قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والخمسون

دخلت سوار الى المطبخ و هي تحمل صينية الأكواب، الا أنها توقفت ما أن رأت بدور تجلس الى أحد كراسي المطبخ...
محنية الرأس و مستندة بها الى كفها، في صمت تام...
ظلت سوار تنظر اليها لبضعة لحظات، ثم قالت أخيرا بجمود و هي تدخل ببطىء حتى وضعت الصينية من يدها بجوار بدور
(لماذا تجلسين بمفردك في المطبخ؟)
انتفضت بدور و قفزت في كرسيها تنظر الى سوار الواقفة بجوارها بهلع...

كانت تتنفس بسرعة كغزال على استعداد للفرار في أي لحظة، حاجباها منحنيان و كأنها على وشك البكاء...
فقالت سوار بصوت فاتر
(لم نتقابل منذ أشهر طويلة)
أومأت بدور برأسها في اهتزازة مرتجفة، غير مسيطر عليها، فتابعت سوار تقول بهدوء
(آسفة أنني لم أستطع مساعدتك، على الرغم من أنني قد حاولت)
رفعت بدور يدها الى فمها و هي تهتف همسا بذعر
(هشششششش، ارجوك لا تتكلمي هنا).

صمتت سوار طويلا و هي تنظر اليها بقسوة، ثم ابتسمت ساخرة، قبل أن تقول
(تحمين نفسك جيدا، بينما لم تراعي هذا و أنت في داري، فحدث لي ما حدث)
بهت وجه بدور بشدة و امتقعت ملامحها قبل أن تهمس بصوت مرتعش
(هل، هل كنت أنا، السبب؟)
مطت سوار شفتيها و قالت بسخرية قاسية
(و ماذا تظنين؟)
أطرقت بدور برأسها و هي تمسك بجبهتها بكلتا كفيها، غير قادرة على مواجهتها أكثر، و طال بهما الصمت، قبل أن تهمس بصوت ميت.

(لم أرد أن أتسبب في أذيتك مطلقا، آسفة لما نالك، لكن، أخبريني ما ذنبي في حبكما؟، لما أوقعتماني في تلك الهوة بينكما، ما ذنبي إن كان هائما بعشقك لا ينسى؟، لماذا فعل بي ما فعل و دمر حياتي كلها، لماذا؟، فقط أخبريني ما كان ذنبي؟)
صمتت و هي تشق باكية مرة بعد مرة، للحظات طويلة، لم تعرف إن كانت قد امتدت لدقيقة أم لا...
لكن صوت رجولي انبعث في المطبخ، جعلها تنتفض مجددا
(بدور، لماذا تبكين هنا بمفردك؟).

رفعت وجهها لترى أمين واقفا أمامها، فنظرت حولها بهلع، لكن سوار لم تكن موجودة...
ترى بماذا هذت؟، هل سمعها و هي تكلم نفسها؟، ليتها تموت و ترتاح قبل أن يكون قد سمع منها حرفا واحد...
مسحت وجهها بسرعة، ثم قالت متلعثمة...
(لا، لا شيء، كنت فقط)
لم تجد ما تبرر به شهقات بكائها العالية، فصمتت مذعورة...
أما أمين فاقترب منها و التقط كرسيا آخر قبل أن يجلس في مواجهتها قريبا منها، ثم انحنى قليلا وهو يقول بخفوت.

(ماذا بك بدورة؟، هل هناك من ضايقك؟)
نظرت اليه بدور بوجهها الخمري الشاحب، قبل أن تبتسم قليلا و هي تهمس
(بدورة؟)
ابتسم أمين وهو يقول برقة
(هل نسيت هذا الإسم؟)
اتسعت ابتسامتها المرتجفة أكثر قليلا، ثم همست
(لا، لم أنساه، لكن مندهشة أنك أنت من تتذكره!)
ابتسم لها بحنان وهو يقول.

(كنت طفلة مهذبة جدا يا بدورة، و كنت في الواقع أفضلك كأخت لي أكثر من نورا بكل شقاوتها التي كانت تثير جنوني، أما أنت فكنت كالعسل و أنت دائما تهمسين بكلمة حاضر، و شعرك ممشط بعناية في ذيلي حصان منقسمين و مرتبين)
ضحكت رغما عنها، مذهولة من أنه لا يزال يتذكرها، فلطالما كانت طفلة منسية على الهامش...
غير ملحوظة أبدا، ليست أجملهن أو أكثرهن شقاوة و ذكاء...
تكلم أمين مجددا قائلا بصوت أكثر جدية، لكن أكبر لطفا.

(أخبريني، لماذا كنت تبكين؟)
امتقع وجهها مجددا، و ضاعت ابتسامتها بسرعة، كيف يمكنها أن تجيبه الآن، بماذا؟
مسحت وجهها مجددا و هي تهمس بضعف
(موضوع يضايقني منذ فترة، و بات يضغط على أكثر من اللازم)
ضيق أمين عينيه و قال بهدوء مشجع
(أخبريني)
نظرت بدور الى الباب من خلفه، ثم نظرت اليه مجددا، و للحظات بدأت تتأمل وجهه الذي تعرفه جيدا، لكنها كانت دائما تتذكره صبيا...
لقد انتبهت الآن الى أنه أصبح أكثر رجولة...

همست بدور بصوت سري شديد الخفوت
(والداي، يريدان تزويجي بأي طريقة)
ضيق أمين عينيه أكثر، وهو يستوعب همستها المرتجفة، ثم انحنى اليها أكثر و همس بنفس نبرتها السرية
(الا تريدين الزواج؟)
هزت بدور رأسها ببطىء و هي تنظر اليه، فسألها بطول بال
(لماذا؟)
ردت بدور مرتبكة همسا يكاد أن يكون صامتا و عيناها على الباب من خلفه.

(لأنني، أريد أن أتابع دراستي، يكفيني أنني رسبت العام الماضي بسبب ما تعرضت له، و عوضا عن أن يتفهمان، فهما يصران على تزويجي مجددا قبل أن يفوتني القطار كما تقول أمي، لما العجلة؟، هل كبرت فعلا؟)
انعقد حاجبي أمين وهو يسمعها بتأني، و ما أن همست بسؤالها الأخير المتكسر، حتى رد عليها بجدية
(بل لا تزالين صغيرة على سن الزواج المناسب حتى)
أطرقت بدور رأسها ثم همست بحرج.

(أعرف أن الفرص أمامي تكاد أن تكون معدومة، فبخلاف عقد القران الذي سبق و تم فسخة، فأنا عرجاء و لست جميلة أبدا)
ازداد انعقاد حاجبيه بشدة، قبل أن يقول بصوت أكثر جدية
(من الحمار الذي أقنعك بهذا؟)
رفعت وجهها تنظر اليه بدهشة، ثم ارتبكت و قالت بتوتر
(لست في حاجة لأحد كي يخبرني، يكفيني ما مررت به لأعرف هذا بنفسي، كما أن لدي مرآة)
قال أمين دون تردد.

(مرآة حمارة اذن، و إن كان من ببالي هو السبب، فهو حمار كذلك، على أن الحمار لديه احساس أكبر، أنت جميلة جدا يا بدورة)
فغرت بدور شفتيها قليلا و هي غير مستوعبة تلك الموجة من الحنان الدافق، و التي لم تعتادها أبدا
فعدلت من وشاحها الأسود حول وجهها الصغير الخمري، لتقول بخفوت متلعثم، متجنبة النظر اليه
(لست كذلك)
رد عليها أمين بثقة
(بلى، أنا رجل و اخبرك بهذا، الا تصدقيني؟).

بدت أكثر ارتباكا و هي تتعامل مع رجل حقيقي للمرة الأولى بخلاف راجح...
ثم رمشت بعينيها و قالت
(اذن لماذا تعرضت الى ما تعرضت له يا أمين؟، لماذا فضل علي)
صمتت و هي تشعر بالذعر مما نطقت به للتو، الا أن أمين فهم ما أرادت قوله تماما، فرد عليها بجدية و ثقة
(لأنه رجل غير سوي، و جميعنا نعرف هذا، الخطأ ليس خطأك أو خطأها، لا تظلمي نفسك أو تظلميها، العيب فيه هو).

ارتجفت شفتاها قليلا و لم تستطع الرد، نعم هو رجل غير سوي، تطلب منها الأمر أن تصدق ذلك مؤخرا لكن بأصعب الطرق...
أغمضت بدور عينيها و هي غير قادرة على مواجهة عينيه، خوفا من أن يكتشف فعلتها التي لا تغتفر أبدا...
فقال أمين متابعا بخفوت
(لكنك محقة في التأني، و ليس لأحد أن يجبرك على الزواج طالما أنت غير مستعدة أو راغبة بعد)
فتحت بدور عينيها و نظرت اليه من بين دموعها المتجمعة فوق حدقتيها ثم قالت بإختناق.

(أنت طيب جدا يا أمين، جدا)
ابتسم وهو ينظر اليها متعاطفا، ثم قال برقة
(و أنت مهذبة جدا يا بدورة، حتى في رفضك لأي شيء، ترفضينه بتهذيب و رقة تمس القلب).

بعد أن انتهت زيارتها الكارثية بكل معنى الكلمة و التي دفعها لها غبائها و لهفتها على رجل أحلامها...
اتجهت ياسمين الى الباب بصمت، تعد الخطا كي تهرب سريعا، الا أن صوت فريد من خلفها جعلها تتوقف وهو يناديها
(ياسمين، انتظري)
توقفت ياسمين ثم التفتت تنظر اليه بصمت، الى أن وصل اليها لدى الباب فقال مبتسما
(الم تنسي شيئا؟)
عقدت حاجبيها قليلا ثم قالت بعدم تركيز
(ماذا نسيت؟).

كان قد ارتدى سترته، فدس كفيه في جيبيها بحثا عن شيء ما، الى أن أخرجت يده اليمنى شيئا، وهو يقول ها هو...
نظرت ياسمين الى كفه المضمومة، و التي ما أن فتحها حتى وجدت بها قالب شوكولاه، هو المفضل لديها، فارتفع حاجبيها و هي تنظر اليه متسائلة...
لكنه عقد حاجبيه وهو يقول مبتسما
(لا، عفوا الجيب الخاطىء، لكن خذيها على كل حال).

نظرت ياسمين الى الشوكولاه في كفه المفرودة، ثم ابتسمت قليلا، قبل أن تمتد يدها لتأخذها تلقائيا و هي تقول بسعادة طفلة
(شكرا)
تاهت ابتسامة فريد قليلا وهو ينظر الى ابتسامتها العفوية الغير مدروسة...
انها تجذبه أكثر مما فعلت أي امرأة أخرى عرفها من قبل، و كأنها شيء آخر مختلف، مميز...
جمال اكتشافه في عفوية عاديته الى أن يبدأ الانسان في تأمل حركاتها البسيطة، فيفتن بها...

أخرجت يده اليسرى لفة منتفخة، ناولها لها وهو يقول بخفوت
(دواء والدتك)
ارتفع حاجبي ياسمين قبل أن تهتف
(ياللهي نعم، لقد نسيته تماما)
اخذت منه اللفة و هي تحاول الكلام بصعوبة، الى أن قالت أخيرا دون أن ترفع وجهها اليه
(فريد، أنا حقا لا أعرف ماذا أقول، أنت)
ابتسم و قال لها بهدوء
(ابدءي بدكتور فريد)
نظرت اليه بدهشة، قبل أن تنفجر ضاحكة، و هي ترفع يدها الى فمها، ثم قالت من بين ضحكاتها.

(عفوا لقد نسيت و أنا أعرف جيدا اهتمامك باللقب)
كان يراقبها مستمتعا الى أن قال أخيرا
(هيا سأرافقك لباب شقتك ثم أعود)
نظرت اليه بدهشة و قالت
(لا داعي حقا، لا شيء يستدعي الخوف)
ابتسم فريد وهو يقول ببساطة
(لا أفعل هذا خوفا، بل من باب اللياقة، أحد أجمل مميزاتي).

أوشكت على الضحك مجددا، الا أن الضحكة تسمرت على شفتيها ما أن اصطدمت عيناها بعيني أمين الذي كان يراقبهما متجهما من بعيد، فطالت نظراتهما للحظات، قبل أن ترفع وجهها و تقول بإبتسامة عريضة
(حسنا، هيا بنا أيها السيد المهذب)
رافقها فريد وهو يقول مصححا بصبر
(دكتور لو سمحت).

أما ياسمين فقد كانت في عالم آخر، فعلى الرغم من النظرة الغاضبة التي حدجها بها أمين، الا أن شيئا ما أرسل بداخلها موجات من السعادة و الجذل، شيء لم تستطع تفسيره...
استندت سوار الى ظهر سريرها الذي تحتله في شقة فريد، ناظرة الى السقف بشرود...
أخبرها أنه سيبقى هناك أربعة أيام، و ها هو اليوم الخامس ينقضي دون أن يأتي...

و على الرغم من اتصاله بها يوميا، الا أن اتصاله كان مقتضبا و صوته متغيرا، فأبت كرامتها أن تسأله عن سبب تغيره...
هي نفسها كانت ترد عليه بجفاء و تغلق الخط بأسرع ما يمكنها...

ضمت سوار ساقيها الى صدرها مستندة الى ركبتيها بذقنها و هي تشرد بنظرها بعيدا...
كيف له أن يكلمها بهذا الإختصار؟
و كأنه شخص آخر تماما، صحيح أنه لم يفقد لطفه و اهتمامه، و نبرة الحب استطاعت ان تسمعها بوضوح...
لكنها لن تخدع نفسها...
كان مختلفا، كلامه معها مختصر جدا، و ها هو يزيد من بقائه يوما آخر...

لقد أوشكت أن تسأله في اتصاله بها منذ دقائق، لماذا لم تأت كما قلت؟، لكن الكرامة الغبية منعتها فعضت على لسانها بكل قوتها، متظاهرة بالجفاء و البرود و عم الإهتمام...
بل أتقنت دور التي لم تنتبه الى مضي يوم زائد أصلا...
بينما هي في الواقع، تحترق ببطىء...
أظلمت عيناها بشدة و هي تنظر أمامها، بينما سمعت طرقة خفيفة على باب غرفتها، فاستفاقت من أفكارها و قالت بهدوء
(ادخل يا فريد).

دخل فريد الى الغرفة مبتسما وهو يقول
(ظننتك نمت و تركت الضوء مشعلا، لماذا لا زلت مستيقظة حتى الآن)
ابتسمت له و هي تقول مربتتة على السرير بجوارها
(بعض الأرق، تعال اجلس بجواري، أريد الكلام معك)
اقترب منها وهو يتأملها بدهشة قائلا
(ما هذا الذي ترتديه يا سوار؟)
أجفلت سوار قليلا و هي تخفض عينيها ناظرة الى الحلة الرياضية التي ترتديها، بينما تركت شعرها طويلا منسابا من فوقها...

فأمسكت بمقدمة السحاب عند مقدمة صدرها تتلاعب بها بارتباك، ثم قالت بحرج
(هذه، آآآه حلة رياضية بيتية)
ارتمى فريد بجوارها وهو يقول بمرح مندهشا...
(أعرف أنها حلة رياضية، لكنها المرة الأولى التي أراك بمثلها)
توردت وجنتاها قليلا من الحرج، لكنها حاولت الكلام قائلة بهدوء
(وجدتها في الطريق أثناء عودتي من مكتب ليث، فابتعتها من باب التغيير)
قال فريد بجدية رغم الإبتسامة العريضة على وجهه.

(لماذا لم تنتظري عودة ليث اذن كي ترتدينها أمامه؟)
اتسعت عيناها قليلا، ثم قالت بتجهم
(و ما علاقة ليث بها؟، هل أبتاع ملابسي كي يراها هو فقط؟)
رد فريد مستمتعا
(بالطبع، و ما فائدة ابتياعك لها اذن؟، طالما لن ترتديها لزوجك)
هتفت بغضب و قد تزايد احراجها بشدة...
(أرتديها لنفسي)
قال فريد بنفس البساطة المستفزة
(و لزوجك قبلا، أن تتزيني و تغيري من شكلك له).

هتفت سوار و ازداد ارتباكها رغم سنوات عمرها ذات الثلاثين ربيعا...
(ولد!)
الا أن فريد تابع ببراءة
(أنا أقول الحق، فكي العقدة على الرجل قليلا يا سوار، و كفي عن التعامل معه كشيخ الغفر)
هتفت بذهول أكبر
(ولد!)
فقال بصوت متأني
(سوار يا حبيبتي الرجل منا يحتاج الى امرأة في البيت، امرأة تختلف عن كل من يراهن خارجه، امرأة تضائل أمامها كل أنثى أخرى)
فغرت سوار شفتيها أكثر، بينما بهتت ملامحها و هي تقول بخفوت.

(الا تراني امرأة، ك، كتلك التي، تتحدث عنها؟)
قال فريد بصدق
(أنت امرأة غاية في الأنوثة يا سوار، لكنك تضعين حواجز كثيرة بينك و بين زوجك، تخفي تلك الأنوثة، أكثرها حواجز بداخلك أنت)
عقدت سوار حاجبيها بشدة و هي تقول و خجلها من شقيقها يتضاعف
(و ما أدراك بما بيني و بين زوجي؟)
قال فريد ببساطة و لطف
(أنت أختي قبل أن تكوني زوجته، أعرفك أكثر منه، مهما ادعى العكس)
أشاحت سوار بوجهها بعيدا عنه و هي تقول باستياء.

(كفى يا فريد، لا يصح ما تقوله لأختك)
صمت فريد وهو ينظر اليها بصمت، ثم قال أخيرا بخفوت
(لماذا تمنعين نفسك من التمتع بحياتك يا سوار؟، ما الذنب الذي تحملينه لنفسك كي يمنعك عن التمتع بكل لحظة مع زوجك؟)
نظرت اليه بصدمة، فاغرة شفتيها، فتنهد قائلا
(أنت لا زلت على قيد الحياة يا سوار، و زوجك كذلك، و ما تضيعينه الآن، ستندمين عليه لاحقا).

نظرت اليه سوار عاقدة حاجبيها و هي تتنفس أسرع قليلا، غير قادرة على الرد، فسألها فريد مباشرة بصوت خافت
(سوار، الا تحبين ليث؟)
فتحت فمها بوجه باهت تماما و هي تنظر اليه، لقد ضربها السؤال البسيط بكل قوة، ووضعها أمام نفسها
و كأنها أمام مرآة عرتها تماما...
حاولت الرد أكثر من مرة الى أن قالت أخيرا بصوت مرتجف
(الحب كان لسليم رحمه الله يا فريد).

لم يرد فريد على الفور، بل بقى مكانه ينظر اليها بحدة أربكتها، الى أن قال أخيرا بصوت قوي
(من تخدعين يا سوار؟، أنا و أنت نعلم جيدا أن ما كان بينك و بين سليم رحمه الله لم يكن حبا أبدا)
هتفت سوار بهلع و قوة
(اخرس، لا تزد كلمة واحدة أخرى)
قال فريد بصوت أكثر قوة.

(سألتك من تخدعين؟، سليم لم يتزوجك الا ليمنع راجح عنك، لم يفكر بك يوما قبلها و أنت كذلك، من الرائع أن تكوني وفية لذكراه، لكن لا أن تخدعي نفسك و تعيشين قصة وهمية لم تحدث)
كان سوار تنظر اليه مذهولة، شاحبة الوجه تماما حتى بات كالأموات، ثم همست بارتياع
(كان زوجي، كان زوجي يا فريد، و قتلوه)
أسبل فريد جفنيه وهو يتنهد بتعب، ثم قال أخيرا بخفوت.

(كان زوجك رحمه الله، و حان موعد رحيله، أما من فعلها فحسابه لدى رب العالمين)
هتفت فجأة بقوة بينما شعرت بقبضة مؤلمة تقبض على صدرها
(كيف لك أن تكون بمثل هذا الجحود؟، لقد أحبك كأخيه تماما)
نظر فريد الى عينيها و قال بهدوء
(و لأنه كان كأخي، كنت أعرف دون كلام أن حياتيكما لم تكن مستقرة تماما، بل مجرد واجهة)
صرخت به بعنف
(كنت أحمل طفله و فقدته و أنت تعلم هذا)
ابتسم فريد وهو يقول بنبرة ذات مغزى.

(ليس هناك أسهل من الحصول على طفل، و هذا يدعوني للسؤال لماذا لم تحصلي عليه قبلا)
كانت كلماته الهادئة عبارة عن صفعات مدوية على وجهها، واحدة تلو الأخرى...
لكنها صرخت بجنون
(هذه مشيئة الله، كيف لك أن)
قاطعها فريد بمنتهى الهدوء
(أنت تكذبين)
صمتت سوار فاغرة شفتيها و هي تنظر اليه بصدمة، بينما هو ينظر الى عينيها دون أن يحيد بعينيه عنهما...

و طال بهما الصمت جدا، الى أن همست أخيرا بصوت ميت و هي تبتلع غصة في حلقها...
(أخرج من هنا يا فريد، ارجوك)
زم شفتيه قليلا قبل أن يقترب منها وهو يقول بحنان
(تعالي)
ضمها الى صدره بقوة، فقاومته وهو تصرخ
(ابتعد يا فريد، اخرج من هنا)
تأوه فريد قليلا ثم قال ضاحكا
(توقفي عن ضربي أنا لست في قوتك)
الا أنها استمرت في مقاومته و ضربه، الى أن استكانت أخيرا و هي تضمه بقوة مطبقة جفنيها فوق دموع حارقة...

ظل فريد لفترة يربت على شعرها الجميل برفق وهو يستمع الى نشيجها الخافت
(لم أقصد ايلامك، تعرفين هذا، أنا الوحيد في هذه الحياة الذي لن يتمنى لك الا السعادة و لن يؤذيك أبدا)
أفلتت شهقة كبيرة من صدرها و هي تقول بصوت مختنق...
متشبثة في قميصه القطني بأظافرها، فهمس لها مجددا
(آن لك أن ترتاحي يا سوار، و تتمتعي بحياتك، لا تحملي نفسك فوق طاقتها، ).

حاولت جاهدة السيطرة على نفسها أكثر، و هي تمسح وجهها بكفها، مستلقية برأسها الى كتفه...
ثم قالت بخفوت مجهد
(كبرت يا فريد)
ضحك بسعادة وهو يربت على رأسها قائلا
(لا أعلم لماذا لا تصدقين هذا رغم أنك تقرين به كلما رأيتني، متى ستتوقفين عن السؤال؟)
ابتسمت من بين دموعها ثم قالت بحنان
(لا أعتقد أنني سأتوقف أبدا)
رفعت رأسها عن كتفه، ثم مسحت وجهها ببطىء و هي تحاول استعادة اتزانها، ثم نظرت اليه بحدة قبل أن تقول.

(ياسمين)
ارتفع حاجبي فريد وهو ينظر الى ساعة الحائط ثم قال بسرعة
(يااااااااه، لقد تأخر الوقت جدا و لدي عمل في الغد، تصبحين على خير)
حاول النهوض، الا أنها تشبثت بمؤخرة عنق قميصه و جذبته بقوة فأرجعته للسرير...
نظر اليها وهو يعدل من قميصه هاتفا
(على مهلك يا فتاة، ماذا تتناولين على فطورك؟، لحم خيول!)
ربتت على كتفيه معا بقوة تكاد أن تكون ضربات عنيفة، ثم قالت بجدية حازمة.

(ها قد عدلتك مجددا، و الآن انظر الى عيني و جاوبني)
نظر فريد بتخاذل طفل مذنب الى عينيها الصارمتين رغم احمرارهما، فسألت بحدة
(مطلقة؟)
ظل فريد مكانه ناظرا اليها طويلا، الى أن عقد حاجبيه و ضيق عينيه مركزا ثم قال باستفهام
(أين السؤال؟)
زفرت سوار بقوة و هي تقول من بين أسنانها
(اللهم أطالك يا روح، اعتدل في كلامك معي يا ولد قبل أن أعطيك كف أعدلك به، هي من كلمتني عنها، اليس كذلك؟)
أخذ فريد نفسا عميقا ثم قال بحذر.

(آآآآ، ربما، هذا وفقا لحالتك النفسية و المزاجية حاليا)
ضربته سوار على رأسه بقوة، ثم هتفت
(أجبني، هي أم لا؟)
حك فريد ضربتها القوية التي كادت أن تصيبه بارتجاج في المخ، ثم قال بخفوت و على مضض
(نعم هي)
ارتفع حاجبي سوار و هي تكرر مجددا
(مطلقة يا فريد؟)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يسألها بحيرة
(أين السؤال؟)
ردت عليه سوار بهدوء
(انتظر لحظة).

ثم انقلبت الى الجهة الأخرى من الفراش تطال شيئا من على الأرض، قبل أن تستقيم رافعة خفها البيتي في يدها و هي تقول هاتفة
(هذا سيفهمك جيدا)
أمسك فريد بمعصمها المرتفع بخف الحمام وهو يقول هاتفا عاقدا حاجبيه
(وحدي الله، وحدي الله، الله أكبر)
نظرت سوار اليه بحدة، ثم لم تلبث أن ألقت الخف أرضا و هي تقول بصرامة
(الآن أجبني كالبشر، أنت تريد الزواج من امرأة مطلقة؟)
عدل فريد من قميصه بعنف زافرا، ثم قال ممتعضا.

(حسنا، هذا سؤال مفهوم، بسم الله الرحمن الرحيم، الإجابة: نعم)
نظرت اليه سوار طويلا و قد استكانت ملامحها، ثم قالت بخفوت
(لكن لماذا يا فريد؟، لماذا مطلقة؟ طالما أنكما لا تعيشان قصة حب، ألم تجد أي فتاة بكر بين كل من قابلت لتجذب نظرك؟)
انعقد حاجبي فريد ثم قال بجدية
(و ماذا ينقصها المطلقة؟، لم ألحظ أن زوجها السابق أكل منها جزءا)
زمت سوار شفتيها و هي تحاول ايجاد الكلمات المناسبة، ثم قالت بهدوء.

(أنا لم أقل أن الفتاة يعيبها شيئا، لكنني أؤمن بالتكافؤ بين الطرفين في الزواج، يمكنها أن تكون في غاية السعادة في الزواج من رجل مطلق، و أنت تتزوج بمن تناسبك و لم يسبق لها الزواج، حينها لن ينظر أي شريك للآخر على أنه قدم تضحية ما في التنازل و الزواج به)
رد عليها فريد مقاطعا بقوة.

(لا. لا، انتظري لحظة، التكافؤ الذي أؤمن أنا به هو التكافؤ الأخلاقي، الإجتماعي، و ربما المادي على أنه ليس ضروريا تماما، لكن ما تشيرين اليه، لا يندرج تحت مصنف التكافؤ، هو مجرد نصيب لا أكثر)
تنهدت سوار و هي تنظر اليه، ثم قالت بخفوت
(يبدو أنك قد اتخذت قرارك)
ابتسم فريد، ثم قال ببساطة
(يبدو أنني أحببتها و أنتهى الامر، على الرغم من العدد القليل من المرات التي رأيتها بها، لكن أجدني أتحين كل فرصة كي أراها).

ابتسمت سوار و هي ترى ذلك البريق المعروف في عينيه، ثم لم تلبث أن رفعت كفها لتضعها على وجهه و هي تقول
(ماذا لدي بعد لأضيف! يكفيني أن أرى تلك النظرة في عينيك لأقتنع)
تنهدت مجددا، ثم قالت بجدية رغم النبرة المشاغبة في صوتها...
(اذن، متى تصطحبني الى أمها، كي نطلب يدها)
بدا فريد مترددا قليلا، ثم قال بهدوء
(ليس بعد يا سوار، حين يأتي الوقت المناسب سيدلني عقلي عليه)
قالت سوار باهتمام.

(لماذا؟، ماالذي يجعلك مترددا بعد؟)
بدا فريد شاردا قليلا، ثم نظر اليها و ابتسم قائلا
(حين يأتي الوقت المناسب، و الآن سأتركك لترتاحي قليلا)
نهض و تركها في سريرها، الا أنها نادته، فاستدار ينظر اليها متسائلا...
حينها ابتسمت و قالت بخفوت
(أنا سعيدة جدا أننا عدنا نسكن بيتا واحدا يا فريد، هل تعلم متى كانت آخر مرة فعلناها؟، منذ ما يزيد عن سبع سنوات)
اتسعت ابتسامة فريد و قال بحب حقيقي.

(ليس أكثر من سعادتي، أدعي الله أن يزيد زوجك من سفراته الى ضرتك، حينها يطول بقائنا معا)
ضاعت ابتسامة سوار عن وجهها في لحظة، فقال فريد بجدية دون أن يفقد ابتسامته
(ليتك تنظرين الى المرآة في تلك اللحظة، ستخبرك عيناك بالكثير مما ترفضين الإعتراف به)
تركها و خرج مغلقا الباب، بينما ظلت هي على نفس جلستها، تنظر الى الباب المغلق...
نهضت سوار من مكانها ببطىء، ثم اتجهت الى المرآة ووقفت تنظر الى عينيها...

و كما قال فريد، نظرة عينيها صدمتها...
كشفت لها أكثر مما تحتاج لمعرفته...
وجهها كان شاحبا و عيناها غائرتان، مظلمتان جراء تخيل زيارات ليث لميسرة تتزايد و تطول
بينما هي هنا، تنتظر، تنتظر...
لكن هل هي فعلا تنتظر العثور على فواز الهلالي، أم أنها تنتظر فقط عودة ليث من زيارته للأفعى التي كانت السبب في تشويه سمعتها...
لن تنسى أبدا أنه رحل دون حتى أن يحاول التأكد من صحة أقوالها...

هل هذا هو العشق الذي يتغنى به دائما؟
رفعت سوار عينيها لتنظر الى المرآة مجددا، و همست دون أن تدري
(لقد أحببته، نعم أحببته، ليس اليوم أو أمس، بل منذ سنوات طويلة، و لم تكتشفي هذا الا بعد فوات الأوان)
فغرت سوار شفتيها و نفس مرتجف يفلت من بينهما، بينما رفعت يدها الى صدرها الخافق ثم أجابت نفسها بنفسها، و بنبرة أكثر هلعا...

(نعم أحببته، و يشهد على ذلك الحلم القديم الذي لم أنساه حتى اليوم، أحبه و أحترق بنار الغيرة و أنا أتخيله يلامس امرأة غيري)
اتسعت عيناها و هي تنظر الى نفسها و ما ترتديه...
فجذبت سترة الحلة الرياضية لأسفل قليلا ببطىء...
كانت مختلفة، و كأنها ليست سوار نفسها...
أرادت أن تخدع نفسها فارتدتها في غيابه، و ماذا عن باقي ما ابتاعته و خبئته؟
هزت سوار رأسها قليلا و همست بقسوة محدثة نفسها.

(ماذا تريدين؟، الى ماذا تسعين بالضبط؟)
أطرقت برأسها و هي تفكر بهلع
ميسرة تسعى بكل قوتها للحصول على طفل من ليث، و قد فهمت منه أن الأمر ليس مستحيلا...
و قد يحدث هذا في أي يوم...
أغمضت سوار عينيها و هي تهتف بشدة
(لا، لا، الا هي، لن تحمل طفله مطلقا، )
رفعت وجهها الشاحب و همست
(ما الذي أقوله؟، هل أتحجج كي أمنحه الطفل الذي يتمناه؟)
استدارت حول نفسها بقوة و هي ترتجف، و كأنما هناك من صفعها بقسوة...

ثم تابعت بخفوت ذاهل
(سوار، سوار، أنت عشقته حتى النخاع، و تتمنين طفله، بينما يتضائل غضبك على مقتل سليم شيئا فشيئا، سليم، هل نسيته بتلك البساطة؟)
ابتلعت ريقها بخوف، و هي تتنفس بسرعة، فللمرة الأولى كانت سوار الرافعي تشعر بالذعر، من نفسها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة