قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن

دخلت سوار الى الغرفة رافعة ذقنها...
كان ليث واقفا ينظر الى النافذة، و يوليها ظهره، مما جعلها تتأمله لعدة لحظات...
عادة من يسكنون هنا في البلد من الرجال، يلتزمون بزيها التقليدي المريح من العباءة و الجلباب تحتها...

أما من اعتادوا السفر، و قد اصبحت البلد ما هي بالنسبة لهم سوى مزار سنوي، هذا ان تمكنوا من القدوم مرة في العام من الأساس و سمح لهم وقتهم، فهم قد تحرروا من تلك الملابس المعتادة هنا، و باتوا يلبسون كل ما هو عصري...
ليث حالة خاصة من التحرر و الإلتزام، الإنتماء الى هذا المكان حتى ولو شكليا، جزئيا...
فقد كان يرتدي قميصا أبيضا ناصعا، و بنطالا رماديا مفصلا ببراعة و اتقان عليه...

و قد وضع على كتفيه العباءة المحلية من الصوف الغالي و تركها مفتوحة فوق ملابسه...
فبدا مثالا لأناقة خاصة راقية و فخمة، تمثله هو وحده و دون غيره...
و كانت لحيته الخفيفة المشوبة باللون الفضي، تزيده وقارا و هيبة...
سرحت سوار في أفكارها المجنونة أكثر مما ينبغي فتكلم ليث بنفس الصوت الآمر دون أن يستدير اليها
(ادخلي و اغلقي الباب خلفك).

ارتفع حاجباها بدهشة، الا أنها أغمضت عينيها و هي تأخذ نفسا عميقا لتهدىء غضبها...
ثم أغلقت الباب بهدوء و تحركت للداخل عدة خطوات قبل أن تكتف ذراعيها و هي تقول بترفع
(هل من أوامر أخرى؟)
بقى مكانه عدة لحظات قبل أن يستدير اليها، ليرمقها بنظرة طويلة جدا متجاهلا سخريتها الخفيفة...
ثم قال أخيرا بصرامة
(من كانت ضيفتك؟)
رفعت ذقنها رغم توترها الداخلي الا أنها ظلت هادئة الملامح و هي تجيب ببرود
(أخبرتك).

أسبل ليث جفنيه للحظة، قبل أن يعاود النظر اليها وهو يقول بلهجة أكثر خفوتا لكن أشد خطورة
(سؤالي مرة أخرى و أخيرة، من كانت ضيفتك؟)
اتسعت عيناها ببريق رافض و قالت بنبرة متسلطة
(أخبرتك أنها ابنة عمي و أنا لا أكذب، لا أسمح لك بالإشارة لهذا)
ارتفع صوت ليث قاصفا وهو يقول.

(بلى أنتِ كاذبة، و إن أردتِ برهانا فابنة عمك لن تأتي كي تهنئك في مثل هذه الظروف و بزواجٍ كهذا، لا تزال عائلتكم في حالة حداد، ها، أي أكاذيب أخرى ستختلقين؟)
ادركت أن موجة الغضب لديها قد ازدادت علوا و بشكل أكبر من أن تستطيع السيطرة عليه...
فهتفت بقوة و عنف.

(أنا لا أسمح لك، هي ابنة عمي، لكن سبب الزيارة يخصني أنا وحدي، آه عفوا، نسيت أن اقامتي هنا مشروطة و ما أنا الا بزوجة شرفية، تزوجتها بدافع من الشهامة كي تستر عليها ليس الا، و ما أن تجرأت على مواجهتك، قررت معاقبتها بالذهاب الى زوجتك الأولى و البقاء معها لأسبوع كامل، معرفة الخدم، لا أنا لست زوجة هنا، لذا ليس من حقك استجوابي عن شيء لا يخصك).

كانت عينا ليث تضيقان و تضيقان مع كل كلمة تهتف بها، حتى بدت في آخر كلماتها كخطين رفيعين من الخطر و الشرر، و ما أن انتهت، حتى وقفت مكانها تلهث و هي تهنىء نفسها بتلك المرافعة القوية...
لكن لحظة انتصارها لم تدم، فصمت ليث كان مقلقا و نظراته غير مريحة...
فرمشت بعينيها و هي تحاول استنتاج القادم، الا أنه تحرك بمنتهى الهدوء و أخرج شيئا من جيب قميصه، رماه لها فالتقطته تلقائيا دون تفكير...

ثم قلبته في يدها، لتدرك أنه شريط أقراص صغيرة...
رفعت عينيها اليه باستفهام قلق، الا أنه ابتسم ببرود و قال ببساطة
(أحضرت لكِ طلبك، أقراص منع الحمل)
شعرت سوار بانقلابٍ في كيانها كله، و رجفة باردة تسري في أوصالها!
لقد أتى لها بطلبها دون أن يبدو مستاءا، أي أنه ناويا على المتابعة!
ازداد ارتجافها الا أنها سيطرت عليه بقوة و رفعت وجهها و هي تقول بأناقة مستفزة
(شكرا لك، سأحتفظ بها).

لكن صوت ليث كان واضحا وهو يقول آمرا دون أن يرفع درجة نبرته
(خذي واحدة منها الآن)
اتسعت عيناها قليلا، الا انها قالت بتوتر...
(لاحقا، ليس الآن)
تحرك ليث من مكانه بهدوء، و أمام عينيها الواسعتين ذهولا رأته يلقي العباءة جانبا، و يبدأ في فك ازرار قميصه، ثم امتدت يداه الى حزام بنطاله وهو يقول بهدوء دون أن ينظر اليها
(بل الآن، الا أذا أردتِ أن تحملي طفلي، حينها سأكون أكثر من سعيدا بتلبية رغبتك).

فغرت سوار شفتيها و هي تهز رأسها قائلة، و متراجعة للخلف
(أنت لا تعني)
ابتسم أمام عينيها الذاهلتين و اقترب منها بسرعة وهو يقول بنفس الهدوء
(بلى، أعني تماما)
حاولت سوار الهرب في لحظة جبن، الا أنه كان أسرع منها فالتقطها بين ذراعيه ليحملها عاليا و هي تتلوى و تهتف
(توقف يا ليث).

لكنه كان صارم الملامح مشتعل العينين ببريق لم يعد بمقدوره اخفائه، فاتجه بها الى الفراش ليلقيها عليه و قبل أن تهرب منه كان قد انحنى اليها و أمسك بمعصميها يكبل قوتها الشبيهة بقوة رجل...
ثم هدر بها يقول
(خذي القرص الآن، إنها فرصتك الأخيرة و لن أكرر الأمر)
هتفت سوار بصوتٍ عصبي و هي تتلوى دون جدوى
(لا أريد فعل ذلك)
الا أن ليث هدر بصرامة.

(بلى ستفعلين، لست فتى ساذج، كي يتوسل زوجته لتمنحه حقوقه، لقد قبلتِ بهذا الزواج و أنتِ تعرفين غرضي بكل وضوح، لم أتلاعب بكِ أو أوهمك بمجرد مساعدة عفيفة، أنت زوجتي و لي حق عليكِ، خذي القرص الآن أو انسي أمره مطلقا)
ظلت سوار مستلقية و هي تنظر اليه بعينين متسعتين، و دون أن تدري وجدت أصابعها تتحرك لتخرج قرصا من الشريط...

بعد فترة طويلة، كانت مستلقية بجواره، تحدق في السقف بعينين واسعتين...
بينما هو انحنى اليها ليقبل عنقها هامسا
(كنت مسافرا، قضيت مع ميسرة ليلة واحدة ثم سافرت الى عملي، ستصاحبينني لاحقا في سفرات العمل، كما وأنني بكل تأكيد لم أخبر أي خادمة بمكان ذهابي، أنا اكثر ترفعا من هذا)
لم تتحرك سوار من مكانها، و لم تلتفت حتى اليه، بل بدت و كأنها لم تسمعه من الأساس...

الا أنها وبكل تأكيد، سمعته وهو يتحرك من جوارها ملتقطا ملابسه ليرتديها على عجل ثم يغادر الغرفة مغلقا الباب خلفه، بهدوء!

أحيانا يقدم الإنسان على الإنتحار معنويا، عبر السقوط في هوة سحيقة و بعينين واسعتين، و دون أن يدفعه أحد...
يظل يسأل نفسه، لماذا؟، لماذا؟، لكن لا جواب...
هذا تحديدا هو ما هي مقدمة عليه...
زواجها بزاهر يعد انتحارا معنويا، لكنها كانت تمر بحالة من بلادة المشاعر و التكيف مع الوضع...
لقد عاشت من قبل قصة الحب العنيف ذو النبضات المتسارعة و الذوبان من شدة العشق...

لكن على ماذا حصلت في النهاية! ندبة لن تختفي مطلقا...
لم تعد تؤلم، الا أنها قبيحة المنظر، و قبحها هو ما يوجع...
تحركت مسك بساقين متقاطعتين برشاقة في رواق الشركة...
شاردة في الزفاف الذي سيكون بعد اسبوع...
لقد لبى لها زاهر كل شروطها، و الحق يقال أنها تمادت، لكنها مسك الرافعي، ليست أقل من أن يكون لها حفل زفاف حتى و إن كان بسيطا، على أن يكون راقيا...
ترتدي ثوبا أبيض يناسبها...

أشرف و غدير من أوائل المدعويين...
ستكون جميلة، غاية في الجمال كما ترى نفسها تماما...
أنتِ جميلة يا مسك...
جمالك ليس بريق في عين رجل عابر و غمزة جفن...
جمالك شخصية لا تهزم، لا تقبل بالتنازل لمجرد أن جزء من جسدها ناقص...
أو لمجرد أن رجل تركها لأخرى...
القبيحات هن فقط من يتنازلن لهذه الأسباب...
كانت تريد الحصول على مسوداتٍ لعقود طلبتها منذ أكثر من ساعة و لم تصلها بعد...

لذا اضطرت أن تحضرها بنفسها من أكثر الأقسام المكروهة لقلبها، قسم العاملين في الطابق الثالث...
حيث التسيب و الإستهتار، و عدم الإلتزام بمظهر أو لياقة أو آداب حديث...
التمادي في التصرفات، ووقفات اعتراضية تعطل العمل مع كل قرارٍ لا ينال رضاهم...
طبعا، يحق لهم هذا طالما أن هناك من يشجعهم و يدعمهم
المنطقة الغير مرغوب بها...

زفرت مسك و هي تقترب من الغرفة المنشودة، المنفية في نهاية الرواق و هذا أفضل كي لا يزيد احتكاكهم بالمزيد من البشر...
دخلت مرفوعة الرأس و كعبي حذائها يطرقان الأرض باللحن المميز الذي يميزها دون غيرها في هذا المكان...
دخلت و هي تقول بصرامة عملية
(كنت قد طلبت مسودات ال)
الا أنها توقفت عن الكلام تماما و هي تتأكد مما تراه بعينيها...
كانت المكاتب خاوية! والجميع يجلسون أرضا!

فغرت مسك شفتيها و هي تراهم يجلسون في حلقة مستديرة واسعة، في منتصفها العديد من اطباق الطعام المعدة منزليا...
و على قمة هذه المائدة الأرضية، يجلس المنطقة الغير مرغوب بها
أمجد الحسيني...
مستندا الى الحائط بأريحية، رافعا احدى ركبتيه ليسند عليها ذراعه وكأنه يستريح على شاطىء الترعة!
توقف الجميع عن الكلام و الضحك وهو ينظرون اليها بوجوم...
فقد جائت مفسدة الحفلات و هادمة اللذات...

ينتظرون منها ما ستجود به من صلف ألفاظها...
التقت عيناها بعيني أمجد الذي تجمدت ابتسامته لعدة لحظات، الا أنها لم تختفي تماما، بل أبقى عليها بثبات وهو يراقبها دون أن يحرك عضلة في جسده...
منذ آخر مواجهة لهما و هي تتجنبه قدر المستطاع، تلعن الغباء و الضعف اللذان سمحا لها بالبكاء أمامه...

كانت ذلة لن تغفرها لنفسها مطلقا، و لهذا كانت تحاول تجنبه عله ينسى تلك الواجهة و يبقي على صورتها في مخيلته، أبية، لا تقهر...
أسبلت مسك جفنيها و هي تتهرب من تلك النظرات السهمية...
ثم لم تلبث أن أشارت بيدها في حركة مستديرة الى تلك المجاعة و هي تقول رافعة حاجبيها بلهجة استفسار معروف جوابه، الا أن الغرض منه بداية تقريع و توبيخ
(آآآآآآ ماذا يحدث هنا بالضبط؟).

ساد صمت قلق بين الجميع، فتطوع أمجد للكلام بلا مبالاة و دون أن يتحرك
(نحن نحتفل، تفضلي معنا)
ارتفع حاجبيها أكثر و هي ترمقه بعنجهية، تبتسم بسخرية خفية للنبرة الفاترة التي يحادثها بها...
لكنها ردت ببساطة و بنبرة أكثر صلفا...
(احتفال! مجددا؟، هلا أتحفتموني بالمناسبة؟)
تكلم أمجد وهو ينظر الى عينيها ببرود، و ايضا، دون أن يمتلك بعض الذوق ليتحرك من جلسته الأنيقة
(ولادة زوجة اسماعيل بالأمس).

نظرت مسك الى المدعو اسماعيل الذي ابتسم تلقائيا بزهو، فقالت مسك بانبهار جليدي
(مبارك يا اسماعيل، هلا أخبرتموني الآن عن تعريفكم لمعنى احتفال تحديدا؟، لأنني أراكم تفترشون الأرض و تأكلون طعاما ذو رائحة غريبة للغاية انتشرت في الرواق بأكمله)
سادت الهمهمات الغاضبة بينهم، الا أن أي منهم لم يجرؤ على الكلام...
الا أمجد...
من الواضح أنه كان المتحدث الرسمي لهم، الوحيد القادر على مواجهتها و بشراسة...

فقال بنبرة جليدية...
(هذه هي مظاهر احتفالنا ان لم يكن لديك مانع، لكن نرحب بكِ ان اردت المشاركة)
قالت مسك و هي تكتف ذراعيها
(المشاركة؟، أتتوقع مني الجلوس أرضا؟)
ارتفع حاجبي أمجد وهو يرمق ملابسها الأنيقة المحكمة بنظرة طويلة أربكتها و جلبت التورد الى وجنتيها...
ثم قال ببساطة
(بالطبع لا، لا نريد أن نفسد هذه الحلة الأنيقة)
ثم استدار ناظرا الى أحد الجالسين أرضا وهو يمد اليه يده قائلا بهدوء.

(ناولني يا بني هذا الدفتر من خلفك)
استدار الرجل في جلسته ليلتقط الدفتر الموضوع على سطح المكتب، قبل أن يعطيه لأمجد و الذي فتحه من المنتصف، ليفرشه أرضا بجواره، ثم ربت عليه قائلا وهو ينظر اليها مبتسما
(تعالي و اجلسي)
لمعت عينا مسك بالشر و هي تراقب الطريقة المهينة التي يعاملها بها أمجد أمامهم، حتى أن الضحكات المكتومة قد بدأت تظهر و هم غير قادرين على اخفائها...

الا انها زمت شفتيها و ابتسمت بسماجة و هي تقول
(شكرا لك، لكن ساقي طويلتين و لن يتسع الدفتر الرائع لهما كي لا تتسخ حلتي)
تحركت أسماء لتجلس على الدفتر المفتوح بجوار أمجد و هي تقول مبتسمة باستفزاز
(أنا سأجلس بجوارك يا سيد أمجد، فأنا قصيرة، ثم أنني لا أهتم بأن تتسخ ملابسي، الجلسة الحلوة لا تعوض)
ارتفع حاجبي مسك و هي تراقب تلك المهذلة، بينما فتحت أسماء احدى العلب و هي تقول لأمجد برقة.

(سيد أمجد، أنت لم تذق بعد شطائر المخ التي أعددتها بنفسي)
اتسعت عينا مسك بذهول و همست مرتاعة
(مخ!مخ ماذا؟)
ابتسم أمجد بخبث وهو يتناول الشطيرة من اسماء ليقول ببراءة
(مخ حيوان بالطبع)
أغمضت مسك عينيها و هي تهمس و قد بدأت تشعر بالدوار
(ياللهي!)
تكلم أمجد يقول باهتمام
(أنتِ تبدين على وشكِ الإصابة بالإغماء يا مسك، هل أفتح لك دفترا آخر غير الذي جلست عليه أسماء؟).

فتحت عينيها لتنظر اليه ببرود، ثم لم تلبث أن قالت بابتسامة أكثر سماجة
(أشكرك جدا، احتفظ بالدفاتر للعمل كما قدر لها)
استدارت الى الباقين و قالت بنبرة متسلطة
(أين مسودات العقود التي طلبتها منذ أكثر من ساعة؟)
أشار اسماعيل الى أحد المكاتب وهو يقول
(هناك، هذا الملف هناك، خذيه أنتِ يا سيدة مسك لأن أيادينا ليست نظيفة)
نظرت مسك اليهم جميعا بقرف، قبل ان تستقر عيناها على عيني أمجد المتربصتين بها...

فأسبلت جفنيها و اتجهت الى الملف المنشود، لتأخذه و تخرج، بعيدا عن نظراته...
سارعت مسك الخطا و هي تسمع الضحكات تنفجر ما أن خرجت...
فزمت شفتيها أكثر و رفعت ذقنها و أسرعت...
لكن وقع أقدامه خلفها كان قويا بحيث لم تستطع انكاره...
لم تتوقف مسك و لم تلتفت اليه، بل اتجهت رأسا الى المصعد...
وهو خلفها لا يتأخر...
ضغطت زر المصعد بقوة ثم وقفت منتظرة لتقول ببرود دون أن تستدير اليه.

(اليس لديك ما يشغلك في هذه الشركة سوى اللحاق بي الى المصاعد؟)
رد عليها بنبرة قاتمة...
(أنا لا أتبعك، أنا متجه الى مكتبي)
نظرت اليه مسك نظرة من فوق كنفيها ثم قالت باشمئزاز
(لا تتخيل أن تدخل معي المكتب و قد أكلت للتو، بصل و مخ و خلافه)
قال أمجد ببساطة وهو ينظر الى أرقام المصعد
(لا تدخلي معي اذن)
استدارت اليه و هتفت بغضب
(أنا أتيت قبلك)
قال أمجد بنفس البرود.

(لكنك لم تملكي المصعد لنفسك، اصعدي على السلم لو كنتِ متضايقة)
أوشكت على رميه بالمزيد من قذائف لسانها، الا أن المصعد وصل و فتح أبوابه، فدخلت مسرعة و هي تنوزي غلق الباب قبل أن يدخل، الا أنه كان اسرع منها فمد يده ليمنع غلقه، ثم دخل بهدوء و نظر اليها معاتبا ليقول ببساطة
(أنتِ طفولية جدا)
هتفت به بغيظ
(و أنت رائحتك لا تطاق)
استدار اليها ليقول بصوت أكثر غضبا و عنفا...

(و أنت مغرورة، و أنفك مرتفع أكثر من اللازم و بالمناسبة هو مدبب جدا، لذا رفعه لا يفي وجهك حقه و يزيد من حدة ملامحك، و بالمناسبة أيضا، الجميع هنا يتندرون عليكِ و يطلقون عليكِ لقب ألمظ، لعجرفتك في التعامل معهم، )
صدمت مسك و هي تقول بدهشة
(من يدعوني ألمظ غيرك؟)
ابتسم بشر و هو يهمس لها من بين أسنانه
(ظاظا)
اتسعت عيناها أكثر و أكثر باستنكار، ثم هتفت بغضب عارم.

(أتعرف ماذا، العيب ليس عليهم، بل العيب عليك أنت، لأنك من تسمح لهم بالتمادي على رؤسائهم، فتبقى في نظرهم الرجل البسيط المتواضع، بينهما هذا لا يعد تواضعا أبدا، بل هو تمادي و تجاوز حدود و سلطات)
فتح المصعد أبوابه فخرجت مسك منه مندفعة، الا أنها استدارت اليه و قالت باستياء أكبر
(و بالمناسبة أيضا، الفتاة أسماء، معجبة بك، لأنك تشجعها و تسمح لها بالتمادي، فرسمت بداخلها أحلاما وردية لا أساس لها من الصحة).

بهتت ملامح أمجد وهو يسمع هذا الكلام للمرة الأولى، و أوشك المصعد على أن يغلق أبوابه، الا أنه مد يده يفتحه، ثم خرج خلفها ليقول واضعا كفيه في خصره قائلا
(من أين لكِ بمثل هذا الهراء؟)
قالت مسك بتشفي
(إنها ملحوظة يراها الأعمى، بشرط واحد أن يضع الحدود بينه و بين الجميع، و لا يسمح لأحد بتجاوزها، حينها تصبح الرؤية لديه أوضح)
وقف كل منهما يواجه الأخر وهو يتنفسان بسرعة، و كأنهما في مصارعة ديوك...

تكلم أمجد أخيرا ليقول بخفوت
(لقد جرحتك على ما يبدو)
ابتسمت مسك ابتسامة متعالية و قالت بأناقة
(أنا لا يسهل جرحي، كي تتسبب به كلمات سخيفة من أناس لا هم لهم سوى القيل و القال)
تصلبت ملامح أمجد وهو يراقبها صامتا، و قد يئس منها و من عجرفتها...
الا أن عينيه رغما عنه انخفضتا الى أصابعها الخالية من الخواتم، فقال فجأة ببرود.

(لم ترتدي خاتم خطبة بعد، هل هذا يعني أن مشروع الخطبة قد فشل لا سمح الله و نجى ابن عمك بجلده؟)
ضغطت مسك على أسنانها و هي تقول بابتسامة غرور و تعالي
(لا تقلق عليه، هو بخير حال وهو راضٍ جدا، و بالمناسبة مرة رابعة، زفافي سيكون الخميس المقبل، أي بعد اسبوعٍ تماما، و حينها سأرتدي الخاتم)
ضاع التحدى من ملامح أمجد، و انعقد حاجبيه، بينما قال دون تفكير
(بهذه السرعة؟)
أومأت مسك مبتسمة بأناقة و هي تقول.

(نعم، لا داعي للتأجيل، سكون حفلا هادئا، و أنت مدعو بلا شك)
لم يتكلم أمجد على الفور، بل ظل واقفا مكانه ينظر اليها بصمت...
نظرة طويلة كانت تعرف معناها جيدا...
نظرة تجرها الى المنطقة المحظورة التي تهرب منها منذ أشهر...
فأخفضت وجهه أمام تلك النظرة الغير مرغوب بها، الا أن أمجد قال بهدوء و بصوت لا ينم عن شيء
(سأحضر بالتأكيد)
ارتفع وجهها بصدمة و هي تهمس
(هل ستفعل؟)
قال أمجد بصوت لا حياة به و بابتسامة هادئة.

(لن أفوته لاي شيء)
ارتجفت شفتي مسك و لعنت الغباء الذي دفعها الى دعوته! لا تصدق أنها ستكون مضطرة الى خوض هذا الزفاف أمامه، و في وجود أشرف و غدير أيضا...
أغمضت عينيها و هي تشتم نفسها بألفاظ لم تعتدها من قبل...
و حين وجدت أن الصمت قد طال، استدارت وهي تقول بخفوت
(رائع، سأكون سعيدة بحضورك)
تحركت مرفوعة الرأس، تائهة النظرات و هي تمشي بأناقة، الا أن أمجد ناداها قبل أن تبتعد
(مسك)
استدارت اليه لتتقول بخفوت
(نعم).

ظل واقفا مكانه ينظر اليها عدة لحظات قبل ان يقول دون ابتسام لكن بلهجة صادقة
(أتمنى لكِ السعادة)
لم يظهر شيء على ملامحها الأنيقة المنحوتة، بل ظلت تبادله النظر ثم قالت أخيرا مبتسمة بجمال أنثوي
(و انت أيضا)
ثم استدارت، و اسرعت الخطا، تهرب قدر المستطاع من المنطقة المحظورة...
أما هو فظل واقفا مكانه، ينظر الى ابتعادها، ثم همس بصوت غريب
ألماس...

ليلة زفاف مسك و زاهر...
وقفت مسك أمام المرآة في الغرفة التي استخدمتها لارتداء فستان الزفاف الذي قامت باختياره منذ أيام...
كانت تعلم أنه يناسبها...
لكنها لم تتخيل أن يكون رائعا بتلك الصورة...
فبعد أن أنهت خبيرة التجميل عملها، وقفت مسك لتقيم نفسها...
تحتاج لأن تكون جميلة، جمالها الشكلي لا يقل أهمية عن شخصيتها القوية...

كانت قد صففت شعرها في لفة جانبية، و انسدل خمار الزفاف من هذه اللفة الجانبية على كتف واحد فقط الى أن استقر على مرفقها، ثم تابع انسداله الى الأرض...
فستانها لم يكن منتفشا...
بل كان ضيقا بتفصيل رائع يتسع عند ركبتيها، و مزين بتطريزٍ فضي رائع جعل منها عروس بحر...
كانت أنيقة، و جذابة، و مترفعة عن بهجة الأفراح الوردية...
و هذا هو ما أرادته تحديدا...
لكن بداخلها كان هناك فراغ، هوة واسعة، ينقصها السعادة...

لم تكن السعادة مبتغاها، لكنها الآن تشعر بأنها تتمنى بعضا منها...
بعضا من رذاذ وردي متناثر داخل تلك الهوة...
سمعت طرقا على الباب، فقالت بخفوت ناعم
(تفضل)
دخل سالم الرافعي، خطوتين ثم توقف مبهورا!
فابتسمت مسك له بجمال و هي تفتح ذراعيها قائلة
(اذن، ما رأيك؟)
بدا سالم و كأنه قد فقد النطق لعدة لحظات و لانت عيناه بنظرة أثرت بها...
ثم همس بخفوت وهو يفتح كفيه.

(رأيي؟، و هل تركتِ لي رأي يا أميرة البنات؟، تبدين خلابة)
اتسعت ابتسامتها و هي تقول مستسلمة
(جيد، وهو المطلوب، سأفعلها، سأتزوج و أريح قلبك أخيرا)
ارتجفت ابتسامة سالم وهو يقول بخفوت
(كنت أتمنى لكِ الأفضل)
قالت مسك بهدوء
(زاهر ليس سيئا يا أبي)
أومأ سالم برأسه صامتا، ثم عاد لينظر اليها مجددا، يملي عينيه من جمالها قبل أن يقول بخفوت.

(كم تشبهين أمك رحمها الله، نفس الجمال و البهاء، كانت أجمل عروس رأيتها في حياتي، و كنت أظن وقتها أنني قد ربحت جائزة من الماس)
ابتسمت مسك و هي تهمس بخفوت
(رحمها الله)
رفع سالم وجهه وهو يلتقط أنفاسه ليقول قبل أن تدمع عينا مسك
(هيا بنا، لا نريد أن نترك العريس منتظرا طويلا، و المأذون ينتظر)
ابتسمت مسك و قالت بخفوت
(نعم، هي بنا).

مد سالم ذراعه الى مسك فتبثت بها برقة، قبل أن يتحرك بها خارجا الى قاعة هادئة ضغيرة...
تزينها الشموع و موسيقى رقيقة...
كان عدد المدعوين محدودا، بعض أعمامها حضر بينما لم يستطع جدها تحمل السفر و القدوم الى المدينة...
وهو كان زاهدا في أي زواج بعد زواج سوار...
كان يبدو كمن فقد شيئا عزيز عليه...
لذا لم يستطع أحد اجباره على الحضور...

تقدمت مسك مع والدها فبدأت الموسيقى تتغير الى لحن أكثر رسمية، و الجميع ينظرون اليها و هي تتقدم مع سالم عبر الطاولات...
عيناها تراقبان الحضور بابتسامة أنيقة جذابة، فرأت أشرف و غدير...
كانا يجلسان متقاربين، متباعدين...
نظرة كل منهما اليها اسعدتها بما يكفي ليملأ الهوة بداخلها قليلا...
فأشرف كان ينظر اليها صامتا، نظرة افتقدتها في عينيه منذ سنوات، و قد راهنت على أن تراها مجددا...

أما غدير فمن المفترض أن تكون سعيدة لانتهاء قلقها من ناحية مسك و خوفها على ضياع زوجها منها...
الا أن نظرتها كانت شديدة السواد...
و كأنها لا تزال تعاني من العقدة القديمة...
عيناها تتحركان على فستان مسك، و تغوران أكثر، ثم تتحركان ناحية زاوية معينة...
علمت مسك قبل أن تلتفت الى الزاوية التي تنظر اليها غدير، أنه هناك...
فنظرت اليه مباشرة قبل حتى أن تنظر الى عريسها!

كان يجلس في زاوية منعزلة، يرتدي حلة سوداء جعلته أكثر وسامة مما ظنت و أظهرت شقرة لحيته أكثر...
و عيناه، عيناه جعلتا الابتسامة تموت من على شفتيها...
لم يرى عروسا أجمل منها من قبل...
كليوباترا، بكل جمالها و عذوبتها و مكر عينيها...
بكل ترفعها و كبريائها الأنيق المغيظ...
حين خطت الى المكان و تغير اللحن، شعر بشيء يتغير في داخله قبل أن يستدير ليراها على مهل...
ثم تسمر...

تبدو كالألماس الخام، سحرت كل الناظرين اليها رغم أنها كانت غاية في البساطة...
مسك الرافعي...
لقد أصبحت بعيدة عن متناول يديه الآن و انتهى الأمر...
عليه أن تعامل مع تلك النار الحارقة في احشائه الآن، ترى الى متى ستستمر؟
ابتسم لها أمجد ابتسامة لم تصل الى عينيه ما أن التقت نظراتهما...
فردت له الإبتسامة بأخرى أكثر شحوبا، قبل أن تجبر وجهها على الألتفات الى عريسها...

تحركت مسك الى طاولة أنيقة، يتوسطها المأذون منتظرا و على يساره يجلس زاهر أما الكرسي على اليمين فهو معد لجلوس والدها...
فجلست بجواره...
بدأ الشيخ في اتمام عقد القران، بينما مسك تنظر الى زاهر بصمت وهو يبادلها النظر بعينين مشتعلتين سعادة و ظفرا بما أراده لسنوات...
على الرغم من انه أوشك على ارتكاب جريمة ما أن علم بأن أشرف مدعو للحفل...
لكن سالم ووالده قاما بتهدئته منعا للفضائح...

و الآن بعد أن رآها، هدأت نفسه و ارتاح باله الى أن تلك الجوهرة النفيسة باتت ملكا له...
انتهى المأذون من خطبته الاستهلالية، لكن و قبل أن يبدأ في عقد القران الفعلي...
تكلمت مسك بصوت واضح ناعم و أنيق، لكنه مسموع للجميع
(من فضلك سيدي الشيخ، أريد اضافة شرطا الى عقد زواجي)
سادت بعض الهمهمات في المكان و بدا الجميع متفاجيء حتى والدها الذي نظر اليها بعدم فهم...
الا أن المأذون قال بهدوء.

(نعم يا ابنتي، وكلي والدك و قولي شرطك)
قالت مسك و هي تنظر الى زاهر مبتسمة
(أريد أن أشترط الا يتزوج زوجي بامرأة أخرى طالما هو متزوج مني)
الآن تعالت الهمهمات الى صيحات مستنكرة من جميع المتواجدين، فهم اعمامها و يدركون علتها جيدا...
وحده أمجد الذي كان ينظر اليها مذهولا، بينما لسان حاله يقول
و هل هذا شرط يصعب تحقيقه؟
تكلم زاهر مصدوما
(لكن يا ابنة عمي، أنتِ تحرمين شرع الله)
التفتت مسك الى الشيخ و قالت بهدوء.

(هل يجوز اشتراطي يا سيدي الشيخ؟)
اجابها الشيخ قائلا على مهل
(اشتراط المرأة ألا يتزوج عليها، شرط صحيح جائز كما ذهب إليه المحققون من أهل العلم، وإذا أخل الزوج بهذا الشرط: كان لزوجته الحق في فسخ النكاح، وأخذ حقوقها كاملة)
نظرت مسك الى زاهر مبتسمة و قالت
(الكلام واضح، الرأي النهائي لك، هل تريد أن تتزوج من أخرى)
بدا زاهر في وضع لا يحسد عليه...
بينما نهض والده هاتفا و هو غير قادر على السيطرة على نفسه أكثر.

(ما الذي يحدث يا سالم؟، و ما تلك الفضائح، ابنتك العاقر تتشرط!)
ساد صمت مهيب بعد انفجارة والد زاهر...
و لم يجرؤ أحد على النطق بعدها، بينما شحب وجه أمجد وهو ينظر بذهول الى مسك التي ظلت محتفظة بابتسامتها الأنيقة...
و أخذت تعد بداخلها، واحد، اثنان، ثلاث...
منحته عشر ثوانٍ كاملة، كي يتخذ قراره، الا أنه بدا صامتا مصدوما...
فنهضت من مكانها بخيلاء و هي تقول برقة.

(حقك أن تتزوج من أخرى يا زاهر، لكن الأولى لن تكون أنا)
التفتت الى أعمامها ثم قالت بابتسامة جميلة
(عمتم مساءا، لقد انتهى عقد القران قبل أن يبدأ)
تحركت مسك و هي تحمل خمار رأسها على مرفقها لتغادر أمام الأعين المذهولة، بينما اندفع أمجد ليجري خلفها، و ما أن وصلت الى الباب حتى ناداها لاهثا
(مسك، انتظري)
استدارت اليه مبتسمة و قالت.

(نعم أنا عاقر، لقد تم استئصال الرحم لي بعد اصابتي بورم خبيث، آسفة لحضورك و تعطيل وقتك، أراك يوم الأحد في الشركة).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة