قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والخمسون

(أعددت قالب حلوى لخالتي أم أمين، و ضيفتيها)
لم يرد فريد على الفور، بينما كان أمين ينظر اليها مضيقا عينيه و كأنه يراها للمرة الأولى...
أما سوار، فابتسمت و هي تهمس لنفسها
اذن هذه هي المحظوظة يا حبيب أختك، أما والدة بدور فقد كانت تنظر الى نظرات أمين لياسمين غير راضية، غير راضية أبدا...
كان فريد هو أول من تكلم قائلا بصوت بدا الإهتمام به أكبر من مجرد اهتمام شخص عابر...
(مسا الأنوار ياسمين، كيف حالك؟).

كان يتكلم بنبرته اللطيفة، بينما تجرأت عيناه على غير عادة منه على تأملها طويلا...
كانت مهتمة بنفسها أكثر من أي مرة رآها بها، ترتدي فستانا من الصوف الناعم، أنيق، ليس بالضيق جدا أو حتى بالواسع...
فستان مسائي انساب على قوامها المكتنز و جعل منها امرأة جذابة...
وجهها متورد و زينتها بسيطة، أما شعرها فكان منسابا ببساطة على احدى كتفيها عفويا و يماثلها رقة...
لم يدرك الى أي حد اشتاق لرؤيتها الا الآن فقط...

ارتبكت ياسمين و هي تقول مجبرة عينيها على النظر اليه بإبتسامة محرجة
(مساء الخير دكتور فريد، لم أشأ أن أقاطع هذه الجمعة العائلية، لكن فقط أردت أن أذيقكم من قالب الحلوى الذي أعدتته و سأنصرف حالا)
تكلم فريد قائلا ببشاشة...
(هذا أفضل شيء فعلتيه، تفضلي بالدخول)
ارتبكت ياسمين أكثر و هي تختلس النظر الى أمين الذي كان واقفا عن بعد ينظر اليها بعينين ضيقتين، دون أن يحاول حتى التقدم لتحيتها...
فقالت بخفوت.

(لا، لا، أنا فقط، هلا تفضلت و أمسكت بها)
سارع فريد الى الإمساك بقالب الحلوى من بين يديها ثم وضعه على أقرب طاولة بجوار الباب، ليعود و يلتفت اليها سريعا، وهو يقول
(بالطبع لن تذهبي بمثل هذه السرعة، تعالي ادخلي قليلا)
أوشكت ياسمين على الرفض خجلا، الا أن نورا كانت قد خرجت من غرفتها في تلك اللحظة و هي تهتف بسعادة
(ياسمين، ما هذه المفاجأة؟)
اندفعت لتقبلها بقوة، ثم همست في أذنها بحرارة و نفاذ صبر.

(أرجوك ادخلي قليلا، كاد قلبي أن يختنق من شدة ثقل هذه الزيارة و أمي مصممة على ان أخرج و أجلس معهم)
همست لها ياسمين بحرج
(لم آت هنا لأبقى يا نورا، لن يصح هذا)
الا أن نورا أمسكت بيدها و هي تشد عليها هامسة
(أنت نجدة لي من السماء، ابقي قليلا أرجوك، )
و قبل أن تسمح لها بالهرب، كانت قد رفعت صوتها تنادي
(أمي، ياسمين جارتنا هنا، و قد أتتك ببعض الحلوى).

احمرت وجنتا ياسمين بشدة و تسارعت دقات قلبها، بينما خرجت أم أمين من المطبخ و هي تجفف يديها، حتى وصلت الى ياسمين عند الباب فابتسمت لها و هي تقول بحنان
(مرحبا حبيبتي، لماذا أتعبت نفسك، لم يكن لهذا داع والله، كان واجبا علينا نحن)
ابتسمت ياسمين بارتباك و هي تقول بصوت مبحوح بدا جذابا على الأذن
(آسفة أنني تطفلت عليكم دون موعد يا خالتي، لكنني سأنصرف حالا، لقد أردت فقط أن تتذوقوا مما عملت يداي).

سارع فريد للقول بقوة
(لن تغادري هكذا بسرعة، قولي شيئا، يا زوجة عمي)
بدت والدة أمين مرتبكة و هي تعلم جيدا حساسية الموقف بالنسبة لولدها أمين، الا أنها لم تشعر بسوار التي كانت قد اقتربت منهم، حتى قالت بوقار و بنبرة مميزة
(فريد معه حق، تفضلي معنا قليلا)
نظرت اليهم ياسمين بحرج و هي تلعن الغباء الذي جعلها تتصرف بتلك الطريقة المتهورة، مما جعل منها مجرد ضيفة متطفلة ثقيلة...

الا انها لم تجد بدا من الأمر حين قالت والدة ياسمين باستسلام
(تفضلي حبيبتي، ادخلي)
دخلت ياسمين بحرج و نورا تمسك بيدها تجرها معها الى الداخل و هي متوهجة السعادة...
فأجلستها و جلست بجوارها مبتسمة ببراءة...
همست ياسمين بفتور محدثة والدة بدوربتلعثم
(السلام عليكم)
رمقتها والدة بدور بنظرة طويلة جدا، بدت بطيئة و ثقيلة، نزولا على ساقيها الظاهرتين من تحت فستانها الذي تجاوز ركبتيها ببضع انشات فقط...

مما جعل ياسمين ترتبك أكثر، و على الرغم من الجوارب السوداء التي كانت ترتديها الا انها تململت و هي تشد الفستان لأسفل قليلا دون جدوى...
لقد كان هذا الفستان أطول قليلا حين كانت أخف وزنا، أما الآن فهو يرفض النزول لأسفل تماما...
تنازلت والدة بدور في تلك اللحظة بالرد قائلة بضيق واضح
(و عليكم السلام و رحمة الله، أنت نفس الفتاة التي قابلناها في المصعد اليوم، اليس كذلك؟).

أومأت ياسمين برأسها ببطىء، ثم قالت بخفوت
(نعم، أنا)
ردت عليها أم بدور قائلة بنبرة مستاءة
(لم تخبرينا وقتها أنك آتية الى هنا)
احمر وجه ياسمين بشدة، و هي تخفض وجهها، مذهولة من مدى غباء تصرفها في القدوم الى هنا...
لم تتصرف يوما على هذا النحو الفج أبدا...
انحنى فريد على أذن سوار و قال من بين أسنانه هامسا.

(تصرفي يا سوار، فمن الواضح أن زوجة عمك قد اعتلت الحلبة سريعا، و قد تجدين ذراع الفتاة بين أسنانها في أي لحظة)
أومأت سوار برأسها متفهمة و هي تربت على كفه قبل أن تتجه بخيلاء الى حيث تجلس ياسمين، فجلست على الكرسي المجاور لها، قبل أن تربت على ركبتها قائلة
(شرفتنا حبيبتي)
بدت ياسمين مبهورة بها على الرغم من ارتباكها و احمرار وجهها حرجا من الموقف المتخلف...

كانت سوار تبدو امرأة وقورة ذات هيبة خاصة، ممتزجة بجمال وجهها الواضح، فشعرت في حضرتها بالتضاؤل بمثل هذا الفستان الملعون...
اقترب فريد ليجلس على ذراع مقعد سوار، و لف كتفيها بذراعه قائلا بحنان
(ما رأيك بهذه القمر؟)
اتسعت عينا ياسمين بذهول و ازداد احمرار وجهها بشدة حتى بدت كثمرة الطماطم و هي تقول بتلعثم
(آآآ، أنا؟).

لم يتكلم فريد على الفور وهو ينظر الى وجهها الابيض الذي يتشرب بالإحمرار سريعا، ثم ابتسم قائلا بخفوت ماكر
(قصدت أختي سوار، لكن بالطبع يمكنك المشاركة في اللقب)
اخفضت ياسمين وجهها و هي تغمض عينيها بيأس من مدى التخلف الذي وصلت اليه...
بينما أصدرت أم بدور بشفتيها صوتا ممتعضا واضحا...
قالت سوار بصوتها الشجي
(أنت تحرج الفتاة جدا يا فريد، توقف عن مزاحك)
ثم وجهت كلامها الى ياسمين قائلة باهتمام.

(لما لا تعرفيني بنفسك يا جميلة، و عائلتك)
رفعت ياسمين وجهها الذي بهت بعد الإحمرار الى حيث يقف أمين مباشرة...
و حينها توقف عقلها عن التفكير...
كان يقف مكانه، مستندا الى أحد الأرفف، ناظرا اليها بصمت و كأنه يخبرها أن وجودها هنا غير مرحبا به...
لكن لو كان الأمر كذلك، فلماذا يراقبها بتلك الصورة...
لو كانت فقط تستطيع ترجمة صمته و تعرف ما يجول في خاطره كلما نظر اليها!

هل لا يزال يبغضها كونها مطلقة؟، أم أنه يعتبرها مجرد نكرة و هو على الأرجح شارد الذهن في شيء آخر؟
أم هل تترك العنان لأمل مراهق في أن يكون منجذبا اليها، كذرة من لهفتها عليه!
لم تشأ أن تترك لنفسها حبل الخيال فيشنقها به، حين تسقط على أرض الواقع...
أخفضت ياسمين وجهها و هي تشعر بالكآبة، لا تريد التعريف عن نفسها و عائلتها، فمن الواضح أن عائلة أمين تقدر الروابط العائلية جدا...
لكنها اضطرت للقول بخفوت.

(والدي رحمه الله كان موظفا حكوميا، و لي أخت متزوجة، تسكن هي و زوجها مع أمي حاليا)
ارتفع حاجبي سوار قليلا، ثم قالت بحذر
(هم يقطنون معك هنا في البناية؟، لأنك لم تذكري نفسك معهم!)
للمرة الثانية لم تتمالك نفسها من رفع عينيها الى عيني أمين، و على الرغم من أن ملامحه لا تزال على نفس الصلابة، الا أنها استطاعت أن تلمح في عمقهما بعض الإستهجان، مما جعل ملامحها تمتقع بشدة...

لذا نظرت الى سوار و قالت بنبرة خافتة تحمل التحدي الخفي، فماذا لديها كي تخفيه؟
(كنت أقطن معهم في بيت والدي، لكن كان هذا حتى زواجي، أما بعد طلاقي، انتقلت الى شقة هنا في البناية، راغبة في بعض الخصوصية)
ساد صمت ثقيل بعد كلماتها المتحدية التي نطقت بها و هي تنظر الى أمين، بينما ارتفع حاجبي سوار و هي تنظر اليها مصدومة، قبل أن تنقل عينيها الى وجه فريد الذي زفر بخفوت...

كان يريد أن يخبر سوار عن الأمر لكن بالتدريج، لا أن تعرف بهذه السرعة...
صدمتها كانت بادية عليها للحظتين فقط، ثم استعادت سيطرتها على نفسها بسرعة و ألزمت نفسها بالهدوء دون تعقيب...
لكن والدة بدور لم تكن بمثل هذه السيطرة، فهتفت قبل أن تستطيع منع نفسها
(مطلقة و تسكنين بمفردك؟)
التفتت ياسمين اليها في جلستها و هي ترد عليها بثقة رافعة رأسها و قد انتابتها روح العنف فجأة
(نعم، و ما المشكلة؟)
ردت أم بدور باستنكار.

(تسألين ما المشكلة؟، لماذا تبادر امرأة مطلقة للسكن بمفردها الا اذا كانت تريد العبث في حياتها!)
اتسعت عينا ياسمين بذهول و برقت بنظرة غضب بينما تدخل فريد يقول غاضبا
(أم زاهر!)
أما والدة أمين فمدت يدها و هي تمسك بكف أم بدور قائلة من تحت أسنانها
(ما بالك يا امرأة، الفتاة ضيفة في بيتنا، الكلام لا يكون بهذا الشكل)
ارتبكت أم بدور بشدة، و تلجلجت في الحوار قائلة بعد أن شعرت بالنظرات الرافضة تواجهها من كل صوب.

(أنا لم أقصد طبعا، أنا كنت أتكلم عن نظرة الناس بشكل عام، هذا ما يفكرون به عادة)
حينها قالت ياسمين مندفعة
(اسمحي لي سيدتي، إنها نظرة متخلفة و رجعية و من يفكر بتلك الطريقة عادة، يكون هذا لنقص في نفسه أو في حياته الخاصة، مما يجعله يحاكم أي شخص دون معرفة مسبقة لظروفه)
ساد صمت مريع و الجميع ينظرون الى عنفها المفاجىء بذهول، بينما شعرت ياسمين فجأة بالدم يفر من وجهها...

لقد شتمت أمين للتو و بطريقة غير مباشرة، فهي تعلم جيدا أن هذا كان رأيه المبدئي عنها...
صحيح أنه لم يتهمها بالسوء مطلقا، لكن على الأقل كان مستنكرا سكنها وحيدة بعد طلاقها...
حين نظرت اليه للمرة الثالثة، وجدت أن ما خافت منه قد تحقق...
فقد تراجع رأسه للخلف و استقام من اتكائه، لينظر اليها بعينين متسعتين و ملامح متجهمة، و كأنه يخبرها بكل وضوح أن الرسالة قد وصلته...
تنهدت ياسمين و هي تفكر بصمت.

لا يمكن أن يكون الوضع أسوأ من هذا، قال فريد فجأة ينتزعها من شرودها الحزين
(لا تنفعلي بهذا الشكل يا ياسمين، امرأة متعلمة و عاملة مثلك، تستطيع حماية نفسها ضد أي أقوال من مجرد جهلة لا هم لهم سوى الكلام عن خلق الله بالباطل)
شددت أصابعه دون أن يدري على كتف سوار التي أظلمت عيناها و هي تسرح بعيدا...
فقالت بخفوت.

(صحيح، من يريد الكلام عن امرأة بالباطل سيفعل، حتى لو كانت متزوجة من أعتى الرجال، و تسكن خلف ألف حاجز من التقاليد)
أخفض فريد وجهه ليقبل رأسها، فابتسمت له بحزن و هي تربت على كفه هامسة له
(لا تقلق حبيبي، أنا بخير)
بدا الوضع متوتر بشدة و استعدت ياسمين لأن تغادر للأبد، لولا أن تكلم أمين للمرة الأولى قائلا بصوت قاتم.

(الأقاويل ليست كل المشكلة، هناك أمور أخطر من هذا، فالمرأة المطلقة تكون عرضة لمضايقات أكبر من رجال يظنون بأنها أصبحت لقمة سائغة خاصة و هي تقرر السكن بمفردها على الرغم من وجود أسرة لها، هل يمكنك اخباري كيف ستدافعين عن نفسك لو تعرضت لموقف كهذا؟)
بهت لون ياسمين، و فغرت شفتيها قليلا...
أولا لأن الحجر تكلم أخيرا...
ثانيا لأنه مس أكثر الأمور وجعا في حياتها...

لقد تعرضت الى مضايقات من مديرها في العمل ليس و هي مطلقة فحسب، بل حين كانت متزوجة من رجل لم يحرك ساكنا في الهجوم و افتراس من يتجرأ على التحرش بزوجته، حتى و إن كان تحرشا لفظيا فقط...
كانت تلك العقدة الأكبر في حياتها مؤخرا و التي أفقدتها الثقة في معظم الرجال، لكنها لم تيأس...
و تمنت العثور على رجل حامي الطبع، كرامته تأبى أن تمس زوجته ولو بكلمة...
و ها هو أمين يدافع عنها دون سابق معرفة بالأمر...

إنه يخشى عليها و على أي امرأة في مكانها، إنه الرجل الذي تمنته تماما...
تكلمت أخيرا و هي تنظر اليه دون أن تحيد عيناها عنه...
(الطلاق لا دخل له بالمضايقات، فل يظن من يظن بأن المطلقة لقمة سائغة، لكن التنفيذ شيء آخر، فالمضايقات تحدث للآنسات و المتزوجات و المطلقات و كل شيء يرتدي تنانير)
ضاقت عينا أمين قليلا وهو يبادلها النظر، ثم قال بصوت جاد
(لم تجيبي عن سؤالي، كيف ستدافعين عن نفسك لو تعرضت لموقف كهذا؟).

ابتلعت ياسمين ريقها بتشنج، فهي حتى الآن لا تزال تتعرض لتحرشات مديرها اللفظية، نظرا لأنها في حاجة ماسة الى وظيفتها الحكومية الرتيبة خاصة بعد طلاقها كي تعيل نفسها و تدفع ايجار شقتها...
لم تفعل شيئا حيال الأمر، مما يجعلها على وشك التقيؤ كل يوم صباحا قبل ذهابها الى العمل...
فالحقير مديرها لا يعد يتوانى عن التعليق مازحا على بعض أجزاء جسدها المكتنزة...
متظاهرا بأنه مدير مرح محب للتباسط مع موظفيه...

تكلمت ياسمين قائلة بخفوت
(كيف كانت أختك لتتصرف لو تعرضت الى موقف كهذا؟، لا سمح الله)
هتفت أم بدور باستنكار
(الشر بعيد، ابصقيها من فمك، بناتنا لا تتعرضن لهذه الأشكال)
ضحكت سوار بسخرية مريرة، على ما حدث لبدور، و لها...
لقد تعرضت كلاهما لنفس الحثالة، و كل منهما خسرت ما لا يعوض الا بالدم...
أما أمين فقال بقوة أجفلتها.

(أختي لديها أخ يحميها، يكفيها فقط أن تلمح بشيء كهذا، حينها لن يكفيني سوى سحق من تجرأ على التعرض لها، و جعله يفكر مرتين قبل المرور من طريق تعبره امرأة)
ابتسمت ياسمين بحزن ابتسامة حالمة...
نعم، هو نفس الرجل الذي رسمت مواصفاته تماما، يتجسد أمامها الآن...
صاحب الدم الحامي، و الكرامة الأبية، شرقيته تأسر القلب...
لعقت شفتها، ثم قالت بخفوت و هي تعاود النظر اليه...

(حفظك الله لها، لكن ماذا لو لم تعد موجودا في حياتها لسبب أو لآخر)
شهقت أم بدور و أم أمين في آن واحد، بينما رفعت أم امين يدها على قلبها و هي تهمس بذعر
(بسم الله الحفيظ، بعيد الشر)
نظرت ياسمين اليها و قالت برقة، لكن بنبرة ثابتة
(حفظه الله لكما يا خالتي، لم أقصد ضررا)
ثم نظرت الى أمين و رفعت ذقنها و هي تقول بهدوء.

(ما قصدته أنت أن المرأة تحتاج دائما الى رجل يدافع عنها و يحميها، و هذا شيء رائع، أنا شخصيا أتمناه، أتمنى العثور على رجل يدافع عني بحياته صدقا أتمناه، لكن ماذا لو لم يحدث هذا؟، ماذا لو لم أعثر على هذا الرجل؟، أنا مثلا توفي والدي و ليس لدي أشقاء، هل أطلب الحماية من زوج أختي مثلا؟ انه بالكاد يحمي نفسه، هذا إن استطاع أصلا...

لذا من هي في مثل حالتي، من لديها كي يدافع عنها؟، بقائي في بيت والدي لا يشمل الدفاع الذي تتكلم عنه، بل مجرد اطار وهمي من التستر على كمطلقة...
و حين قمت بتقييم الوضع وجدت أن رحيلي عنه أفضل لجميع الاطراف)
صمتت أخيرا و هي تلهث قليلا بعد القائها دفاعها المطول بسرعة، فانتظرت منه أن يرد عليها، الا أنه كان صامتا، ينظر اليها نظرة غريبة...
تكلم فريد قائلا بهدوء جاد، دون ابتسام
(أنت أكثر رجولة من رجال عرفتهم).

التفتت ياسمين تنظر اليه مجفلة، ثم ابتسمت رغم عنها ممتنة و همست
(شكرا لك)
لم يخرج صوتها حين همست بشكرها، لأنه اختنق في حلقها، فتحركت شفتاها به فقط...
لكن فريد استطاع قراءة الكلمتين بوضوح، مما جعله يبتسم لها مشجعا بقوة...
هتفت أم بدور فجأة بنبرة غريبة عالية
(لكن يبدو)
انتفضت ياسمين مكانها و هي ترفع يدها الى صدرها بعد أن فزعت على صوت أم بدور...
الا أن الأخيرة نظرت اليها ماطة شفتيها و هي تقول.

(عفوا يا حبيبتي، لم أقصد افزاعك)
قالت ياسمين بخفوت
(لا عليك)
تنهدت أم بدور بطريقة غير مريحة و هي تقول
(كنت أقول، أنه على ما يبدو، أنك على معرفة وثيقة بالشابين)
انعقد حاجبي ياسمين و هي تقول بحدة
(أي شابين؟)
ارتفع حاجبي أم بدور و هي تقول ببراءة زائفة
(أمين و فريد)
أغمضت أم أمين عينيها و هي تلوح بكلتا كفيها هامسة لنفسها
ياللليلة الغير فائتة، ثم نظرت الى نورا و قالت بسرعة.

(انهضي، انهضي يا حبيبتي و خذي ياسمين الى غرفتك، و سأرسل لكما بدور من المطبخ، لماذا تجلسون مع العجائز، هيا اذهبا)
نهضت نورا من مكانها بسرعة و هي تسحب يد ياسمين هاتفة
(هذا أفضل ما قلته يا أمي، هيا بنا ياسمين قبل أن نصاب بالشلل)
عقدت أم بدور حاجبيها و هي تقول
(شلل!)
التفتت اليها نورا و هي تقول مبتسمة
(من كثرة الجلوس يا عمتي، شلل من كثرة الجلوس، حتى أن مؤخرتينا قد ازدادتا حجما كثرة الجلوس، بعد اذنك).

تمطت أم بدور ممتعضة دون رد، بينما سارعت نورا تجذب ياسمين الى غرفتها، و التي ما أن مرت بأمين، حتى رفعت وجهها اليه، وهو نظر اليها للحظات، قبل أن تشدها نورا مجددا...
مالت أم بدور الى أم أمين قائلة
(تعالي هنا يا أختي، ماذا تريد هذه المرأة من بنتك؟، مطلقة و تسكن وحدها و ثوبها لا يكاد أن يغطي ركبتيها، إنها تقول للشك تعال بالإحضان)
زمت أم أمين شفتيها و هي تهمس.

(اسكتي فضحتنا، كفى، لم تتركي أحد لحاله منذ أن دخلت الى هنا)
تنهدت أم بدور و هي تضرب كفا على ظهر كف و هي تنقل عينيها بين أمين و فريد قائلة بنبرة مطاطة
(لا داعي، ستر الله على شبابنا)
ارتفع حاجبي فريد وهو ينظر اليها بريبة، ثم قال متوجسا
(ماذا؟، لماذا تنظرين إلى و كأنني فتاة خرجت دون ارتداء جواربها!)
تنهدت مجددا و هي تجيبه ممتعضة.

(والله لا أعلم يا ابني، في بلدتنا نخاف على الفتيات، أما هنا في المدينة فعلى ما يبدو أن الوضع قد اختلف كثيرا منذ آخر زيارة)
أومأ فريد وهو يقول بتأكيد
(نعم معك حق، نحن هنا نخشى على الشباب من التحرش، لقد كنت أسير في الطريق منذ يومين و تحرشت فتاتان بي لولا ستر الله ووجود فرد أمن في بناية مجاورة، الله أعلم ما كان جرى لي).

ضحكت سوار رغما عنها و هي تهز رأسها مغطية عينها بكفها، بينما مطت والدة بدور شفتيها و هي تقول بنزق
(أنت بالذات لم أستطع يوما الكلام معك، الواحد منا يخرج من الحوار معك دون حق أو باطل)
دفعتها أم أمين في ركبتها و هي تقول بنفاذ صبر
(يا امرأة كفى مضايقة في الأولاد).

ثم نهضت من مكانها بقلق و هي تتجه الى أمين، فقد كان وجهه صلب الملامح الا أنها تعرفه جيدا في حالة غضبه، فهو يلتزم الصمت تماما الى أن تهب عواصفه فجأة...
أمسكت والدته بمعصمه و همست له كي لا يسمع أحد
(أرجوك يا حبيبي، اكراما لسمعة والدك رحمه الله، دع هذه الأمسية تمر على خير، لم أكن لأطرد الفتاة من بيتنا و هي ضيفة أتت حاملة الينا هدية، لم يكن والدك يوما الا كريما و داره مفتوح للأغراب قبل الأحباب).

ربت أمين على كفها وهو يقول بخفوت
(لم أكن لأطلب منك طردها من بيتنا يا أمي، على الرغم من رفضي لتلك الفتاة بكل تصرفاتها)
تنهدت والدته و هي تقول براحة
(كملك الله بعلقك يا زينة الشباب)
استطالت والدة بدور و هي تقول بنبرة متملقة مبتسمة
(و هل هناك زينة شباب غير الجميل، ابني حبيبي أمين)
استدارت والدة أمين تنظر اليها بدهشة و هي تقول.

(كيف وصلت اذنك الينا يا امرأة؟، أنا و ابني نتحدث بكلمة على انفراد، هل تريدين التفضل معنا؟)
قال فريد بجدية
(انها خاصية موجية لا سلكية يا زوجة عمي، تتميز بها زوجة عمي الآخر، و الغريب و الذي احترنا به كأجيال جديدة، هو أنها تسمع ما تحب فقط، حاسة السمع لديها بها خاصية التقاط ذات انتقاء عال جدا)
ضربته سوار على كفه و هي تحدجه بنظرات محذرة غاضبة، بينما مطت والدة بدور شفتيها و هي تقول باستنكار.

(أتعلم أنك من أكثر الشباب المكروه لدينا في العائلة؟، و الذي خلقك أكلمك صدقا)
وضع فريد كفه على صدره وهو يقول ممتنا
(حفظك الله يا زوجة عمي، هذا من أصلك)
اقتربت أم أمين لتجلس بجوارها متوترة، فمالت اليها أم بدور و همست بارتياع مستنكرة
(لقد قالت، أتمنى العثور على رجل، أمام الشباب دون خجل أو حياء!)
نظرت أم أمين الى السماء و هي تقول بصوت عال
(يالله! سأذهب للمطبخ قبل أن أرتكب جريمة).

أدخلت نورا ياسمين الى غرفتها ثم اغلقت الباب بقوة، قبل أن تستند اليه و هي تغمض عينيها زافرة بعنف، ثم قالت من بين أسنانها
(ياللهي، أخيرا تخلصنا منها، كدت أن اختنق من هذه المرأة، هذه الزيارة بأكملها كادت أن تفقدني البقية المتبقية من عقلي)
نظرت اليها ياسمين و قالت بهدوء حزين رغم ابتسامتها...

(لا بأس يا نورا، لم أغضب منها، أنها تبدو امرأة بسيطة ما في قلبها على لسانها، تتحكم بها قوانين و أفكار أكبر منها)
فتحت نورا عينيها و نظرت اليها لتقول بجدية
(هذا دون ذكر زوجها و ابنها، انهما أكثر من رأيت رجعية و تأخر في حياتي، هل تعلمين أنني نجوت بأعجوبة من الزواج بابنها زاهر؟)
اتسعت عينا ياسمين و هتفت بدهشة
(كيف كان هذا؟)
رفعت نورا كفيها و هي تقول من بين أسنانها.

(سمعت كلاما متناثرا بين أمي و أمين عن تلميح أم زاهر لها في رغبتها بأن اكون زوجة لولدها زاهر، أنت لن تصدقي كيف هو، إنه رجل يكبرني بالكثير و رجعي جدا جدا، كما أن له شارب بدون لحية و هذا الطراز انتهى منذ عقود من الزمن)
ابتسمت ياسمين رغما عنها ثم قالت بنبرة متعاطفة
(الشارب ليس مشكلة حقيقية يا نورا)
اقتربت منها نورا و هي تقول بحدة.

(المشكلة أن الشارب في حد ذاته يماثل أفكاره الرجعية، كنت لأقتل نفسي لو حاولوا اجباري على الزواج منه)
قالت ياسمين و هي تجلس على حافة سريرها...
(بات اجبار الفتيات على الزواج أمر مستحيل الآن)
زفرت نورا بقنوط و هي تقترب منها الى أن ارتمت على السرير بجوارها ثم قالت بيأس.

(الموضوع ليس اجبارا بالمعنى المعروف، لكن يجب أن أتزوج من أحد أبناء أعمامي، فإن لم يكن زاهر سيكون واحدا غيره، لا مهرب من هذا، وفي هذه الفترة يحاولون التقريب بيني و بين فريد)
شعرت ياسمين فجأة بالصدمة و هي تهتف
(فريد! الدكتور فريد؟، هل كلمك في شيء؟)
هزت نورا كتفها و هي تقول بعدم اهتمام...
(إن عزم فلن يكلمني أنا، بل سيطلب يدي من أمين)
ظلت ياسمين صامتة قليلا، ثم قالت بخفوت.

(حسنا لا حجة لك فيما يخص فريد، فهو شاب عصري، طبيب و خفيف الظل ووسيم، ألف من تتمناه)
مطت نورا شفتيها و هي تتأرجح قليلا ثم قالت بعدم اقتناع
(لا أنكر أن فريد يعتبر أكثرهم مناسبة لذوقي، لكن ليس تماما، هو فقط أفضل المتاح، نحن أفكارنا مختلفة تماما)
استلقت ياسمين بجوارها مستندة الى مرفقها لتقول بإهتمام
(و كيف هذا؟)
قالت نورا متنهدة.

(إنه يريد زوجة لها هدف و طموح و عمل تسعى الى تطويره، يريد زوجة قوية و قادرة على ادارة بيته في غيابه، لقد أخبرني بهذا منذ فترة، لكن أنا لست كذلك تماما، أنا بالفعل أكره القيود لكنني أحب الحياة، أريد السفر و الخروج و اللهو، أريد التمتع بحياتي في كل لحظة منها، لا أحب من يلزمني بالعمل و تحمل المسؤولية)
أظلمت ملامح ياسمين فجأة و هي تقول بنبرة غريبة.

(هل حقا هذه هي تطلعاته في الفتاة التي ينوي الزواج منها؟، ماذا لو لم ترغب في العمل مثلا و أرادت فقط أن تكون ربة منزل مثلا؟)
مطت نورا شفتيها و قالت بلامبالاة
(اذن لن ترى وقتها لذوقه، لا تنسي أنه طبيب، و تفكيره كله منصب في العمل و الدراسة، صحيح الحلو لا يكتمل، فعلى الرغم من فكره المتفتح، الا أنه سيلزمني بعبء أكبر)
قالت ياسمين بنبرة باردة.

(لا أحب الرجل الذي يملي على زوجته التفكير المتفتح، أحبه شرقيا، يحاول جاهدا حمايتها. أحبه أن يتقبل عملها على مضض، لا أن يكون مشجعا لها و كأنها رجل لن يتعرض الى أي مضايقات)
نظرت اليها نورا بدهشة، ثم قالت متعجبة
(أنت تتكلمين بنفس أسلوب أمين الذي رفضته منذ قليل، هل أثر بك؟)
عقدت ياسمين حاجبيها بشدة و احمر وجهها ارتباكا و احراجا و هي تهتف.

(أثر بي؟، بالطبع لا، الأمر هو أنني أفضل الرجل الذي، لا عليك، لا تأبهي لكلامي، فأنا أثرثر فحسب)
ابتسمت نورا و قالت و هي ترفع حاجبا خبيثا
(عامة، أعتقد أن أمين سيجزى نتيجة أفكاره و ما يفعله بي، أنا أعرف أن أم زاهر تسعى بكل قواها كي تزوجه لبدور ابنتها)
هربت الدماء من وجه ياسمين فجأة و شعرت بروحها تهبط فجأة، فاستقامت ببطىء و هي تقول بصوت متزعزع
(ماذا؟، هل تقدم لخطبتها؟)
قالت نورا بمرح.

(لا لم يفعل، لكن أمها تريد هذا بشدة، بعد أن فسخ عقد قران ابنتها، لديها هاجس بأن فرص بدور في الحياة قد انتهت)
ابتلعت ياسمين ريقها و لعقت شفتها المرتجفة، ثم قالت بتوتر
(و ما هو رأي أمين؟، هل، يحبها؟)
ضحكت نورا و قالت
(هو حتى الآن لا يفكر في بدور الا كأخت صغيرة فقط، لكن بصراحة هي أكثر فتاة تناسب ذوقه المتأخر)
أظلمت الرؤية أمام عيني ياسمين فقالت بصوت مرتجف
(و ماذا عن والدتك؟، هل ستقبل بهذا؟).

قالت نورا باهتمام
(بصراحة كانت أمي تحبذ أن يخطب أمين فتاة لم يسبق لها أن خطبت أو عقد قرانها، لكنها ستقتنع في النهاية، فعقد القران ليس نهاية العالم، هي لم تكن متزوجة بالفعل، و بدور أكثر شخصية مستسلمة رأيتها في حياتي، ستناسب تفكير أمين تماما)
بهتت شفتي ياسمين تماما و هي تشرد بعيدا، ثم همست بصوت بائس
(بلى، عقد القران ليس نهاية العالم، فهي لا تعد مطلقة فعلا).

لقد ضربتها نورا بالحقيقة التي رفضت أن تصدقها منذ أشهر طويلة، ما الذي سيجعل والدة أمين تقبل بها كمطلقة زوجة لابنها الوحيد...
و هل فكر بها أمين من الأساس؟، حتى و إن فكر أو أعجب بها، فشخص في مثل عقليته، لن يتقبل امرأة كانت لغيره، أبدا...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة