قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن عشر

استيقظت سوار على صوت جلبة و همهمات صاخبة...
فتحت عينيها و هي تحاول استيعاب تلك الضوضاء البعيدة، الا أنها لم تكن قد استفاقت بعد، فمدت يدها تتحسس الفراش الخالي بجوارها...
حينها فقط استقامت جالسة و هي تدرك بأنها كانت وحيدة في الغرفة، بينما الشمس قد أشرقت منذ فترة على ما يبدو...
تنهدت سوار و هي تدرك أنها نامت بعمق بتأثير من الأقراص المنومة التي أرشدها اليها ليث في أول ليلة من زواجهما...

و قد تناولت واحدا منها ليلة أمس قبل دخول ليث الى الغرفة، من شدة توترها و ترقبها للأمر المحتوم...
لكن القرص لم يعط مفعوله بالسرعة التي تمنتها، بل عاشت كل لحظة بين ذراعيه...
ذاقت كل قبلة، و شعرت بكل لمسة، الى ان سقطت في سبات عميق في النهاية مثبتة مدى سذاجتها و غباءها...
نظرت الى الجانب الخالي من الفراش مجددا و احمر وجهها دون أن تزوره الإبتسامة...

من المؤكد أنه الآن سعيدا منتشيا بحلمه الذي يحققه كل ليلة كما يصر على اخبارها...
حاولت افهامه أنها لا تريد السماع، لكنه لم يمتثل، بل هيمن عليها بكلماته الهامسة في أذنها دون أن يخجل أو يشعر بالذنب...
أما هي...
فقد كان الذنب يفترسها، كل لحظة تمر بينهما، تشعر به يصفعها دون رحمة...
ترى أين هو الآن؟، تمنت لو يكون قد خرج قليلا كي تستطيع الإستعداد و مواجهة يوم جديد بصحبته...

الا أن صوت الجلبة و الهمهمات عاد من جديد، آتيا من الطابق السفلي، فعقدت سوار حاجبيها بقلق
لم تكن تلك أصواتا عادية، بل كانت جلبة رجال...
العديد من الرجال!
نهضت جريا من فراشها و اتجهت الى الحمام كي تغتسل و تستعد لتواجه ما يحدث، أي كان...
وضعت سوار عبائتها السوداء من حولها و نزلت السلالم و هي تسمع الأصوات تعلو أكثر...

فنظرت للمطبخ من بعيد، حيث كانت أم مبروك و نسيم تعملان بجد و توتر، لقد عادتا و بدأتا العمل أثناء نومها على ما يبدو...
لكنها لم تتجه اليهما...
بل سارت الى المضيفة بأبوابها الضخمة المغلقة، حيث مصدر الأصوات العالية...
فوقفت أمام الباب ترهف السمع...
كان أحد الرجال يهتف بخشونة.

(ليست المرة الأولى التي تحط من فيها من قدر كبار العائلة يا ليث، قبلنا زواجك بابنة الرافعية حقنا للدماء و سلمنا الأمر لله، لكن تتزوجها بقرار مفاجىء و ترغمنا على الحضور مباركة الزيجة التي تمت خلال ساعات دون أن يكون لك كبير تستشيره، فهذا غير مقبول أبدا، وضعت يدك في يد سليمان الرافعي و قررتما عقد القران بينما اقتصر دورنا على الحضور دون معرفة أسباب هذا التعجيل المريب في الزواج، ليس هذا فحسب، بل هربت لمدة أسبوعين كاملين خارج البلد كي لا نحاول سؤالك خلالهما).

سمعت سوار صوت ليث يقول بنبرة مهيبة
(ليس ليث الهلالي من يهرب، اضطررت للسفر ليس الا)
قاطعه أحد الكبار يقول صارما
(و ها قد عدت، أنت مدين لنا بتفسير عن سبب زواجك بتلك الطريقة، مبديا قرار سليمان الرافعي على قرار كبار عائلة الهلالي جميعهم)
أرهفت سوار السمع منتظرة جواب ليث، بينما قلبها يخفق بعنف...
موقف ليث سيء جدا، رجل في مثل مقامه و هيبته يحاسب أمام هذا الجمع و بتلك الطريقة...

رفعت سوار يدها الى فمها و هي تنتظر سماع صوته، و بالفعل قال بنبرة قوية تردد صداها
(لا تفسير لدي سوى أن خير البر عاجله، لقد نال زواجي موافقتكم فما الفارق في الموعد؟)
سمعت سوار أحد الرجال يهدر قائلا
(تأدب يا ولد و أنت تتحدث مع أعمامك)
رفعت سوار يدها الى وجنتها الشاحبة، بينما قال ليث غاضبا
(احترامكم على رأسي يا عمي، لكنكم تبالغون في حسابي، لقد فعلت ما رأيته مناسبا و كل ما طلبته هو دعم عائلتي).

رد احد الكبار بصوت هادىء
(و قد دعمناك يا ليث يا ولدي و عضدناك و باركنا زيجتك، لكن الآن أنت مطالب بتفسير)
ساد صمت متوتر، الى ان قال ليث في النهاية بصوت صلب جاف
(لا تفسير لدي، لقد فعلت ما رأيته مناسبا، )
حينها هدر أحد عمامه قائلا
(انت تتحدى الجميع بمنتهى الجرأة يا ليث، الا يكفي سكوتنا عن زيجة أختك التي زوجتها لرجل غريب و فضحتنا)
هدر ليث قائلا.

(زواج أختي ليس فضيحة يا عمي، لقد تزوجت من رجل صالح و عائلته محترمة كريمة الأصل)
هتف عمه بحدة
(لكنه لم يكن من العائلة، كانت كارثة اضطررنا الى تقبلها كي لا نخسرك بيننا، لكنك تماديت جدا يا ليث، احذر، فلم تعد لك فرصا اخرى في هذه العائلة، لقد استنفذت كل قدرتنا على سماحك)
عادت الجلبة و الهمهمات قبل ان يقول احد الكبار
(هيا بنا، وجودنا هنا مضيعة للوقت، لنأمل ان يكون قد وعى درسه قبل ان يحط من قدرنا مجددا).

سارعت سوار في الابتعاد عن الباب حتى خرج الجميع متذمرين و الغضب باد عليهم...
و ما ان غادروا، حتى خرجت سوار من مخبئها و اتجهت الى المضيفة المفتوحة، فوقفت في بابها و هي تنظر الى ليث الذي كان يجلس على أحد المقاعد الضخمة، مطرق الوجه، صلب القسمات و مجهد بشكل موجع...
ظلت سوار واقفة مكانها طويلا تنظر اليه بصمت...

شعور غريب احرق صدرها تجاهه و هي تراه على هذا الحال، لقد تحمل لوما و تقريعا لا يتحمله شاب في العشرين، لا احد كبار عائلة الهلالي...
تكلم ليث فجأة قائلا بصوت عميق دون أن يلتفت اليها
(هل ستظلين واقفة عند الباب طويلا؟)
أجفلت سوار و قالت مرتبكة
(كيف عرفت بوجودي دون أن تراني؟)
التفت وجهه اليها بصمت، و نظر اليها نظرة تخللت كيانها بأكمله قبل أن يعود بعينيه الى عينيها المرتبكتين وهو يقول بخفوت عميق.

(حفيف عبائتك، عبير عطرك، سلطان حضورك، مستحيل الا يبصرك الأعمى)
أخفضت سوار وجهها و هي تتنهد بتوتر، ثم قالت بخفوت
(لقد سمعت ما دار هنا)
لم يرد ليث على الفور، الا أنه قال في النهاية بلا تعبير
(جيد)
رفعت سوار وجهها اليه و اقتربت منه و هي تقول بقوة
(لا، ليس بجيد، مكانتك تهتز لى عائلة الهلالي)
نظر الى عينيها طويلا قبل أن يحرك كفه بلامبالاة قائلا بايجاز
(على ما يبدو).

ارتفع حاجبي سوار في دهشة و هي تسمع نبرته الفاترة، فقالت بحدة
(الا تهتم؟)
رد عليها ليث قائلا بلا تعبير
(على ما يبدو أنك تهتمين أكثر)
ردت سوار بصلابة عاقدة حاجبيها
(ماذا تقصد يا ليث، لم يعجبني تلميحك، هل تظن أنني تزوجتك، رغبة مني في أن أكون زوجة كبير عائلة الهلالي مستقبلا؟)
رد ليث ببساطة
(هذه رغبة العديد من النساء هنا بالفعل)
رفعت سوار ذقنها و قالت بصوت قوي.

(لكن ليست سوار الرافعي، أنا لا أهتم لمكانتك، الا بالقدر الذي يهمك أو يوجعك)
نظر اليها ليث نفس نظرته الطويلة الغامضة قبل أن يقول بخفوت اجش
(بماذا تهتمين اذن يا سوار؟، هل هناك ما هو قادر على اختراق درعك المنيع و الظفر باهتمامك الثمين؟)
شحب وجهها من نبرة الإتهام في صوته العميق الخافت، الا أنها قالت بإباء.

(بالطبع أهتم، اهتم بك فأنت ابن خالي، لكن ربما ليس بالطريقة التي تهتم أنت بي، و هذ يجعلك غير راضيا، أعتذر إن كنت لم أحقق لك حلمك كاملا، لكنني أبذل أقصى ما في وسعي)
رفع ليث يده مشيرا اليها لتقترب وهو يقول بخفوت آمر
(تعالي).

بدت سوار مترددة للحظة الا أنها سارت الى حيث يجلس فجذب كفها برفق الى أن جثت على ركبتيها أرضا أمامه، حينها استقام في جلسته و مال اليها حتى اقترب من وجهها البهي الصلب الذي يفتقد الى جموحها القديم...
ثم قال بخفوت أمام عينيها الناظرتين اليه بكبرياء
(و هل أخذك لأقراص النوم قبل اقترابي منك، يعد أقصى ما في وسعك؟، أنت حقا قادرة على اراقة كرامة رجل دون أن يهتز لك جفن).

شحب وجهها أكثر و هي تنظر الى ملامحه الصامتة، الصلبة و العينين الداكنتين، فقالت بخفوت
(لم تنجح على أي حال)
قال ليث وهو يتلمس وجهها برقة مبعدا وشاحها عن رأسها
(المهم ما كنت تريدين)
أخفضت سوار وجهها و هي تستند بكفيها الى ركبتيه دون أن تشعر، غير قادرة على الرد، فقال ليث نيابة عنها
(كم مرة تنوين أخذها؟، مرة، اثنتين، ثلاث، الى أن تعتادي قربي؟، ماذا لو طال الأمر لبقية حياتنا معا؟).

بقت سوار منكسة الرأس أمامه، صامتة، مظلمة الملامح، ثم قالت أخيرا بخفوت
(لن آخذها مجددا)
لم يبدو أنه قد رضي تماما عن جوابها الخافت، فقال بهدوء
(هل تبغضين قربي الى هذا الحد؟)
كلمة واحدة، لو نطقتها فربما سيبتعد عنها و لن يقربها مجددا، لو نطقت بكلمة نعم
حينها ستمنعه كرامته من لمسها أبد الدهر و ستكون محرمة عليه بقرار منه...
لكنها لم تستطع، لم تحاول، من الأساس...

فهزت رأسها المخفض نفيا ببطىء، حينها مد يده اسفل ذقنها ليرفع وجهها اليه حتى تلاقت أعينهما طويلا، فقال بخفوت
(ما اللذي ينقص يا سوار؟، ما الذي ينقص كي تهبيني نفسك دون شروط، دون كوابح)
ابتلعت سوار غصة في حلقها قبل ان تقول
(ربما لم يعد لدي ما أهبك)
ساد الصمت بينهما طويلا قبل ان يقول ببطىء و بتصميم
(اليوم الذي تغادر فيه انفاسك، سيكون اليوم الذي لن يكون لديك ما تهبيني اياه، و أسأل الله أن يكون يومي قبل يومك).

رفعت يدها بسرعة لتسكته و هي تقول بصوت أجش
(بعيد الشر عنك)
برقت عينا ليث لعدة لحظات جياشة، الا أنها لم تطول، فقد دخلت ام مبروك مسرعة مهرولة و هي تقول
(سيد ليث)
انتفضت سوار واقفة، لتبتعد عن مقعد ليث بحرج، بينما أخذ هو نفسا عميقا غاضبا، قبل ان يقول بكبت
(ماذا هناك يا أم مبروك؟)
ارتبكت أم مبروك من المشهد الذي رأته للتو، و ادارت ظهرها و هي تقول متلعثمة برعب
(أعتذر سيدي، أعتذر)
تنهد ليث وهو يقول بصبر.

(ماذا هناك يا أم بروك؟)
تلجلجت أم مبروك و هي تقول
(السيدة ميسرة و نساء العائلة، حضرن لتهنئة السيدة سوار على الزواج)
اتسعت عينا سوار و هي تقول بحدة
(مجددا؟)
رمقها ليث بنبرة تحذير جعلتها تصمت غاضبة و هي تشتعل، فقال ليث بهدوء
(ادعيهن الى هنا يا أم مبروك و حضري الغذاء من الآن)
انصرفت أم مبروك مهرولة، بينما قالت سوار بغضب
(لا أريد أن)
الا أن ليث رفع كفه يقول بصلابة.

(كفى يا سوار، مضى اسبوعان على زواجنا، و لا مفر من استقبال ضيوفك و اكرامهم، لا أريد لأحد أن يتهم دار ليث الرافعي بالتخاذل عن تقديم الواجب و استضافه أهله، لقد رأيت بنفسك ما تحملته اليوم)
زمت سوار شفتيها بغضب، و هي تجابه نظراته بأخرى تحترق، الا أنها سرعان ما خلعت عبائتها السوداء أمام عينيه المراقبتين لها بنهم...
فبقت بأخرى بيضاء مذهبة، بينما حررت شعرها طليقا حتى بدت كعروس بأجمل ما تكون...

ابتسم ليث وهو يراقب العنفوان على ملامحها المستاءة و هي تتحول سريعا الى بجعة ساحرة، بينما همس بداخله
حماك الله من شر العين يا مليحة، لتصبني قبل أن تصيبك، تحرك ليث ليخرج متنحنحا بصوت عال كي ينبههن الى خروجه، الا أن ميسرة كانت أول من أدركه، فأسرعت اليه تمسك بساعديه و هي تقول بشوق
(حمدا لله على سلامة عودتك يا غالي، أنرت أرضك و دارك)
ربت ليث على كتفها برفق، وهو يقول باقتضاب.

(سلمك الله يا ابنة عمي، أعرف أنني تأخرت عليك لكنني الليلة س)
رمت ميسرة رأسها على صدره بلهفة و هي تهتف مقاطعة
(لا تعتذر يا غالي، تكفيني رؤيتك سالما غانما، ليرتاح قلبي)
شعر ليث بالحرج مما تفعله ميسرة أمام سوار و التي كانت تراقبهما من بعيد بنظرة غريبة...
انها المرة الأولى التي تراقبهما فيها على هذا النحو...
أما ميسرة فمالت الى ليث تهمس في اذنه
(لي رجاء عندك يا سيد الرجال، و أملي الا تخيب ظني).

نظر اليها ليث قائلا بخفوت
(ماذا تريدين يا ميسرة؟)
مالت اليه اكثر و همست متوسلة
(أريد مرافقتك في السفرة التالية للمدينة، احدى بنات عمي رشحت لي طبيبة جديدة، معروف عنها خبرتها بعد عودتها من الخارج، عسى الله ان يجعل الذرية على يديها، أرجوك يا حبيبي، لا تحرمني هذا الرجاء الذي أعيش لأجله، رؤية طفل منك هي سعادتي في المتبقي من عمري).

نظر ليث الى سوار نظرة طويلة، بينما بادلته سوار النظر بجمود و هي ترفع رأسها بترفع عما تحاوله ميسرة...
الا ان ليث قال لها برفق
(لا اتمنى لك المزيد من الأماني الكاذبة يا ابنة عمي، لنرضى بقضاء الله)
هتفت مترجية بشكل اثار اشمئزاز سوار اكثر
(ارجوك، ارجوك، لنسعى و نحاول)
تنهد ليث وهو يضغط اعلى حاجبيه، قائلا بخفوت
(حسنا يا ميسرة، المرة القادمة سترافقينني).

ابتسمت ميسرة بانتصار و هي ترمق سوار بطرف عينيها، بينما رمتها سوار بنظرة كالسهم، فقال ليث بصلابة
(ادخلي النساء يا ميسرة اهلا بهن، سأخرج على الفور)
رمق سوار بنظرة اخيرة قبل ان يستدير خارجا من الباب الخلفي، أما سوار فوقفت تنظر الى ميسرة بسخرية قبل ان تقول
(انا مندهشة لفقدانك النذر القليل من الخصوصية يا ميسرة! الا تشعرين بالضيق لسماع أسرارك على هذا النحو).

ابتسمت ميسرة ابتسامة بددت كل ملامح المسكنة و التوسل، لتقول بصوت كالخرير
(ليس بقدر الضيق الذي اراه على وجهك الآن، و الذي سأرى أضعافه لاحقا)
تصلبت ملامح سوار و هي تنظر اليها بقسوة، الا ان ميسرة نادت عاليا من الباب الخارجي
(تفضلن، تفضلن، لقد خرج الغالي و ليست هناك سوى، ابنة الرافعية)
استدارت ترمي سوار بنظرة اخيرة، تبدو كنظرات افعى كان يربيها راجح قديما، تذكرتها سوار الآن...

بدات النساء في الدخول لنهنئة سوار و على ألسنتهن عبارات الاعجاب ما بين شهقات خافتة و بين قول
بسم الله ما شاء الله، تبارك الرحمن...
حينها تولت سوار امر ضيافتهن حتى بدت كالملكة المتوجة في صوتها و اناقة حركتها و ابتسامتها الهادئة...
مما جعل جميع النساء يسحرن بطريقتها الراقية الأخاذة و اسلوبها الفطري في جذب النظر...

اما ميسرة فلم تستطع السيطرة على طاقة الحسد التي تطل من عينيها، مما جعلها تنهض لتغادر المضيفة بعنف، تتبعها نظرة من طرف عين سوار...

دخلت ميسرة الى المطبخ لتقول بصوت آمر
(هل جهز الطعام يا ام مبروك؟)
ردت ام مبروك عليها بسرعة و تهذيب
(حالا، حالا يا سيدة ميسرة و سيكون كل شيء جاهز)
قالت ميسرة بصلف
(حسنا اتركي ما بيدك حالا و اخرجي لتأتيني بحقيبة يدي من على الأريكة المذهبة في الخرج، أريد أخذ دوائي منها)
قالت ام مبروك و هي تمسح كفيها
(حالا سيدة ميسرة، حالا).

انتظرت ميسرة الى ان اختفت فاتجهت لتتناول كوبا زجاجيا، ملأته ماءا من ابريق بجوار نسيم التي كانت تعمل في صمت، فقالت دون ان تنظر اليها و هي ترتشف الماء
(ما الجديد بخلاف أقراص منع الحمل، اسرعي)
اضطربت نسيم و همست مرتبكة برعب
(ضيفة أتت، و تكلمت عن فضيحة، فضيحة كبيرة جدا، )
برقت عينا ميسرة بلمعان مخيف، قبل ان تهمس بنهم
(كل كلمة سمعتها، أسرعي).

تأففت ريماس و هي تقول بنفاذ صبر
(اثبت يا عمرو، لقد تعبت من سرعة حركتك، ارتدي قميصك و الا سأخبر والدك و سيعاقبك)
رد عمرو عليها بشقاوة
(لن يعاقبني، سيصطحبني الى تيما، و نخرج مجددا و هذه المرة سيأخذني الى عرض الدلافين)
مطت ريماس شفتيها بامتعاض و هي تقول
(تيماء مجددا، لقد سرقتك أنت ووالدك، بينما أنا).

دق جرس الباب فجأة، فانتفضت ريماس و هي تعقد حاجبيها متسائلة عمن سيأتي الآن، نظرت الى ساعة الحائط حيث كانت تشير للسادسة صباحا، و هي تقوم باعداد عمرو استعدادا للذهاب الى المدرسة...
برقت عيناها فجأة و هي تبتسم بلهفة هامسة
(قاصي!)
فتركت عمرو و نهضت جريا الى باب الشقة كي تفتحه دون ان تهتم بستر نفسها فوق قميص النوم الذي ترتديه مظهرا الكثير من مفاتن جسدها...
هتفت و هي تفتح الباب
(الم تقل أنك ستصل في الثامنة؟).

الا ان الكلمات توقفت على شفتيها فجأة بذعر و هي تنظر الى الواقف امامها، يرمقها بنظرات شهوانية قذرة، من اعلى رأسها و حتى اخمص قدميها، متطرقا بعينيه كل ذرة من جسدها بوقاحة...
مبتسما ابتسامة جائعة، لكنه جوع الانتقام و الحقد، بينما عيناه الحمراوان تدلان على انه لم ينم بعد، بل انهى سهرته و اتى اليها...
همست ميسرة برعب غير مصدقة و هي تتراجع للخلف خطوة
(راجح!)
ابتسم راجح ابتسامة مدنسة وهو يقول بصوت اجش بطيء.

(مر وقت طويل على آخر مرة لبيت بها اوامر سيدك، جاريتي)
هكذا كان يداعبها دائما، ففغرت شفتيها بذهول و هي تتراجع خطوة اخرى، بينما اندفع عمرو من خلفها يقول ببراءة
(من هذا الرجل يا أمي؟)
اخفض راجح عينيه وهو يتأمل عمرو طويلا، و قد طار العبث من عينيه و بقى احمرار التملك...

نطقتها مجددا بصوت ذاهل و كأنها تحاول طرد تلك الصورة من مخيلتها، لعله حلم كئيب من احلامها التي اعتادتها على مدى السنوات الماضية...
نبرتها المرتجفة، جعلته يفيق من نظرته الطويلة المتجهمة التي كان يراقب بها عمرو بحدة، فرفع عينيه لينظر اليها...
حينها فقط عاد العبث القاسي الى عينيه وهو يتأملها بوقاحة قائلا بسخرية
(نعم راجح، هل تتذكرين الاسم أم أنك تختبرين اعادة لفظه بطريقة جديدة؟).

كانت ريماس تتراجع دون ارادة منها و هي تنظر اليه بعجز غير مصدقة، بينما تقدم هو مغلقا الباب بقدمه دون أن يرفع عينيه عنها، ثم تابع قائلا بهزل عنيف
(أتذكر حين كنت تنطقين اسمي همسا و توسلا مشتاقا في كل مرة، فماذا حدث؟ و من تلك المرأة الغريبة التي تقف أمامي مذهولة!).

ابتلعت ريماس ريقها و هي تنظر اليه بصدمة، كان ذهولها قد تضائل قليلا، الا أن مرآه أمامها الآن بدمه و لحمه يجلب لها ذكريات موجعة، فضلت أن تنساها منذ سنوات طويلة...
ذكرى والدها الذي طردها من بيته للأبد.
ذكرى أمها و هي تنتحب مشيحة بنظرها عنها، غير قادرة على كسر أوامر والدها...
ذكرى الاتصال الذي وصلها يخبرها بوفاة أمها دون أن تراها...

ذكرى ابنها الذي مات و أوجع قلبها على الرغم من أن الموت كان راحة له مما قد يعانيه وقتها...
ارتجفت شفتاها و هي ترى شريط حياتها منذ أن اقتحمها راجح، شريط أسود اللون يمر أمام عينيها الحزينتين...
راجح لم يجلب لها سوى الخراب في حياتها و رغم ذلك لم تستطع مقاومته أبدا، كانت تمنحه طرف الطوق الذي يخنقها به كل مرة، ثم يتركها ذليلة وضيعة، دون كرامة، ميتة دون حياة...

مرت عدة لحظات و هي تخضع الى تقييمه الوقح لها، تقييم أخبرها بوضوح، كم كبرت، و كم تركت السنوات على ملامحها و جسدها آثارا أزيد من المفترض...
آثارا نتيجة الإدمان لفترة، حمل يلي حمل، وحدة و ذل...
لم تعد نفسها الجارية الفاتنة ذات العشرينات من عمرها، بل باتت امرأة ذاقت الأمرين في نضجها...
وجدت صوتها أخيرا فقالت بنبرة أجشة مرتجفة
(ماذا تفعل هنا يا راجح؟)
ارتفع حاجبه بسخرية و قال هازئا.

(الا تملكين أي قدر من الضيافة؟، لقد تغيرت فعلا، أتذكر حين كنت)
هتفت ريماس بقوة و ألم و هي تنظر الى عمرو بطرف عينيها
(كفى)
أجفل عمرو و انتفض في مكانه، فتمالكت نفسها و أغمضت عينيها للحظة قبل أن تعاود فتحهما، لتقول بخفوت هامس
(كفى أرجوك، لا تفعل)
ازداد التواء ابتسامة راجح قسوة، بينما قال ببساطة وهو يتحرك ليتأمل المكان بتعال
(لا بأس، لدينا كل الوقت كي نعيد ذكرياتنا القديمة سويا على أقل من مهل).

صمت للحظة وهو يتابع نظراته باستعلاء واضح ثم قال أخيرا بتكبر
(اذن هذا هو العش الذي اختاره لك ابن الحرام كي يأويك به! ألم يكن لديه مكان أفضل قليلا؟)
نظرت ريماس الى عمرو الذي كان يراقبهما باهتمام و تحفز و هي تشعر بطعنة كلمات راجح تقتلها دون رحمة، ثم اعادت نظرها اليه، لتقول بفتور مرتجف
(على الأقل كان لديه مكان لي، و لابني).

شتمت لسانها الغبي الذي ذكره بعمرو فعاد ينظر اليه بحدة، يراقبه من جديد، الا أنها قالت بصوت متوتر و هي تفرك أصابعها
(ادخل غرفتك الآن يا عمرو)
نظر اليها عمرو عاقدا حاجبيه دون فهم، لكنه قال محاولا أن يؤخر أمر دخوله
(سنتأخر على موعد حافلة المدرسة)
ردت ريماس مبتسمة بتوتر بينما العرق يغطي جبهتها
(لا يزال الوقت مبكرا حبيبي، ادخل و العب قليلا).

تحرك راجح ليرتمي على الأريكة المريحة بأريحية وقحة و كأنه يمتلك المكان، ثم قال واضعا ساقا فوق أخرى آمرا...
(انتظر يا ولد، تعال الى هنا)
توقف عمرو ينظر اليه، بينما قالت ريماس بذعر مترجي و هي تنقل عينيها بينهما
(راجح!)
الا أنه لم ينظر اليها و لم يهتم بها حتى، بل تابع مراقبته الحادة الى عمرو الذي كان يبادله النظر مقطبا بتحفز، فأعاد راجح آمرا
(ألم تسمع ما أمرتك به يا ولد، لقد أمرتك بالإقتراب، أم أنك جبان؟).

قال عمرو عابسا
(أنا لست جبان، و أنا لست ولد)
ارتفع حاجبي راجح بدهشة قليلا، قبل أن يضحك عاليا ضحكة قصيرة، قال بعدها...
(تعال اذن و أرني أنك لا تخاف ال، غرباء)
نظر عمرو الى أمه نظرة واحدة، و كانت تبدو في حالة من الذعر و كأنها تخشى أن يقتل راجح ابنها لو اقترب منه، أو يصيبه بشيء...

لكن عمرو تحرك على غير عادته، فهو عادة يرفض الإختلاط بالأغراب، لكنه أخذ يخطو بحذر تجاه راجح الى أن وصل اليه، فوقف أمامه بجوار ركبتيه، بينما كان راجح ينظر اليه نظرة قوية دون أن يتحرك من مكانه، ثم قال أخيرا بصوت ساخر، الا أن السخرية لم تصل الى عينيه
(جيد، يبدو أنك لا تخاف رغم منظرك الضعيف، ما هو اسمك اذن؟)
رد عمرو قائلا بصوت خافت و بعبوس
(عمرو)
كان راجح لا يزال يتأمله مليا قبل أن يأمره بخشونة.

(الا تستطيع نطق اسمك كاملا يا ولد!)
تردد عمرو قليلا الا أنه قال في النهاية بخفوت
(اسمي عمرو راجح الرافعي، و أنا لست ولدا، الأستاذة تستخدم هذه الكلمة للتوبيخ)
لم يهتم راجح الى عبارته الأخيرة، بل بدا و كأنه يتذوق الإسم للمرة الأولى، بينما هتفت ريماس بتوسل
(أرجوك، أرجوك دعه يدخل غرفته فهو، يجب أن يستعد للمدرسة).

كان راجح لا يزال ينظر الى عمرو، قبل أن يأخذ نفسا عميقا قبل أن يلوح اليه بعجرفة كي يبتعد، لكن عمرو ظل ينظر الى أمه قليلا فهمست له مترجية
(اسمع الكلام حبيبي، هيا اذهب)
جرى عمرو الى غرفته بينما وقفت ريماس، مغمضة العينين، مطرقة الرأس بخنوع أمام راجح الذي كان يجلس أمامها بسلطة، يخضعها الى تأمل حاد، و كأنه يقصد أن يذلها أكثر مع كل نظرة...
الى أن همست أخيرا دون أن تفتح عينيها
(لماذا أتيت يا راجح؟، لماذا؟).

ساد الصمت لعدة لحظات، قبل أن يقول ببساطة أشد قسوة من الصراخ
(أتيت كي أرى، ابني)
فتحت ريماس عينيها بعنف و هي تهتف
(ابنك!)
نظرت الى غرفة عمرو بهلع، قبل أن تعيد عينيها الى راجح مخفضة صوتها قليلا لتقول بقسوة
(منذ متى يا راجح؟، متى كان عمرو ابنك؟)
ارتفع حاجبيه وهو يقول بلامبالاة زادت من رعبها
(عمرو ابني منذ تكونه في أحشائك، اسمي الذي يلي اسمه يؤكد ذلك)
قالت ريماس مندفعة و كأنها تدافع أمام جلاد ظالم.

(الاسم لا يعني شيئا، هو لا يعرفك)
ابتسم راجح ليقول هازئا
(الاسم يعني كل شيء، لن يمر وقت طويل قبل أن يستوعب أنني أنا والده، و ليس ابن الحرام الذي يأوي أمه، و يطعمها لقاء القليل من المتعة المتبقية في جسدها الجاف الجائع)
هتفت ريماس بأنين متألم، كحيوان صغير يحتضر
(لماذا عدت؟، ما الذي ذكرك بي، كي تعود و تذلني أكثر، لقد خرجت من حياتك للابد أنا و ابني، فماذا تريد منا؟).

نهض راجح من مكانه ليقول بصوت كريه وهو يخترقها بنظراته الحادة
(أنت آخر ما يهمني، انظري الى نفسك، لست سوى بقايا امرأة مثيرة للشفقة، تحيا على التسول بجسدها المتهالك، كل ما يهمني هو ابني)
صمت للحظة قبل أن يقول بصوت قاطع مخيف و قد اختفى الهزل من عينيه تماما
(أريده)...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة