قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع عشر

صرخت ريماس برعب و هي تتحرك لتقف في الطريق المؤدي الى غرفة عمرو
(على جثتي، لن تأخذه، الا على جثتي)
ضحك راجح فجأة عاليا، قبل ان يقترب منها ببطىء الى ان وصل اليها، فارتجفت و كادت أن تسقط، الا أنها تماسكت و هي ترتعش بدموع حبيسة في عينيها، بينما وقف راجح ملاصقا لها، و أنفاسه تلفح وجهها، تكاد أن تحرقه، ثم قال بسخرية مخيفة، خافتة...

(و ماذا تظنين نفسك؟، ما أنت الا جثة يا ريماس، لذا سيكون أخذه منك أسهل و ارخص من استسلامك لي)
رفعت وجهها اليه و هتفت بقسوة رغم الدموع التي انسابت على وجنتيها
(لن يحدث يا راجح، كل ما فات بيننا من ماض مخزي في كفة، و ابني في كفة أخرى، لن أستسلم لك مطلقا، سأحاربك)
ارتفع حاجبي راجح قليلا و شفتيه تلتويان بسخرية، قبل ان يقول بنبرة غريبة.

(يبدو أن بعض الروح لا تزال تنبض بك! أتسائل عن وجود أشياء أخرى حية لا تزال تسكنك!)
و قبل أن تفطن الى مقصده، شعرت بيده الساخنة تلامس خصرها فوق قميص نومها الحريري الطويل، فشهقت و هي تنظر اليه بعينين متسعتين صدمة...
ابتسم راجح وهو يدرك جيدا ما يفعله، بينما تحركت أصابعه في حركة اغواء لا تكاد أن تكون ملحوظة...
فازداد شهيقها الصامت، بينما همس في أذنها
(أتتذكرين تأثير لمستي بك؟).

أطبقت ريماس عينيها بشدة و هي تبتلع ريقها بصعوبة، فارتفعت أصابع يده ببطىء على طول جسدها مما جعلها تنتفض بعنف تحت حركة أصابعه التي وصلت الى عنقها تتحسس تشنجه المؤلم، فأفلتت منها تنهيدة حادة، جعلته يبتسم وهو يهمس لها برفق
(لم ينسى جسدك أصابعي أبدا).

كان لكلماته تأثير الصفعات اللاطمة على وجهها، ففتحت عينيها و هي تشهق بصوت عال، متراجعة للخلف برعب و كأن أفعى سامة لامستها الى أن ارتطم ظهرها بالجدار بينما طوقت صدرها بذراعيها، علها تمنع سرعة حركته المذعورة...

استمر الصمت بينهما لعدة لحظات و كل منهما ينظر الى الآخر، ما بين ذعر ريماس و الدموع الجافة على وجنتيها و الصدمة البادية في عينيها، صدمة من نفسها و ردة فعل جسدها قبل أن تكون صدمة منه، و بين السخرية الظاهرة في عينيه...
كانت على وشك السقوط أرضا، الا أنه قال في النهاية مبتسما وهو يتراجع للخلف
(ربما لن تحاربين حقي، بالقوة المطلوبة، يا ريماس).

لم تستطع النطق، بل لم تسمعه من الأساس، لكنها رأته وهو يرفع اصبعيه الى جبهته مودعا وهو يقول ببساطة
(أراكما قريبا)
و أمام عينيها الذاهلتين رأته يبتعد الى أن خرج من الشقة مغلقا الباب خلفه، أما ريماس فقد ظلت ملتصقة بالحائط، تحيط جسدها بذراعيها و هي تنظر الى الباب المغلق بذعر الى أن سقطت أرضا و هي تشهق باكية بصمت، كاتمة صوت نحيبها كي لا يصل الى عمرو...

بعد ساعتين من الزمن و ما أن استطاعت تمالك نفسها بصعوبة...
كانت ريماس في غرفة عمرو، مستلقية معه على سريره، تضمه الى صدرها و تتنعم بنعومة شعره على وجنتها...
عيناها حمراوين و منتفختين، و هي تنظر بشرود الى البعيد، بينما عمرو مستكين بين ذراعيها تماما و كأنه يمنحها راحة لا يستوعبها بسنوات عقله الصغير، الا أنه قال بخفوت.

(لماذا قررت ان أتغيب من المدرسة يا أمي؟، كنت قد ارتديت ملابسي و مستعدا للذهاب، قالت الأستاذة الا نتغيب كثيرا كي لا ننسى الكلمات الجديدة التي نتعلمها كل يوم)
ربتت ريماس على شعره تتخلل خصلاته الناعمة بشرود و هي تهمس باعياء
(أنا تعبت قليلا حبيبي، و أحتاجك الى جواري، تساعدني و لا تتركني، أبدا)
دفن عمرو وجهه في صدر أمه وهو يقول بوداعة
(لن أتركك أبدا).

أغمضت ريماس عينيها و أفلتت منها شهقة بكاء عالية دون ارادة منها، فضمها عمرو اليها أكثر وهو يقول دون أن يستوعب
(لا تبكي، لن أتركك)
الا أن ريماس لم تستطع الصمود، فعادت تبكي و تبكي، و هي تشدد من ضم عمرو الى صدرها، و بعد فترة طويلة، رفع عمرو وجهه اليها وهو يقول بحيرة
(أمي، من كان هذا الرجل الذي أتى الى هنا و أغضبك؟).

تسمرت ريماس مكانها فجأة، و تصلب جسدها، قبل أن تنظر الى عمرو بعينيها المنتفختين الواسعتين، قبل أن تمسح وجهها بظاهر يدها و هي تقول محاولة الكلام بجدية و تحذير.

(هذا شخص خطير يا عمرو، اسمعني جيدا، لو أتى هذا الرجل الى مدرستك أو رأيته في أي مكان فلا تذهب معه مطلقا مهما أقنعك، هل تتذكر ما قلناه عن عدم الذهاب مع الغرباء مهما كانو لطفاء و مقنعين؟، اياك يا عمرو أن ترافقه أو ترافق أي شخص غريب الى أي مكان، مطلقا، لن يصطحبك الا أمك و قاصي، والدك، فقط، لا مخلوق سوانا، مفهوم حبيبي؟)
نظر اليها عمرو و قال ببساطة
(و تيما).

تصلبت نظرات ريماس، قبل ان ترفع عينيها الى السقف باحساس قميء، يرافقه طعم الصدأ في حلقها، فقال عمرو حين لاحظ صمتها
(لو اتت تيما الى مدرستي كي تصطحبني، فهل اذهب معها؟)
تأففت ريماس بصوت عال ثم قالت ببرود خافت
(ريماس تسكن في مدينة أخرى حبيبي، انساها الآن و استمع الى جيدا)
أمسكت بجانبي وجهه بقوة كي تستجمع كل اهتمامه، ثم قالت مخاطبة عينيه بصوت هامس بطيء.

(عمرو، هذا الرجل الذي أتى الى هنا، سيكون سرا بيني و بينك، لا تخبر به أي مخلوق، اتفقنا، اي مخلوق يا عمرو)
ظل عمرو صامتا قليلا، قبل أن يوميء برأسه دون رد وهو يستشعر خطورة نبرة والدته، و التي قالت بهمس اكبر
(حتى قاصي، لأنه سيغضب منا لو علم بأننا سمحنا له بالدخول، فسيقاطعنا و لن يكلمنا مجددا)
همس عمرو بخفوت مؤكدا
(لن أخبره مطلقا).

ابتسمت ريماس بحزن و هي تداعب شعره بألم، الا أن صوت مفتاح في باب الشقة جعلها تنتفض بذعر ناظرة الى باب الغرفة بهلع، بينما قفز عمرو هاتفا بسعادة
(أبي، أبي، لقد عاد أبي)
و دون انتظار، كان قد قفز من بين ذراعي والدته ليجري الى باب الشقة حيث دخل قاصي و القى المفاتيح جانبا قبل ان ينظر إلى عمرو رافعا حاجبه وهو يقول بصرامة خادعة
(لماذا تغيبت عن المدرسة؟).

قفزت ريماس من سرير عمرو جريا وراءه كي تمنعه من الكلام، الا انها تسمرت مكانها، تبتلع ريقها و هي ترى قاصي وهو يرفع عمرو فوق كتفيه عاليا، بينما هتف عمرو بجذل
(لأن أمي كانت مريضة و تحتاجني بجوارها)
رفع قاصي وجهه الى ريماس التي كانت واقفة في بداية الرواق، متصلبة و مكتفة ذراعيها، فنظر الى عينيها المتورمتين الحمراوين ووجهها الشاحب قبل ان يقول بتفكير
(حقا!)
أومأ عمرو برأسه وهو يقول بقوة.

(كانت مريضة جدا، و كانت تبكي لأن)
هتفت ريماس بذعر و هي تفك ذراعيها
(كفى يا عمرو، أنت تقلق والدك دون سبب، سيغضب منا و لن يكلمنا لو، بالغنا، اتذكر!)
أومأ عمرو برأسه، بينما اقترب قاصي من ريماس التي اخفضت وجهها باحساس بالذنب ما ان واجهها بنظراته التي تخترق كيانها و كأنها كائن شفاف، وصل اليها حاملا عمرو فوق كتفيه، ثم قال باهتمام
(هل أنت بخير؟).

رفعت وجهها الشاحب اليه و قد بدت عيناها منتفختان وواسعتان بشدة، لكنها اومأت بعصبية و هي تقول مؤكدة
(طبعا، طبعا بخير، لماذا لا أكون بخير؟)
عقد قاصي حاجبيه قليلا، وهو ينظر اليها بترقب، فتهربت من نظراته بعينيها و هي تشبك اصابعها بتوتر، فقال ققاصي بخفوت
(لا تبدين كذلك، هل آخذك الى الطبيب؟)
رمشت بعينيها قبل أن تهز رأسها و هي تدلك ذراعها.

(لا، بالطبع لا، أنا فقط، كنت مرهقة و لم أستطع النزول مع عمرو لانتظار الحافلة)
أنزل قاصي عمرو من فوق كتفيه وهو يضربه على كتفه قائلا
(حسنا يا بطل، لا مفر اذن من اصطحابك معي الى المطبعة، اذهب و ارتدي ملابس الخروج، اسرع و الا ذهبت وحدي)
راقبت ريماس عمرو وهو يجري الى غرفته، ثم استدارت الى قاصي قائلة بتوتر
(لماذا تأخذه معك؟، اتركه معي أرجوك)
وضع قاصي يديه في خصره وهو يقول بخفوت أجش.

(وضعك لا يعجبني، لماذا كنت تبكين؟)
رفعت ريماس عينيها اليه و قالت باجهاد بعد فترة
(و هل تهتم؟)
ازداد عبوس قاصي وهو يقول مؤكدا
(بالطبع أهتم، أنت أم عمرو و لا أريد سوى أن أراك في أفضل حال، )
استدارت ريماس عنه و هي تتنهد بصمت شاردة في البعيد، ثم همست بعذاب
(أنا لست في أفضل حال، لست في أفضل حال أبدا).

ظل قاصي يراقبها طويلا بحاجبين منعقدين، قبل أن يقترب منها ثم وضع كفيه على كتفيها برفق فانتفضت لكنها لم تبتعد، فقال قاصي بخفوت
(لو أردت فسوف أمنحك الطلاق لتتزوجين، و أنا أتكفل بعمرو)
ظلت ريماس على صمتها لعدة لحظات قبل أن تقول من بين أسنانها
(لو طلقتني فسوف آخذ عمرو و نسافر للأبد، و لن ترانا مطلقا، لو كنت أحتاج لمجرد مالك لاستطعت بيع جسدي و الحصول على الكثير منه)
ازداد عبوس قاصي و قال بخشونة و سطوة.

(لا تتكلمي بهذا الرخص، بذلت معك مجهود جبار حتى أصبحت امراة محترمة، بعيدة عن السموم و التخاذل و القرب من بيع جسدك كما تقولين طلبا للمخدر، تعبت الى أن جعلت منك أم لا تفكر سوى في مصلحة ابنها بعد أن جنت عليه و على أخيه بانجابهما من والد نذل، ريماس، أن الأوان لتتعبي قليلا كي تعوضي ابنك عن فقدانه لوالده الذي رماه دون ذنب لمجرد أنك ضعفت و استسلمت له للمرة الثانية دون كوابح).

ظلت ريماس توليه ظهرها و هي تغمض عينيها بألم، فأدارها نحوه كي تواجهه الا أنها ابقت وجهها منخفضا، لكنه قال بصوت أكثر تهديدا
(لا اريد سماع التهديد بحرماني من عمرو مجددا، هل كلامي واضح؟، لي فيه أكثر مما لك و سأحاربك أنت شخصيا لو تطلب الأمر)
رفعت ريماس يدها الى جبهتها و هي ترتجف فعليا، فتنهد قاصي ثم أبعد يدها عن جبهتها وهو يقول بخفوت.

(لم أقصد أن أكون قاسيا معك و أنت متعبة نفسيا الى هذا الحد، أعرف أنك تعانين يا ريماس، لكن ليس بوسعي مساعدتك فيما تطلبين، الأمر خارج عن ارادتي)
هزت ريماس رأسها و هي تقول بعصبية و أنين
(أعرف، اعرف، لأنك مدموغ باسم حبيبتك الصغيرة التي تتحكم بحياتك و جسدك و كل كيانك، و رغم ذلك لم تستطع اقتحام الهوة السوداء بداخلك لأنك لم تسمح لها بعد)
عبس قاصي و عقد حاجبيه، فاقتربت منه و همست من بين أسنانها بغضب.

(أنت لن تخدعني يا قاصي، أنا هي من تعرف ذلك السواد بداخلك و تفهمه جيدا، لكن هي، هي تحيا في النور و تظن نفسها قادرة على جذبك اليه)
ابتعد عنها قاصي يزفر بعنف، فاقتربت منه ريماس لتمسك بكفه و هي تغرس اظافرها في راحته مترجية بأنين عال
(دعنا نسافر، نبتعد للأبد، أرجوك يا قاصي، دعنا نأخذ الشيء الوحيد المتبقي لنا و نبتعد من هنا)
استدار اليها قاصي ذاهلا وهو يهتف بعنف.

(هل جننت؟، أتريدين مني ترك تيماء و الهرب؟، إنها الآن تحمل)
الا أن عمر كان قد خرج في تلك اللحظة وهو يهتف
(هيا يا أبي، أنا جاهز)
اخفض قاصي وجهه ينظر اليه، يتأمل ملامحه الشبيهة بملامحه هو تماما، حتى أنه يكاد أن يقسم على أنه ابنه بالفعل، فداعب شعره مبتسما بحنان قبل أن ينخفض على عقبيه ليعقد رباط حذائه قائلا بخفوت
(كم مرة علمتك عقد الرباط؟، و كل مرة تتركه مفكوكا لتتعثر به و تسقط على أسنانك)
قال عمرو بسعادة.

(أنا أتركه مفكوكا لتربطه أنت)
رفع قاصي وجهه الى مستوى وجه عمرو، ثم قال مبتسما
(حسنا أيها المخادع، هيا بنا، لكن ابتعد عن الماكينات و عن عم محمود، و عم عبد العال، لأنهم هددوني بغلق المطبعة في اليوم الذي سأصطحبك فيه)
رفع عمرو يده و قال ملتزما
(لن أقترب منهم، أقسم على هذا)
انتصب قاصي واقفا، ثم استدار الى ريماس قائلا بخفوت وهو يخرج شيئا من جيب بنطاله.

(قبل أن أنسى، هذه هي مصاريف الشهر و فوقها مقدار ما يحتاجه عمرو للمدرسة)
وضع الرزمة الصغيرة على الطاولة بجوارها، فقالت ريماس ساخرة
(هل تنال تيماء مثل ما أناله؟)
عبس قاصي و قال محذرا
(لا شأن لك، هل ينقصك شيء و لم ألبيه؟)
نظرت الى عينيه طويلا، ثم همست بلهجة حزينة ذات مغزى
(نعم)
تنهد قاصي بصوت عال وهو يرجع شعره للخلف بأصابعه قائلا بصرامة
(هيا بنا يا عمرو، لقد تأخرنا)
هتفت ريماس من خلفه تقول.

(تناول افطارك على الأقل، لقد وصلت من السفر لتوك)
نظر اليها قاصي قائلا بجفاء
(تناولته مع تيماء)
رفعت ريماس حاجبيها وهي تنظر الى الساعة التي كانت تشير الى الثامنة و خمسة عشر دقيقة، فقالت بسخرية
(متى تناولته معها؟)
رد عليها قاصي بجفاء وهو يتحرك محضرا بعض الأغراض الخاصة بعمرو في حقيبة
(أعدته تيماء بنفسها بعد استيقاظها فجرا لاداء الصلاة).

بدت ملامح ريماس متصلبة، شاحبة و جافة تماما، مثلما وصفها راجح تماما، لكنها قائلت بسخرية مريرة
(ما ألطفها، ألم تعد لك بعض الشطائر للسفر أيضا؟)
قال قاصي بعنف
(هيا بنا يا عمرو)
لكنه ما أن تحرك عدة خطوات حتى نادت ريماس من خلفه برجاء
(قاصي)
توقف مكانه دون أن يستدير اليها، فهمست برجاء
(لا تغفل عن عمرو لأن، قلبي ليس مرتاحا، أرجوك)
التفت قاصي اليها قليلا ثم قال بخفوت أجش
(لست في حاجة الى تحذير، أنا أرعاه بحياتي).

ترددت ريماس قليلا ثم همست بصوت أكثر ضعفا
(قاصي، هل لي برجاء آخر من فضلك؟، أرجوك لا تخذلني)
استدار اليها و قال بجفاء
(ماذا تريدين؟)
ردت عليه ريماس بصوت يرتعش و عينين قلقتين
(هلا قضيت ليلتك هنا؟، أرجوك، سأعد لك الفراش و أنام أنا على الأريكة، لا تدعني أترجاك أكثر)
نظر اليها قاصي بضيق طويلا، فهمست مبتسمة
(هيا يا قاصي، لن أتهجم عليك ليلا أثناء نومك، يمكنك سحقي على الحائط لو اقتربت منك).

ابتسم رغم عنه، ثم قال أخيرا بصوت أجش
(لا بأس، سأبيت الليلة هنا، اعتني بنفسك، كلي شيئا و رفهي عن نفسك و أنا سأريحك من عناء العناية بعمرو طوال اليوم)
ابتسمت له و هي تومىء برأسها دون جواب، فانصرف قاصي و عمرو مغلقا الباب خلفهما، بينما وقفت ريماس في منتصف الشقة، لتحرر ما بداخلها فجأة و تهتف بعذاب موجع رافعة رأسها للأعلى، محيطة جبهتها بذراعيها
(ياللهي، ياللهي، أكان كابوسا أم حقيقة؟).

ارتفع حاجبي ميسرة و هي تحاول استيعاب ما سمعته للتو من نسيم، بينما فغرت شفتيها المكتنزتين الحمراوين بذهول و هي تهمس
(يا ويلتي على نساء عائلة الرافعي و فضائحن! الستر علينا يا ربي، سلمت نفسها له قبل الزفاف؟، يا مصيبتها و السواد المحيط بها)
همست نسيم بصوت خفيض
(وكيلك الله هذا ما سمعته يا سيدة ميسرة)
بدت ميسرة شاردة تماما و هي تفكر فيما سمعته للتو، بينما همست و كأنما تحادث نفسها.

(لكن بأي شيء تفيدني هذه المعلومة؟، ماذا لو افتضح امرها، بما أستفيد أنا؟)
قالت نسيم باهتمام
(هل تقولين شيئا سيدة ميسرة؟)
عبست ميسرة و هي تنظر اليها قائلة بصلف
(اخرسي و لا تسألي، أعيدي على مسامعي ما سمعته في بداية الحوار، ما يخص سيدتك سوار، بسرعة و لا تنسي حرفا واحد).

اقتربت نسيم منها اكثر و همست في اذنها و هي تنظر الى الباب برعب، تخشى أن يدخل أي أحد، حينها سيقتلها السيد ليث و يمثل بجثتها، فهي باتت تعلم جيدا طبعه و عقوبة من يحاول تجاوز حرمة بيته...
أنا أعرف ما فعله راجح معك،
عقدت ميسرة حاجبيها بينما برقت عيناها بشراسة و هي تهمس
ماذا فعل معها؟، ليت ما في بالي صحيحا! تابعي بسرعة،.

بدت نسيم مترددة، مهزومة الملامح، منكسرة العينين و هي تنظر الى الباب، فقرصتها ميسرة بعنف مما جعلها تشهق ألما، الا أن ميسرة كتمت فمها و هي تقول بصوت خفيض متوحش
(اخرسي، اياك أن يعلو صوتك، انطقي و الا والله سوف أشردك و أتسبب في طردك من البلد للأبد، لو لم أحصل منك على خبر يساوي قيمته فسوف أجعلك تندمين طوال عمرك)
ارتسم الرعب في عيني نسيم و هي تهمس
(و ما ذنبي يا سيدة ميسرة؟، اخبرتك عن خبر مهم للتو).

همست ميسرة من بين أسنانها بنبرة خفيضة مرعبة
(أريد ما يخص سيدتك سوار، أخبريني كل كلمة، و الا عذبتك في كل يوم متبقي من حياتك، انطقي بما تخفينه)
بدت نسيم عاجزة و هي تعض أصابعها رعبا، تتذكر الفرشاة الذهبية التي أهدتها لها سوار، و معاملتها الطيبة، و الأكل الفخم الذي تتناوله هنا، و الذي لم تتذوق مثله في حياتها...
فالسيدة سوار تجبرها على الأكل من نفس الطعام الذي تتناوله مع السيد ليث...

انها، طيبة، لا تستحق الأذى...
همست ميسرة بنبرة ظفر قاسية
(أعلم أن هناك خبر مجزي، أراه في مقلتي عينيك، لذا ستنطقين به أو أدبر لك جريمة، ربما كانت شرف مثلا!)
فغرت نسيم فمها بذهول، و هي ترى ملامح ميسرة و قد تحولت الى ملامح شيطانية مرعبة...
فابتلعت ريقها و همست تقول بعجز
(قالت الضيفة، قالت الضيفة، قالت أنها علمت بأن السيد الذي يدعى راجح أجبر، أجبر السيدة سوار على، على).

قرصتها ميسرة مجددا بطريقة أكثر عنفا و هي تهمس بجنون من بين أسنانها
(انطقي أو أقتلع لحمك بين أصابعي، على ماذا أجبرها؟)
أخفضت نسيم وجهها و همست بصوت مختنق
(أجبرها على قضاء ليلة، معه)
للحظات تسمرت ملامح ميسرة تماما و كأنها تحولت الى صنم، قبل أن تبدأ في التحول تدريجيا، فأخذت عيناها تتسعان، و تتسعان، ليظهر بهما بريق شبيه بمن تقمصه الجن...

قبل أن تفغر شفتيها بذهول أخذ يتحول الى ابتسامة غير مفهومة، مخيفة، بل مرعبة...
مما جعل نسيم تتراجع للخلف خائفة منها فعلا و هي تسرع لتقول بلهفة
(لكن الضيفة قالت أن السيد راجح كان غرضه شريفا، و لم يمسها بسوء مطلقا، أقسم بالله لقد قالت هذا)
رفعت ميسرة كفها و هي تقول بحدة دون أن تفقد عيناها بريقهما الشرس
(كفى، كفى لقد اكتفيت و سمعت ما أريد، احتفظي بالعبارة الأخيرة لنفسك)
رمشت نسيم بعينيها و هي تهمس بصعوبة.

(لكنه عرض السيدة سوار، و هي تحمل اسم السيد ليث زوجك)
ما لم تتوقعه نسيم هو أن يسقط كف ميسرة فجأة و بسرعة لم تلاحظها على وجنتها، و بكل قوة...
شهقت نسيم عاليا من هول الضربة و تراجعت للخلف و هي تضع يدها على وجنتها المحمرة، متسعة العينين، فاغرة الفم...
بينما تعالى صوت سوار فجأة من عند باب المطبخ و هي تهتف بنبرة قاطعة، مزلزلة تردد صداها بين جنبات المطبخ.

(ميسرة، تحكمي بيدك طالما أنت تحت سقف بيتي، انا لا أسمح لك)
شهقت نسيم و هي تضرب وجنتها الحمراء بكفها مرتعبة من أن تكون سوار قد سمعت الحوار الذي دار بينهما...
الا أن ميسرة استدارت ببطىء و هيمنة، و قد ارتسمت الإبتسامة الشياطنية على وجهها ببطىء، قبل أن ترمق سوار بنظرة طويلة، مختلفة و كأنها تراها بطريقة مختلفة و للمرة الأولى...

نظرة شملت سوار كلها بأدق تفاصيلها و على الأخص مفاتنها، و كأنها ترى صورا خاصة، مقززة...
سرى النفور في جسد سوار من نظرة ميسرة، الا أن الأخيرة ضحكت ضحكة منفرة قصيرة، ثم همست بنبرة مقيتة مترفعة
(هل تخاطبينني أنا؟، تعاتبين زوجة كبير عائلة الهلالي أمام خادمتك؟، من تظنين نفسك؟)
ارتفع ذقن سوار و تصلبت عيناها و هي تقول بصوت عال قوي و عنيف.

(لا أظن، بل أعرف أنني أنا ايضا زوجة كبير عائلة الهلالي، و أنك في بيتي، تتجاوزين سلطاتي و تضربين خادمتي، بيتي ليس دارا للعبيد، و لا يصفع فيه أحد الخدم، مطلقا)
زالت الإبتسامة من وجه ميسرة و هي ترمق سوار بنظرة قاتمة، بدت كالجحيم الأسود...
ثم قالت بصوت يرتج بخفوت من شدة الغضب
(ليس لفترة طويلة، و اعتبريه وعد مني)
ابتسمت سوار بسخرية و هي تقول.

(بات هذا الوعد مكرر الى درجة أنني أنتظر خطوة في طريق تحقيقه، لكن على الأقل أظهرت حقيقة نيتك في تهنئتي بكل مرة دخلت بها داري)
كانت ميسرة تنظر الى سوار بنفس الطريقة الغريبة التي حركت معدتها بعدم ارتياح، ثم لم تلبث أن نفضت طرفي عبائتها خلفها و هي تقول مبتسمة بترفع
(لا بأس يا زوجة الكبير، لننتظر، و نسمع).

تحركت لتتجاوزها بقوة، ضاربة كتفها و هي تمر بها، الا أن سوار لم تترنح و لم تهتز، بل وقفت ثابتة و هي تتبعها بنظراتها الغاضبة ذات الكبرياء، قبل أن تلتفت و تنظر الى نسيم...
و التي كانت في حالة من الهلع و هي تتراجع الى أن التصقت بالموقد، فهتفت سوار بقوة
(احترسي)
ثم جذبتها من ذراعها بعيدا عن موقد اللهب، بينما نسيم منكمشة و متجمدة من الذعر فعبست سوار و هي تقول برفق
(لا تخافي بهذا الشكل، لن تمسك مجددا).

كانت عينا نسيم كطبقين واسعين و هي تنظر الى سوار، تتسائل ان كانت قد سمعتهما، و تتخيل رد فعل ليث وهو يربطها في مكان مجهول ليمزق من أوصالها على مهل...
الا أن سوار قالت أخيرا بصوت متزن و هي تبعد يد نسيم عن وجنتها تتفحصها
(لماذا صفعتك؟)
رمشت نسيم بعينيها عدة مرات قبل أن تهمس بصوت مختنق غير مسموع
(ألم، ألم تسمعي ما قالته السيدة، ميسرة؟)
عقدت سوار حاجبيها و هي تقول بخفوت
(لقد سمعت صوت الصفعة، و ذهلت من علوه).

افلت النفس المرتجف من بين شفتي نسيم النازفتين قبل ان تهمس باختناق و هي تنفجر في البكاء من الرعب الذي عاشته للحظات
(لقد ارادت مني تحضير المزيد من القهوة، فرجوتها أن أنهي عملي في اعداد الطعام أولا، فأنا في خدمة زوجة السيد ليث كما هي زوجته)
نظرت اليها سوار بغضب، قبل أن تتنهد بضيق ثم جذبتها الى صدرها و هي تقول مربتتة على رأسها برفق
(حسنا، توقفي عن البكاء، توقفي).

كانت نسيم تبكي و ترتعش، بينما دخلت ام مبروك الى المطبخ و هي تنظر اليهما بذهول ثم هتفت
(ماذا حدث؟، أنت يا نسيم، ابتعدي عن السيدة حالا يا فتاة، ستلوثين ملابسها الفخمة)
لكن سوار رفعت كفها تمنعها عن المتابعة، ثم قالت بهدوء
(لقد جرحتك خواتمها الكبيرة، تعالي لأمرر مكعبا من الثلج على الجرح، و ارتاحي قليلا، سأتعاون انا و أم مبروك على انجاز العمل)
هتفت أم مبروك بذعر.

(لا يصح يا سيدة سوار، ماذا يتخيلن نساء العائلة و هن يرينك تطبخين بنفسك؟، هل عدمت الخادمات!)
قالت سوار باصرار و قسوة
(فليقلن ما يردن، يكفي أن نسيم قد جرحت بسبب دفاعها عني و عن أولوية عملها لدي)
ما ان سمعت نسيم ما قالته سوار حتى اغمضت عينيها و هي تسقط رأسها لتدفنها بين ذراعيها فوق طاولة المطبخ لتبكي بقوة أشد...
فقالت سوار بعزم و هي تشمر عن ساعديها استعدادا للعمل و اتمام اعداد ما لم يجهز بعد...

(لا تحزني يا نسيم، أنا سآخذ لك حقك، حتى لو اضطررت الى اللجوء للسيد ليث بنفسه)
شهقت نسيم و هي تضرب وجنتها بكفها برعب، بينما قالت أم مبروك باستنكار
(كفى ميوعة يا فتاة و اجمدي، من يراك يظن أنك بنت عائلة كبيرة و لم تعرفي الضرب في الخدمة قبلا)
قالت سوار بنبرة صارمة
(ليس في خدمتي يا ام مبروك، الآن اعملي و توقفي عن الكلام).

و رغم البداية السيدة، الا أن الوليمة كانت ناجحة و قد أدت سوار دورها بمنتهى المهارة، من حسن استقبال و اعداد و ترفع، و لم يتأثر مظهرها للحظة...
لكنها كانت تعي جيدا نظرات ميسرة اليها...
كانت نظرات غريبة، تجمع ما بين المقت الشديد، لكنها تضم شيء غير مفهوم، و كأنها ظفرت بكنز، أو كأنها قطة حظت بوليمة دسمة مشبعة...
نظرتها كانت مخيفة، لكنها لم تخف سوار، بل واجهتها بسخرية و هي ترفع وجهها بتعال عن قصد...

و كانت نظرات جميع النساء تتجه اليها بانبهار، خاصة و هي تسترعي انتباههن بالحديث اللبق كعادتها...
فهي فنانة به...
و قبل انتهاء الزيارة، استئذنت سوار بتهذيب لتصعد الى غرفتها، و ما ان دخلت حتى اخذت تفتشها جيدا و بنتهى السرعة...
حتى وجدت ضالتها، فما أن انحنت تحت السرير و مدت كفها حتى لامست سائلا ملونا بطريقة غريبة...

رفعت اصابعها لتشم رائحته، فعبست و هي تنقبض من تلك الرائحة النفاذة الشبيهة بالخل و العسل معا...
رفعت سوار وجهها و هي تزم شفتيها بغضب، قبل ان تنهض بعنف كي تغسل يدها...
ثم نزلت تتهادى و هي تبتسم للأعين التي تلاحقها، و خاصة عيني ميسرة...

استمرت الزيارة لفترة بعد الغذاء، ثم بدأت النساء في المغادرة واحدة تلو الأخرى، الى أن بقت ميسرة في النهاية عند باب الدار المفتوح، تواجه سوار و هي بدورها تواجهها دون أن تجفل أو يرف لها جفن...
الى أن قالت ميسرة أخيرا بخفوت شرس
(استقبال موفق جدا يا زوجة الكبير، أخشى أنه لن يتكرر)
ابتسمت سوار بسخرية و هي تهز رأسها، ثم قالت أخيرا بنفس الهدوء و بنبرة ساخرة.

(الاستقبال المقبل سيكون في دارك يا ميسرة، لكن الفارق أنني لن أقتحم غرفة نومك لأدس أعمال السحر بها، اتقي الله، يوما ما ستنالين جزاء شر اعمالك، لا أصدق أن امرأة متعلمة مثلك، تتجه الى الكفر، اتقي الله في بيتك و زوجك)
ارتفع حاجبي ميسرة و هي تنظر الى سوار بذهول شرس قبل أن تقول غير مصدقة
(أنت، تعظينني أنا؟، أنت يا مغوية الرجال، يا ساحرة، تقلبين الطاولة و تتهمينني أنا بالسحر؟).

ابتسمت بوحشية و هي تتراجع للخلف مكتفة ذراعيها و حليها الذهبية الضخمة تصر صوتا جلل، ثم قالت بصوت متشنج
(ابحثي عن سبب آخر لعلة زوجك معك يا ساحرة، فهو معي لا يعاني خطبا، رجل كالسبع)
امتعضت سوار من سوقية الحوار، الا أنها سمحت لروح الأنثى بداخلها أن تتنازل و تنحدر قليلا في الحوار و هي تميل اليها مبتسمة ابتسامة متشفية لتقول بصوت خافت، يحمل نبرة شديدة النعومة و ذات مغزى.

(من بلغك عن حياتي الخاصة مع زوجي، إما هو أعمى، أو جاهل لا يدرك الكثير من حقائق الحياة، قريبا، لو ارادت مشيئة الله، ربما تحملين طفلي من زوجك، لكن على كل حال لن يمسه طرفك، فأنت مدنسة، غير سوية)
رفعت ميسرة كفها بشراسة و هي تنوي صفع سوار و قد فقدت أعصابها، الا أن سوار كانت أقوى منها، فسراعت لامساك معصمها بقوة كانت أن تسحق عظامها اللينة مما جعلها تشهق ألما، الا أن سوار قالت بابتسامة قوية.

(عندك يا ميسرة، فأنا لست نسيم، أنا سوار الرافعي، ابنة وهدة الهلالي، لو يدك ارتفعت لتمسني لقطعتها لك)
نفضت معصمها بعنف، و هي ترمقها بنظرة مزدرية، بينما وقفت ميسرة ترد لها النظرة بشراسة و عجز، و كأنها تحاول جاهدة السيطرة على آخر سلاح في يدها، الا أنها همست اخيرا بنبرة غريبة
(لو حدث الحمل بهذه السرعة يا سوار، حينها ستكون فضيحتك فضيحة، و لن يرحمك أحد).

عقدت سوار حاجبيها و يه تنظر الى ميسرة بقلق من مغزى كلامها، الا ان ميسرة غادرت بسرعة و عبائتها السوداء ترفل خلفها كأذيال الشياطين...
وقفت سوار في الباب المفتوح تراقب مغادرة ميسرة بينما الهواء البارد يلامس وجهها و يطير وشاحها
لم يكن ليث قد وصل بعد، و لم تعرف أين هو، لذا وجدت أن أفضل فرصة، بل ربما الوحيدة في الذهاب الى دار الرافعية هي الآن و حالا، علها تعود قبل رجوعه.

و حتى لو عاد قبلها، لن تخافه، المهم أن تنجز مهمتها، بعد أن أمنتها بدور عليها...
فربما كانت الفتاة حامل، لن تنتظر أبدا أن تنتهي فترة احتجاز سوار كعروس في دار الهلالية...
لذا أسرعت سوار الى هاتفها تطلب الرقم الأرضي لدار الرافعي، و ما أن وصلها صوت أم سعيد، حتى قالت بنبرة آمرة
(أم سعيد، هذه أنا سوار، قبل السلام و التهنئة، أبلغي عبد الكريم أن يأتني بالسيارة، فأنا آتية لجدي في زيارة عاجلة).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة