قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع عشر

نظرت الى الباب متوترة و هي تترقب دخوله في أي لحظة
فعلى الرغم من استئذانه في الخروج من غرفة الفحص بالمشفى، الا أنها كانت تعلم أنها لن تتخلص منه بمثل هذه البساطة...

إنه في الخارج ينتظرها، قرون الإستشعار الخاصة لديها تخبرها بذلك، فهو لم يتركها منذ أن وقعت أمامه من فوق الفرس، لقد أصابها الدوار بعدها لدقائق فلم تتبين ما حدث تماما، كل ما تعرفه هو أنه أخبر الجميع بأنه سيصطحبها للمشفى و لا داعي للزحام من حولها!
كان يتكلم الآمر الناهي فيما يخصها، و هي كانت أكثر ألما من أن تعارضه...
لكن هناك شيئا مجنونا كانت تريد التأكد منه...

ربما كان وهما تخيلت أنه ينطق به قبل ان يقاطعه صوت احد المتجمهرين حولهما...
هل تخيلت أنه قال، تزوجيني؟، حدقت مسك في أرض الغرفة البيضاء بشرود...
ما الذي جعلها تتوهم هذا؟
لكن لا يمكن ان يكون وهما، لقد سمعته بنفسها...
نعم سمعته، كان صوته قاطعا، آمرا، و لم يكن عرضا...
رفعت رأسها فجأة على صوت طرقة الى الباب، قبل ان يدخل من شغل افكارها...
دخل أمجد الى الغرفة، ناظرا اليها بجدية أقرب الى التجهم، و القلق...

تنحنح قائلا بخفوت
(هل أدخل؟)
قالت مسك رافعة وجهها
(لقد دخلت بالفعل)
كانت تريد احراجه، تدفعها تلك الرغبة السادية في ذلك. دون أن تعرف لها سبب، كل ما تعرفه هو أنها تشعر بالتلذذ و هي تحرجه أكثر، ربما لأنه الكائن الأكثر استفزازا على وجه الأرض...
لكن لم يبد عليه الحرج مطلقا وهو يتقدم منها ليقف أمامها قائلا بعبوس قلق
(كيف تشعرين الآن؟).

أرادت أن تأمره بأن يهتم بشؤونه الخاصة، لكنها كانت مبالغة شديدة، من المفترض أن تشكره على تعبه معها حتى هذه الساعة، لذا قالت على مضض مشيرة بذقنها الى كاحلها المربوط
(التواء في الكاحل، مؤلم قليلا، لكن اقتصار سقوطي من فوق الفرس على هذه الإصابة يعد ضربة حظ، الحمد لله)
قال أمجد بجدية غاضبة قليلا
(نعم احمدي ربك أن الحادثة اسفرت عن تلك الاصابة فقط، كان تهورا منك تستحقين الضرب عليه).

ارتفع حاجبي مسك بدهشة و هي تقول
(عفوا!)
هتف أمجد بنبرة أكثر غضبا
(سبق و أخبرتك أنني لا أطيق كلمة عفوا تلك، قلت أنك تستحقين الضرب على التهور في امتطاء الفرس و أنت غير مستعدة بعد)
رمشت مسك بعينيها و هي تقول بحدة
(لحظة، لحظة، هل تحاسبني على خوض السباق؟)
رد عليها أمجد قائلا دون مجاملة
(نعم أحاسبك، كان يمكن أن يكسر ظهرك)
قالت مسك بسخرية
(هذا يحدث أحيانا)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول بحدة.

(أنت تأخذين الأمر بمنتهى البساطة)
ردت عليه مسك و هي تهز كتفها
(لأنه فعلا بسيط، أنا خضت بطولات للفروسية، لذا يحدث هذا)
هتف بها أمجد فجأة بقوة
(لم تعودي صغيرة يا مسك، كما أنه من الواضح تماما مرور فترة طويلة منذ أن تمرنت آخر مرة)
ارتفع حاجبيها ببطىء و هي تنظر اليه بعينين واسعتين، فزفر بقوة وهو يقول
(لم أقصد ايلامك)
قالت مسك ببرود.

(لم تؤلمني، أنا لست صغيرة فعلا، و بالنسبة للتمرين، فهذا ما أنوي العودة اليه بأسرع وقت)
قال أمجد بغضب
(مسك، لا تفعلي هذا)
عادت لترفع حاجبيها و هي تقول
(هل تخشى ركوب الخيل؟)
ساد الصمت بينهما عدة لحظات قبل أن يقول أمجد بخفوت
(أخشى عليك منه)
انعقد حاجبيها قليلا، بينما ارتجفت شفتيها مرة واحدة، و عاد الصمت بينهما وكل منهما ينظر للآخر، الى أن مد أمجد يده و قال متجهما بصوت خافت
(خذي هذه، ستساعدك).

نظرت مسك للعصا التي يمسكها، كانت عصا معدنية طبية لم تلحظها للمرة الأولى، فرفعت عينيها اليه و هي تقول بعدم فهم
(هل هي خاصة بالمشفى؟)
هز أمجد رأسه نفيا و قال بخفوت
(بل هي لك، ستحتاجينها)
قالت مسك بقوة
(هل ابتعت لي عصا طبية؟، إنه مجرد التواء مؤقت، ما تلك التصرفات الساذجة؟)
كان هذا هو دور أمجد ليرتفع حاجبيه، فأدركت مسك ما قالته للتو خاصة و هو يحاول مساعدتها، فقالت متجهمة على مضض
(سأدفع ثمنها اذن).

قال أمجد بسخرية
(أستطيع التكفل بثمنها، لا تقلقي بخصوص هذا الشأن، الآن هلا حاولت النهوض لتجربة الحركة)
أرادت مسك الإعتراض لغرض الإعتراض، الا أنها لم تكن أبدا تتسم بالغباء من قبل، لذا آثرت التصرف بعقلانية علها تتخلص منه في أقرب وقت...
فنهضت ببطىء، لكن ما أن خطت قدمها المصابة على الأرض حتى أغمضت عينيها و شهقت ألما، فسارع أمجد للإمساك بذراعها وهو يقول بقلق
(هل أنت بخير؟)
أومأت مسك و هي تقول لاهثة.

(انه مجرد الم الإلتواء، سيتطلب اسبوعين كي يشفى كاحلي)
قال أمجد بخشونة
(و ربما ثلاث أسابيع)
رفعت مسك وجهها تنظر اليه بدهشة، فبادلها النظر وهو يقول بخفوت
(تكلمت مع الطبيب منذ دقائق كي أطمئن على حالتك)
ظلت مسك تنظر اليه وهو يبادلها النظر بحدة و دون تردد، الى أن حادت عيناه الى شعرها الذي انساب ملامسا كتفيها الآن و بعد سقوطها، كان جميلا و ناعما، يماثلها رقيا بكل أحواله...

لم يكن يوما مهووسا بشعور النساء، لكنه الآن لا يستطيع ابعاد عينيه عن شعرها و كأنه يمثل شيئا أكبر من مجرد كونه شعرا ناعما، شيء أكثر تأثيرا في النفس...
ارتبكت مسك قليلا و هي تلاحظ نظراته الى شعرها بأبعدته بأصابعه متنحنحة، مخفضة عينيها عن قصد الى يده التي تمسك بذراعها...
انتبه أمجد الى يده فأبعدها برفق وهو يقول بخفوت
(آسف)
ردت مسك بجمود و هي تحاول الإبتعاد عنه باسرع ما يمكنها
(لا بأس).

قال أمجد بهدوء وهو يمد لها العصا
(خذي هذه و استندي اليها، و لا تعاندي)
زفرت مسك و هي تأخذ منه العصاة، الا أنها قالت بهدوء متحاشية النظر له
(أنا شاكرة لك على كل شيء، لقد عطلت نفسك، انها المرة الثانية التي تتواجد بها في حدث يخصني و ينتهي الأمر بحدث مأسوى مهدرا المزيد من وقتك)
قال أمجد بجدية
(هذا من دواعي سروري)
نظرت اليه بدهشة و هي تقول
(ما هو هذا الذي من دواعي سرورك؟)
رد عليها دون أن تحيد عيناه عن عينيها.

(وجودي بجوارك حين يحدث ما يضرك)
أغلقت مسك شفتيها و هي تبعد عينيها عنه بتوتر، إنه لا يكف عن التصرف بغرابة و تلك التصرفات بدأت تضايقها، و بشدة...
تقحمها في منطقة ترفضها تماما، و ترفض ضعفها...
استندت مسك الى العصا و التي كانت تحتاجها بالفعل، ثم قالت بلهجة رسمية مهذبة
(أشكرك مجددا، على الذهاب الآن، أراك غدا)
انعقد حاجبيه بشدة وهو يقول بقوة.

(أولا، أنت لن تتحركي لأي مكان بمفردك، أنا سأقلك للبيت، ثانيا أنت لن تأتي الى العمل غدا، كفى عنادا و غباء)
هتفت مسك بحدة و هي تنظر الى بذهول
(اسمع انت)
الا أنه قاطعها بحدة أكبر هاتفا
(كفى، أنت تبالغين في اظهار قوتك، حسنا صدقنا بأنك لا تقهرين، لكن ترفقي بنفسك، ما الذي تحاولين اثباته و لمن؟).

كل كلمة ينطق بها كانت تزيد من غضبها حتى ادركت أنها لن تستطيع التصرف بتهذيب أكثر، و سؤاله الأخير هو ما فجر آخر ذرات التحضر فهتفت به بحدة
(أنا لا أسمح لك، كيف تتجرأ و تلمح الى أنني)
صمتت فجأة، الا أنه هتف يتابع ما صمتت عنه قائلا بقوة
(الى ماذا ألمح يا مسك؟، و لماذا صمتت؟، ربما لأنني محقا، انت تحاولين اثبات قوتك الجبارة لابن عمك الغالي، عبر زوجته، أو عبره مباشرة)
صرخت به بحدة
(أنا لا أسمح لك).

لكنه قال بصوت لا يعرف التردد
(بل أنا اللذي لا يسمح لك، ستنسينه يا مسك، حتى لو كنت قد نسيت حبه، لكن لن يهدأ لي بال قبل أن تنسيه كليا، حتى يصبح كأي رجل عابر لا تحملين له أي ضغينة، مجرد احساسك بالحقد عليه يعني أنه لا يزال يمثل لك شيئا)
ساد صمت مرعب بينهما و مسك تحدق به بذهول شرس، قبل ان تتكلم أخيرا كلمة كلمة، كل منها أشد خطورة من سابقتها.

(أتعلم من تكون؟، أنت الشخص الأكثر تجرأ ووقاحة ممن قابلتهم في حياتي كلها، و أنا لن أسمح لك بأن تتدخل في حياتي أكثر من هذا، لقد تجاوزت الخطوط الحمراء كلها و أنا أرفض وجودك بحياتي)
كتف أمجد ذراعيه وهو يقول بمنتهى الهدوء، و الصلابة
(رفضك مرفوض، الآن حاولي التحرك مستندة الى العصا بتمهل)
هتفت مسك و هي تهز رأسها بقوة محتدة
(لا أنا لن أتحرك من هنا معك مطلقا، أنت لا تستوعب كلامي حين آمرك الا تتدخل في حياتي، ).

كان أمجد ينظر اليها بعينين ضيقتين غاضبتين، وهو يتنفس محتدا، الى أن اقترب منها خطوة فتراجعت، حتى جلست على سرير الفحص كما كانت قبل دخوله، تنظر اليه بدهشة، مستعدة لدفعه بعيدا لو اقترب أكثر أو قام بأي حركة غادرة، الا أنه اكتفى بأن وقف أمامها و قال بحرص
(مسك، هل أصبت بالإغماء قبل أن أنقلك الى هنا؟)
عقدت حاجبيها و هي تقول بحذر
(لا، لماذا تسأل؟)
ظل أمجد ينظر اليها بنفس النظرات الحادة قبل أن يقول بجدية.

(لأنني طلبت منك الزواج، الا أنك على ما يبدو قررت تجاهل طلبي)
فغرت مسك شفتيها بذهول و أمضت عدة لحظات و هي تنظر اليه قبل أن تقول بصوت غريب
(اذن كان هذا حقيقة! أنا اعتبرته مجرد هذيان بسبب السقوط من فوق الفرس!)
صمتت مجددا للحظتين قبل أن تهتف بحدة
(هل جننت؟، أم تمزح؟ أم أنك ببساطة تتسلى بحياتي؟)
عقد أمجد حاجبيه وهو يقول بسيطرة.

(أنا لا أمزح، طلبي كان جادا تماما و عليه فان اي تدخل سأقوم به يعد مقبولا في وجة نظري)
كانت تستمع اليه بذهول اكبر و هي تهز رأسها بعدم تصديق الى ان هتفت به
(ماذا تقصد بأنك لا تمزح؟، هل تريد الزواج مني؟)
رد أمجد متجهما و بكل جدية
(أظن أن هذا ما وضحته أكثر من مرة لدرجة أنني قد بدأت أشعر بالملل)
هزت رأسها مجددا، ثم هتفت بنفاذ صبر.

(و ماذا عن حالتي التي شرحتها لك مسبقا؟، هل أنت مستعد للتخلي عن الأطفال في حياتك؟)
ساد الصمت لعدة لحظات، وهو ينظر الى عمق عينيها قبل ان يقول ببطىء
(نعم، على ما يبدو)
فغرت مسك شفتيها و قالت
(على ما يبدو؟، أي جواب هذا؟)
رد أمجد متجهما.

(هو الجواب الذي يعني أن الأمر لن يكون سهلا، لكن رغم صعوبته اكتشفت أنني لا أريد الزواج من غيرك حتى لو منحتني الأطفال و أنني لن أستطيع تقبل أن تكوني لشخص آخر غيري، هو الجواب الذي يعني أنني أريدك زوجة لي رغم كل الظروف، هو الجواب الذي يعني أنني سأشاركك ما حرمت منه)
شحب وجهها و شعرت بنفسها تطفو فوق غيمة عالية و هي تسمع تلك الكلمات منه، الى أن تمالكت نفسها و قالت بجمود رافعة ذقنها.

(أشكرك على عرضك، لكن أعتذر، أنا أرفضه)
قابلت نظراته بقوة ارادة و تحدى، الا أنها شعرت بوجز في عينيها، فخسرت هذا التحدي مما جعلها تبعد نظراتها عنه و هي تقول ببرود متابعة
(أظن أن رحيلك الآن هو التصرف الأمثل، و دعنا نعد الى علاقتنا العملية لا أكثر)
ساد الصمت بينهما وهي ترفض النظر اليه، و ظنت أنها قد نجحت في الزامه حده، الا أنه قال أخيرا بهدوء
(أنا لن أقبل الرفض كجواب يا مسك).

اندفع رأسها اليه، ناظرة الى ملامح وجهه ذات التصميم المتجهم و هي تتأكد مما سمعته للتو، ثم قالت من بين أسنانها و أصابعها تشد على غطاء سرير الفحص...
(إما أنك تلعب لعبة أكبر منك، و إما أنك تتخيل أن أكون مجرد أداة تسلية لك لفترة قبل أن تشبع من تلك النزوة و تقرر الزواج من أخرى و أنا في الحالتين)
قاطعها أمجد قائلا بصلابة.

(لست واحدا من ابني عمك، و اللذان شاء القدر ان يسبقا عرضي في حياتك فيفسدا ثقتك في الغرض الحقيقي لكل من يريدك في حياته بصدق)
كانت مسك تتنفس بسرعة و هي تنظر اليه، لا تصدق ما ينطق به و بهذه البساطة، فقالت بحدة تتحداه
(هل ستحرم والدتك من أن تحمل طفلك بين ذراعيها كما تتمنى؟، أنا لا أصدق هذا).

أسبل أمجد جفنيه لعدة لحظات، كانت كفيلة بأن توجع مسك بغدر لم تتوقعه، لكنها لن تظهر لمحة من هذا الوجع، بل ستبتسم و تنهض و تغادر، و ينتهي الأمر...
الا أن أمجد عاد و نظر اليها متجهما بعينين قويتين أجفلتاها، ثم قال بصوت هادىء
(لن يكون الأمر سهلا، لكننا سنتجاوزه سويا، فقط ضعي كفك بيدي و حينها سنستطيع مواجهة من حولنا).

ارتجفت مسك داخليا بشكل غريب، لا تزال تعاني الذهول من كل كلمة ينطق بها، الا انها قالت ببساطة
(عفوا، لكني لا أصدقك، لست مغرما بي، كي تضحي من أجلي بتلك التضحية)
نظر أمجد الى عينيها نظرة أقوى و أعمق، ثم قال ببطىء.

(الزواج بك ليس تضحية يا مسك، بل هو غاية أملي في تلك اللحظة، ربما كان من السابق لأوانه أن أسمعك قصائد الغرام، لكنني واثقا من شيء واحد، أنا أريدك زوجة، لأنك معدن لم أعرفه في النساء من قبل، أنت كالألماس و بجوارك تتضائل باقي الأحجار، لم اقرر هذا، لكنه ما حدث، أريدك زوجتي، لا أريد أي امرأة لمجرد الإنجاب، أنا أريدك أنت، و لا يمكنني التفكير في الزواج من أخرى طالما من أريدها متواجدة أمامي).

قالت مسك بخفوت بعد أن انتهى من كلامه
(لا أصدقك)
هز كتفيه وهو يقول ببساطة
(انها مشكلتك اذن، أما أنا فعن نفسي أعرف ما أريد)
قالت بحدة
(لكن حين أكون أنا من تريد، فعليك احترام رأيي، و طلبك مرفوض)
هز رأسه نفيا قبل حتى أن تنهي كلامها، ثم قال بخفوت.

(لن أقبل بالرفض كجواب يا مسك، ستقابلين الكثير من الخاطبين واحدا تلو الآخر و سيؤلمك الكثير منهم و من أسرهم، و أنا قد أخضع الى رجاء أمي في مقابلة عروس تلو عروس، و أظل أقارنها بك فتخسر المقارنة و أشعر بالذنب وقتها لأنني خضعت رغبة أمي و أحرجت الفتاة معي، و تتكرر القصة كل مرة، لذا لما لا نضح حدا من البداية لهذا الطريق الطويل و نختصر الوقت و الجهد و الاحباطات التي سيواجهها كلانا).

كانت تنظر اليه نظرة ذاهلة، الا انها كانت محافظة على قدسية ترفع ملامحها، ثم قالت أخيرا ما أن انتهى
(أنا لا أعرفك كي أثق بك، ما الذي يضمن ألا تفعل مثل زاهر و تكون تلك هي نيتك تجاههي؟)
ساد الصمت قليلا و قست نظرات عينيه، الا أنه قال بجمود
(أنا لن أعاتبك على مقارنتي به للمرة الثانية، لكنها ستكون الأخيرة يا مسك، ثانيا، يمكنك وضع شرطك في عقد زواجنا، و أي ضمان تطلبينه).

صمتت مسك تماما و هي تنظر اليه، لقد انتهت كل حججها، او ربما، لم تستطع التحجج أكثر...
ما يقوله أمجد الحسيني هو الجنون بعينه، و ما الذي يجعلها تصبر على مثل هذا الجنون؟
انها متعبة و تريد العودة الى شقتها و سريرها لترتاح...
لذا رفعت ذقنها أكثر و قالت بهدوء
(القبول غير متوفر بيني و بينك، آسفة)
رد عليها أمجد دون أن يتراجع...
(كاذبة)
ارتفع حاجبيها و هي تهتف بحدة
(ماذا؟، أنا لا أسمح)
قاطعها أمجد قائلا بصرامة.

(أعرف أعرف، لا تسمحين لي بتجاوز حدودي، سمعتها أكثر من مرة حتى حفظتها، لذا كان عليك معرفة أنني لا اطلب منك الاذن او السماح، حين أقول الحقيقة، و الحقيقة هي أنك كاذبة)
اقترب منها فجأة لينحني ناظرا الى عينيها فأجفلت و تراجعت قليلا في جلستها على حافة السرير، لكنه قال بهدوء
(انظري الى عيني و أقنعيني أنني أتوهم تلك الكيمياء الخاصة بيننا، فشلت مرة حين القيت اليك هذا التحدي و ها أنا أعيده من جديد).

ظلت مسك تنظر إلى وجهه القريب من وجهها جدا، يكاد أن يلامسه، الى ان قالت أخيرا بخفوت
(ابتعد من فضلك)
تنهد أمجد تنهيدة لامست بشرة وجهها قبل ان يستقيم واقفا وهو يقول بخفوت مقتضب
(آسف)
كانت كلمة مختصرة، تبعها صمت متوتر بينهما، و كأن تحديه قد أربكهما سويا فجز كلاهما عن المتابعة...
حين تكلم أخيرا، قال بصوت حنون غريب
(تعالي يا مسك لأقلك للبيت، فوجهك شاحب للغاية، توقفي عن التفكير في الأمر الآن).

رفعت وجهها اليه بصمت، و عيناه تحتويها و تضمها بدفىء لم تعهده من قبل، لكنها لم تستلم لهذا الدفىء، و كان الإستسلام الى أمره في النهوض أكثر أمانا...

ساعدها أمجد في الجلوس داخل سيارته ثم استدار ليحتل مقعد القيادة، قبل أن يتحرك بالسيارة، و ساد الصمت بينهما و هي تنظر من نافذتها رافضة النظر اليه...
كانت تسترجع كل كلمة دارت بينهما، لا تصدق أن يكون فعلا قد عرض عليها الزواج و بمثل هذا الإصرار...
الرفض سيكون جوابها دائما، لكن هذا لم يمنعها من استرجاع حوارهما، انه يعرض امامها كل ضمان تطلبه دون نقاش...

لا مجال للشك في أن يكون طامعا بثروة والدها، ربما لا يكون ثريا بنفس القدر الا أنه ليس الشخص ذو الطموح المادي تماما كي يطمع بها...
لا تظنه أيضا شديد التفاهة للدرجة التي تجعله يختارها هي تحديدا و يضحي بأبوته لمجرد أن ينتقم من غدير على قصة قصيرة لم تكتمل بعد...
درست كل الإحتمالات، لكنها على الرغم من ذلك لا تصدقه، لا تصدق أن يضحي رجل بتضحية قوية دون سبب مقنع...

ان كان الحب لم يشفع للتضحية، و الرغبة أيضا لم تشفع لها...
فلماذا تصدق أنه سيضحي من أجلها دون سبب جوهري!
تنهدت بقوة، مما جعل أمجد يلتفت اليها، يتأملها مبتسما قبل أن يعيد نظره الى الطريق قائلا
(ما سر تلك التنهيدة؟، طلبت منك الا تفكري في الأمر اليوم، ارتاحي و اريحي عقلك الدايناميكي هذا قليلا)
التفتت مسك تنظر اليه دون أن ترد، فبادلها النظر مبتسما ليقول ببساطة
(أتفضلين الخطبة الطويلة؟).

ارتفع حاجبيها دون أن ترد، و نظرت اليه كمن ينظر الى طفل مفقود الأمل به، الا أنه قابل نظراتها برحابة صدر وهو يقول هادئا مبتسما
(إنه مجرد موضوع نتسلى به لنقطع الصمت)
زفرت مسك و هي تعيد نظرها الى النافذة بجوارها، فقال أمجد متابعا برفق
(سآخذك لشهر عسل لن تنسيه مطلقا)
التفتت اليه مسك و هي تقول بحدة
(توقف عن هذا، لا شهر عسل و لا خطبة و لا مزيد من الكلام عن هذا الجنون).

ابتسم أمجد ابتسامة بدت خلابة في عينيها وهو ينظر الى الطريق امامه، ابتسامة اظهرت غمازة عميقة اسفل لحيته الشقراء، لم تلحظ وجودها من قبل، ربما لأنها لم تره يبتسم بهذا العمق من قبل...
لكن عينيه كانتا قلقتين، و كأنه يدرك تماما مدى تسرعه في القاء عرضه...
اخفضت مسك وجهها لترى انها تمسك بقبضتيها محكمتين بتوتر، فسارعت لفكهما و هي تأخذ نفسا غاضبا كي تبعد هذا الشخص عن تفكيرها...
فقالت ببرود.

(سيتم مناقشة و اختيار من سيترأس المشروع الجديد خلال الأسبوع القادم)
التوى فم أمجد وهو يقول بفتور
(سعدت بمعرفة هذا)
تجاهلت مسك لا مبالاته و قالت تدعي الإهتمام بالأمر...
(أظنك تتوق للأمر)
نظر اليها نظرة جانبية، ثم اعاد عينيه الى الطريق قائلا
(أتعلمين ما أتوق اليه حقا؟، الجلوس معك بشرفة بيتي وقت المغيب، هل تجيدين اعداد الكعك؟)
تأففت مسك بقوة و هي تهتف
(الا تيأس؟)
رفع حاجبيه ببراءة وهو يقول.

(لاحظي أنني أحاول جاهدا ارضائك، و أنت تفتعلين الشجار دائما، هذه ليست البداية السليمة لأي علاقة، حاولي تجنب النكد في حياتنا رجاءا، فأنا أريد العودة الى البيت بعد يوم عمل شاق طويل. لأجد وجها بشوشا و ابتسامة ساحرة)
قالت مسك من بين أسنانها
(لقد سئمتك و سئمت سخريتك)
الا أن أمجد تابع يقول ببساطة و كأنه لم يسمعها.

(اتعلمين أن ابتسامتك رائعة؟، حين تبتسمين يظهر خطين مائلين أعلى زاويتي شفتيك مما يجعلك تشبين الرسوم الكارتونية اللطيفة، الأجمل منها طبعا)
قالت مسك بحدة
(سأحقنهما بالكولاجين كي يختفيا)
هتف أمجد بحدة
(إياك، أنا أريدهما)
ارتفع حاجبيها و هي تقول ببرود
(حقا! تريد الخطين بوجهي! ماذا ستفعل بهما؟).

ابتسم أمجد دون أن يجيب، ابتسامة أخرى أظهرت الغمازة أسفل لحيته، مما جعل وجنتيها تتوردان دون سبب، و كأنها قد قرأت التلميح العابث خلف صمته المبتسم...
فأدارت وجهها الى النافذة...
و رغما عنها، ابتسمت، أف له، سمج بشكل لا يطاق...

أخذت تتفنن في اعداد الأطباق التي تجيدها تماما...
فسنوات من حياتها مع ثريا جعلت منها طباخة ممتازة، لأن ثريا لم تجن تجيد الطبخ، لذا كان عليها هي التعلم كي تنجو بنفسها...
و بالفعل أصبح الطبخ لها هواية...
تنهدت تيماء مبتسمة و هي تقول أثناء تقطيعها للخضراوات بحرفية.

(والله اشتقت الى أكلاتك يا عم ابراهيم، و التي كنت تطلب بها رضا أمي، لكن لم يتم النصيب، تكن في فمك و تقسم لغيرك، كنت لتصبح زوج أم رائع، على الأقل لن تستقبل الضيوف عاري الصدر كالطفل الذي تزوجت منه)
صمتت تيماء و هي تتنهد مجددا بغضب ثم همست
(ترى كيف يعاملك يا أمي، كيف يبتزك لقاء بضع ساعات من المتعة المنفرة بين امرأة و شاب في عمر ابنتها).

شعرت تيماء بالندم لما همست به للتو، لم تكن قاسية على ثريا قط، مثل الآونة الأخيرة...
ربما لأنها لم تعد تمتلك نفس المرونة و القدرة على التحمل، فكل مرونتها يمتصها قاصي، لمجرد أن تصمد فقط...
من حق أمها أن تتمتع بالمتبقي من عمرها، فلقد ضاع شبابها كله لقاء نزوة واحدة مع والدها...
و طالما أنها لم ترتكب شيئا محرما، فلما لا تتمتع قليلا...
لكن ماذا عن كرامتها!

أي متعة تسعد بينما الكرامة مهدرة بهذا الشكل المخزي...
تنهدت تيماء للمرة الثالثة بكآبة، قبل أن تعيد تركيزها الى ما تعده، اليوم سيكون لها و لقاصي فقط...
لا دخيل على ليلتهما سويا، و هي تنوي أن تجعلها ليلة من ألف ليلة...
سمعت تيماء صوت همهمات قاصي في غرفة الجلوس...
فمالت للخلف و هي تنظر اليه عبر باب المطبخ...
كان يسير ممسكا بهاتفه، يتكلم به همسا...

لقد تكرر رنين هاتفه كثيرا خلال قضائهما بعض الوقت سويا، الى ان زمجر بخشونة وهو يمد ذراعه ليغلق صوته دون أن يحررها، ثم عاد اليها ليغرقها بأشواقه، فنست أن تسأله عن هوية المتصل...
لكن على ما يبدو أنه رد الآن...
ضاقت عينا تيماء و هي تراقب ملامح قاصي عن بعد، حيث كانت تبدو متجهمة، شاردة، و مصممة بشكل خطير...
مما جعلها ترهف السمع، الا ان صوته لم يصلها...
مجرد همهمات خافتة و كأنه يتعمد الهمس.

ترى هل هي زوجته و يخشى أن يثير غيرتها و لو علمت باتصالها!
شعرت تيماء بالفعل بنصل الغيرة يدب في أعماقها بأفظع آلامه، فهي حتى الآن لم تستطع التأقلم كما تدعي...
تركت ما بيدها بحرص دون ان تحدث صوت، ثم تحركت على اطراف اصابعها حتى وصلت الى مقربة منه فضيقت عينيها و هي تحاول سماع ما يقوله، و بالفعل سمعت بعض الحوار، كان يقول متجهما
(حسنا لا بأس، المبلغ سيكون متوفرا خلال أيام، فقط امهلني بعض الوقت).

صمت قليلا بينما اقتربت تيماء خطوة اخرى و هي تنظر الى ظهره المتصلب، فتابع قاصي بصوت أجش هامس
(بالطبع أريد اتمامها، لكن المبلغ ضخم و أنا في حاجة لبعض الوقت، أيام لا أكثر)
أطرق برأسه وهو يغرس أصابعه في خصلات شعره، قائلا بخفوت صارم
(خلال أيام، كن جاهزا و أنا سأعاود الإتصال بك ما أن أجهز المبلغ كاملا).

انهى قاصي الإتصال، ثم استدار ليتسمر مكانه وهو يرى تيماء واقفة تنظر اليه بملامح شاحبة قليلا، مترقبة، فعقد حاجبيه و قال بصوت أجش
(هل تتنصتين الى مكالمتي؟)
عقدت تيماء حاجبيها هي الأخرى و أظلمت عيناها قبل أن تقول بخفوت
(آسفة لم أقصد، سأعود للمطبخ كي أنهي عملي)
استدارت لتبتعد و هي تشعر بالرغبة في البكاء، الا أن قبضته أمسكت بمعصمها تديرها اليه، ثم رفع ذقنها بكفه قائلا بخشونة.

(لا تكوني حساسة بهذا القدر، كنت أسألك فقط)
نظرت تيماء الى عينيه و قالت بخفوت
(هذا لم يكن سؤالا، بل كان اتهاما)
ضحك قاصي بعصبية وهو يقول
(حسنا، كل الزوجات متهمات بهذا، لذا لا تكوني حساسة و تأخذي الأمر على محمل شخصي)
بدا مرتاحا و كأنه يعلم جيدا أنها لم تستطع استنتاج شيئا من اتصاله، لأنه أخذ حذره و تكلم بطريقة مموهة دون معلومات محددة...

أخذت تيماء نفسا عميقا ثم اقتربت منه ووضعت يدها الصغيرة على صدره لتقول بحذر
(قاصي، هل تحتاج الى المال؟)
عبس قاصي بشدة وهو يقول
(ماذا سمعت من اتصالي؟)
ردت تيماء برفق
(فقط حاجتك للمال، لا تخجل مني يا قاصي، أنها أنا، تيماء، أخبرني عن حاجتك له)
ابتسم قاصي دون أن تصل الإبتسامة الى عينيه، و رفع يده يلامس بها وجهها ليقول بلا تعبير
(لا تشغلي بالك، مجرد حسابات يجب تسويتها)
قالت تيماء مصرة
(أهو أمر خاص بالمطبعة؟).

رد قاصي بطريقة مبهمة بعد فترة صمت
(شيء من هذا القبيل)
قالت تيماء و هي تريح كفيها على صدره
(لقد أهملت عملك خلال الفترة الماضية بسببي)
ابتسم قاصي بخبث وهو يقرص ذقنها قائلا
(الا يحق للرجل التمتع بشهر عسل بعد طول انتظار!)
لم تستجب تيماء الى نبرة العبث في صوته، بل قالت بجدية
(لكنك تقطع عملك لفترات طويلة، أيام، و احيانا اسبوع، من المؤكد أنه تأثر بهذا الخلل).

بدا قاصي شاردا تماما مما زاد قلقها فقالت بتردد خوفا من غضبه
(قاصي، يمكنني مساعدتك حبيبي، كم تحتاج؟)
أعاد عينيها اليها وهو يداعب وجنتها بشرود، ثم قال مبتسما قليلا
(صغيرتي كبرت و آن الأوان كي تساعدني، لكنك نسيت أنك لا تملكين سوى راتبك فقط بعد أن طردك سالم الرافعي من تحت جناحه)
قالت تيماء باصرار
(أخبرني فقط بالمبلغ الذي تحتاج و أنا سأحاول تدبيره لك)
رد عليها قاصي بنعومة
(ربما هو مبلغ أكبر من قدرتك).

زاد القلق بداخلها أضعافا، لكنها لم تظهره و هي تقول بصلابة
(يمكنني بيع سيارتي لو كان الأمر بهذه الخطورة)
بدا تعبير عميق في عيني قاصي وهو يداعب شعرها مبتسما، ثم قال بخفوت
(سيارتك الصغيرة! لكن المبلغ الذي أحتاج أكبر من هذا بكثير)
عقدت تيماء حاجبيها و هي تقول بخوف
(لهذه الدرجة؟، هل توشك المطبعة على الإفلاس؟)
ابتسم قاصي و انحنى اليها ليقبل وجنتها برقة ارسلت ذبذبات ناعمة الى أطرافها، ثم همس في أذنها.

(لا تشغلي بالك، و ممتلكات سالم الرافعي احتفظي بها يا صغيرة، فأنا لا أحتاجها)
قالت تيماء بغضب
(انها ممتلكاتي أنا، هذا حقي، بل انه لا يتعدى ذرة من حقي، أخبرني بالمبلغ أرجوك و لا تزد من قلقي)
رد عليها قاصي قائلا بنعومة
(أنا أدخرك لوقت الحاجة يا صغيرة، يكفيني معرفة أنك خلف ظهري دائما)
زمت تيماء شفتيها بعدم رضا و هي تراقبه، الا أنه قال بلهجة مداعبة
(اذن، هل سنأكل اليوم أو غدا؟، وحوش معدتي تصفر).

ابتسمت تيماء رغما عنها و قالت
(خلال دقائق سأنتهي، و بالمناسبة، الوحوش لا تصفر)
ابتسم قاصي وهو ينظر اليها بشيطانية ليقول بنبرة خطيرة
(لا، إنها تعض فقط)
ثم هجم عليها ينوي عضها الا أنها صرخت و اندفعت تجري من أمامه ضاحكة، و نست البلهاء حوارهما، أو تناسته...

بعد فترة طويلة و أثناء جلوسهما سويا الى طاولة الطعام الصغيرة حيث كان قاصي يأكل بنهم، نظرت اليه تيماء و قالت برقة تتأمل كل ذرة من ملامحه المحببة رغم قسوتها
(قاصي، هل تحتاج للسفر عودة الى عملك؟)
رفع وجهه ينظر اليها دون أن يرد، فشعرت بوجع غريب لكنها قالت بخفوت
(يمكنك اخباري لا تقلق)
ترك قاصي الطعام من يده لينظر اليها قائلا بخفوت.

(نعم يا مهلكة، أنا في حاجة للعودة الى هناك بضعة أيام، لكنني أخشى تركك هنا بمفردك)
الأن أصبح الوجع هما، و شعرت بثقل في معدتها و غصة في حلقها...
كيف ستستطيع تحمل غيابه مجددا! إنه العذاب بعينه...
لكنها ابتسمت على الرغم من ذلك و همست
(اذهب، لا تقلق، سأكون بخير)
نظر اليها قاصي طويلا بعينين مظلمتين و فك متوتر، الا أنها ربتت على كفه قائلة بنعومة
(سنكون بخير، أنا و طفلك)
قبض قاصي على كفها وهو يقول بخشونة.

(لا أريد تركك)
الإبتسام كان أكبر من قدرتها على التحمل، الا أنها حاولت جاهدة فرسمت ابتسامة ميتة على شفتيها و هي تقول باختناق
(فقط اذهب، لا أستطيع قول المزيد من هذا فلا تؤلمني أكثر).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة