قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع

كانت تنتظره و تتمنى لقائه...
حتى أنها استلقت في فراشها البارد تنظر للظلام المحيط بها و هي تدعوه أن تراه ولو للحظة...
تأوهت فجأة بقوة و هي تشعر بألم الانتظار، لكن كفا باردة لامست وجنتها برقة، فابتسمت...
تابعت الأصابع تجولها على وجهها و عنقها، فشعرت بقلبها يئن من افتقاده، و أذنها تهفو لسماع صوته العذب المناجي، ليته فقط يتكلم...
ليتها تسمع واحدة من ابتهالاته، الا أنه كان صامتا...

و على الرغم من الظلام المحيط بها، الا أنها كانت واثقة من أنها ترى ابتسامته الوضاءة...
فهمست برقة تناديه
(سليم)
ابتعدت الأصابع عن وجهها فجأة، و، انتهى الحلم...
فتحت سوار عينيها و هي تنتفض في فراشها تتأكد من مكان وجودها، الى أن استوعبت وجودها في بيت ليث، وعلى سريره الذي حضره لهما...
سمعت صوت آذان الفجر يعلو، فنظرت بجوارها تبحث عنه، الا أنه لم يكن موجودا...

ظنت لوهلة أنه قد تركها تبيت ليلتها في الغرفة وحدها كما طلبت...
الا أن جانبه من الفراش و الذي كان مرتبا، بدا الآن في فوضى عارمة...
شعرت سوار بالحرج من نومه بجوارها...
ترى متى عاد، و منذ متى خرج مجددا؟
هل راقبها أثناء نومها؟
هزت رأسها و هي تبعد هذا التفكير عن رأسها ثم نهضت من فراشها لتغتسل و تتوضأ...

و بعد أن انتهت من صلاتها قضت ساعات في القراءة في المصحف، و نسيت الوقت، حتى أشرقت الشمس و أطل الصباح زاهيا و ملحنا بأصوات العصافير...
أغلقت سوار المصحف ثم نظرت من نافذتها الى الأرض الساحرة الممتدة أمامها...
ترى أين ذهب؟
سمعت طرقا على الباب، فاعتدلت و رفعت وجهها و هي تدعوه للدخول...
على ما يبدو أنه قد التزم برغبتها ببعض الخصوصية و طرق الباب على الأقل قبل الدخول...
الا أنه لم يكن ليث هو من فتح الباب...

بل كانت الخادمة نسيم...
توترت ملامح سوار و هي تراها تدخل مطرقة الرأس قائلة بتهذيب خافت
(صباح الخير يا سيدتي)
ردت سوار بهدوء
(صباح الخير يا نسيم)
قالت نسيم بخفوت
(هل أحضر لكِ الفطور الى غرفتك أم يتنزلين لتناوله بأسفل؟)
رفعت سوار وجهها و قالت برقي
(هل تناول السيد ليث فطوره؟)
رفعت نسيم وجهها الى سوار و قالت
(السيد ليث ليس هنا سيدتي، لقد غادر منذ الفجر).

ارتفع حاجبي سوار للحظة، الا أنها عادت و سيطرت على هدوء ملامحها بهارة و هي تقول بترفع
(ربما كنت نائمة بعد، هل أخبرأي منكما متى سيعود؟)
قالت نسيم بصوت خجول و هي تراقب ملامح سوار
(لن يعود للفطور سيدتي، فهو سيقضي الليلة لدى السيدة ميسرة)
الآن ارتفع حاجباها معا، و تجمدت ملامحها، بينما تحولت نظراتها الى بركتين جليديتين...

شعرت و كأنها قد أهينت للتو اهانة بالغة، و تلقت صفعة بغرض اراقة كبريائها كعقاب لها على ما فعلت...
الا أنها للمرة الثانية تنجح في السيطرة على ملامح وجهها و هي تقول مبتسمة بأناقة
(يالها من مراعاة من السيد ليث لمشاعر زوجته الأولى، هذا هو طبعه، لقد ازداد قدره في نظري اكثر و أكثر، على الأرجح سيتصل الآن، )
نهضت من مكانها بعنفوان و هي تقول بابتسامة مشرقة.

(أحضري الفطور الى هنا يا نسيم من فضلك، فلا رغبة لي في النزول و الجلوس للمائدة بمفردي دون وجود السيد ليث)
اتسعت عينا نسيم لعدة لحظات، الا أنها أومأت و قالت بتهذيب
(أمرك سيدتي)
تراجعت لتخرج و سوار تنظر اليها مبتسمة بجمال أخاذ، الى أن أغلقت نسيم الباب خلفها...
عند هذه اللحظة فقط أسقطت سوار القناع المبتسم المزيف...
و دارت حول نفسها بعنف و عيناها تطقان بالشرر.

كيف يجرؤ؟، كيف يجرؤ على اهانتها بهذا الشكل في اعلام الخادمة قبلها بذهابه الى ميسرة في ثاني يوم زواج لهما! لقد نفذ أمرها المغرور في الذهاب الى ضرتها الا أنها أضاف لمسته في العقاب عبر احتقارها و اخبار الخادمة لتبلغها الأمر، ...
ان كانت لا تقبل شيئا في هذا العالم فهو سياسة العقاب التي تقوم على اهدار الكرامة...
اخذت تلتقط أنفاسها و هي تنظر من النافذة بعينين صلبتين متقدتين...

ثم لم تلبث أن همست بصوت مكتوم
لا بأس يا ليث، لا بأس...

لم تصدق نفسها حين رأته يدخل الى غرفتهما منذ بداية الصباح حتى أنها استيقظت على صوت حركاته الغاضبة المكتومة في الغرفة...
فاستقامت جالسة و هي تهتف بدهشة
(ليث!)
لم يرد عليها، بل أنه حتى لم يستدر اليها وهو يقول بصوت جامد خافت
(آسف أنني ايقظتك)
لم يكن أسفه تهذيبا، انما كان أسفا على أنه سيضطر الى مواجهتها حاليا وهو لا يتقبلها بأي صورة من الصور في تلك اللحظة...
كل يوم يمر بينهما يجعله ينفر منها أكثر...

كل صرخة منها و كل اساءة أدب، و كل تصرف مشعوذ يغضب الله أقام بينه و بينها حاجزا لم يعد قادرا على تجاوزه مطلقا...
يا رب ماذا فعلت في دنياي كي أستحق زوجتين تسيئان الأدب معي! والله أنا قادر على تكسير عظام كل منهما، الا أنني أتقيك فيهما فامنحني الصبر يا رب كي لا أنفجر بهما...
قفزت ميسرة من مكانها و جرت اليه لتحيط خصره بذراعيها و هي تهتف بصوت حنون خادع.

(لا تأسف مطلقا، لا أصدق أنك هنا يا غالي، عدت الى بيتك و مخدعك، عدت الى زوجتك التي تحبك و تتمنى لك الرضا)
بدت ملامح ليث متصلبة كالحجر وهو ينظر امامه دون أن يستدير اليها، ثم لم يلبث أن قال بفتور
(عودي للنوم، سآخذ بعض الأغراض و انصرف)
شهقت ميسرة و هي تهتف بقسوة
(تنصرف، و من تلك التي ستسمح لك بالإنصراف)
استدار اليها ليث و هدر بها
(انا لست طفلا يطلب الاذن كي يتحرك يا ميسرة).

أطل شيطانان من عينيها الا أنها سارعت الى اخفائهما و هي تبتسم بنعومة الأفاعي هامسة
(لماذا أنت محتد بتلك الصورة؟، الأنني كنت متألمة لزواجك و الآن أكاد أن أطير من على الأرض لرجوعك؟، هذا ليس عدلا)
زفر ليث وهو يقول بنفاذ صبر
(ميسرة، رجاءا عودي للنوم فأنا لست في مزاج يسمح لي بالإستفزاز اليوم)
برقت عيناها و ارتفع حاجبها الرفيع و هي تقول بنعومة.

(يبدو أن العروس الجديدة لم تفلح في تلبية كل رغباتك، و انا أعرفك زوجي، متطلب للغاية)
هدر بها ليث بغضب
(تأدبي يا ميسرة و توقفي عن الكلام في مثل تلك الأمور، تحلي ببعض الإحترام لتربيتك و اخلاقك)
لم يبدو عليها الحرج أو الخجل، لم تصرخ و لم تنفعل...
للمرة الأولى في حياتها ستتبع نصيحة أمها الغالية...
ستستقطب زوجها و تمنحه ما لم تقدر عليه ساحرة الرجال...

ستكون مثال النعومة و الدلال، و تترك للمطالب جانبا بعيدا قليلا...
ستستعيد مكانتها بمكر النساء و حيل كيدهن...
قالت ميسرة بنعومة و هي تقترب منه برقة
(حسنا لا بأس، لا تأبه لكلامي، انه من فرط الغيرة يا حبيبي، الغيرة تقتلني و تكاد أن تعمي عيناي، أموت في كل لحظة أتخيلك بها في أحضان أخرى غيري)
ملست على صدره بكفيها و هي تهمس بصوت باكٍ دون دموع حقيقية
(أنت لا تعرف، لا تشعر، أموت يا ليث أموت).

ثم ارتاحت على صدره تخفي زيف دموعها في أحضانه، الا أنه كان في عالم آخر أعماه عن زيف تلك الدموع...
كلماتها كانت فعلا تشعره بما افتقده مع سوار في الساعات الماضية...
لقد أوضحت له بما لا يقبل الشك في كل لحظة بينهما أنها لا تنظر اليه كرجل، لا تشعر بأي نوع من الملكية له...
أخذ ليث نفسا مرتجفا ثم قال بجمود أقل سطوة
(حسنا، ما رأيك أن نتناول الفطور سويا).

رفعت وجها مشرقا اليه و ابتسمت بدلال و هي تهمس له، ترفع نفسها على اطراف أصابعها و تقبل زاوية شفتيه...
(يمكن للفطور أن ينتظر قليلا، أرجوك)
تنهد ليث وهو يقول باستياء
(ميسرة أنا حقا لست في)
الا أنها أسكتت كلماته بقبلة متملكة منها، استمرت و استمرت، الى أن جذبها ليث في النهاية الى الفراش بقوة رجلٍ يشعر بالكبت...
حين نام قليلا و أخيرا بعد ليلة لم يذق خلالها طعم النوم...

نهضت ميسرة من جواره و خرجت من الغرفة، تتجه الى احدى الغرف التي تخفي بها أعمالها و أسحارها...
أمسكت ورقة عليها نقوش غريبة و كلام يحرم حتى ذكره...
ثم قبلتها و هي تهمس
شكرا، شكرا، خفت أن يمتد التأثير الى حياتي لكنه لم يحدث، لقد ربطه ضدها هي فقط و انتصر على سحرها...
سحر الرجل أو ما يطلق عليه ليجعله غير قادرة على مباشرة زوجته...
ترددت كثيرا قبل أن تقوم به، خوفا من ان يطالها الضرر...

لكنها فكرت في النهاية، أنها على استعداد لخسارة حقوقها الشرعية، على الا تنالها تلك الساحرة و لا تحمل من زوجها...
كانت مجازفة، الا أنها انتصرت بها بما باتت تملكه من مهارة...

بعد أسبوع...
هتفت أم بدور في زوجها و هي تتوسله قائلة
(اهتدي بالله يا أبا زاهر، لا تنفعل بهذا الشكل، الا يكفيها ما مر بها، لما تزيد الضغط عليها)
الا أن زوجها كان قد وصل الى نهايته من التحمل...
أيام...
أقصى ما تحمله هو أيام، فهو لا يقبل باللين و لا يعرف دلال الإناث هذا...
كان شديد الطبع، صارم الملامح، قاسي القلب...
لم يعتد أن يبرر لأهل بيته تصرفاته، أو يشرح أسبابا لأوامره...

لذا صرخ في زوجته وهو يدفعها متجها الى غرفة ابنته
(توقفي عن ضعفك تجاهها و دلالك لها، أيام و هي تبكي و ترفض الأكل، حتى بعد أن سمحت لها بالذهاب الى المدينة لاداء اختبارها، عادت حمراء العينين و متورمة الوجه كمن قتل لها قتيل، الا تعلم أنها بتلك التصرفات تفضحنا؟، ماذا يقول الناس؟، انها كانت تهيم عشقا بالكلب الذي عقد قرانها عليه؟، الا يكفينا وقف حالنا فتزيد سمعتها سوءا؟)
هتفت زوجته و هي تلحق به لاهثة...

(لا اله الا الله، ألم يكن زوجها على سنة الله و رسوله يا أبا زاهر؟، الأمر لم يكن هينا عليها)
توقف فجأة و استدار الى زوجته بعينين مرعبتين، ثم قال بصوت جهوري.

(ماذا تقولين يا امرأة؟، زوج من؟، أتريدين أن يسمعك أحد؟، لا زواج الا بعد الزفاف، و لا حب أو تفاهات الا بعده، انظري ها هو قد طلقها الآن، أتريدين الناس أن يهيموا على وجوههم متناولين سيرة ابنتك التي تبكي عشقا على رجلٍ كان عاقدا قرانه عليها؟، ماذا سيظنون أكثر، الا تفكرين أم أن ابنتك المدللة قد اثرت على المتبقي من عقلك الخرف؟).

تراجعت زوجته حتى كادت أن تسقط من على السلم برعب، لكنها تمسكت بالحاجز باصابع مرتجفة و هي تهمس بهلع
(اهدأ يا أبا زاهر، انت تهول الامر)
رفع زوجها يده يهدد بضربها وهو يهدر بها عاليا
(اصمتي يا امرأة و الا قسما بالله ستكونين طالقا و بالثلاث)
شهقت زوجته و هي تكتم فمها بكف يدها كي لا تنطق، بينما اتسعت عيناها بذعر، فرمقها زوجها بنظرة قاتلة قبل أن يتجه الى غرفة ابنته دون ابطاء...
اقتحم الغرفة دون استئذان...

بينما كانت بدور نصف مستلقية في فراشها تبكي بدموع صامتة لم تتوقف منذ عودتها من المدينة...
ترفض الطعام و الشراب الا ما تجبرها عليه أمها كي يبقيها حية فقط...
بينما الدموع تنهمر و تنهمر، و الرغبة في الحياة تتضائل، و يصبح الموت أمنية غالية...
انتفضت بدور ما أن اقتحم والدها الغرفة، فتراجعت في جلستها بذعر حتى التصقت بظهر السرير و رفعت ركبتيها تضمهما الى صدرها بهلع و هي تراه يهدر بعنف.

(ماذا بكِ يا فتاة؟، هل تهددينني باضرابك عن الطعام هذا؟ أتتخيلين أن نتراجع عن قرارنا خوفا على حياتك التي لا قيمة لها؟، هل هذا ما تظنينه؟)
كانت تهز رأسها نفيا بذعر قبل حتى أن ينهي والدها كلامه الصراخ المرعب...
الا أنه اقترب منها مواصلا الصراخ
(أتريدين جلب المزيد من الفضائح لنا، بذهابك و رجوعك باكية، أو بسقوطك من قلة الطعام، فيعتقد الناس أنكِ كنتِ تنوين الإنتحار تسترا على شيء ما؟).

اتسعت عينا بدور أكثر و أكثر، حتى ارتسم الذعر على وجهها بأبشع صوره و هي تهمس
(لا، لا، لا يا أبي)
الا أنه لم يرأف بحالها بل انقض عليها جاذبا شعرها بين أصابعه بقوةٍ حتى صرخت ألما و أطبقت جفنيها بشدة...
لكن والدها استمر في هز رأسها وهو يصرخ بغضب
(ستتابعين حياتك البليدة، و تتوقفين عن البكاء، و الا قسما بالله سأدفنك حية بيدي)
شهقت بدور بذعر و أنفاسها تكاد أن تنقطع
(حاضر، حاضر، أمرك يا أبي).

دخل زاهر الغرفة و رأى م يحدث، و في لحظة أسرع الى والده وهو يمسك بمعصمه قائلا بقوة
(اهتدي بالله يا حاج، كل شيء سيكون ما تريده أن يكون)
هدر والده بانفعال
(ستفضحنا أختك الغبية، دون حياء أو خجل تتمرد و تبكي و تصرخ ليلا و تضرب عن الطعام، و كأنها تعاقبنا أمام الجميع)
قال زاهر بقوة
(لن تفعل بعد اليوم، و سأتأكد من ذلك بنفسي، اهدأ يا حاج)
نظر اليها والدها بغضب قبل أن يدفع وجهها بعيدا وهو يتذمر قائلا.

(هذا ما نناله من خلف الفتيات و ما يجلبه خلف الفتيات)
خرج من الغرفة وهو ينفض عبائته من خلفه بعنف، فقال زاهر لأخته المذعورة بوجهٍ يشبه الملاءات البيضاء لونا...
(اجمعي شتات نفسك و توقفي عما تقومين به فلا فائدة منه، ستتزوجين من هو أفضل منه فلا تقلقي من وقف حالك).

خرج زاهر من الغرفة خلف والده بينما كانت أمه لا تزال واقفة عند الباب بعينين واسعة و كفها لا يزال على فمها خوفا من أن تنطق بكلمة تتسبب في طلاقها...
نادى زاهر والده مسرعا
(يا أبا زاهر، يا أبا زاهر)
زفر والده وهو يقول بغضب
(ماذا، ماذا تريد يا زاهر؟، أنا في حالٍ سيء الآن و أشعر أنني على وشك الإصابة بجلطة مما تفعله أختك بي)
تلجلج زاهر قليلا، ثم قال مترددا
(سلامتك يا حاج، بعيد الشر عنك).

ثم صمت وهو يبدو كمن لا يعرف من أين يبدأ الكلام...
فقال والده بغضب
(هيا قل ما تريده دون مقدمات، أعرف أنك تريد شيئا سيزيد من غضبي من مجرد النظر الى وجهك)
ابتسم زاهر بحرج و قال مترددا
(حفظك الله لنا يا حاج، و أبعد الغضب عنك، كنت أقول يا حاج أن، أنه لا داعي من تأخير زواجي من مسك، خير البر عاجله)
اتسعت عينا والده ذهول و غضب هاتفا.

(أتريد الزواج و لم يمضي العام على وفاة ابن عمك؟، أتريد الزواجك قبل أختك التي طلقت منذ أيام؟)
بان الحرج أكثر على ملامح زاهر وهو يقول.

(يا حاج ان كانت سوار أرملة المرحوم نفسها قد تزوجت، فهل أتأخر أنا؟، و بالنسبة لبدور، نحن لا نريد الظهور بمظهر من توقفت حياتهم بعد طلاقها من الحقير راجح، ثم أنني يا أبي لست مرتاحا لبقاء مسك ابنة عمي في المدينة، تقطن في شقة وحدها معظم الأيام، هي الآن خطيبتي رسميا و بقائها بهذا الشكل يعد عيبا في حقي)
التفت والده اليه و قال من بين أسنانه.

(والله لولا معرفتي بأنك ستتزوج من تنجب لك الولد لما قبلت بهذه الزيجة أبدا، و لما عليها أن تكون الأولى؟)
قال زاهر بتوتر
(مسك لن تقبل بأن تكون زوجة ثانية يا أبي، فلنتزوج قبلا و سأكون بعدها كفيلا باقناعها)
هدر والده بسخرية غاضبة
(العاقر تتشرط؟، والله آخر الزمان)
زم زاهر شفتيه و قال على مضض.

(هي ابنة عمي يا حاج، تعرف ان فرصتها في الزواج معدومة، و من الشرف أن أتزوجها لأسترها، لا تنسى أن أختى قد فسخت عقد قرانها هي الأخرى و ما أقدمه اليوم سأناله غدا في أختي)
دمدم والده بتذمر مجددا ثم قال باستياء واضح
(أنا لا دخل لي، اتفق مع جدك، لو وافق فاعتبر نفسك حصلت على موافقتي)
ابتعد عن زاهر عدة لحظات الا أن زاهر لحق به هاتفا
(شيء آخر يا حاج أطال الله عمرك)
نظر اليه غاضبا وهو يهتف.

(ماذا؟، ماذا؟، ماذا تريد)
تردد زاهر أكثر وهو يقول بخفوت
(هناك شيء قد يثير غضبك طلبته مسك يا حاج، الا أنه احقاقا للحق، أنار أراه الأكثر مناسبة و ملاءمة للوضع)
زفر زالده قائلا
(ماذا، ماذا تريد الأميرة أيضا؟)
رد زاهر بحرج
(انها تطلب أن نقيم لها حفل زفاف، حفل زفاف هادىء في مكانٍ راقي دون صخب)
جحظت عينا والده حتى باتت مضحكة من فرط ذهولهما، ثم قال بصدمة تنذر باندلاع عاصفة.

(حفل زفاف! و لم يمر عام على وفاة ابن عمك سوى)
رد زاهر بسرعة يقاطع والده
(نحن لن نعقد القران هنا لهذا السبب)
اتسعت عينا والده أكثر و اكثر، فتابع زاهر كي لا يعطيه الفرصة على الإعتراض
(سنعقد القران في المدينة، في جلسة هادئة، كي تتمكن مسك من ارتداء ثوب زفاف)
عند هذه النقطة وصل والده الى نهاية صبره فصرخ به غاضبا
(كيف تقترح أن تعقد قرانك في المدينة؟، ماذا عن أقاربنا و الموائد و الولائم و)
قاطعه زاهر ليقول.

(نحن لن نستطيع أن نقيم أي احتفال بسبب وفاة سليم رحمه الله، لذا أرى أن نعقده في المدينة أفضل و نحن لن نكون أول من يفعلها يا حاج)
هتف به والده غاضبا
(لكن أنت زاهر ولدي، تربيت و نشأت هنا، فلما لا أفرح بزفافك سبع ليالِ كاملة مع اطلاق الأعيرة النارية)
اقترب منه زاهر و قال بهدوء ذا مغزى.

(لهذا تحديدا أرى أن اقتراح مسك يلاقي هوى في نفسي، فكر بها يا حاج، الأعمام الآن منشغلون و لا أحد سيهتم بحضور عقد قران مسك، و لو عقدنا قراننا هنا سيكون موقفنا منتقدا، لذا فلنحقق لها ما تريد من حفل هادىء بعيدا خارج البلد، بينما ندخر حفل الزفاف الكبير و الولائم و الأعيرة النارية للزيجة الثانية، حين يمر وقت مناسب على وفاة سليم رحمه الله)
عقد والده حاجبيه وهو يفكر مليا في الأمر، كان منطق زاهر سليما...

بالفعل، الزفاف الثاني هو الأهم وهو المطلوب، سيجعله ليلة من ألف ليلة، فهذا زاهر ولده و ليس أي أحد...
لكنه قال متذمرا رغم اقتناعه...
(اقنع جدك، أنا لا دخل لي بالأمر)
لمعت عينا زاهر و انتفخت أوداجه وهو يراقب ابتعاد والده المندفع، ثم همس لنفسه بسعادة و رضى
أقترب المراد يا بهية، اقترب المراد...

بعد مضي اسبوع...
كانت نسيم واقفة خلف سوار الجالسة على كرسي طاولة الزينة، تنظر الى نفسها في المرآة بشرود...
بينما نسيم تمشط لها شعرها بنعومة، بفرشاة شعرٍ ذهبية مزخرفة جميلة، تلائم صورة سوار الأسطورية في شرقيتها...
ثم همست أخيرا منبهرة
(شعرك جميل جدا يا سيدة سوار، تبدين كالملكة، اللهم لا حسد)
أفاقت سوار من شرودها، حتى استوعبت ما نطقت به نسيم، ثم قالت مبتسمة بشرود خافت
(أنتِ الأجمل يا نسيم، أشكرك).

بدت الفتاة و كأنها تتنهد سرا و هي تمشط هذا الشعر الكثيف الطويل بين أصابعها و تتمنى مثله...
تتمنى الفرشاة الذهبية و العباءة من الحرير الطبيعي...
تتمنى العز و الرفاهية، تتمنى أسرة و نسب...
الا ان سوار كانت غافلة تماما عن أحلام الفتاة الظاهرة على صفحة وجهها، حيث عادت الى شرودها عاقدة حاجبيها قليلا...
أسبوع مر على رحيله من هنا غاضبا...

أسبوع قضاه مع ميسرة، على علم من الخدم، بينما هي هنا محتجزة بين جدران هذا الدار...
تبتلع شفقتهم، و تلعق كرامتها الجريحة...
ادعت أن الأمر لا يهمها و له أن يفعل ما يريد طالما قد منحها الخصوصية التي تنشدها...
الا أنها كانت تخادع نفسها...
عقاب ليث لها كان مهينا جدا، و لم تصدق أنه يتعمد الى التصرف معها بتلك الصورة الى أن تتأدب و تموء له كالقطط...
قالت نسيم بنعومة
(و فرشاة شعرك تشبه أدوات الأميرات، جميلة جدا).

نظرت سوار اليها في المرآة، ثم قالت بهدوء
(خذيها لكِ يا نسيم، هدية مني)
اتسعت عينا الفتاة و هتفت بذهول و سعادة
(حقا؟، حقا يا سيدة سوار تتكلمين؟)
ابتسمت سوار و هي تقول برزانة
(حقا يا نسيم هي لكِ)
عادت الى شرودها، تاركة شعرها لنسيم تمشطه بهذه الفرشاة للمرة الأخيرة...
الى ان أخرجها طرقا على باب غرفتها من شرودها، فقالت تلقايئا بهدوء
(ادخلي يا أم مبروك)
دخلت أم مبروك الغرفة قائلة بأدب...

(هناك ضيفة أتت الى زيارتك يا سيدة سوار)
عقدت سوار حاجبيها و قالت بحيرة
(ضيفة! أعتقد أن السيد ليث كان قد منع الزيارات لهذه الفترة، هل هي من عائلة الهلالي؟)
قالت أم مبروك
(لا يا سيدتي، إنها تقول أنها أحدى بنات عمك، من عائلة الرافعي)
ارتفع حاجبي سوار بدهشة بالغة و هي تقول
(ابنة عم لي؟، ألم تذكر اسمها؟)
قالت أم مبروك
(لا يا سيدتي، رفضت)
ازداد الشك في قلب سوار، شعرت بعدم الراحة، الا أنها قالت بنعومة.

(لا بأس يا أم مبروك، قدمي لها الواجب و أنا سأنزل اليها حالا).

نزلت سوار خلال لحظات الى غرفة الضيافة...
و ما أن دخلتها حتى أبصرت عيناها الفتاة النحيلة المتشحة بالسواد و الجالسة على حافة احدى الأرائك، مشبكة أصابعها و مطرقة بوجهها...
ضيقت سوار عينيها و هي تدقق النظر بها، فقد كانت تخفي وجهها و جسدها بالكامل، لا يظهر منها سوى عينيها فقط
الا انها لم تستطع تبين هاتين العينين و صاحبتهما على الفور...
لذا قالت بهدوء و اتزان
(السلام عليكم، شرفتِ).

انتفضت الفتاة و هي ترفع وجهها الى سوار الواقفة بالباب...
و لم تنطق على الفور...
بل أخذت وقتها في النظر اليها...
جميلة حقا كملكة...
ترتدي عباءة من الحرير الطبيعي بلون عسل، تضيق على صدرها و خصرها، ثم تنسدل واسعة ترفل من حولها...
و شعرها يبدو كأسطورة في انسداله على ظهرها، و غرة مقسومة لنصفين تنسدل على جانبي وجهها حتى ذقنها...
بدت عينا الفتاة بائستين و هي تنظر الى سوار من تحت غطاء وجهها...

فعقدت سوار حاجبيها و قالت بهدوء
(عفوا، من تكونين؟)
نهضت الفتاة من مكانها بسرعة و خطت خطوتين، لم تحتاج سوى لخطوتين فقط، كي تتعرفها سوار و تقول بدهشة
(بدور؟)
توقفت الفتاة عن الحركة، و رغم أنها لا تزال مغطاة الوجه، الا أن سوار استطاعت رؤية عينيها تبتسمان بسخرية حزينة و هي تقول بخفوت
(عرفتِيني من عرج ساقي، اليس كذلك؟)
لم تجبها سوار على الفور، كانت منشغلة بما هو أهم، سبب وجود بدور هنا...

لم تكن أبدا علاقتها ببدور موفقة...
مجرد ابنتي عم، لا تربطهما أي صداقة...
كانت سوار قد أرجعت السبب الى فارق السن بينهما، و انطوائية بدور منذ مراهقتها...
الا أن الأمر ازداد سوءا بعد عقد قران راجح و بدور...
حينها انقطعت الصلة تماما ما أن بدأت سوار تلاحظ تعالي بدور في التعامل معها في تلك المرات القليلة التي تلتقيان فيها...
و أي كان سبب ظهورها هنا الآن و بهذا الشكل، فهو بالتأكيد سبب لن يعجب سوار، مطلقا...

رفعت سوار ذقنها و قالت بلهجة عادية متزنة
(شرفتِ يا بدور، تفضلي اجلسي)
بدت بدور مرتبكة قليلا و هي تطول بعينيها ناظرة للباب المفتوح ثم قالت بصوت مرتبك، ضعيف
(الحقيقة انني، لم آتِ الى هنا لمجرد تهنئتك بالزواج، لقد أتيت لأتكلم معكِ في أمرٍ هام، فهل لديكِ بعض الوقت)
رمقتها سوار بنظرة متفحصة، ثم قالت بهدوء
(بالتأكيد)
لكن بدور لم ترتاح، بل ظلت واقفة مكانها و هي تنظر الى الباب، ثم قالت بصوتٍ متردد هامس.

(هل يمكننا الكلام وحدنا، دون أن يدخل أحد الى هنا؟)
صمت مجددا، و سوار تراقبها بعينين ثاقبتين...
الا أنها تحركت دون ان ترد، و استدارت لتغلق الباب بالمفتاح، ثم عادت اليها و قالت بهدوء
(الآن لن يستطيع أحد الدخول الى هنا، تفضلي اجلسي و اخبريني بما تريدين)
جلست سوار واضعة ساقا فوق أخرى ببهاء، بينما وقفت بدور مكانها مترددة قبل أن تنزع الغطاء عن وجهها...

بدور فتاة قصيرة و جسدها نحيف، تبدو بنفس الجسد منذ الصف الإعدادي، دون أن يتغير كثيرا...
قمحية البشرة و ذات شعر ناعم...
لم تكن شديدة الجمال، الا أنه يمكن وصفها بالجذابة، كمعظم الفتيات الشرقيات ذوات الملامح البريئة...
حين نظرت سوار الى وجهها، لاحظت الهالات الداكنة تحت عينيها المتورمتين...
كما أنه من الواضح بأنها قد فقدت الكثير من وزنها حتى بدت أشبه بالخيال...
ربما كان طلاقها هو السبب...

تعرف راجح جيدا، يمكنه أن يستميل قول أشد الفتيات اتزانا و عقلا، و فتاة مثل بدور...
لم تكن لتأخذ بيده غلوة كما يقولون...
قالت سوار بهدوءٍ آمر
(اجلسي يا بدور)
بدت بدور مترددة أمام ملوكية سوار الظاهرة عليها بالفطرة، و بدت هي أمامها كفأرة صغيرة...
الا أنها تحركت في النهاية و عادت الى مكانها على حافة الأريكة مشبكة أصابعها بتوتر...
حين طال الصمت بينهما، قالت سوار بهدوء
(أنا أسمعك).

بدت عينا بدور غائمتين و هي تنظر أمامها بلا هدى، و كأنها قد أدركت للتو خطورة الخطوة التي أقدمت عليها...
فقالت سوار تشجعها بهدوء
(هل الامر خطير الى هذه الدرجة؟)
نظرت بدور اليها مجفلة، ثم قالت أخيرا بخفوت
(حياة أو موت)
انعقد حاجبي سوار بقلق، الا أنها لم تعلق، بل انتظرت، فقالت بدور في النهاية بصوت متوسل خافت للغاية
(أنا أعرف ما فعله راجح معكِ).

انتفضت سوار من مكانها بكل عنفوان و كأنها فرس غير مروضة لتقول بلهجة آمرة دون أن تسمع المزيد
(الزيارة انتهت، شرفتِ)
الا أن بدور نهضت قافزة هي الأخرى و هي تهتف همسا كي لا يعلو صوتها...
(أستحلفك بالله العظيم الا تطرديني قبل أن تسمعيني، حياتي أو موتي بيدك، أنتِ أملي الوحيد، أستحلفك بالله، عسى الله الا يرميكِ بضيق أبدا).

ظلت سوار واقفة مكانها توليها ظهرها مكتفة ذراعيها و هي تتنفس بسرعة و غضب، متسائلة عن وجهة تلك اللعبة التي يلعبها راجح من جديد...
لذا قالت بصوت جامد كالصخر
(ماذا عرفتِ تحديدا؟)
أخفضت بدور وجهها و قد بدا شاحبا كالأموات، ثم قالت بصوت يرتجف برعب
(عرفت أنه أجبرك على قضاء ليلة، معه)
هدرت سوار بعنف
(كفى، اخرسي حالا و لا كلمة، )
ارتجفت بدور و هي تومىء برأسها بسرعة هامسة خوفا من أن تطردها سوار.

(حاضر، حاضر، تحت أمرك)
نظرت اليها سوار بعيني نمرة مفترسة، ثم نظرت الى الباب المغلق بقلق، قبل ان تقول
(هو من أخبرك؟)
هتفت بدور بذعر
(لا، اقسم بالله لم يفعل، أنا تلصصت على ابي و جدي الى ان عرفت ما أريد)
قالت سوار بوجهٍ كالرخام
(و ماذا تريدين مني الآن؟، هل تهددينني مثلا؟، لماذا. ماذا أملك و تريدينه؟)
اتسعت عينا بدور و هي تهتف
(لا، على العكس، لقد أتوسل اليكِ، أقع أسيرة عرضك و شرفك، ساعديني).

ضاقت عينا سوار و عقدت حاجبيها لتقول بحذر
(أساعدك بأي شيء؟)
سرعان ما تجمعت غلالة من الدموع على حدقتي بدور و كأن ما ذرفته طوال الأيام الماضية لم يكن كافيا...
ثم عضت على شفتها هامسة
(أرجوكِ اذهبي الى جدي و أخبريه أن يسامح راجح، و أن غرضه منكِ كان شريفا و أنه لم يمسك بسوء، أقنعيه بأن يردني لعصمته لأنكِ الوحيدة التي تملكين حق مسامحته).

اتسعت عينا سوار بذهول و تقزز، و انتشر النفور في كافة جسدها و هي تهمس بازدراء.

(هل أنتِ واعية لموقفك هذا؟، على الرغم من اكتشافك له على حقيقته، و بدلا من أن تشكري ربك أنكِ عرفتِ بهذا و أنتِ لا تزالين على البر، ها أنت تقفين أمامي بكل هالة الذل المحيطة بكِ، تتوسلين و تترجين لمجرد أن تعودي اليه؟، لماذا ترخصين نفسك بهذا الشكل؟، أنتِ حقا تثيرين اشمئزازي و تكونين حمقاء ان تصورتِ أن أتنازل عن حقي لمجرد أن تعودي أنتِ الى جناحه الأجرب المريض).

انسابت غلالة الدموع على وجنتي بدور بصمت و هي تتقبل موجة التقريع التي رمتها بها سوار...
فلعقت الدموع عن شفتيها و هي تهمس بصوت ميت
(لم أعد على البر)
عقدت سوار حاجبيها و هي تسمع تلك العبارة الخافتة الميتة، و استغرقها الأمر ما يقرب من الدقيقة كي تفهم ما نطقت به، الى أن قالت بشك و عينين متسعتين
(لا، انتِ لا تقصدين ما فهمت)
ظلت بدور واقفة أمامها بخزي مطرقة الرأس و شهقت بشهقة بكاء مكبوتة و هي تنطق باختناق.

(ساعديني، أتوسل اليكِ)
هزت سوار رأسها بذهول قبل أن تضرب وركيها بكفيها و هي تهتف
(يا مصيبتك السوداء، يا مصيبتك السوداء. ، كيف أبخستِ من قدر نفسك على هذا النحو؟، ألم تستطيعي الآنتظار؟)
شهقت بدور و هي تبكي بصوت خافت، ثم همست باختناق
(قولي ما تشائين، أنا أستحق كل ما ستنعتينني به، لكن أرجوكِ ساعديني و اقنعي جدي بالعدول عن قرار طلاقنا، و انا سأذهب لراجح كي أقنعه بأن)
هتفت سوار بصرامة قاطعة.

(مستحيل، لا تحاولي)
رفعت بدور اليها وجهها محتقنا و عينين متورمتين و اخذت تبكي متوسلة
(أرجوكِ أنت لا تعرفين أبي، أبي ليس كوالدك، أنه لا ينفك يتحدث عن ستري بزيجة أخرى قريبا، ووالدي ممن يفخرون بشرف ابنتهم علنا أمام الناس في اثبات أنت تعرفينه جيدا)
تقززت سوار و هي تسدير عنها هاتفة
(ياللهي، اخرسي أنتِ تزيدين نفوري منكِ)
صرخت بدور بعنف مفاجيء من بين دموعها الغزيرة.

(أنا لم ارتكب فعلا محرما، لا تعامليني بهذا التعالي و كأنني مدنسة قذرة)
استدارت اليها سوار و هي تهمس بعنف
(انت فعلا مدنسة، دنستِ كرامة والدك و ثوبه، دنستِ الأعراف المتبعة، دنستِ فرحة أمك بكِ لا، دنستِ فخر زوجك بكِ ليلة زفافكما بعد أن يكون قد تعب و حفر في الصخر كي ينالك، دنستِ كل عرف متبع لا لشيء سوى لأنكِ لم تستطيعي مقاومة لحظات شهوة زائلة).

غطت بدور وجهها بكفيها و ازداد نحيبها علوا، الا أن سوار هزت رأسها بتقزز و هي تقول بصوت غاضب
(من فضلك اخرجي، لم يعد لدي المزيد لأقوله لكِ)
قفزت بدور من مكانها ووقعت أرضا عند قدمي سوار و انحنت لتقبل قدمها و هي تتوسل قائلة
(أرجوكِ ساعديني، أنتِ صاحبة الشأن و الوحيدة القادرة على العفو عنه، أتوسل اليكِ ساعديني، والدي لا يرحم)
ابعدت سوار قدمها بسرعة و هي تهمس بغضب.

(استغفر الله العظيم، انهضي، انهضي من كبوتك، و لا تتذللي لمخلوق)
نهضت بدور من انكفائها المخزي و اخذت تشهق باكية، منتظرة قرار الرحمة من سوار...
لكنها قالت بصوت يفيض بالوعيد.

(يا معتوهة، هل تظنين أنني حتى لو قبلت و ذهبت الى جدك و أقنعته، سيوافق راجح بكِ و يتزوجك؟، أنتِ واهمة، أنتِ لا تعرفين راجح كما أعرفه أنا، أنه لا يتورع عن التضحية بأقرب المقربين له في سبيل نيل ما يشتهي، و هو الآن كحيوان متوحش، جريح و مطلق السراح، لن يقبل بكِ ولو رجوناه)
كانت بدور تنظر اليها لاهثة، ثم لم تلبث أن همست بشفتيها المتورمتين
(إنه يحبك، يعشقك، و لم يستطع أن ينساكِ طوال هذه السنوات).

أظلمت عينا سوار، ثم قالت بصوت خفيض شرس
(و ما دمتِ تعرفين ذلك، لماذا سلمتِ له نفسك، قبل أن تتأكدي بأنكِ تمثلين له اكثر من مجرد جسدٍ يلهو به الى أن يمله)
همست بدور بشفتين مرتعشتين.

(أنتِ لا تشعرين بمن هم أقل منكِ، أنا لم أصدق حظي حين خطبني شخص كراجح و أشعرني أنني أنثى مرغوبة للمرة الأولى في حياتي كلها، انا مجرد ظل في حياة كل من يعرفني، لا احد يهتم لي أو ينظر لي مرتين، لم أستطع أبدا أن أرفض طلبا لراجح، خفت أن يملني و يذهب، فأنا لا أملك الكثير لأجبره على التمسك بي)
كانت سوار تستمع اليها بقلب موجوع، لكنه غاضب و بشدة، ثم قالت في النهاية بصوت بارد و قاسي.

(إن كنتِ لا تملكين الكثير لتجبريه على التمسك بكِ من قبل، فأنتِ الآن لا تملكين أي شيء على الإطلاق، لا كثير و لا قليل)
بكت بدور هامسة من جديد و هي تنتحب ضاربة وجنتيها بكفيها
(أرجوكِ، أرجوكِ)
أمسكت سوار بكفيها و هتفت بها بصرامة تمنعها من لطم نفسها
(توقفي عن ذلك، توقفي)
انحنت بدور الى كف سوار تقبلها هامسة.

(أرجوكِ ساعديني، لقد أعيتني الحيل، و أبي يهدد بقتلي لمجرد أنني أتجرأ على البكاء، فماذا لو عرف، الموت سيكون راحة لي، سيعذبني ببطء قبل أن يقتلني)
تنهدت سوار بيأس و هي تنظر اليها طويلا، كان حالها مفزعا و مثيرا للشفقة...
الا أنها كانت حمقاء و مستفزة و شديدة الغباء...
قالت سوار أخيرا بخفوت
(اذهبي الآن الى دارك، و سأرى ما يمكنني فعله)
أومأت بدور بوجهها المتورم، و همست باستجداء مثير للشفقة
(اشكرك، أشكرك).

تحركت سوار الى الباب لتفتحه، لكنها استدارت الى بدور و قالت بخفوت صارم
(غطي وجهك، و لا تخبري مخلوقا أنكِ قمتِ بزيارتي، مفهوم؟)
سارعت بدور بالإيماء برأسها و هي تغطي وجهها...
ثم تبعت سوار الي باب الدار الخارجي، لكن ما أن فتحته سوار حتى صدمها تلك الهيئة الرجولية الواقفة أمام الباب على وشك فتحه...
همست سوار مصدومة و هي تنظر اليه
(ليث).

رمقها ليث بنظرة طويلة، بدت طويلة جدا أم تراها عميقة؟، أي وحدة قياس تستخدم لتحديد هوية تلك النظرة!
قال ليث بهدوء رزين
(كيف حالك يا مليحة؟)
ارتبكت سوار قليلا و نظرت جانبا، حينها لمح ليث تلك الفتاة بجوارها و المتشحة بالسواد، فعقد حاجبيه و ابتعد عن الطريق بسرعة وهو يخفض نظره قائلا
(عفوا لم أدرك أن في ضيافتك أحدا)
سارعت سوار بالقول و هي تمسك بذراع بدور تدفعها للخارج قائلة.

(انها ابنة عمي، أتت لتهنئتي بالزواج، أراكِ لاحقا حبيبتي و شكرا لكِ)
اطلقت بدور ساقيها للريح، بينما بقى ليث واقفا مكانه ينظر الى سوار بنظرة غامضة غريبة...
الى أن ارتبكت و قالت
(أهلا بك، تفضل و اعتبر الدار دارك)
كانت تقصد أن تستفزه بعد الإهانة التي ألحقها بها، الا أنها كانت في الأساس، تحاول صرف انتباهه عن بدور...

دخل ليث و أغلق الباب، بينما لم يرفع عينيه عنها، بدت مرتبكة و هي تعرف جيدا أنها لا تجيد الإخفاء...
طبيعتها الصراحة في وجه أعتى الرجال...
رفعت وجهها اليه و قالت بصوتٍ أملت أن يكون طبيعيا
(ما الذي ذكرك بنا اليوم؟)
انعقد حاجبيه و تصلبت ملامحه، و نظر اليها طويلا قبل أن يقول بخفوت جاف
(الحقي بي الى غرفتنا)
و دون أن ينتظر ردها، اتجه الى السلم تاركا ياها بعد ان ألقى بأوامره و كأنه يكلم احدى جواريه!

تسمرت سوار مكانها و هي تراقب صعوده بهالة الهيمنة المحيطة به، دون أن يسرع الخطا أو يتردد بها...
كان يخطو بخيلاء فوق الدرجات و كأنه يعتبر لاحقه بها أمرا غير قابل للنقاش، لا تملك الجرأة على رفضه...
أوشكت سوار في لحظة غضب أن تلتزم العناد و تتجه الى أي مكان آخر، لتتركه ينتظرها للأبد...
لكنها سرعان ما عدلت عن هذا التفكير الطفولي...
هي لم تكن يوما طفولية أو ساذجة في تصرفتها...

يريد أن يعاملها بطريقة تلزمها حدها؟، جيد اذن، ستجعله يدرك أن حدها هو ما يجعلها ندا له...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة