قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والثلاثون

أسرعت تلملم المتبقي من أغراضها الخاصة على طاولة الزينة، حي يرحلا من هنا...
فلقد تأخرا جدا بالفعل و لا تعلم أي وسيلة مواصلات سيستقلاها...
لقد وقعت العقد قائلة
أنا معك، و تركت له أمر القيادة...
رفعت سوار عينيها تنظر الى صورتها في المرآة و هي تتحقق مما حدث...
هل كانا من الجنون بحيث تشاركا أكثر اللحظات حميمية، بين كل هذا الخراب!
لم ترفضه و لم تحاول حتى...

كل ذرة احساس بداخلها أخبرتها كم هو محتاج الى هذا التقارب و في هذا الوقت تحديدا...
لم يكن ما مر به هينا، و كل ما أراده هو السكون بين ذراعيها ناسيا نفسه في لحظات مجنونة، كي يتابع تنفيذ قراره بالإبتعاد...
و قد فعلت هي، منحته ما يحتاج بصبر و حنان، شكت أنها كانت تمتلكه من قبل...
و حين ابتعد عنها، رأت في عينيه عزما و صلابة يتجددان و كأنها بثت فيه روحا من القوة دون أن تدري...

كان تقاربهما غريبا، لا خجل او ابتسامات، لا همسات غزل، أو ضحكات...
بل كان قويل و صوته في أذنها أجشا
أحتاجك، هزت سوار رأسها بقوة كي تتخلص من تلك الصورة حاليا، فلا وقت لديهما، فأخفضت رأسها تجمع حاجاتها. الى أن تسمرت أصابعها فجأة على شيء ما...
انعقد حاجبيها قليلا و هي تتحقق منه، كانت فرشاة شعرها الذهبية التي أعطتها لنسيم...
أعيدت مكانها بين أغراضها الخاصة!

مدت سوار أصابعها لتمسك بالفرشاة و هي تتلمسها قائلة بخفوت
(ما اللذي)
صمتت و هي ترفع وجهها من جديد تنظر الى عينيها المدركتين لرائحة الخيانة، قبل حتى أن تتم سؤالها...
لكن و قبل أن تتخذ أي رد فعل، دخل ليث الى الغرفة وهو يرتدي كامل ملابسه قائلا بقوة
(هل انتهيت يا سوار؟)
رفعت سوار وجهها و هي تستدير اليه، الا أن صوتا من خلفه قال لاهثا
(سيدة سوار، أه، آسفة سيد ليث، لم أكن أعرف انك هنا).

استدار ليث لينظر الى أم مبروك من خلفه وهو يقول بهدوء
(ما الأمر يا أم مبروك؟)
بدت أم مبروك مترددة و هي ترى ليث و سوار في كامل ملابسهما و كأنهما ينويان الخروج أو السفر في مثل هذه الساعة، الا أنها قالت بقلق.

(آسفة لإقتحامي جناحكما بهذه الصورة، لكن شعرت بالقلق، الفتاة نسيم، كان من المفترض أن تبيت الليلة هنا، الا أنها ليست موجودة، مخدعها خال و بحثت عنها في كل أرجاء الدار و لم أجدها، و بعد بحث أكبر و جدت أنها قد أخذت كل أغراضها التي كانت قد تركت بعضا منها هنا، لذا توجب على اخبارك، فهي أمانة لدينا و لو اختفت هكذا ليلا حتى ولو بارادتها الخاصة، تظل مسؤوليتنا).

لم يرد ليث، بل علا وجهه تعبير غريب، قبل ان يرفع عينيه الى سوار بصمت و هي أسبلت جفنيها تنظر الى الفرشاة في يدها، لم يعد بمقدورها الدفاع عنها الآن، فقد استنتج ليث الأمر دون حاجة للكلام...
لقد أفشت سرا سمعته، و من شأنه تشويه سمعة و عرض ليث الهلالي، أي أنها هالكة لا محالة...
علي قدر شعور سوار بوخز الخيانة و الغدر المرير، الا أنها لا تتمنى لتلك الفتاة أن تسقط بين يدي ليث رغم كل شيء...

كانت تعلم أنها جاسوسة خاصة لميسرة، و قد استغلتها بدورها، لكنها لم تظن أنها ستطلع على سر ما اقترفه راجح و تحوره بتلك الصورة الوضيعة، أو ربما...
رفعت سوار و هي تحادث نفسها بنبرة سوداء قاتمة
بالطبع، بالطبع التحوير القذر كان من تأليف ميسرة، تكلم ليث أخيرا قائلا بقوة
(سأجدها يا أم مبروك، بل سيكون ايجادها هو شغلي الشاغل من اليوم، فهي مدينة لي بالكثير).

(سأجدها يا أم مبروك، بل سيكون ايجادها هو شغلي الشاغل من اليوم، فهي مدينة لي بالكثير)
ارتفع حاجبي أم مبروك بقلق أكبر و هي تنقل عينيها بينهما، قبل أن تهتف ضاربة صدرها بكفها
(مدينة بماذا؟، هل سرقت منكما شيئا التعيسة؟)
رد ليث بقسوة
(سرقت شيئا، لا يمكنها أعادته)
فغرت أم مبروك شفتيها برعب، بينما تدخلت سوار و هي تقول بهدوء
(اتركينا قليلا يا أم مبروك).

سارعت أم مبروك بالإيماء و هي تتراجع، الى أن أغقلت سوار الباب، ثم رفعت وجهها لترى الملامح المخيفة التي ارتسمت على وجه ليث، فقالت بخفوت دون مقدمات، محاولة أن تنقذ الفتاة من بطشه
(أعرف فيما تفكر، مقروء على وجهك بوضوح، لكننا لا نعرف ان كانت قد رحلت بالفعل لأنها هي من أفشت السر و أطلقت الشائعة)
هدر ليث فجأة لدرجة ان انتفضت سوار
(من غيرها اذن! و لماذا هربت الليلة تحديدا؟)
قالت سوار محاولة التظاهر بالهدوء.

(نحن لا نعلم بعد، و لن نقرر شيء بناءا على ظنون، فهذا أمر خطير)
هدر ليث و قد احمرت عروق عنقه و برزت
(لن أرحمها لو ثبت لي أنها هي من)
اقتربت سوار منه و أمسكت بكفه، و قالت تقاطعه بصلابة
(هيا لنغادر لقد تأخرنا جدا)
رفع ليث عينيه اليها، قبل أن يمسك بكفها المتمسكة بيده ليقول بصوت قاطع
(سوار، انتظريني هنا، يجب أن اذهب لميسرة)
تسمرت سوار مكانها و هي تنظر اليه بعدم فهم، ثم قالت عاقدة حاجبيها
(ميسرة! الآن؟).

نظر اليها ليث بصمت، قبل أن يقول بصوت بطيء كي تستوعب
(هي لا تزال زوجتي، و إن أرادت، سيتعين على اصطحابها معنا، ففي النهاية هي ليس لها ذنب فيما حدث)
ارتفع حاجبي سوار، قبل أن تسحب يدها من كفيه ببطىء و، تتراجع خطوة...

تحركت في الرواق الطويل، مرفوعة الرأس بأناقة و هي تواجه يوما جديدا و كأن شيئا لم يكن بالأمس...
حين استيقظت من النوم اليوم، اهتمت بنفسها و شكلها بكل امكانياتها، حتى بدت بهجة للنظر...
حانت منها نظرة الى آخر الرواق، فوجدته هناك واقفا ينظر اليها مبتسما و كأنه هو الآخر قد تفاجأ برؤيتها بنفس الرواق...

رفعت مسك احدى حاجبيها، الا أنها حافظت على اتزانها و تابعت طريقها بكل بساطة و أناقة و كأن رؤيته لم تؤثر بها مطلقا...
بينما كان هو قد توقف مكانه ينتظرها، ليراقب خطواتها و هي تقترب، دون أن تختفي الإبتسامة عن وجهه.

شعرت مسك بالغيظ من وقفته الوقحة و ابتسامته الأكثر وقاحة وهو يراقبها، الا أنها لم تظهر شيئا من امتعاضها و تابعت طريقها بهدوء الى أن و صلت اليه، حينها بدا واضحا تماما للأعمى أنها ستتجاهله متعمدة...
لذا كان أسرع منها فاعترض طريقها عن قصد، الا أنها لم تجفل، بل تحركت يمينا بكل بساطة تنوي تجاوزه مجددا، فأسرع و تتبع خطوتها كي يعترضها مرة أخرى...

لم تجفل مسك، بل ابتعدت يسارا، عله ييأس منها الا أنه كرر خطوته و مجددا كان اسرع منها فاعترض طريقها للمرة الثالثة، توقفت مسك و هي تكتف ذراعيها، رافعة وجهها و حاجبها اليه منتظرة، حينها وقف و ابتسم اكثر، قبل أن يقول بهدوء و تهذيب
(هل انتهيت؟، يمكنني ملاحقة خطواتك حتى نهاية النهار، فأنا اليوم متفرغ للعب معك).

لم تتغير ملامحها، حتى الحاجب المستفز المرتفع، لم تخفضه، بل ظلت واقفة مكانها و هي تنظر اليه بتعالي لتقول ببرود
(أما أنا فاعذرني، لست متفرغة للعب معك، فهلا تحليت ببعض الذوق و تنحيت جانبا كي أمر)
رفع حاجبا محاولا تقليد حاجبها المستفز، الا أنه كان اكثر براءة و مرحا، لم يماثل حاجبها المستفز ذو الكبرياء الرائع في ذات الوقت...
فقال بخبث وهو يميل اليها قليلا دون أن يقترب منها.

(الجميل غاضب مني، ترى لما؟، كان من المفترض أن أكون أنا الغاضب لا أنت)
فكت مسك ذراعيها و هي تستقيم رافعة ذقنها لتقول برسمية
(أنا لا أقبل بكلمة الجميل تلك)
ضحك أمجد بهدوء فازدادت غمازته عمقا من تحت لحيته الشقراء الداكنة، و للحظة شردت عيناها في تلك الغمازة الخبيثة، الا أنها رمشت بعينيها كي تبعد نظرها عنها، ثم قالت ببرود
(هل لي أن أعرف سبب هذا الضحك؟)
قال أمجد بمرح.

(لأنك مضحكة جدا برسميتك اليوم، ما العيب من أن ألقب خطيبتي بأي لقب أريد؟، لولا الظروف لكنا نحتفل في مكتبي اليوم بخطبتنا)
عادت مسك لتكتف ذراعيها و هي تقول بقوة
(لا هذا ليس صحيحا، لم نكن لنحتفل بعد لأنني لم أقابل أسرتك بعد، و أنا مصرة)
ابتسم أمجد بحنان وهو يقول
(و أنا مصر أكثر منك، فبيتنا المتواضع سينير بوجودك يا ألمظ).

اتسعت عيناها و هي تكاد أن تنفجر غيظا، الا أنها همست من بين أسنانها تكاد أن تحطمها من شدة ضغطها عليها
(لا، تلقبني، بألمظ)
ابتسم أمجد أكثر، قبل أن يقول بهدوء
(اذن سأناديك ألماس)
فتحت مسك فمها تنوي الإعتراض، الا أن أمجد كان أسرع منها فقال بجدية
(حقي أن أناديك بما أحب، و لن أقبل اعتراض، فكي تعنتك قليلا و كفي عن اتخاذ دور القفل الصدىء)
زفرت مسك نفسا غاضبا و هي تقول
(أنت تتمادى في اهاناتك).

ارتفع حاجبيه وهو يقول مقتربا منها خطوة
(أنا اهينك! لا عاش و لا كان من يهين الجميل)
زمت مسك شفتيها و هي تقول ببرود
(عن اذنك، فمن الواضح أنك رائق البال اليوم و أنا لست كذلك)
أعترض أمجد طريقها مجددا وهو يقول ببساطة، سعيدا و مبتسما
(لما لا أكون رائق البال، فلقد خطبت ليلة أمس، ولولا الظروف لرقصت بالعصا، لقد سبق و فعلتها في حفل زفاف شقيقتي مهجة، )
فغرت مسك شفتيها قبل أن تقول بصوت هادىء.

(يا رجل هل أنت مغيب عن الواقع تماما! أي خطبة التي تتكلم عنها؟ لقد تم رفضك ليلة أمس!)
اتسعت ابتسامة أمجد وهو يقول بصوت عميق سعيد
(بالفعل كنت غاضبا ثائرا بعد أن تم رفضي ليلة أمس، لكن بعد اتصال واحد لمحاربتي، علمت أنها لم تستسلم، و هي لا تزال موافقة، لذا أنا متأكد من أنها أكثر من قادرة على تغيير رأي والدها، خاصة أنني رجل لا يرفض بسهولة بصراحة)
مطت مسك شفتيها و هي تقول ببرود.

(لقد تم رفضك من أول عشر دقائق بعد جلوسك)
عقد أمجد حاجبيه وهو يقول بنفاذ صبر
(أنت حقا أكثر خطيبة مستفزة في الكون يا ألمظ، لماذا لا تحمر وجنتاك من الكلام كباقي الخطيبات.؟)
رفعت مسك اصابعها تعدد عليها لتقول بغيظ
(أولا أنا لست خطيبتك بعد، ثانيا وجنتاي لا تتوردان بسهولة فلا تنتظر، ثالثا وهو الأهم توقف عن مناداتي باسم ألمظ، لا أطيقه)
ابتسم أمجد بهدوء قبل أن يقول برقة.

(أولا، أنت خطيبتي، المسألة مسألة وقت ليس الا، ثانيا أنا سأتمكن من جعل التورد يغزو برد وجنتيك فقط امهليني الى أن تصبحي زوجتي، ثالثا وهو الأهم ألمظ يليق بك تماما، لا أعلم سر غضبك منه)
زفرت مسك بقوة و هي تقول بايجاز، رافضة أن تستسلم لاستفزازه، اللذيذ...
(عن اذنك)
الا أن أمجد قاطعها و كأنه لم يسمعها.

(بالمناسبة، هل أعجبك قالب الكعك الذي أحضرته؟، لا أعلم ذوقك بعد، لكني أحضرته بالقرفة و الفراولة و الشوكولاه)
رفعت وجهها و قالت ببساطة، (لم أتذوقه بعد، أخشى أن يعجبني فاضطر لأكله كله و أنا مضطرة للمحافظة على وزني بأمر من الطبيب المشرف على حالتي، فزيادة الوزن ليست مفضلة بالنسبة لي)
تراجع أمجد خطوة، بينما تراجعت كل علامات المرح عن وجهه، و ظهر الخوف في عينيه.

هذه اللمحة من الخوف جعلتها تشعر بضعف غير مرغوب به...
لا، لا، لا تريد أن تشعر بالضعف أو الإمتنان لخوفه، فهي لا تطيق هذا الشعور...
لذا سارعت بدفنه عميقا و هي تبتسم بأناقة قائلة
(سأذهب الى عملي الآن، لكن قبل أن اذهب، إن كان الغد مناسب لك، فسوف أخصكم بزيارة بعد الدوام، أنتظر ردك آخر النهار)
تحركت لتبتعد عدة خطوات، الا أنها توقفت فجأة، ثم استدارت اليه لتقول بجدية صلبة.

(أمجد، تلك النبرة التي خاطبتني بها ليلة امس في الهاتف، لا أود سماعها مجددا، لأنني لن أقبل بها المرة القادمة، ان تم ارتباطنا)
و دون أن تنتظر رده استدارت و تابعت طريقها بهدوء و كبرياء، بينما وقف أمجد يراقبها الى أن اختفت بملامح صامتة، كئيبة، قبل أن يهمس لنفسه
صخور متراكمة من الألم، من أين أبدا لأزيحها عن قلبك؟، من أين؟،.

رفع أمجد وجهه غاضبا، مستنكرا وهو يقول بحدة مواجها ثلاثة من أعضاء مجلس الإدارة، من بينهم سالم الرافعي
(أعلم أنني سمعت عن الأمر مسبقا، لكنني لم أتخيل أن يتم اقراره بالفعل، هذا أكثر قرار متعسف سمعت به هنا في العمل)
ارتفع حاجبي أحد الرؤساء و حاول الكلام، الا أن سالم الرافعي رفع كفه وهو يقول بهدوء
(بعد اذنك، أنا سأتولى الكلام)
ثم التفت الى أمجد يقول بنفس الهدوء رغم الرنة الباردة التي تشوب نبرته.

(لا أفهم سر انفعالك يا أمجد، مسك مستقبلها الحقيقي في الخارج، و منصبها أكبر فما الذي يغضبك الى هذا الحد من تركها للعمل، خاصة و أنني كنت ملاحظا رفضك المستمر لكل اقتراح تقترحه في بداية عملها هنا)
هز أمجد رأسه ساخرا، محاولا السيطرة على انفعاله...
سالم الرافعي يقصد احراجه، يريد اظهار أنه غير رأيه تماما، لمجرد رغبته في الإرتباط بها، و انه لن يستطيع الإعتراف بالأمر...

لكنه لن يقع في هذا الفخ بسهولة، لذا رفع وجهه و قال دون أن يهتز صوته أو ترف عينيه
(اولا يا سيد سالم، مسك لا تنوي السفر و لن تفعل، فهي بنفسها سبق و أخبرتني بهذا، حتى و إن تم صرفها من العمل، لذا الأمر منتهى من هذه النقطة، ثانيا رفضي لاقتراح من قراراتها كان مبنيا على وجهة نظر معينة، لا لمجرد الرفض ليس الا، ثم أنها أثبتت كفاءة منقطعة النظير في عملها، فكيف يتم صرفها دون ابداء اسباب رسمية؟).

قال سالم بصوت صارم مشتد النبرات، الى حد التسلط و كانت المرة الأولى التي يخاطب فيها أمجد بهذه النبرة، لطالما احترمه الى أن تقاطع طريقه مع طريق مسك...
(إن كانت صاحبة الشأن لم تعترض، فلماذا نبدي لك أسباب رسمية؟)
قال أمجد بصوت لا يأبه بشيء او أحد
(صاحبة الشأن لم تعترض لان القرار صادر رأسا من والدها، فما الذي بإمكانها فعله؟)
احتد سالم وهو يقول غاضبا
(لقد تجاوزت حدودك يا أمجد).

الا أنه صمت ما أن سمع طرقا على باب غرفة الإجتماعات، قبل أن تدخل غدير، فاتجهت الى سالم مباشرة و هي تقول بتهذيب
(أوراق المشروع التي طلبتها، سيد سالم)
لوح سالم بكفه وهو يقول بتعالي
(ضعيها هنا و انصرفي)
امتقع وجه غدير بشدة من تلك النبرة التي يخاطبها بها سالم، منذ أن تزوجت أشرف وهو يتعمد التحقير من شأنها أمام الجميع...

حتى أنها كانت شبه متأكدة من أنه لم يصرفها من العمل لمجرد أن يذلها باستمرار أمام الجميع...
و هي من جانبها فكرت في ترك العمل أكثر من مرة، خاصة و أنها لم تعد في حاجة اليه، لكنها كانت تتراجع كلما فكرت في...
توقفت عن التفكير و هي تنظر الى أمجد المتجهم بنظرة ذات حسرة...

كم هو قريب الى القلب، حتى في غضبه و تجهمه، و كم تلاعب بها أمل طفولي في تلك اللحظة في أن ينفعل أمجد و يدافع عنها كي لا يخاطبها أحد بتلك الصورة مجددا...
و كأن أمجد سمع أملها الصامت فنهض من مكانه فجأة منفعلا و قد فقد صبره، لكن ما لم تتخيله هو أن ينفعل قائلا.

(منذ أشهر، وقفت أمام المجلس ضد اقتراح مسك نفسها بصرف عدد من عمال الشركة و المصنع حتى تم التراجع عن هذا الإقتراح، و اليوم أنا اقف أمام المجلس لنفس السبب، أنا أرفض صرف مسك الرافعي من الشركة طالما أنها لم تتقدم باستقالتها، و إن تم صرفها تعسفيا فأنا منسحب من الشركة بأكملها)
اتسعت أعين الجميع ذهولا، و كانت عينا غدير الأكثر اتساعا و، صدمة، فهمست بعدم تصديق
(تترك عملك دفاعا عنها!).

لكن أحدا لم يسمعها، وهم يراقبون أمجد الذي خرج مندفعا من القاعة متجاوزا غدير، التي لم يراها أصلا...

اندفعت غدير الى غرفة السيدات و غير قادرة على السيطرة على دموعها أكثر...
فدخلت الى أول غرفة و أغلقت الباب خلفها تاركة لدموعها العنان...
كانت تشهق باكية بعنف و هي تهمس
لم يراني حتى! لم يسمع صوتي! غامت عيناها بعذاب و هي تتذكر بداية عملها في الشركة، لقد لفتت نظره منذ الوهلة الأولى و كم كانت سعيدة بذلك...
كفتاة تجد مثل هذا الإهتمام من رجل مثله، من الطبيعي أن تشعر بالزهو...

الا أنها كانت قد سبق و ارتبطت بأشرف في هذا الوقت، لذا اكتفت بأن تتمتع بهذا التقارب الذي بدأ يتزايد أسرع مما ظنت...
كانت كلما دخلت القاعة كما فعلت منذ قليل، تلاحقها عيناه، اينما تحركت، و هي توزع الأوراق و تنهض لتحضر أي شيء يأمر به أحد رؤساء مجلس الإدارة...

لا تزال تتذكر تلك المرة حين كانت كل المقاعد محجوزة و كان يتعين عليها التواجد كي تسجل محضر الإجتماع، خرجت لتحضر مقعدا ضخما، الا أنها فوجئت بأمجد يتبعها ليحمله عنها و هو يبتسم لها أجمل ابتسامة سبق و رأتها من رجل على الإطلاق...
و من يومها وهو يحاول التقرب منها، كان مجبا بتحفظها و ترددها في التعارف...
أخبرها مرة أنه مفتون باحمرار وجنتيها، فجرت من أمامه بارتباك...

هي ليست سيئة، لقد حاولت مقاومة اعجابه بشتى الوسائل، لكن هو من كام مصمما على الإقتراب، الى أن عرض عليها الزواج ذات يوم، و كان هذا اكثر الأيام التي بكت فيها كما لم تبكي من قبل، دون ان تعترف لنفسها بأنها قد بدأت تقع في حبه بالفعل...
كيف استطاع نسيان افتتانه بها بمثل هذه السرعة؟
كيف يمكنه أن يتنازل عن عمله و أبوته لأجل مسك الرافعي بهذه البساطة؟
رفعت وجهها فجأة و هي تصرخ عاليا باكية.

(ماذا تمتلك و لا أملكه أنا؟، لماذا)
صمتت فجأة و هي تشهق باكية بعنف، قبل أن تشعر بدوار حاد و ألم شديد أسفل بطنها، فأخفضت عينيها لترى بقعة حمراء قانية أخذت تنتشر و تتوسع على فستانها الأبيض ببطىء، بينما هي تنظر اليها بذهول
إنه ثاني حمل يضيع منها!

فتح أمجد باب مكتب مسك و دخل دون استئذان، متجهم الوجه و الإنفعال يسيطر عليه بوضوح...
رفعت وجهها تنظر اليه قبل أن تهز رأسها يأسا و هي تقول
(يئست من تذكيرك بطرق الباب)
لم يرد أمجد و لم يبتسم و يداعبها مستفزا كعادته، بل قال بنبرة صارمة فظة
(ماذا تفعلين؟)
أخفضت و جهها و تابعت وضع أغراضها الخاصة في صندوق أنيق و هي تقول بهدوء
(كما ترى، أجمع أغراضي الخاصة، فلقد تم اعلامي بصرفي من العمل بلا رجعة).

هتف أمجد بتجهم و غضب
(اتركي ما بيدك و القي بهذا الصندوق بعيدا، لا مزيد من هذه التراهات، لن تتركي عملك)
ابتسمت مسك و هي ترفع وجهها لتنظر اليها قائلة بسخرية
(لم أتركه، بل تم صرفي من العمل)
قال أمجد بنبرة قاطعة خشنة
(لن يتم صرفك، لقد ناقشت هذا الأمر بكل صرامة في اجتماع مصغر للتو و هددت بترك العمل ان تم صرفك)
رفعت مسك وجهها و هي تنظر اليه بعينين واسعتين لتهتف بذهول.

(فعلت ماذا؟، هل أنت مجنون؟ كيف تتصرف بمثل هذه الحماقة؟)
ازداد تجهم أمجد وهو يقول بجمود مفاجىء
(حماقة!)
أومأت مسك و هي تهتف دون تردد
(بالطبع حماقة، كيف تترك عملك لأجل أي شخص كان؟)
وقف أمجد مكانه ينظر اليها بصمت، متجهم الملامح ثم قال بهدوء
(لن أتركه لأجل أي شخص كان، سأتركه لأجلك أنت)
هتفت مسك بغضب مفاجىء.

(و لا لأجلي أنا، كيف يمكنك أن تكون على هذا القدر من عدم المسؤولية، فتقدم اعتبارات عاطفية تافهة على عملك، رزقك، هدفك و طموحك)
رد أمجد بخفوت وهو ينظر الى عينيها
(اعتبارات عاطفية تافهة!)
تأففت مسك بصوت عال و هي تقول بنفاذ صبر
(توقف عن تكرار كل ما اقوله)
رفع أمجد ذقنه ليقول بهدوء بارد قليلا...

(الرزق من عند لله، و ليس من عندهم، أما عن طموحي و هدفي، فهما ملك لي، و ليس لهم، سأرحل بهما و أبدا بمكان آخر، بامكان الانسان أن يفقد عملا دون أن يفقد نفسه، فقد النفس، هو ما لا يعوض)
أغمضت مسك عينيها و هي تقول من بين أسنانها
(توقف عن التفلسف بالله عليك و كن واقعيا)
تحرك أمجد أمامها ببطىء وهو ينظر اليها متأملا قائلا
(ظننت أنني واقعيا بالفعل)
هتفت مسك بعدم رضا
(لست تمتلك أدنى قدر من الواقعية).

صمتت للحظة و هي تلتقط أنفاسها قبل أن ترفع وجهها لتقول بجمود بارد
(اسمعني جيدا يا أمجد، إن رغبت في اتمام ارتباطك بي، فعليك أن تدرك أولا بأنني أريد زوجا واقعيا، يحكم عقله قبل أي شيء و يترك عواطفه جانبا، اعتبر هذا شرطا)
ضاقت عينا أمجد وهو يراقبها بصمت، ثم قال أخيرا بصوت غامض غير مفهوم
(موعدنا غدا ان شاء الله، سأقلك الى بيتنا بنفسي)
فتحت فمها لتعترض بقوة
(لا تتعب نفسك، أنا سآتي بنفسي)
قال أمجد ببرود مختصر.

(كما تشائين)
بدت كلماته باردة بدرجة أحرجتها، ففتحت فمها تنوي منحه فرصة أخيرة للتراجع قبل فوات الأوان...
، الا أنه كان قد خرج و أغلق باب المكتب خلفه بهدوء، بينما ظلت مسك واقفة تتنهد بعدم رضا، لا تعلم إن كان عنه، أم عن نفسها...

قالت أخته باستياء و هي تقتحم غرفته دون استئذان
(لا أفهم سبب تلك الزيارة الغريبة؟، انها المرة لأولى التي أسمع فيها بفتاة تتقدم لخطبة رجل!)
زفر أمجد وهو يقول أثناء غلقه لأزرار قميصه بتوتر
(كم مرة نبهتك لضرورة طرق الباب قبل دخول غرفتي يا مهجة؟)
ارتفع حاجبيها، قبل أن تضع كفا على أخرى و هي تقول بعدم تصديق
(منذ متى ان شاء الله! طوال عمري و أنا أدخل غرفتك دون اذن).

قال أمجد وهو يجلس على حافة السرير كي يرتدي جواربه و حذائه...
(لكل شيء بداية. ماذا لو لم أكن محتشم الملبس، سيكون موقفك كورقة مبتلة ملتصقة على الحائط)
مطت مهجة شفتيها و هي تضرب كفا على كف مجددا قائلة بامتعاض
(دائما أعرف الوقت الذي تستغرقه في ارتداء ملابسك، ثم أدخل بعدها، و لم يحدث ما قلت عليه من قبل)
قال أمجد ببساطة
(لكل شيء بداية، افترضي إن حدث)
اندفعت لتجلس بجواره و هي تقول بحدة و انفعال.

(أنت تتغير يا أمجد، و أنا لست متفائلة بهذا، اليوم سأضطر الى طرق بابك، ترى ما الذي سأكون مجبرة على فعله غدا؟، الا ترى أنها بدأت تؤثر عليك سلبا؟)
رفع أمجد وجهه اليها ليقول بدهشة
(كل هذا لأنني أشرح لك مخاطر الدخول دون طرق الباب؟، اهتدي بالله يا مهجة و لا تتحاملي عيها)
هزت مهجة رأسها و هي تقول بحدة
(أنا لست متحاملة عليها مطلقا، بل على العكس أنا أشفق عليها جدا لكن)
استدار أمجد اليها ليقول منفعلا يقاطعها.

(لا بالله عليك يا مهجة، اياك و عبارة الشفقة تلك، إنها تتحسس من هذه الكلمات جدا و لا تقبل بها)
ارتفع حاجبي مهجة أكثر و أكثر و هي تقول بذهول
(أمجد! أنت تدور في فلكها، ما الذي أصابك؟)
أخذ أمجد نفسا عميقا وهو يقول بصبر
(رجاءا يا مهجة، فقط تعاملي معها بعفوية، كصديقة تراعين مشاعرها، فهل أطلب الكثير؟)
نهضت مهجة من مكانها، لتكتف ذراعيها قائلة باستياء
(هي ليست صديقتي، و لن تكون).

نهض أمجد من مكانه ناظرا اليها بدهشة، قبل أن يقول محتدا
(لماذا؟، ماذا فعلت لك يا مهجة؟، لماذا ترفضين التقرب اليها؟)
استدارت مهجة تنظر اليه ثم قالت بحدة و دون تردد
(أتريد أن تعرف لماذا؟، لأنها أنانية، أنا و أنت و أمك و هي، جميعنا نعرف أنها أنانية في قبولها الزواج منك)
فتح أمجد فمه ليرد عليها الا أن رنين الباب قاطعه، فزم شفتيه وهو يرمق أخته بنظرات قاتمة، ليقول بعدها بايجاز.

(لقد وصلت، رجاءا يا مهجة احتفظي برأيك لنفسك، هي لا ينقصها الألم كي أتسبب أنا لها في المزيد منه أو أي أحد من طرفي)
و دون انتظار لردها، خرج ليفتح الباب لمسك...
نظر في ساعة معصمه و ابتسم، كم هي دقيقة المواعيد! بالدقيقة، دون تأخير أو تقديم...
فتح الباب و اتسعت ابتسامته، وهو يراها واقفة بالباب، ممكسة بمزهرية مذهبة تحمل ورودا ضخمة مجففة و بعضها مطلي بالذهب...
فقال برقة وهو يتأملها مليا
(أهلا).

ابتسمت مسك ابتسامة أنيقة و هي تقول
(ظننتك لا تريد استقبالي، فأنت لم تكلمني كلمة واحدة منذ أمس)
لم تختفي ابتسامة أمجد عن شفتيه وهو يقول بخفوت
(لم أظنك قد لاحظت)
رفعت مسك الحاجب المستفز و هي تقول
(بل لاحظت، حتى أنني ظننت أنك صرفت نظر عن هذه الزيجة بأكملها)
قال أمجد بخفوت، مؤكدا
(لن أصرف نظر الا حين تتوقف عيني عن النظر لجمالك، و لا أظن أن هذا سيحدث).

أسلبت مسك جفنيها و هي تطرق بوجهها و قد فقدت ابتسامتها و بدت مرتبكة قليلا، بينما تابع أمجد قائلا
(ترى لو أخبرتك أنك أجمل من الورود الذهبية التي تحملينها، فهل تعد هذه وقاحة مني؟)
زمت مسك شفتيها و هي تقول متجنبة النظر اليه
(في الواقع نعم، و أنا لن أدخل الى بيتك الا بعد أن أتأكد من وجود أسرتك)
ضحك أمجد بخفوت دون أن يرد، بينما تعالى صوت أمه من الداخل مناديا.

(من بالباب يا أمجد؟، هل وصلت خطيبتك أم أنه صبي توصيل الحلوى من المتجر؟)
ابتسم أمجد وهو يقول بهدوء
(وصلت قبل أن تصل الحلوى التي من المفترض أن نقدمها لك، لكن لا أمانع من البدء بك يا حلوى البندق)
زفرت مسك بضيق و هي تقول
(انت تتمادى مجددا، هل ستسمح لي بالدخول أم أنادي على أمك كي تدخلني بنفسها؟)
ارتفع حاجبيه وهو يقول مبتسما
(هل ستجرؤين على هذا؟)...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة