أفضل الإطلالات هي أقلها تحضيرا، سأصنع من نفسي اسطورة، يجب أن أكون اسطورة لأحصل على اعترافي).

التقطت احمر الشفاه ذو اللون الداكن و الذي تذكر نفسها كل ليلة بأن تضع بعضا منه لزوجها، الا أنها تنسى دائما...
حسنا ها هي قد تذكرت، هي حديثة العهد على الزواج و لا يستطيع أحد لومها...
انتهت و استقامت تنظر الى نفسها، و هي تقيم الوضع، فوجدت أنها تبدو كفتاة مقبلة على الحياة، متوهجة، و يمكنها القول أنها تبدو جميلة...
أخذت نفسا عميقا، ثم اتجهت للباب و فتحته بحرص قبل أن تخرج و هي تنظر حولها بحذر...

توقفت تيماء مكانها و هي ترى قاصي جالسا على الأريكة مستندا بمرفقيه الى ركبتيه، مخفضا رأسه، و بدا و كأنه شاردا ينظر الى الأرض بسكون...
الا أنه رفع اليها وجهه بسرعة ما أن سمع صوت خروجها...
مضت عدة لحظات و كل منهما ينظر للآخر، و قد بذل جهده ليكون في صورة مناسبة...
ادخلت تيماء اصابعها في جيبي بنطالها الضيق بصعوبة كي تخفي ارتجافها، قبل أن يربت قاصي على الأريكة بجواره وهو يقول بخفوت
(تعالي بجواري).

اقتربت منه ببطىء تتعثر في خطواتها، الى ان جلست بجواره، تنفض شعرها للوراء، ثم اخذت نفسا عميقا و هي تضحك بعصبية هامسة
(حسنا، حسنا، لنبدأ من البداية، أريد سماعها منك مجددا، لكن ببطىء هذه المرة، و لا تتعجل)
استدار قاصي اليها بكليته وهو يدقق النظر بها، متأملا قواما كان قادرا على اذهاب عقله في مراهقتها كلما تمايلت أمامه، و شعر مجنون، فتنته في تمرده على كل قوانين النعومة الرتيبة...

أما فمها الطفولي الشهي فقد تحول بمعجزة ما الى فم مغوي بلون دم الغزال، ناضج، ينتظر...
أما العينين الفيروزيتين فقد وضعتهما في اطار أسود جعل منهما تحديا مستفزا للناظرين...
و هذا القميص، يظهر ثمار أنوثتها بشكل أكثر استفزازا...
أخذ قاصي نفسا متزنا بصعوبة قبل أن يقول بخفوت
(تبدين جميلة)
نظرت اليه مجفلة، ثم ضحكت بعصبية أكبر و هي تقول مرتبكة.

(حسنا، لقد بذلت جهدي استعدادا لتلك اللحظة، لكن دعنا لا نبالغ، أنا هي أنا، لن يغريني احمر شفاه و قميص ضيق مكشوف، أبدو كفتاة مستهترة)
ضحكت مجددا بتوتر، لكن قاصي كان ينظر اليها بجدية و بعينين تلتهمان كل حركة من اصابعها و شعرها و حدقتي عينيها و ارتجافة شفتيها، ثم قال
(لطالما كنت فتاة مستهترة، لا تخدعي نفسك بتخيل العكس)
أغمضت تيماء عينيها و هي تأخذ نفسا عميقا، ثم فتحتهما لتقول مبتسمة من بين أسنانها.

(لن أغضب، لن أنفعل، دعنا فقط نعد الى موضوعنا، رجاءا)
فتح قاصي فمه ليتكلم، الا أنها سارعت بوضع أصابعها على فمه تمنعه فجأة و هي تخفض وجهها أمام عينيه، ثم همست بخفوت
(لا تفسدها أرجوك، الا ترى كم أنا مثيرة للشفقة في انتظاري لكلمة، مجرد كلمة)
ساد الصمت عدة لحظات لم ترفع رأسها خلالها خوفا من أن ترى السخرية التي تعرفها جيدا تظلل عينيه و اللامبالاة تقطر من وجهه...

الا أنها شعرت بأصابعه تمسك بيدها لتخفضها عن فمه ببطىء، ثم صوته يقول بخفوت أجش
(انظري إلى اذن)
رفعت تيماء عينيها اليه بتخوف الا أنها اصطدمت بتلك النظرة في عينيه، نظرة من يعاني و يظفر، يتعذب و ينتصر، من يمتلك...
قال قاصي اخيرا بخفوت.

(اعشقك يا مهلكة، أعشق تلك النبرة الحادة في صوتك و أعشق اهتزاز حدقتي عينيك و كأنك مختلة عقلية حين تغارين، أعشق وجودك في حياتي حتى أثناء غيابك، لكنك دمغت باسمي منذ سنوات و هذا ما كنت أحيا لأجله، أعشق كل حركة من أصابعك الخرقاء و طريقة عضك على زاوية شفتك حين يثبت لك خطئك، أعشق الوحمة الوردية بجوار شفتيك و أعشق اسمي حين أسمعه بصوتك، كلمة قاصي من بين شفتيك لها مذاق لم أعرفه مع غيرك، سواء كان نداءا غاضبا أو نبرة مهددة، أو همسا عاشقا، أعشق اسمي بصوتك، اعشق استسلامك بعد كل مرة أقسمت فيها أن تبتعدي عني للأبد، و أعشق تلك الثقة بداخلي في أنك لن تستطيعي الإبتعاد مطلقا، هل هذا يكفي؟).

كانت تيماء تستمع اليه بعينين واسعتين مغروقتين بالدموع، ثم لم تلبث أن التقطت أنفاسها كي لا تبكي في تلك اللحظة الهامة و ضحكت مرة أخرى، ثم اومأت و قد اختنقت الكلمات في حلقها...
الى ان استطاعت القول اخيرا بصرامة متحشرجة
(متى حضرت كل هذه القائمة؟)
رد قاصي وهو يبعد احدى الخصلات اللولبية عن عينيها
(منذ دقائق، و أنا جالس أنتظرك)
ابتسمت تيماء بعذاب و هي تطرق بوجهها قبل أن تقول مختنقة...

(يسرني أنك قد استطعت سردها دون ان تنسى احداها)
لعقت شفتيها ثم نظرت اليه تنفض شعرها، و طال بها النظر قبل أن تمد يديها لتمسك بكفيه فتشبث بهما لتقول بسحر هامس
(عشر سنوات يا قاصي، عشر سنوات، ما الذي أخرك كل هذه الفترة، جعلتني أتسائل طويلا)
ابتسم بقسوة مستاءة وهو يضغط علىلا كفيها بقوة هامسا بحدة
(انها مجرد كلمات تافهة، شعرت حين نطقتها أنني أسفه من شيء اقوى و اشد صلابة)
أغمضت تيماء عينيها و همست متأوهة بيأس.

(قااااصي)
الا أنه أمسك بكتفيها يهزها قليلا وهو يقول بجدية
(هذه الكلمات لم تخلق لنا، لما لا تفهمين؟، لما لا تستوعبين أن تلك الكلمات قابلة للبقاء أو الإختفاء ذات يوم، أما نحن فلا، شعور بالحب! ما هو هذا؟، أنا أشعر بما هو أقوى منه، أشعر بأنك أمي، أرضي التي تحمل طفلي، ابنتي التي لا والد لها غيري، وطني)
نظرت تيماء اليه بعينين تتوسلان الحقيقة، ثم همست باختناق.

(و تلك الأشياء التي ذكرت للتو أنك تعشقها بي، هل كنت صادقا؟)
تنهد قاصي وهو يقول بخشونة
(يا غبية، الم تستوعبي بعد؟، أعشقك كل ما يخصك، لذا إن كان هذا هو عشقك فأنا أعشقك، لكن عليك معرفة أن هذا العشق غير قابل للانفصام أبدا، هل فهمت؟)
نظرت تيماء اليه طويلا، قبل أن تهمس بنعومة واثقة
(أبدا، أبدا).

التوت شفتي قاصي قليلا وهو ينظر اليها نظرة لم تفهمها للتو، الى أن أمسك بكفها يطبق أصابعها في استدارة أصابعه القوية ثم قال بقوة
(أنا و أنت و هذا الطفل الذي ينمو بين أضلاعك، نحن دائرة واحدة الآن يا تيماء، فلا تسمحي لأحد باختراقها، مطلقا، لا تسمحي لهم لأنهم سيحاولون التسلل اليك)
نظرت اليه تيماء لتقول بخفوت
(هل هذا ما يخيفك من تواصلي مع مسك؟، أخبرتك ألف مرة أن لا أحد قادرا على ابعادي عنك).

صمتت للحظة ثم تابعت قائلة بصوت هامس بطيء
(الا أنت)
عبس قاصي وهو يحاول تفسير كلمتها الأخيرة، لا يعلم ان كانت تقصد، الا أنت من العالم أجمع...
أم أنها تقصد، أنه الوحيد القادر على ابعادها عنه...
و الإختيار الثاني كان كفيلا بأن يحول ملامحه الى عبوس مخيف، لكنها لم تخشاه، بل اقتربت منه أكثر، و مدت أصابعها تتحسس الخطوط المعقدة بين حاجبيه و همست برقة
(أعدها أرجوك، أريد سماعها مجددا).

همس قاصي بخفوت أجش دون أن يزيد من عذابها
(أعشقك)
أغمضت تيماء عينيها و هي تقترب منه أكثر، لتحيط عنقه بذراعيها، تداعب شعره المبلل بأصابعها
(مرة أخرى)
فمال اليها قاصي ليقتطف قضمة من وحمتها الوردية، ثم همس لها مجددا بصوت أكثر خفوتا
(أعشقك)
ضمت نفسها اليه أكثر و هي تستمد منه القوة كي تقتل بها مخاوفها، ثم همست مقبلة كل ذرة من وجهه
(مرة أخيرة)
حينها تاهت شفتاه تلتقط قبلاتها قبل ان تحط على وجهه، مهما حاولت...

وهو يهمس بصوته الأجش المزمجر
(و انت)
همست تيماء مستسلمة لجنونه
(أعشقك)
الا أنه قال بقوة
(بل اخبريني عن طفلي، هذا هو العشق الذي طالما تمنيته)
همست تيماء برقة و حنان أمومي بدأ يتزايد بداخلها كل يوم أكثر
(أنا أحمل طفلك، سيكون لك ولد من صلبك، أو فتاة لها لون عيناي كي تتذكرني دائما)
قال قاصي بقوة وهو يضمها اليه
(بل صبي، أريده صبيا يا تيماء)
مطت شفتيها و هي تبعد وجهها عنه قليلا لتقول بامتعاض.

(حاضر، أعدك أن أسجل طلبك في ورق التقديم، اعتبر الأمر مضمونا، هل أنت أحمق تماما يا قاصي؟)
رفع حاجبا وهو يقول بفظاظة
(توقفي)
لمعت عيناها بمكر مفاجىء و هي تقول
(و إن لم أتوقف، ماذا ستفعل؟)
لم يجبها قاصي، لأنه ببساطة، أبعد كفيها من خلف عنقه، الا أنه لم يتركهما، بل قبض عليهما لينحني اليها و يرفعها على كتفه بقوة، فصرخت تيماء بهلع و هي ترى العالم مقلوبا أمامها رأسا على عقب...
(أنزلني يا قاصي).

الا أن قاصي لم ينزلها، و لم يرد، بل لم يسمعها من الأساس وهو يتجه بها الى غرفتها، بينما هي تتلوى هاتفة...
(أنزلني يا مجنون، أشعر بالدوار)
قال قاصي بنعومة
(حاولي الا تتقيأي اذن هذه المرة، لأنني لن أسمح لك بالإبتعاد مهما كلفني ذلك)
ضحكت تيماء بقوة و هي تغمض عينيها كي تتغلب على احساسها بالدوار هاتفة
(قاصي، ستؤذي الطفل)
توقف للحظة عند الباب و بدا مترددا، حينها قالت تيماء بخبث.

(لكنه لن يكون أكثر مخاطرة من القفز على المنصة المطاطية)
ابتسم قاصي و دخل الغرفة دون أن يتكلم، صافقا الباب بقدمه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة