قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والثلاثون

(كفى)
كانت صيحته أعلا و اوضح و أكثر سطوة من الجميع، فالتفتوا اليه ما بين غاضبين و ذاهلين...
فقد دخل الى المضيفة بكامل هيبته و أناقة ملابسه العصرية، تعلوها العباءة الصوفية على كتفيه...
ملامح وجهه ثابتة هادئة، و عيناه لا تهتزان أو ترمشان، بل ينظر الى الجميع بثبات يحسد عليه...
لكن الأكثر عجبا أنه لم يكن وحيدا، بل كان ممسكا بكف سوار الرافعي...
مرفوعة الذقن، تستمد الثقة منه و هي تقف بجواره، لا خلفه...

يلصقها به، متحديا أكبرهم الى أقواهم أن يأتي أمامه و يواجهه...
مرت بضعة لحظات من الصمت المتوتر الغاضب، قبل أن يبادر عمه، صاحب الدار بالكلام قائلا بفظاظة وهو يشير بعصاه الى سوار باهمال و استهانة
(أنت، اذهبي الى مجلس النساء، لا محل لك هنا بين الرجال)
برقت عينا سوار بعنفوان من تلك الصيغة المهينة التي خاطبها بها، بينما اتسعت أعين أعمامها ذهولا...

لم يجرؤ أحد من قبل على مخاطبة سوار الرافعي بتلك الطريقة من قبل...
لكن الوحيد الذي بدا ثابت الجأش هو ليث، فبالرغم من احمرار الغضب الذي برق في عينيه، الا أنه تمالك انفعاله، فشدد على قبضتها بكل قوته كي لا تفكر حتى في الإنسحاب...
(لن تذهب الى أي مكان، طالما أن الأمر يخصها، فستبقى، و كل من لديه كلمة فليقولها أمامنا سويا)
هنا تكلم والد زاهر قائلا بخشونة و غضب...

(نحن هنا لنأخذ ابنتنا معا، هيا يا سوار، لا بقاء لك هنا)
ارتفع حاجبي ليث، بينما شعرت سوار بقبضته تشتد على أصابعها أكثر وهو يقول بهدوء ظاهري، (هل فقدت زوجها مجددا كي تستعيدوها؟، أم تراني أصبحت خفيا فجأة؟)
توترت سوار من قسوة كلماته، فنظرت اليه بطرف عينيها لترى البأس و الشدة مرتسمين على ملامحه الجانبية الصلبة، بينما هو يشد على شفتيه محاولا جديا الا يتهور...
الا ان عمها هدر بقوة و غضب...

(لو كانت لك هيبة و كلمة، ما كان أحدا تجرأ على ذكر اسم زوجتك بالسوء)
ضحك عم ليث ساخرا وهو يرد بوقاحة
(لم أرى في حياتي أهل امرأة سمعتها أصبحت على كل لسان، يتطاولون و يتجرأون على)
هنا كان صوت ليث هو الصادم بصيحته القوية
(كفى)
كانت صيحته الثانية اكثر سطوة من الأولى، مما جعل الجميع يصمتون بتوتر، بينما اشار هو باصبعه الحر، دون ان يحرر كف سوار بيده الأخرى.

(لن تطال سمعة زوجتي شائبة في وجودي، ان كان هناك نذلا قد تطاول عليها خلف ظهري لأنه جبان يخشى أن يواجهني فهذا لا يعني أنني سأسمح بأن تنطق كلمة في حقها أمامي)
كان صوته رغم شدة قوته، الا أنه يرتجف قليلا من عنف الغضب الذي يطوف في أعماقه...
فشعرت سوار بالخوف عليه و همست ناظرة اليه بترجي أن يترفق بحاله قليلا
ليث، لكن أحدا لم يسمعها، خاصة أن عمه قد رد صارخا.

(اسمع يا ولد، صيحتك و صوتك العالي لن يوقفا ما حدث، دعها تذهب مع أهلها، فبقائها هنا أصبح مستحيلا)
نظر اليه ليث، قائلا بقوة و غضب
(زوجتي لن تخرج من هنا الا خلف جنازتي)
أغمضت سوار عينيها بألم و هي تهمس بصوت غير مسموع
كفى أرجوك، لا تزد من ألمي أكثر، الا أن عمها هدر قائلا بعنف
(ستعود معنا، لكن ليس قبل أن نقطع عنق من تجرأ على ذكر اسمها بالسوء من عائلتكم)
التفت اليه عم ليث قائلا بسخرية.

(من منا سيتجرأ على ذكر اسمها بالسوء دون يكون لهذا سببا قويا)
رفع زاهر سلاحه فجأة في وجه عم ليث وهو يقول من بين أسنانه
(هذا يكفي، لقد جلبت هذا لنفسك)
ارتفعت عدة أسلحة، في المقابل من أعمام ليث، و احتدم الأمر و أصبح الوضع مروعا، بينما هدر ليث للمرة الثالثة
(قلت كفى، لن يطلق عيارا واحدا هنا، اخفضوا اسلحتكم)
بدا الجميع في حالة تحفز، بينما تابع ليث بصوت رج جدران المضيفة.

(قلت اخفضوا اسلحتكم، لن يطلق عيارا واحدا لأجل سمعة سوار الرافعي في حياتي)
كان الجو مشحونا و هم ينظرون الى بعضهم بتردد، قبل أن يبادر البعض باخفاض اسلحتهم، خاصة أعمامه، بينما بقى سلاح زاهر مشهرا، ووجهه شديد الغضب، فقال ليث بقوة و صوت آمر...
(أخفض سلاحك يا زاهر، ليس له داع هنا، أنا المسؤول)
ظل زاهر على حاله لعدة لحظات، قبل أن يقول والده بخشونة
(أخفض سلاحك يا زاهر و لنرى ما ينون عليه).

نظر زاهر الى والده قليلا، بعدم رضا، ثم أخفض سلاحه أخيرا وهو يقول بصوت مخيف
(لقد تماديتم، و شرف عائلة الرافعي، خط أحمر لا يتلاعب به)
قال عم ليث بغضب أقوى
(و ما هي مصلحتنا في تشويه سمعة ابنتكم التي تحمل اسم ابننا، أي أنه شرفنا في المقابل)
هدر والد زاهر وهو يشير اليهم.

(الإشاعة الحقيرة آتية من عندكم، و بدلا من معرفة مصدرها الحقيقي، تزيدون في التطاول، لذا سناخذ ابنتنا معنا الى أن نعرف من هو مطلق تلك الإشاعة القذرة، و حينها سيكون حسابه عسيرا)
كان ليث ينظر اليهم صامتا، رافعا وجهه الصلب الغير مقروء المشاعر، بينما قال عمه بخشونة
(خذوها، هذا أفضل للجميع و حتى هذا الحين اعتبروا أن خطبة عرابي ولدكم من جويرية ابنتنا منتهية، ).

ارتفع حاجبي والد زاهر و بدا متفاجئا للحظة، قبل أن يقول بصوت مشتد، غاضب
(هذا سيبطل الصلح بين العائلتين، و حينها سيكون الثأر واجبا)
قال زاهر قبل ان ينتظر رأيهم
(والله هذا ما كنت أتمناه منذ مقتل سليم رحمه الله، ستفقدون أغلى شبابكم و ستتمنون الرحمة بعدها)
كانت سوار تنظر اليهم فاغرة شفتيها، بينما رد عم ليث قائلا بعنف
(كل شاب من عندنا لن يكفينا به عشرة من أولادكم).

كانت تنظر اليهم بعين غير عينها، تسمع بأذن ليست أذنها...
تراقب تلك المسرحية بصمت، تشاهد فصلا شديد السخرية، الا أنها سخرية سوداء موجعة، تنكأ الجرح...
بهذه البساطة سيفسخون عقد الصلح بينهم؟، لمجرد أن شخصا حقيرا تطاول على سمعتها؟
بهذه البساطة ستطير الرقاب و يعود نهر الدم بينهم من جديد، و الآسم هو الثأر لسليم؟
أين كان ثأر سليم حين زوجوها لليث! أين ذهب حرصهم على حقن الدماء؟
هل هان كل هذا أمام شائعة حقيرة؟

لشد ما تريد نيل القصاص، لكن ليس من ابنائهم و ابناء ابنائهم...
لا تريد القصاص الا بالحق، من قاتل سليم فقط لا غير...
عبث، كل ما يحدث أمامها الآن ما هو الا عبث ساخر، شديد السواد، و موجع حد الغثيان...
أطرقت سوار وجهها الباهت، الفاقد للتعبير تماما أمام قتامة ما يحدث، بينما قال ليث فجأة بصوت صادم، ترتج له الجدران
(هل انتهيتم؟)
لم يرد أحد وهم ينظرون اليه برفض، فهدر مجددا بصوت عنيف بعث رجفة في الأبدان.

(قلت هل انتهيتم؟)
ساد سكون تام بين أرجاء المضيفة و الجميع يحدقون به بصمت، حينها فقط سحب نفسا حادا خشنا و انعقد حاجباه، بينما برقت عيناه كالصقر وهو يقول بنفس النبرة الهادرة رافعا كفه الممسكة بكف سوار
(هل ترون هذه؟، إنها قبضتي، تمسك بكف زوجتي، سوار الرافعي، أروني من منكم يستطيع تحرير تلك الكف من قبضتي)
صمت وهو ينقل عينيه بينهم، بينما شاب التوتر وجوههم اكثر، ثم هدر قائلا
(ألن يحاول أحد؟، أنا أنتظر).

مرت بضع لحظات من الصمت، فقال بقوة أعلى.

(اذن اسمعوني جيدا، لأنني لن أكرر كلامي مجددا، هذه القبضة الممسكة بكفها تعني أن سوار الرافعي هي زوجتي، و ستظل زوجتي حتى يسترد الله أمانته، و حتى هذا الحين لن تفارق كفها قبضتي، و هي تعني أيضا أنني أعرف جيدا من هي زوجتي، أثق بها، أعرف كل ما يخصها و أعرف تماما معنى شرف سوار الرافعي، ليث الهلالي لن يمسك بقبضة امرأة بهذا الشكل وهو يشك ولو للحظة في شرفها، لكن هذه ليست امرأة، انها، سوار، الرافعي، قبل أن تكون زوجتي).

ساد صمت مهيب بين الجميع، وهو ينقل عينيه عليهم بلهيب عنيف، الى أن هدر مجددا
(أسمعوني هيا، من منكم قادرا على الخوض بشرف زوجتي أمامي؟، من يملك الدليل؟، أو من يتجرأ على قول المزيد؟)
كانت سوار تنظر الى جانب وجهه بصمت...

رغم كل شيء كانت تشعر بالخوف عليه، على الرغم من صلابة ملامحه و بأس صوته، الا أنها تدرك جيدا قسوة الموقف الذي يقف به حاليا، ليس هينا على رجل في مثل مكانته أن يقف مواجها عائلتين، مدافعا عن شرف زوجته و الذي تمرغ في الوحل...
لم تعرف هل تنقم على الظروف.
أم تنقم على العائلتين معا
أم تنقم على راجح...

أم تنقم على ليث نفسه، و الذي أجبره عشقه الذي لا يموت على ما يبدو، على اقتحام حياتها بكل سوادها، فأفسد مخططاتها...
لا، لن تسمح له بافساد مخططاتها، لكنه يؤخرها، يعطلها بهذا الحب الغريب الذي لم تتوقعه منه مطلقا...
حتى باتت تحمل قلبه كعبء على كفها...
تكلم عمها فجأة مقاطعا شرودها، (الخطأ آت من جتهكم، و نحن أقدر على حماية ابنتنا، لو كنت كفؤا لها، لما استطاع احدا على مس سمعتها بسوء من عائلتك)
هدر ليث قائلا.

(لن يستطيع أي رجل محاربة أي جبان لا يعلم من يكون، لكن إن عرفت من هو فسوف أ)
صمت فجأة وهو يشدد على قبضته الحرة حتى ابيضت مفاصل أصابعه، بينما تزاديت سرعة حركة صدره، فنظرت اليه سوار و همست بقلق و هي تتخلل أصابع قبضته بأصابعها برفق
(على مهلك يا ليث)
لم تتوقع أن يكون قد سمعها، الا أنه التفت اليها، ينظر لها بصمت و كأنه يطلب الدعم من عينيها، ففغرت شفتيها قليلا و هي تهمس بصوت لم يسمعه غيره.

على مهلك، أخذ ليث نفسا قويا و كأنه ارتاح بالفعل للحظة، ثم أعاد نظره اليهم قائلا بصوت قاطع عال لا يقبل الجدل
(تفضلوا و خذوا واجبكم يا أبا زاهر، الدار داركم، طالما أتيتم بالخير، أما موضوع آخر فأنا لن أقبل به، و لا كلمة أخرى به، و أنا كفيل بقطع تلك الإشاعة من جذورها)
نظر عم سوار الى ولده زاهر و باقي أعمامها، قبل أن يقول بعد تفكير طويل.

(لا وقت لأخذ واجب أو غيره الآن، اسمع يا ليث، لن نستطيع محاربة حقك بزوجتك، لكننا نطالب بقطع تلك الإشاعة و أهلك لا يبدو عليهم الرضا، لذا أما أن تفعلوا أنتو و إما أن نفعل نحن)
قال ليث بصوت قاطع
(لا هم و لا أنتم، بل أنا وحدي المسؤول، شرفي و عرضي و أنا الأحق بالدفاع عنه)
ساد الصمت بينهما و كل منهم ينظر لعيني الآخر في مواجهة حادة، قبل أن يومىء عمها برأسه غير راض تماما، الا أنه قال بصوت آمر...

(هيا بنا، لم يعد لوجودنا داع)
صمت وهو يعاود النظر الى عيني ليث قائلا بصوت عال ذو مغزى
(حاليا على الأقل)
رد ليث بصوت أكثر سطوة
(شرفت يا أبا زاهر)
ثم راقب انصرافهم بصمت واحدا تلو الآخر، بينما بقى هو و أعمامه، و سوار لا تزال بقبضته لا يحررها مطلقا...
الى أن قال عمه غاضبا بصوت مستاء عنيف
(هلا تركتها تذهب الى مجلس النساء الآن، فلدينا حديث معا).

التفت ليث ينظر اليه بصمت، و مضت بضعة لحظات، قبل أن ينظر الى عيني سوار طويلا، ثم قال لها بخفوت
(اذهبي لمجلس النساء قليلا يا سوار، فهناك ما أريد قوله لأعمامي)
انعقد حاجبيها، بينما لمعت عيناها بالرفض و هي تهمس بتسلط
(لن أتركك وحدك).

لم تتوقع أبدا أن ترتفع زاويتي شفتيه قليلا في ابتسامة خفية، لم تكن ابتسامة مرحة، بل كانت ابتسامة غريبة، لها صدى في تعبير عميق ظهر بعينيه، و كأنه كان ينتظر عبارتها تلك منذ سنوات...
ارتبكت سوار قليلا أمام تعبير عينيه، الا أن ارتباكها تحول الى صدمة منتفضة و هي تراه يرفع قبضتها الى فمه يقبها أمام أعمامه!

فغرت سوار شفتيها بذهول، و احمرت وجنتيها بلون قان من هذا التصرف الغير لائق في عرفهم، فهمست مصدومة دون صوت
ماذا تفعل؟، قرأ ليث حركة شفتيها، فابتسم دون مرح، لكن نفس التعبير العميق، بينما تذمر عمه قائلا باستنكار واضح
(لا حياء و لا أدب)
الا أنه لم يستطع قول المزيد، فأخفض ليث قبضتها ليربت عليها بكفه الأخرى متجاهلا وجود الجميع وهو يقول بخفوت و ثقة
(اذهبي لأجلي، لن أتأخر عليك، ).

بدت سوار مترددة و هي تنظر الى أعمامه المتحفزين بطرف عينيها، ثم نظرت اليه و همست
(لا اعلم، قد ترهق مجددا و أنا)
زاد التعبير في عينيه عمقا، لا تعلم ان كان شعورا بالإمتنان، أم لهفة لشيء آخر، الا أنه قال بخفوت
(لا تقلقي يا غالية، دقائق فقط، و نرحل سويا)
نظرت سوار الى عينيه، فرأت بهما الطلب آمرا على استحياء، حينها فقط لم تستطع أن تمس برجولته أكثر فأخفضت وجهها و هي تقول بخفوت.

(لا بأس، سأنتظرك، في مجلس النساء)
ابتعدت عنه خطوة فقال لها يسترضيها
(هل أدلك على المكان؟)
رفعت وجهها اليه و قالت بخفوت و هي تنظر الى عينيه
(سأعرف طريقي بنفسي، لا تشغل بالك)
نظرت الى أعمامه نظرة أخيرة مرفوعة الوجه، قبل أن تسحب يدها من كفه ببطىء و تبتعد ثابتة الخطوات...
وقف ليث يراقبها الى أن خرجت من المضيفة، ثم التفت الى أعمامه ينظر اليهم بصمت متجهم، وهو يعلم أن العاصفة لم تخمد بعد...

بينما كانت سوار من جهتها تسير ببطىء في بهو الدار الضخم و هي تنظر أمامها بصمت حزين، ترفل عبائتها من خلفها و كأنها تتهادى بلا وجهة، الى أن اتجهت اليها احدى الخادمات لتقول بتهذيب
(هل أدلك على مجلس النساء يا سيدة سوار؟)
نظرت اليها سوار بصمت و أومأت برأسها برقي دون أن تجيب، فقالت الخادمة بخفوت
(تفضلي من هنا).

تبعتها سوار صامتة، الى ان وصلت لقاعة جانبية تشبه المضيفة الى حد كبير، فطرقت الخادمة على الباب المفتوح جزئيا، قبل ان تطل من فتحته لتقول بتهذيب
(سيدتي، السيدة سوار تود الدخول)
وقفت سوار بصمت و هي تنتظر الاذن بالدخول، لا هي تود كما قالت الخادمة، و لا تتخيل ان تقف مثل هذه الوقفة تنتظر الإذن بالدخول...
سمعت صوت امرأة تقول بامتعاض
(دعيها تدخل).

ابتعدت الخادمة و هي تشير لسوار بالدخول، فدخلت مرفوعة الرأس و بنظرة شاملة ألمت بالعدد المحدود من النساء الجالسات في القاعة، على الأكثر زوجات الأعمام و ثلاث أو أربع شقيقات، و على ملامحهن بقايا الخوف مما حدث في مضيفة الرجال، بينما يحاولن مداراة هذا الخوف بالنظرات الصامتة التي يشوبها الإحتقار الباطل لها...

قابلت سوار نظرات الإستنكار و الإستياء بكل اباء و هي مرفوعة الرأس بثقة، لا تتحرك من مكانها قبل أن تستضيفها صاحبة الدار، الى أن نهضت أكبرهن سنا على مضدد، كانت تلك هي زوجة عمه الأكبر، مشت اليها و على فمها امتعاض و في عينيها وميض خوف ممتزج بالإحتقار دون أن تتبين من صحة ما سمعت...
ربما لم تصدق ما سمعت، الا أن احتقار المرأة التي تشوهت سمعتها يعد واجبا لا يقبل النقاش...
وصلت اليها و قالت بجمود خافت.

(أهلا يا سوار، تفضلي بالجلوس)
لم تبادر سوار بمد يدها للمصافحة، فكانت تعلم أن زوجة عم ليث في المقابل، لن تفعل و صدق ظنها...
لذا ابتسمت بكل ثقة و اعتداد بالنفس و هي تقول
(أهلا بك يا زوجة عم الغالي، لن أثقل عليكن طويلا، فلدى الرجال بضع كلمات ثم سنرحل سريعا)
ارتبكت المرأة قليلا و هزمها كرم الضيافة في النهاية فأمسكت بذراع سوار و اشارت الى المجلس قائلة بنفس الجمود
(ما هذا الكلام، الدار دارك، تفضلي بالجلوس).

تحركت سوار و هي تلقي عليهن نظرة لا مبالية، قبل ان تتجه الى أبعد مقعد فجلست عليه واضعة ساقا فوق أخرى دون اعتبار لسن أو مقام أي واحدة بينهن...
سادت بعض الهمهمات بينهن و النظرات تتجه اليها بقلق و استنكار، بينما هي تؤرجح ساقها ببطىء ناظرة الى كل منهن في عمق عينيها دون وجل...
لكن بداخلها كان شعورا آخر...
شعور بالنقمة و الحزن...
لم تشعر بالخوف من القيل أو القال، لكن بداخلها حزن عميق...

حزن و عتاب على تلك الأرض التي قضت بها كل سنوات شبابها و التزمت بقوانينها بكل تفاني، الا أن تلك الأرض خذلتها بأعرافها...
خذلتها مرة و اثنتين و ثلاث، و ها هي ينتهي بها الحال جالسة في مجلس لنساء ينظرن لها باحتقار لأن أحدهم تعدى عليها قهرا، و آخر نشر شائعة باطلة، و ثالث قتل زوجها دون وجه حق...

أي ظلم ذاقته على الأرض التي منحتها عمرها برضاها و كانت قادرة على السفر و متابعة دراستها و عملها و حياتها خارج تلك الأعراف كما فعل معظم شباب العائلة...
تنهدت سوار بصمت و هي تهمس لنفسها
هل هذه هي النهاية يا سوار، هل هذه هي النهاية!
وقف ليث في المواجهة...
رجلا أمام مجموعة، منتصب الكتفين، وهو ينظر اليهم دون أن يرف له جفن، الى أن ابتدأ الهجوم أولا، ليقول بصوت قاطع.

(أريد سماع آخر ما لديكم، كي ننتهي من هذا الأمر للأبد)
تقدم عمه الأكبر خطوة وهو ينظر اليه متجهما، صارم الملامح، ثم قال دون مقدمات
(هل حملت زوجتك أم لا؟)
ارتفع حاجبي ليث ببطىء، قبل أن ينعقدا بشدة وهو يقول دون أي مجاملات
(هذا سؤال خاص، لا يحق لأحد سؤاله)
لمعت عينا عمه بالغضب، قبل أن يقول بلا مقدمات
(ان كانت أحشائها خالية من ابن لك فلم يعد لزوجتك مكان بيننا).

ساد صمت متوتر بين الجميع، الا أن ليث قال بصوت قاطع
(لم اطلب لها مكانا لديكم، فإن ضاقت بها دياركم، داري هو مكانها، و لا مكان لها غيره)
تقدم عمه خطوة وهو يهدر قائلا
(لا تتعمد التغابي يا ليث، لا مكان لها هنا بعد أن تشوهت سمعتها)
تعالى صوت ليث مجددا أكثر و أكثر...
(قلت ما لدي، لن أجبركم على فتح دياركم لها، )
الا أن عمه صرخ قائلا.

(ما دمت مصرا على ادعاء عدم الفهم، فاسمع اذن قرارنا النهائي، سوار الرافعي لن تظل زوجتك، و عليك أن تطلقها)
ارتفع حاجبي ليث ببطىء قبل أن يبتسم سائلا بسخرية بعيدة كل البعد عن الغضب الناري في عينيه
(بأمر من؟)
رد عمه قاطعا
(بأمرنا نحن)
نظر ليث الى أعمامه بصمت، فرأى الموافقة و كأنهم قد سبق و اتفقوا على الأمر، فأعاد عينيه الى عيني عمه الأكبر ليقول بوضوح
(آسف)
تراج رأس عمه قليلا وهو يقول بتجهم.

(ما المفترض أن أفهمه من هذا الاسف؟)
رفع ليث وجهه ليقول قاطعا
(لن أطلق زوجتي، و لن يجبرني مخلوق على هذا، من يستطع منكم فليحاول)
ارتفع حاجبي عمه، و برقت عيناه بخطورة، بينما حاول عمه الآخر تدارك الموقف فتقدم قائلا بقسوة و صرامة.

(افهم، افهم يا ليث و حاول أن تستوعب و تكن قدر المسؤولية، نحن لن نرمي زوجتك بالباطل دون علم، نحن لدينا حريم و عرض و لا نريد أن نزيد كلاما في هذه الشائعة، فنحن لسنا من أطلقناها من الأساس، و الله اعلم بصحتها من كذبها، لكن ما يهمنا هو وضعك في هذه العائلة، أنت المؤهل ان تكون كبير العائلة و قد بدأت في تولي مشاكلها منذ سنوات، حتى في وجود كبارها، سلمناك مقاليد الأمور، لثقتنا في أنك الأقدر دون تردد، و اكراما لمكانة والدك رحمه الله، . يوم أن قررت أنك لن تتزوج مجددا، لم نضغط عليك، و قدرنا أنك لم تشأ ان تكسر قلب ابنة عمك ميسرة، رغم أنك بهذا القرار، تحديت كل الأصول في الحصول على ولد يحمل اسمك، و بعد أن عرضت الزواج على سوار الرافعي رضخنا، حقنا للدم، رغم أن الأصول كانت تنص على زواج ابنة واحدة لولد منهم، لكن وافقنا و حملنا مسؤوليتنا فيما فعل فواز، لكن الآن و بعد أن تدنست سمعة زوجتك، و هي المرأة التي من المفترض أن تحمل ابنك، الذي سيرث اسمك و عرضك و أرضك، لا و ألف لا، هنا سيكون لنا وقفة).

أظلمت عينا ليث وهو ينقل عينيه بينهم، فرأى بها الإصرار و الموافقة، و ساد الصمت بينهم طويلا، الى أن رفع رأسه ليقول بكل هدوء
(اذن أنا متنازل عن هذه المكانة)
صرخ عمه الأكبر به غاضبا، بينما تعال استنكارهم و عدم تصديقهم لما يفعل...
(هل أنت واع لما تقول؟، تتنازل عن مكانتك لأجل)
صمت وهو يخفض وجهه قائلا من بين أسنانه بجنون خافت
(استغفر الله العظيم)
رد ليث بصوت جهوري.

(استغفر ربك بصوت عال يا عمي و لا تحرج من وجودي، فلا شيء اكثر يمكنك فعله لتؤلمني به)
رفع عمه وجهه و هدر به بقوة و جنون
(أنا لا أفهم مما أنت مصنوع؟، لطالما كنت ضد الجميع، ضد القيود، زوجت اختك من رجل غريب و أنت أول من يقدم على هذا، و سامحناك، و الآن تقف متحديا و شرفك على المحك؟ و مكانتك في العائلة هي الثمن! لماذا؟، لماذا تفعل كل هذا؟)
رد ليث هادرا هو الآخر بغضب من فاض به الكيل.

(المكانة التي تجبرني على تطليق زوجتي، و ينتصر على وضيع اطلق شائعة اكثر وضاعة، لن تجعل مني رجلا، بل على العكس، تجعلني اكثر جبنا منه. و أنا لن أفعل، لن أطلق سوار و لو على جثتي)
تقدم عمه خطوة أخرى وهو يصرخ
(و نحن لا نريدها هنا على أرضنا، فما هو رأيك بهذا أيضا؟)
كان ليث يتنفس بسرعة و غضب وهو يسمع ما رماه به عمه، فصمت لعدة لحظات قبل أن يقول بصوت خافت لاهث
(رأيي ستراه حالا).

و دون كلمة أخرى، اندفع خارجا من باب المضيفة، تاركا أعمامه ينظرون في اثره ذاهلين من تفاقم الأمر الى هذه الدرجة...
في تلك الأثناء كانت زوجة عم ليث تقف في الباب المفتوح جزئيا و هي ترهف السمع قائلة بقلق
(يصرخون مجددا، لكنني لا أستطيع تمييز ما يقولون تماما)
تحركت زوجة العم الآخر من مكانها و هي تقول من بين أسنانها
(تعالي و ارتاحي قليلا يا حاجة، حسبي الله على من كان السبب).

ثم نظرت الى سوار بطرف عينيها، بينما واجهتها سوار بكل هدوء و هي لا تزال جالسة مكانها كالملكة، واضعة ساقا فوق الأخرى، و يداها مرتاحتان على ذراعي المقعد...
عيناها حادتين، صقريتين، لا تنخفضان و لا تقبلان بالخزي مطلقا...
ابتعدت زوجة العم الأكبر عن الباب و هي تقول بقلق
(الستر يا رب، الستر، الأسلحة تشهر في لحظة اندفاع و نحن من نبكي المتبقي من العمر)
بعد دقيقة، سمعن جميعا صوت ليث يهدر عاليا من الخارج.

(سوار، أخرجي الآن، نحن راحلين)
تسمرت سوار مكانها لحظة و هي تسمع صرخته بوضوح، قبل أن تنزل ساقها و تقفز واقفة، لتسرع الخطى خارجة من باب قاعة النساء و عبائتها تتطاير خلفها، فتمسك باطار الباب و اندفعت لتراه واقفا بمنظر مخيف في منتصف البهو، عيناه مرعبتان و جسده كله متشنج، حتى شعرت بالخوف عليه اكثر و أكثر...
فجرت اليه لتتشبث بذراعه، رافعة وجهها اليه و هي تضع كفها على صدره هامسة بقلق
(ماذا حدث يا ليث؟).

الا أنه لم يمهلها كي تنهي كلماتها، بل رفع كفه ليلتقط كفها من على صدره، ثم اندفع خارجا وهو يجرها خلفه قائلا بقوة
(نحن راحلان)
تبعته سوار جريا كي تلحق بخطواته، بينما تسمرت عيناها على الأعين الغاضبة لأعمامه وهي تلاحقهما بنظراتهم القاتلة...

رفعت يدها لأعلى فمها و هي تطلق الزغاريد العالية المجلجلة دون توقف...
لا تكاد تني واحدة حتى تلتقط أنفاسها، لتبدأ بأخرى دون تعب...
عيناها تبرقان ببريق شيطاني و هي تزغرد من كتبت له الحياة من جديد، على موت الآخرين...
قالت أمها بقلق و هي تنظر الى باب المضيفة الخاص بدار ليث و ميسرة
(توقفي عن الزغاريد يا ميسرة، سيتأكد الجميع من أن لك دخلا بالامر و حينها لن تمر الأمور على خير).

صمتت ميسرة للحظة و هي تلتقط أنفاسها لتدور حول نفسها و هي تنظر الى أمها بعينين متوهجتين و شعر أشعث من شدة ما أطلقته على ظهرها لترقص و تزغرد بجنون، ثم قالت لاهثة
(اتركيني يا أمي، اتركيني لقد وعدت نفسي بها، لأزغرد و أرقص ما أن تخرج من هذه البلد خروج الكلاب الضالة)
صمتت للحظات و هي تنظر حولها بنشوى قائلة.

(لا أصدق أن سحرها قد بطل مفعوله بهذه السرعة، و ها هي سمعتها أصبحت علكة على كل لسان، و ستطرد من هنا و يطلقها ليث بأمر من كبار العائلة، بركاتك يا شيخ، بركاتك يا محتجز الأسياد، بخاتمك الذي لا يخيب)
رفعت يدها الى فمها مجددا و هي تصرخ عاليا
(بركة خاتم الجان)
لكن و قبل أن تزغرد مجددا، قالت أمها بصرامة خافتة و هي تمسك بذراعها لتديرها بالقوة قائلة.

(تعالي هنا و اخبريني، هل لك دخل فيما حدث لضرتك؟، هل أنت من نشرت عنها الباطل؟)
ارتفع حاجبي ميسرة و هي تنظر الى أمها و ابتسامة متلاعبة تتخابث فوق شفتيها المكتنزتين القرمزيتين بصباغ كثيف، ثم قالت بدلال
(ماذا بك يا أمي؟، هل تشعرين بالشفقة عليها؟ لم أعرف أنك طيبة القلب الى هذه الدرجة، لدرجة أن تتعاطفين مع ضرة ابنتك!)
ردت أمها بغضب هامسة و هي تنظر الى الباب.

(أنا لست متعاطفة معها يا غبية، لكن الأمر كبر بين يديك جدا، إنه شرف ليث الهلالي، زوجك، أي أن أنهار الدم لا تكفيه)
هزت ميسرة كتفيها بلامبالاة و هي تقول ماطة شفتيها
(و ما دخلي أنا فيما فعلته هي، إن كانت خاطئة، لا دخان بدون نار يا أمي)
عقدت أمها حاجبيها بشك و هي تقول بخوف
(هل تتكلمين بصدق يا ميسرة؟)
لمعت عينا ميسرة و هي ترد على أمها قائلة.

(كل الصدق يا أمي، و ليس عليك الشعور بالخوف من اليوم، لقد انتهت الساحرة للأبد و بطل سحرها، ليث لن يتهاون في شرفه مطلقا و هذا ما أنا أكيدة منه)
وضعت أمها كفا فوق الأخرى و هي تهمس بقلق
(يا خوفي، يا خوفي مما قد يتسبب به جنونك يا ميسرة، لطالما نبهتك كي تنالي حقك بالحيلة و الذكاء و طول البال، لكن تصرفاتك المتهورة التي يتحكم بها كرهك سوف تقضي عليك يوما)
ابتسمت ميسرة بميوعة و هي تقول بلهجة رنانة.

(تركنا طول البال لمن لا يبتغي الحياة يا أمي، أما أنا فأريدها و أريد أن أنهل منها قدر استطاعتي، و لن أضيع شبابي في محاولة نيل رضا زوجي كي يترك ساحرته و يعود الي)
رفعت يدها الى فمها مجددا و هي تزغرد عاليا حتى ذبحت حنجرتها و أيضا لم تتوقف...
الا حين سمعت طرقا على باب المضيفة فتوقفت بسرعة و التفتت تنظر الى خادمتها التي قالت باهتمام.

(هناك فتاة تريد رؤيتك يا سيدة ميسرة، شكلها كخادمة، و متواضعة الحال فأدخلتها من المطبخ الى أن تعرفي من هي)
عقد ميسرة حاجبيها بتوجس قبل أن تصرفها بحركة من يدها و هي تقول بصلف
(حسنا اذهبي، أنا آتية اليها)
ابتعدت الخادمة، بينما ازداد انعقاد حاجبي ميسرة و هي تقول بخفوت
(من ستأت لزيارتي في مثل هذا الوقت؟).

دخلت ميسرة الى المطبخ و مع أول نظرة منها الى الفتاة المتشحة بالسواد من أعلى رأسها الى أخمص قدميها و التي تمسك في يدها صرة قماشية ضخمة، على الأرجح تحوي كل ممتلكاتها في الحياة، حتى عرفتها دون شك أو تردد...
فبرقت عيناها بغضب أسود مخيف و كادت أسنانها أن تمزق باطن خدها و هي تحفر بأظافرها الطويلة في باطن كفها...
قبل أن تتمالك نفسها و هي تقول بصوت آمر لخادمتها دون تبرير أو مقدمات
(أخرجي من هنا، حالا).

نظرت اليهما الخادمة بدهشة، الا أنها لم تتجرأ على مخالفة أوامر سيدتها فهي تعلم جيدا الى أي وحش ممكن أن تتحول لو تجرأت احدى الخادمات على مخالفة أوامرها...
فخرجت مهرولة من المطبخ و ما أن فعلت حتى أسرعت ميسرة الى الباب و أغلقته بالمفتاح، قبل أن تستدير للفتاة و هجمت عليها تنزع الغطاء عن وجهها...
لتتأكد من أنها نسيم بالفعل! مما جعل عيناها تلمعان ببريق الغضب أكثر و أكثر...

و دون كلمة، رفعت كفها لتهبط بها على وجنة الفتاة في صفعات متتالية، و هي تبكي محاولة الهرب منها الا أن ميسرة كانت ممسكة بوشاح رأسها من مؤخرته و هي لا تتوقف عن صفعها هامسة من بين أسنانها بجنون وحشي كحيوان مفترس أطلق سراحه.
(كيف تجرؤين على المجيء الى هنا يا بنت ال، كي تجرؤين على تحدي اوامري أيتها الغبية الملعونة)
همست الفتاة برعب من بين شهقات بكائها.

(أرجوك يا سيدة ميسرة، أرجوك ارحميني، لم يعد لي سواك الآن)
أمسكت ميسرة بتلابيب جلباب الفتاة الأسود المتهالك لترفع وجهها، تكاد أن ترفعها كلها عن الأرض قبل أن تهمس بنفس النبرة المجنونة
(أرحمك! أنا سأمزق من لحمك و أرميه لكلاب الطريق، كيف تتجرأين على المجيء الى هنا حاملة أغراضك النتنة! لماذا لم تبقي في دار سوار بصورة طبيعية كما أمرتك!)
هتفت الفتاة بذعر و اختناق.

(ارتعبت يا سيدة ميسرة، الفضيحة تحولت الى كارثة و لن يطول الأمر قبل أن يعرف السيد ليث بأنني أنا من سربت اخبار بيته، سيقتلني، سيعذبني و يقتلني، ارتعبت، اتيت اليك كي تخفيني، ارجوك، اتوسل اليك)
صفعتها ميسرة صفعة أشدة من سابقتها حتى ادمت شفتها بخاتمها الثقيل و هي تهمس من بين أسنانها بشراسة.

(أيتها الغبية الملعونة، إن كنت بقيت في الدار كما أمرتك لما شك بك مطلقا، اسمعيني جيدا، ستغطين وجهك الدميم هذا و لا تظهر منه ذرة واحدة، ثم تعودين من حيث أتيت و تتصرفين كشيء لم يكن، و الا سأقتلك هنا باحدى سكاكين مطبخي و أنهش لحمك بأسناني)
هتفت نسيم بذعر.

(فات الأوان، على الأرجح، أن السيد ليث و السيدة سوار قد عادا الآن من بيت عمه، و سيعرفان برحيلي وان عدت اليهم بهذا الشكل سيفهمان كل شيء، و سيعذبانني ببطىء حتى أعترف)
اتسعت عينا ميسرة بقوة و هي تتنفس بصوت عال متسارع، حتى أغمضت نسيم عينيها أمام هذا اللهيب الذي يلفح حدقتيهما، بينما شهقت ألما بقوة و هي تشعر بأصابع ميسرة تنشب في لحم ذراعها.

قبل ان تترك احدى كفيها لتهبط بها على وجه نسيم في صفعة أخيرة بعنف، أودعتها كل غضبها و جنونها...

دخل ليث الى الدار مندفعا، تتبعه سوار تجري...
كانت المرة الأولى التي يدخل قبلها من الباب، حيث كان دائما يمد يده لها كي تدخل قبله و هو يبتسم لعينيها بطريقة بدأت تعتاد عليها، بل و تنتظرها...
لكن لم يكن هذا ما أغضبها، فالقلق عصف بها أكثر و هي تراه يصعد السلم الى غرفتهما، فتبعته ركضا على السلالم...

طوال الطريق لم ينطق بكلمة و كانت ملامحه مخيفة، فآثرت الا تسأله الا وهما في دارهما، و في غرفتهما تحديدا، و التي سبقها اليها دون حتى أن تقترح عليه ذلك...
دخلت سوار الى الغرفة و أوصدت الباب خلفها، قبل أن تستدير الى ليث لتجده يخرج حقيبة كبيرة من الدولاب، فتحها و رماها فوق السرير، ليرمي بها ملابسها دون تمييز...

كل ملابسها دون ترتيب أو عناية، حتى الجارور الصغير فتحه و التقط ملابسها الداخلية الحريرية كلها ليلقي بها في الحقيبة دون تهذيب مما جعلها تفغر شفتيها بذهول و هي تنظر الى ما يفعل مصدومة...
و كل ما استطاعت نطقه بعدم تصديق
(هل تطردني من البيت؟، هل).

الا أنها صمتت فجأة و هي تراه يتبع ملابسها بملابسه، يرميها كلها في قبضة واحدة من ذراعيه، داخل الحقيبة دون أي ترتيب، ثم أغلقها بصعوبة وهو يضربها عدة مرات حتى استطاع احكام غلقها...
شعرت سوار أنها تدور في عالم مجنون، لا تفهم شيئا مما يجري، فأخذت نفسا عميقا و هزت رأسها و هي تجلي تفكيرها المشوش...

قبل ان تفك وشاحهها من حول رأسها، ثم اقتربت منه ببطىء حتى وقفت بجانبه و هي تراه يحكم سحاب الحقيبة، فقالت بخفوت هادىء
(هل نحن مسافران؟)
لم يرد ليث عليها للحظة، الا أنه توقف عن الحركة لعدة لحظات، قبل أن يستقيم ليمسك بكتفيها بقوة حتى رفعت عينيها الواسعتين اليه، فنظر بهما و قال بخفوت أجش
(نحن لسنا مسافرين، نحن راحلين، سنترك البلد و نغادر سويا).

فغرت سوار شفتيها المرتعشتين قليلا، الا أنها تمالكت نفسها و قالت بهدوء
(ماذا كان شرطهم و الذي رفضته؟)
ظل ليث صامتا ينظر اليها دون جواب، ثم قال بهدوء مماثل و كأنه يجبر نفسه على التحلي به في نبرة تخصها وحدها دون غيرها
(طلاقك).

لم تهتز حدقتي سوار و هي تسمع منه الكلمة الهادئة، على الرغم من الألم العنيف الذي عصف بها فجأة دون أن تحسب له حسابا، و كأن الكلمة الهادئة سما، مزق أحشائها، لكن حين تكلمت قالت بنفس الهدوء الخافت الأقرب الى ابتسامة باهتة
(اذن فعليك أن تطلقني)
ضاقت عينا ليث قليلا وهو يتأمل ملامح وجهها الهادىء الجميل، ثم قال بخفوت.

(لو قايضوني بين حياتي و طلاقك، فسأخبرهم أنه يكفيني قضائي آخر أيامي معك، لن يحدث يا سوار، ليس بعد هذا العمر)
تنهد سوار قبل أن تقول بصبر محاولة اثناءه عما ينوي عليه.

(لن تستطيع يا ليث، ما هذه الا نوبة عشق قديم لم تشفى منها بعد، أنت سعيد لأنك حققت حلم الماضي، جذل لأنك امتلكت المرأة التي طلبتها قديما و ظللت طوال السنوات تتسائل إن كانت ستمنحك السعادة بالقدر الذي حلمت به، لكنك ما أن تعي بأنها ما هي الا مجرد امرأة حزينة و متشبعة بالألم، لا تمت لأي حلم بصلة، ستندم على تحديك لأهلك و تركك لبلدك و أرضك)
شدد ليث على كتفيها وهو يقول بصوت قوي هادىء.

(لا تحاولي اقناعي يا مليحة، كم من العمر متبقي كي أقضيه في محاولة اقناع نفسي من جديد أن فراقك لن يقتلني، انتهت كل الغايات، حين تكوني أنت المبتغى، لا أريد مكانة أو عزوة، عزوتي انت و مكانتي، هي أن أكون سيد قلبك بلا منازع)
ارتجفت شفتيها قليلا قبل أن تقول بقسوة مترددة
(أنت تتناسى ما أخبرتك به صباحا، انا لا مستقبل لي، فأنا لدي هدف أسعى خلفه).

ظل ليث صامتا بضعة لحظات قبل أن يرتفع حاجبيه ببطىء و اصابعه تدلك كتفيها برقة، لتجد شفتيه تبتسمان و كأنه يداعب طفلة صغيرة قائلا بنعومة.

(أن تقتلي؟، هل صدقا تتخيلين أنني سأسمح ليديك الجميلتين أن تتلوثان بلون الدم فتضيعين مني؟، لقد طال النقاش في هذا الأمر يا سوار، و بدأت أفكر أنني يجب أن أكون حازما معك و أخبرك، بأنه بإمكانك طلب فرسا كهدية، أو ربما عددا من العبائات الحريرية المشغولة يدويا، أو دعوة للعشاء في مكان عاطفي، و لو كنت أكثر تهذيبا، فقد أفكر في السفر معك لعطلة طويلة في مكان مثالي، ماذا عن مكان خاص جدا يمكنك ارتداء حلة سباحة، للمرة الأولى في حياتك دون أن يراك أحد!).

اتسعت عينا سوار و هي تستمع الى صوته الهادىء المداعب، و كأنه لحن ناعم بين الرصاص و المدافع المحيطة بهما، فهتفت بغضب وقسوة
(هل تسخر مني؟)
رفع كفه ليربت على وجنتها قائلا برقة
(بالطبع أسخر منك، ماذا تظنين!).

لمعت عينا سوار باحساس بالقهر و الغضب و كل أنواع التمرد، ممتزج برغبة دموية، فرفعت كفها لتقبض فجأة على أصابعه الملامسة لوجنتها، فأبعدتها و ابقتها في قبضتها أمام وجهها و هي تعتصرها بقوة، أكثر و أكثر، بينما شفتيها تشتدان في خط عنيف و عيناها تنظران الى عينيه بكل ما يعتمل بداخلها من هذا القهر المفاجىء و كأنه انتهك مسعاها في الحياة...

و كان ليث يراقب كل هذه الإنفعالات المرتسمة في عينيها، و لم يكن أعمى، بل كان بامكانه رؤية كل شعور خاص يمر على تلك الصفحة العسلية المتقدة...
فتركها تعتصر أصابعه بكل ما تستطيع من قوة، علها تستريح، ليت اصابعه قابلة للكسر على يديها، لما مانع، لكن للأسف مهما بلغت قوتها يظل هو أقوى...
ظلت سوار تعتصر اصابعه اكثر، و الألم في عينيها يتزايد، حتى قال بخفوت ما أن رق قلبه لها...

(هوني عليك حبيبتي، تلك العينين لم تخلق لكل هذه القسوة الظاهرة بهما الآن)
للحظات لم تستجب له سوار، بل ظلت على غضبها منه، الى أن هتفت أخيرا بعنف و هي تلقي بيده بعيدا، لتستدير، توليه ظهرها...
(تبا، تبا لك يا ليث)
ساد الصمت بينهما للحظة، قبل أن يقترب منها ليث ليمسك بكتفيها، فهتفت بقوة و غضب ممتزجة بالعجز
(ابتعد عني، لا أريدك أن تلمسني)
احنى ليث وجهه اليها حتى لامست شفتاه جانب عنقها ليقول بخفوت و تفهم.

(لكن أنا أريد لمسك، لمسك يشعرني بأنني عدت شابا، أمتلك قلب مراهق، اضناه العشق)
أغمضت عينيها و هتفت بمزيد من القهر
(لا، أنا يشعرني بالعكس، بالعجز)
ابتسم ليث وهو يهمس لها، يقبل أنها برقة
(هذه بداية جيدة)
هتفت سوار بقسوة
(بل النهاية)
أحاط ليث كتفيها بذراعه، من الأمام حتى قيدها لصدره و همس في أذنها بصوت أجش، قوي
(النهاية بالنسبة لك هي بداية حياتي، مهما كان ما تبقى لي من عمر، يوم، اثنان أو سنة).

أغمضت عينيها و هي تميل بوجهها الى الأمام، حتى استراحت بذقنها على ساعده القوي...
فتابع ليث بخفوت احش
(لما لا نعقد اتفاقا، حاولي القتل، و إن استطعت الإفلات مني لنيل مرادك، حينها أستحق فراقك، لأنني لم أجيد رعاية كنزي)
همست سوار بصوت أجش يماثل صوته و كأنه آت من أعماق حنجرتها
(أنت تتلاعب بي)
شدد ليث من قبضته عليها و زمجر في أذنها.

(أقسم بأنني لا أفعل، لدينا اتفاق يا مليحة، حاولي قدر استطاعتك غمس يديك في الدم، و سأكون من المبتلين لو سمحت لك بذلك، ما رأيك؟، لم تهربي قط من تحد بيننا، فهل وهنت قواك بعد هذه السنوات، كي تواجهيني في تحد جديد؟)
أخذت سوار نفسا قويا و هي تنظر أمامها بصلابة، ثم قالت بنبرة ذات بأس
(هل أنت جاد؟، سترفض شرطهم و تترك البلد، و أنت تعلم أنني سأفعل ما أنتويه عاجلا أو آجلا؟)
صحح لها ليث بقوة.

(ستحاولين، فارقا ضخما يفصل بين المحاولة و التنفيذ، هذا الفارق هو عشقي، فإما استطعت حمايتك من نفسك، و إما استحقيت فراقك)
زمت سوار شفتيها و هي تفكر في الأمر، ربما كان ما عليها هو أن ترفض مرافقته و تعود الى اهلها بصمت...

و حينها ستكون مطلقة، محررة من كل الأعراف و القيود، و مهما ضربت الحواجز و الجدران من حولها لإخفائها حتى يتناسى الجميع فضيحتها، ستتمكن من تجاوزها و الأخذ بثأرها، ثم تستلم لنهاية مريحة من حياتها...
تكلم ليث قبل أن تعلن رفضها فقال لها بخفوت
(هل تتخلين عني في هذا الموقف يا سوار؟)
ظلت صامتة بضع لحظات، قبل أن ترفع وجهها لتقول بهدوء.

(لم تتخلى عني مواجها الجميع، فهل اتخلى أنا عنك؟، سأكون معك خطوة بخطوة يا ليث، مهما كانت وجهتك، فأنا معك، الى أن يشاء الله)
ادارها ليث اليه بكل قوته يضمها الى صدره وهو يدمغ بشفتيه وجنتها، بقدر ما يشعر به في تلك اللحظة...
لم تكن قبلة، بل ظنت سوار أنه ما أن يبعد شفتيه عن وجنتها ستجد اسمه في وشم لا يزول...
همس لها فوق تلك الوجنة الرحبة.

(أحبك يا مليحة، أعشق صلابتك و قوة قلبك، أحبك يا من علمتها حمل السلاح، فأمضت المتبقي من عمرها تجرحني دون أن تدري، و همسة منها، تزول كل الآلام، أنا معك، اهمسيها مجددا، احتاج سماعها يا مليحة، )
أسبلت جفنيها و هي تقول بهدوء
(أنا معك)
شعرت بتنهيدته الحارة على فكها و عنقها، و كم شعرت بتعبه و ألمه من تلك التنهيدة...

و بكل ارادتها، رفعت ذراعيها لتحيط بهما كتفيه وهي تضمه اليها بقوة، تمنحه الراحة بعد أن أوشكت على كسر اصابعه منذ لحظات مع سبق الإصرار!
المرأة مخلوق يصعب فهمه، فقد تتمنى في لحظة هزيمة سيدها، رافضة الكلمة من أساسها...
تود التمرد عليها...
و في اللحظة الأخرى تضمه الى قلبها علها تريح من وجعه، حين يتحول الى طفل ذليل لا يرجو من العالم المؤلم سوى الإختباء بين ذراعي مليكته...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة