قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع

(نعم أنا عاقر، لقد تم استئصال الرحم لي بعد اصابتي بورم خبيث، آسفة لحضورك و تعطيل وقتك، أراك يوم الأحد في الشركة)
لحظات تلك التي فصلتهما عن العالم بعد أن نطقت بكلماتها الهادئة المقصودة، و لم تنسى الابتسامة المدروسة على شفتيها...
لم تنسى الا تفقدها...
بينما كانت عيناها تتجولان بلا تعبير على ملامح وجهه...
ربما كان الذهول يظلل تلك الملامح الرجولية الجذابة، الا أن شعورا آخر فاق الذهول أشواطا...

الألم...
بدا و كأنه رجل يتألم...
انعقد حاجباه ببطىء و كأنه يستوعب ما نطقت به للتو، لدرجة ان ابتسامة ساخرة ارتسمت على شفتيه بعصبية، تدعوها، بل تتوسلها كي تضحك و تخبره أنها كانت تمزح بأكثر المزاح دناءة في الكون...
و مع ذلك سيسامحها، فقط فلتضحك و تقول بعجرفتها المعتادة و أنفها المرتفع
خدعتك، نلت منك...

الا أن ملامح مسك الهادئة و النظرة الزجاجية الشفافة في عينيها العنبريتين، اخبرتاه بما لا يقبل الشك، أنها لا تمزح...
حينها ازداد انعقاد حاجبيه كرجل يعاني، و التوت شفتاه وهو يهمس باختناق أجش
(مسك!)
رمشت مسك بعينيها مرة واحدة، اشارة آدمية واحدة فقط، جعلت الابتسامة على شفتيها تفتر قليلا، قبل ان تقول بنبرة متسلطة، قوية كالجبال
(اياك، اياك و الشعور بالشفقة نحوي الآن، و في هذه اللحظة تحديدا).

ما لم تتوقعه، أن الابتسامة التي فترت على شفتيها، كانت و كأنها انتقلت الى شفتيه...
نفس الابتسامة الفاترة، و التي كانت كالقناع لمشاعر عنيفة هائجة...
و رقت عيناه دون ان تفقدا ذرة من الألم بهما، ثم همس لها
(أشك في أن يوجد من هو قادر على الشعور بالشفقة تجاهك يا مسك، فالماس لا يُكسر، و لا يُخدش)
الآن بهتت الابتسامة تماما، و هي تنظر اليه طويلا، بينما هو يبادلها النظر بنفس الألم...

همس أخيرا بصوت مختنق وهو يمد كفه اليها ببطىء
(مسك)
لا تعلم ما كان يريده بمد كفه، و تشك في أن يكون مدركا لما يريده فعلا...
كان بامكانها البقاء لعدة لحظات اضافية في هذا العالم المنفصل كفقاعة تفصلهما عما حدث للتو...
الا أن بعض الصيحات المفاجئة تعالت، و هتاف باسم والدها
سالم!
انتفضت مسك و هي تبعد عينيها عن عيني أمجد لترى ما يحدث، و سرعان ما هتفت بقوة و قد ابيضت ملامحها...
(أبي!).

و دون أن تنتظر، انحنت لتمسك بجانبي فستانها قبل ان تتجاوزه و تجري عائدة الى والدها...
كان سالم لا يزال جالسا على كرسيه، المفترض ان يكون مجاورا للمأذون...
الا أنه الآن بدا و كأنه قد سقط عليه، و قد تحشرجت أنفاسه، بينما التف اخوته من حوله وهم يسارعون بفك ربطة عنقه و فتح أول زرين من قميصه...
وصلت اليه مسك و تجاوزتهم جميعا بالقوة، حتى انحنت اليه جاثية ارضا و هي تضغط على صدره هاتفه
(أبي، أبي، أجبني أرجوك، ).

لكن يدا قوية امتدت لتقبض على ذراعها ترفعها بعنف و تديرها الى صوتٍ جهوري
صوت زاهر، كان غاضبا بشكلٍ لم تره عليه من قبل، حتى مع كل فظاظته السابقة، الا أنه هذه المرة بدا مختلفا، بدا كرجلٍ مهان، رجل لا يقبل الإهانة خاصة من امرأة، بل انه حتى لا يصدقها...
(كل هذا بسببك، بسبب غرورك و فعلتك عديمة الحياء و التربية، والدك سيموت من الفضيحة التي افتعلتها دون أي وجه حق).

فتحت فمها لتصرخ به، الا أنها لم تجد الوقت لذلك، فقد امتدت يد أكثر قوة، و غضبا...
لتمسك بمعصم زاهر و صوت لا يعبث، يهدد قائلا
(اترك ذراعها، الآن)
ازداد انعقاد حاجبي زاهر وهو ينظر جانبا ليرى من هذا الذي يجرؤ على القاء الأوامر اليه بتلك الصورة الوقحة...
ضاقت عيناه بشررٍ قاتم على وجه أمجد الهادىء، رغم قبضته الحديدية على معصمه، فهدر زاهر وهو ينفض كفه بعنف
(و من تكون أنت من الأساس كي تتدخل في أمرٍ عائلي؟).

في تلك اللحظة كان أشرف يراقب الموقف بعينٍ مختلفة تماما...
انه أمجد الحسيني، وهو للمرة الثانية يتدخل بوقاحة ليفصل مسك عن احد أبناء عمها...
الأمر أكبر من أن يكون مجرد مدير لها كي يتصرف بتلك الأريحية، و من الواضح أنها لا تعترض!
منذ المرة الأخيرة التي أجبرها فيها أمجد على الخروج و تركه في المقهى...
و هي تتجنب اتصالاته حتى حان موعد العرس، و كأن هذا المدعو أمجد قد أمرها بهذا، فأطاعت...

من جهتها كانت غدير تراقب عيني أشرف الشاردتين بغموض، و غضب، و شيء من ال...
الحسرة...
حسرة كانت تشعر بها في تلك اللحظة تحديدا و هي ترى قبضة أمجد تمتد بصلابة دفاعا عن مسك، بينما زوجها ينظر اليها هو الآخر متحسرا كالأبله...
أخفضت غدير وجهها الشاحب و هي ترى أن مسك الرافعي لا تزال هي الرابحة رغم كل شيء...
رابحة بكل شي...

ربحت الرجل الوحيد الذي امتلك قلبها، و ها هي في سبيلها لاستعادة الرجل الذي وضع خاتمه في اصبعها هي، لكن هذا لن يحدث، ليس و هي لا تزال على قيد هذه الحياة التي طحنت من عظامها و حولتها الى رمادٍ لكن أشد قسوة...
صرخت مسك فجأة بهم
(هلا توقفتما عن هذا الهراء من فضلكم)
و دون أن تطلب منهم المساعدة، كانت تخرج هاتفها من حقيبتها الصغيرة الفضية المعلقة في اصبعها بأناقة...
و هي تدمدم بقلق و أصابعها ترتجف قليلا...

(سأطلب سيارة اسعاف)
الا أنها و قبل أن تفعل، كانت يد سالم ترتفع لتمسك بمعصمها بوهن وهو يقول بخفوت مختنق
(لا داعي، لقد أفقت، كانت مجرد اغماءة على ما يبدو)
استدارت مسك اليه بلهفة لتعود جاثية على ركبتيها أرضا، غير مبالية باتساخ فستان زفافها الأنيق...
ثم هتفت بقلق و هي تمس صدره و نبضات قلبه
(ابي، هل أنت بخير؟)
أومأ برأسه ببطىء بينما كانت عيناه متخاذلتان، متهربتان من الجميع و من الوضع المشحون المحيط به...

فحاول النهوض بضعف، الا أنه سقط جالسا، حينها أمسكت مسك بذراعه و هتفت بجزع
(أبي، يجب أن نذهب للمشفى، أنت تتنفس بصعوبة)
الا أنه عاد و قال بخفوت، لكن بنبرة اكثر صلابة
(أنا لا أحتاج الى مشفى، أنا فقط أحتاج الذهاب الى البيت، ساعديني يا مسك)
سارعت مسك لتدعم ذراعه و تسنده وهو ينهض واقفا بصعوبة، لكن و ما أن بدأ يتحرك حتى قال والد زاهر بغضب.

(ما حدث لن يمر مرور الكرام يا سالم، ابنتك أهانتنا جميعا و بدلا من أن تصفعها على وجهها مرتين، ها أنت تستند عليها لتهرب الى بيتك مطأطأ الرأس، لكن هذه هي نهاية خلف الفتيات، ليتك دفنتهما عند مولدهما قبل أن يفعلا بك ما تفعلانه الآن)
أزداد انعقاد حاجبي سالم ألما، و ازدادت قتامة ملامحه، الا أن مسك هي من أنابت عنه في الرد و قالت بصوتٍ عالٍ واضح النبرات ارتد صداه في أرجاء القاعة و هي تنظر اليهم جميعا.

(لن أسمح بكلمة واحدة أخرى، و إن كان والدي أكثر ارهاقا من أن يرد عليكم، فأنا خير قادرة على الرد، كفى، فقط خذوا ابنائكم جميعا و كفى، لقد اكتفيت منكم)
ساعدت سالم ليتحرك، الا أن أمجد تحرك و قال بصوت آمر
(سأقلكما)
ردت مسك عليه بصوتٍ بدا متعالٍ قليلا و دون أن ترفع عينيها اليه
(لقد أتينا الى هنا بسيارتي، و سأعود بها).

تحركت خطوة، الا أن أمجد اعترض طريقها ووقف مكتفا ذراعيه، حينها فقط اضطرت الى رفع عينيها الى عينيه الصارمتين، فقال بصوتٍ جليدي لا يقبل الجدل
(لن أسمح لكِ بالقيادة و أنتِ في مثل هذه الحالة)
رفعت مسك ذقنها و قالت بترفع
(اي حالة؟، هل يبدو على ملامحي أي نوع من التأثر؟ أم تراني و قد ارتميت أرضا باكية؟، زفاف و انتهي، نهاية الموضوع و نقطة اخر السطر، من فضلك ابتعد).

ملامحك رخامية تنطق بالكبرياء و العزة، لكن عيناكِ تعكسان ألما مهلك...
أراد النطق بتلك الكلمات هادرا، الا أنه لم يفعل، على الأقل ليس هنا و أمام هذا الجمع تحديدا...
فزم شفتيه وهو يقول بكبتٍ يهدد بالإنفجار
(مسك، توقفي عن الجدال)
لا يريد منها كلمة جدال واحدة اخرى، فهو نفسه ليس ثابت النفس في تلك اللحظة...
طوفان هادر يعبث بكيانه، عاصفا بكل ثباته الذي اعتاده في احلك لحظات حياته...

و كل ما يريده في تلك اللحظة هو أن يحملها و يحمل طوفانه الهادر بعيدا عن هذا المكان و عن هاؤلاء البشر تحديدا...
لكن زاهر اختار هذه اللحظة ليهتف من خلفها
(من الأفضل لك أن تبتعد أنت أيها الغريب، الا ترى أن وجودك هنا غير مناسب من البداية؟، نحن عائلة واحدة، و لم يكن يتعين على المحترمة أن تدعوك، خاصة و هي مبيتة النية على تقديم عرضها الرخيص)
رفع أمجد وجهه ينظر الى زاهر نظرة واحدة...

مجرد نظرة، شملته كله في لمحة عين مستصغرة، من اخمص قدميه و الى مستوى عينيه...
بدت نظرة أمجد تحمل ازدراءا واضحا، مما جعل زاهر يرفع حاجبيه ليندفع كالثور الهائج وهو يهتف
(من تظن نفسك لتنظر الي بتلك الطريقة، أنا سأريك مركزك)
الا أن والده أمسك به بقوة وهو يهدر بغضب
(كفى، كفى يا زاهر، لا تقلل من شأنك لأجل شخصٍ مثله حاقد و مجهول)
ابتسم أمجد ببرود قبل أن يقول
(الحاقد على عائلة كعائلتكم ما هو الا مختل).

هدر زاهر وهو يحاول تجاوز والده
(دعني يا حاج، سأقتل هذا المتبجح)
استدار اليه امجد بكليته وهو يشير اليه قائلا بهدوء
(تعال، أنا أنتظرك و سيكون هذا من دواعي سروري)
تكلم أشرف قائلا من بين أسنانه
(أنت تتجاوز حدودك للمرة الثانية، هلا أوضحت بالضبط ما تريده من مسك؟)
رفعت مسك وجهها لتنظر الى أشرف بنظرة بدت و كأنها صادمة، مصدومة، غاضبة، و مجمدة له من شدة برودها في آن واحد...
بينما التفت أمجد اليه و قال بهدوء.

(ربما عليك أنت الإجابة عن هذا السؤال، بما أن المرة الأولى كانت لتخليصها من رفقتك الغير مرغوب بها)
الآن بدت عدة أزواج من الأعين تنظر الى أشرف بذهول
غدير، زاهر، والده، و سالم...
امتقع وجه أشرف بشدة بينما قال زاهر وهو يرتجف غضبا
(ما الذي يحدث هنا بالضبط؟، هل كنت تسعى لمقابلة مسك و أنت تعلم أنها باتت خطيبتي؟)
هتف أشرف بتوتر و دون تفكير
(مسك لا تزال ابنة عمي رغم كل شيء).

هدر والد زاهر بعنف ارتج له الحاضرين من أعمامها و زوجاتهن
(ياللزيجة المشرفة، والله، والله، والله يا زاهر لو أصريت على الزواج بها فلن تكون ابني لآخر العمر، و محرم عليك حضور جنازتي)
رفعت مسك وجهها و استدارت الى عمها ببطىء و هدوء، قبل ان تقول
(عمي، مع كامل احترامي، هل فاتك شيء؟، أنا رفضت الزواج من ابنك، و للأبد، لذا لن تكون هناك اي احتمالية كي تنفذ وصيتك الغالية).

صرخ عمها فجأة بغضب وهو يرفع كفه بنظرة عمياء
(أيتها ال)
الا أن أمجد و للمرة الثانية، يمسك بعصم والد زاهر في تلك اللحظة متصديا لصفعته وهو يقول هادرا
(لن يمسها أيكم، ليس و أنا هنا)
هتفت مسك من خلفه بغضب
(أنا قادرة على الدفاع عن نفسي، أما أنت فتزيد الوضع سوءا)
الا أن أمجد هدر يقول و قد بدأ يفقد السيطرة على بروده
(أكرميني بسكوتك، رجاءا، ).

ارتفع حاجبي مسك و هي تفغر شفتيها غير مصدقة، و بالفعل صمت متفاجئة لعدة لحظات قبل أن يقول سالم بصوت أكثر اختناقا
(كفى بالله عليكم كفى، لم أتمنى أن يسترد الله أمانته كما أتمنى في تلك اللحظة، مسك، خذيني للبيت حالا)
سارعت مسك لتمسك بذراعه مجددا و هي تقول ناظرة اليهم نظرة لا تقهر
(سأخرج أنا و أبي من هذا الباب، و أريد رؤية من سيستطيع منعنا).

بدا الجميع في حالة بين الارتباك و الغضب، الصدمة و عدم تصديق ما حدث و كأنها مسرحية مريعة في نهايتها...
صدمت الجمهور ثم أسدل الستار بعد الفصل الاخير...
ثم تحركت قبل ان يعترض احد طريقها، الا أمجد، الذي لحق بها متحديا الجميع بنظرة...
أن يمنعه أحد من اللحاق بها...
خرجت مسك الى بوابة الفندق الشهير الذي يضم القاعة الأنيقة فالتفتت الى والدها تقول بخفوت.

(سرعان ما سيحضرون السيارة يا ابي، دقائق و نكون في البيت، و لن تضطر للانتظار طويلا)
و بالفعل وصلت السيارة لتقف امامها مباشرة قبل ان يخرج منها العامل ليناولها المفاتيح بتهذيب...
الا أن امجد التقط المفاتيح منه دون اذن...
انتفض رأس مسك و هي تنظر اليه بغضب ثم قالت بحدة
(الا زلت هنا؟)
رفع حاجبا وهو يقول بلهجة قوية مستفزة، مشددا على كل حرف
(و لا نية لي في تركك).

أجفلت مسك قليلا و اضطربت حدقاتها، الا أنه تابع يقول بهدوء
(الا أمام باب شقتك و السيد سالم، لذا أنا سأقود و رجاءا الوضع لا يتحمل المزيد من استقلاليتك الخانقة)
نظرت مسك الى والدها الذي كان ينظر الى أمجد بدوره، ثم لم يلبث أن قال بصوت مجهد
(دعيه يقود، أمجد ليس غريبا و كما يقول الوضع بات لا يحتمل المزيد من عنادك).

بدا صوته مشتد النبرات رغم عجزه، كان من الواضح أنه ليس راضيا عنها و لن يرضى الا بعد فترة طويلة، طويلة جدا، أو ربما لا...
أسبلت مسك جفنيها و هي تفكر بأن آخر ما ترغبه الآن هو أن يصدمها والدها بردة فعله بما فعلت...
ليس هو أيضا، يكفيها كل من أجبرت على التعامل معهم من الذكور...
لا تريد أن يكون والدها هو المتمم لتلك الدائرة المخزية...
تكلم أمجد قائلا بهدوء آمر و هو يلاحظ الشحوب البادي على ملامحها...

(هلا دخلتِ الى السيارة من فضلك؟)
رفعت مسك جفنيها تنظر اليه بنظرة قاتمة، الا أنه بادلها النظر ببساطة قبل أن يأخذ منها مهمة مساعدة سالم حتى أجلسه في المقعد الخلفي و تأكد من راحته، ثم اتجه للمقعد بجوار السائق ففتحه ووقف منتظرا، وهو ينظر اليها رافعا حاجبه متحديا...
زفرت مسك بنفاذ صبر و هي تلملم حواف فستانها قبل أن تتجه الى المقعد رافعة ذقنها، لتقول ببساطة و هي تنحني و تجلس
(شكرا لذوقك سيد أمجد).

ثم نظرت أمامها بعينين لا تحديان عن الخط امامهما...
أما أمجد فوقف ينظر اليها لعدة لحظات ممسكا بالباب لا يود غلقه أمام هذا الوجه المتكبر المرتفع بإباء...
و تلك العينين الرافضتين راحة الدموع بقسوة مضنية للقلب...
أغلق أمجد الباب ثم رفع وجهه ليأخذ نفسا عميقا ملأ صدره من هواء تلك الليلة الموجعة...
حتى الآن لا يزال يعاني من صدمة اعترافها الهادىء امامه...
بينما المتحذلقة السخيفة ترفض اظهار لحظة ضعف واحدة...

تحرك امجد ليدور حول السيارة و جلس خلف المقود ليتحرك بها بسلاسة و كأنه يملكها منذ زمن...
استمر الصمت بين ثلاثتهم لدقائق، و امجد ينظر اليها بين الحين و الآخر...
كانت بنفس الملامح المنحوتة و النظرات الجامدة، لا تحيد بها الى أي مكان...
انها تتالم وهو يعلم ذلك...
نظر في مرآة السيارة الى سالم الرافعي، كان يريح ظهره، ملقيا رأسه للخلف يبدو شاردا، متعبا...
بعيدا عنهما تماما...

التفت أمجد الى مسك مرة أخرى ثم قال بخفوت
(هل أنتِ بخير؟)
استدارت اليه مسك بعنفوان و هي تقول بهدوء
(تماما، توقف عن هذا السؤال من فضلك و شكرا)
زم أمجد شفتيه و نظر امامه، بينما اشتدت أصابعه على المقود حتى ابيضت مفاصله، ثم لم يلبث أن قال بصوت أجش هامس
(أنت بشر يا مسك، مهما حاولتِ انكار هذه الحقيقة، لكنك ستظلين بشر، ليك نواقصك و لحظات ضعفك، التي من حقك أن تنهاري بها).

أفلتت منها ضحكة ساخر ة خافتة قبل أن تهمس كي لا يسمعها والدها عسى أن يكون قد نام قليلا
(أنهار؟، ياللها من نصيحة! مسك الرافعي لا تنهار، لكن شكرا لك على النصيحة على أية حال)
زفر أمجد نفسا مكتوما، بدا يحمل الكثير من الضيق و، الألم...
يفوقان الغضب بداخله، إنه يحتد عليها لمجرد حفاظها ولو شكليا على القشرة التي تحيط بها نفسها، كي تحميها...
لماذا يريدها ان تكسر تلك القشرة؟

لم يسبق له أن نصح اي كان بالإنهيار من قبل، فلماذا مسك الرافعي تحديدا؟
ربما لأنه لا مخلوق قادرا على دفن ألمه بتلك الصورة، دون أن يدفن جزءا من نفسه معه...
وهو لا يريد هذا لها...
حين سمع من غدير عن تلك الشابة المترفعة التي خلعت خاتمها بأناقة ووضعته بينهما بكل كبرياء و هي مبتسمة...
شعر بإعجاب عنيف يجتاحه، و رغبة قوية في رؤيتها و التعرف اليها...
لكن بعد أن اتضحت له الصورة كاملة الآن...

ظهر له أي ألم عاشته، ما بين أوجاع المرض و فقد آخر أمل لها في اشباع غريزة الأمومة لديها كأي امرأة، ثم منيت بعد ذلك بفقد الرجل الذي كان من المفترض به أن يكون سندا لها في هذه الحياة
في الصحة و المرض...
أي نذل هو ذاك الحقير!
ضرب امجد المقود بقبضته وهو يهمس من بين أسنانه المشتدة...
(نذل، قسما بالله نذل و سافل)
ارتفع حاجبي مسك و هي تنظر اليه بدهشة، ثم همست بتوتر
(من؟).

أجفل أمجد حين سمع سؤالها المتوتر، لقد كان من الغضب بحيث نطق بما يليق بالحقير أشرف جهرا...
عاد ليزفر وهو يقول بوجوم
(لا شيء، لا تهتمي)
نظرت اليه نظرة قصيرة فاترة، قبل أن تهز كتفها قائلة بلامبالاة
(جيد)
نظر اليها أمجد، الا أنها كانت قد سارعت بإدارة وجهها عنه لتنظر من النافذة الى الليل المحيط بهما...
ترى هل تحدث المعجزة للمرة الثانية و تتحرر منها دمعة تبرد نارها ولو قليلا؟

كم يود في تلك اللحظة لو يمتلك الحق في أن يضمها لصدره و يأمرها بالبكاء حتى تنهار عليه...
أخذ نفسا عميقا وهو ينهر نفسه بغضب
بماذا تفكر بالله عليك!
نظر جانبا عاقدا حاجبيه ويشعر بالرغبة في ضرب احدهم، ثم ضمها الى صدره
لا، اللعنة، فليتوقف عن التفكير بضمها الى صدره
مسك الرافعي امرأة حديدية، لا تحتاج للعناق طلبا للراحة و اللجوء للدموع...
نظر اليها بعد فترة و كأنه غير قادر عن التوقف، ثم قال بخفوت شديد.

(لماذا قمتِ بهذا علنا، و بتلك الصورة؟، كان يمكنك الاتفاق معه مسبقا و بطريقة اكثر تحضرا)
لم تلتفت اليه مسك، بل بدت كدمية لعرض ثوب زفاف، ثابتة مكانها و مشيحة بوجهها...
اطال النظر اليها، وهو يراقب تلك الخصلات التي تحررت من ربطتها الأنيقة على جانب عنقها الأبيض الطويل...
فبدت أجمل و أكثر هشاشة...
تاهت عيناه بها قليلا قبل أن يعود بوجهه الى الطريق مجفلا متفاديا سيارة مسرعة تتجاوزه بحماقة.

حسنا، ركز على الطريق، اتمام الليل بحادث مروع لن تكون النهاية المثالية والتي تدعمها بها...
الا أنه انتفض حين ردت ببرود
(هذا أمر لا يخصك)
القى اليها نظرة قصيرة قبل أن يقول ببرود مماثل
(اعتبريه فضول مثير للشفقة، الطريق لا يزال طويل، لما لا تتكلمي معي قليلا)
ساد الصمت بينهما قليلا، و ظن أنها سترد عليه باحدى حماقاتها المعتادة، الا أنها قالت بعد فترة بصوت فاتر دون أن تلتفت اليه.

(كنت أنتوي هذا فعلا، كنت سأعرض عليه الأمر بيني و بينه، لكنني عدلت عن هذا و قررت أن يكون رفضه مصحوبا بعقاب يليق به)
عقد أمجد حاجبيه أكثر، و أولاها كل اهتمامه قبل أن يهمس بصوت مبحوح
(تابعي، أنا أسمعك، ما الذي جعلك تعدلين عن عرضٍ اكثر تهذيبا؟).

عاد الصمت ليسود لعدة لحظات، بدا أمجد خلالها متحفزا، يوشك على انتزاع الكلمات من حلقها قسرا، عله يعرف المزيد عن تلك المرأة، التي سلبت كيانه في لحظة غدر لم يدركها...
فتحت مسك فمها لتجيب وهو يكاد أن يتلقف الأحرف منها، الا أن هاتفها اختار تلك اللحظة تحديدا ليطلق رنينا حادا...
فشتم أمجد بخفوت وهو يزفر بغضب و نفاذ صبر...

بينما أخرجت مسك الهاتف من حقيبة العروس الصغيرة لتنظر الى اسم المتصل قبل تبتسم ابتسامة ساخرة و هي تهمس بخفوت
(هذا هو السبب)
عقد أمجد حاجبيه وهو ينظر اليها باهتمام و هي تضع الهاتف على أذنها قبل أن تجيب بخفوت
(نعم يا تيماء)
ساد صمت متوتر، لعدة لحظات قبل أن تجيبها تيماء
(ترددت كثيرا في الإتصال بكِ الآن، فربما كنت مع زوجك، أقصد لو أتمتتِ الزواج منه بالفعل، هل فعلتِ؟ هل تم عقد القران؟).

ظلت مسك صامتة لعدة لحظات، قبل ان تهمس كي لا يسمع والدها ان كان نائما، لكن ان كان مستيقظا فسيسمع لا محالة
(لا يا تيماء، تم الغاء الزفاف، لا تقلقي على اختك، أخبرتك من قبل، لست أنا من يسهل خداعها ووضعها في الخانة الثانية)
زفرت تيماء و قالت براحة
(رائع، رائع، أقصد، أنا آسفة إن كنت السبب في افساد زواجك)
ردت مسك بفتور
(لا، لستِ السبب، اطمئني)
بدت تيماء مترددة قليلا، ثم قالت بجمود.

(ماذا عن والد، والدك، ما هي ردة فعله؟، أظن أن كارثة حدثت)
التفتت مسك تجاه أمجد، فاصطدمت أعينهما عن قرب للحظات قبل ان تهمس باستياء من بين أسنانها
هلا نظرت أمامك...
نظر أمجد أمامه وهو يتنهد بضيق، بينما اكملت مسك التفاتتها و هي تنظر الى والدها، كان مغمض العينين، رأسه متراجع للخلف، صدره يتحرك بهدوء و ثبات...
أعادت مسك وجهها للأمام و هي تقول بخفوت
(لقد أصابته وعكة، و ضيق في التنفس، الا أن حاله مستقر الآن).

هتفت تيماء فجأة بصوت متلعثم، موهوم
(هل، هل هو بخير؟، أقصد، هل تحتاجين لمساعدة، أو، ستذهبان لمشفى أو)
ردت مسك بهدوء خافت
(إنه بخير يا تيماء، والدك لم يعد شابا، كان علي توقع أن أمر كهذا لن يكون سهل عليه)
بدت تيماء أكثر ترددا، ثم قالت بخفوت و كأنها تهمس
(مسك، هل حقا سيكون بخير؟، أعني صحيح أن علاقتنا لم تكن مشرفة، لكنني لست شيطان كي أعلم أنه قد)
ردت مسك مقاطعة بصلابة.

(لا شيء يشير الى أن والدك سيموت يا تيماء، ادخري قدومك جريا الى فراش الموت لما بعد، قد أموت أنا قبله)
هتف أمجد بقوة و عنف
(كفى).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة