قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والثلاثون

ارتفع حاجبيه وهو يقول مبتسما
(هل ستجرؤين على هذا؟)...
تحدته مسك بنظراتها الهادئة، قبل أن ترفع صوتها فجأة و دون مقدمات لدرجة أن أجفل أمجد
(أنها أنا يا أم أمجد، مسك الرافعي، و ابنك يقف بالباب يمنعني من الدخول)
اتسعت عينا أمجد، بينما هتفت أمه من الداخل بحرج
(ياللعيب! أدخلها يا أمجد و احترم نفسك)
ابتسمت مسك بجذل حتى ظهر الخطين العميقين أعلى شفتيها و هي تقول بخفوت.

(احترم نفسك، ها أنا ذا و أمك نتشارك شيئا)
تنحى أمجد جانبا وهو ينظر اليها مبتسما ابتسامة عميقة، و ما أن مرت به حتى همس في اذنها
(أنت لطيفة جدا اليوم، ترى هل هي بشرى للخير؟)
رفعت مسك وجهها تنظر اليه، قبل أن تقول بهوء خافت
(بل محاولة للتخفيف عن فظاظتي بالأمس، كنت تدافع عني، و بالرغم من ذلك، نقلت لك وجهة نظري بطريقة سيئة)
أغلق أمجد الباب، ثم استدار اليها ليقول بجدية وهو ينظر الى عينيها.

(أملت أن تكوني قد غيرت وجهة نظرك من الأساس)
نظرت الى عينيه بضعة لحظات قبل أن تهز رأسها نفيا بصمت، ثم قالت بخفوت
(لا، لم أغيره)
أخذ أمجد نفسا طويلا، مثقلا قبل أن يشير بيده ليقول بهدوء
(تفضلي للداخل، لكن هات أولا هذه الشجرة التي تحملينها، سنزرعها جانبا)
مطت مسك شفتيها و هي تقول بامتعاض
(لطيف جدا).

لم يرد أمجد وهو يراقب أناقتها في تنورة طويلة ضيقة تصل الى كاحليها فوق حذاء بكعب عال و عنق متوسط الطول، مع كنزة طويلة كذلك، فبدت لا تزيد عن طالبة جامعية، بسيطة و أنيقة في ذات الوقت...
بعد دقائق كانت مسك تنظر الى والدة أمجد، و أخته مهجة...
و بنظرة شاملة استطاعت أن تلمح نظرات البؤس على وجهيهما، فأخذت نفسا عميقا قبل أن تسمع والدته تقول بهدوء
(أنرت البيت يا ابنتي).

ابتسمت مسك ابتسامة باردة قليلا و هي تجيب بخفوت
(بنورك، أشكرك)
تكلمت مهجة، دون ترحيب جدي
(عرفت من أمجد أن لك أخت، فلماذا لم نتشرف بحضورها معك؟)
نظرت مسك الى عيني مهجة و قرأت بهما الرفض الواضح لهذه الزيجة، لذا ارتدت أكثر ابتساماتها برودا و صلفا و هي تقول بتعالي
(أختي ليست متفرغة لي كي أسحبها خلفي في كل مكان، و عامة لقد أتيت اليوم كي أتكلم مع والدتك قليلا)
قالت مهجة باقتضاب و تحفز.

(والدتي فقط! و ليس أنا؟، لو كنت أعلم لما حضرت اليوم، كي أترك لكما المساحة لتتحدثا بحرية)
قال أمجد بصوت قاطع، محذر ا
(مهجة، خففي من ثقل مزاحك، فمسك لم تعتده بعد)
زمت مهجة شفتيها بقوة، بينما قالت مسك ببساطة، ترد عليها
(أرغب في التعرف اليك بالطبع، أما الكلام الهام، فهو مع والدتك فقط)
لمعت عينا مهجة بكره اشتعل بهما فجأة، و ساد صمت مشحون بينما قالت أم أمجد بخوف و قلق من التوتر المنتشر في الجو.

(شرفت، شرفت حبيبتي)
نظرت اليها مسك لتقول برزانة
(شكرا)
استمر الصمت لبضعة لحظات، الى ان دخلت كريمة، تلك الصغيرة التي تتعثر في خطواتها...
لاحقتها مسك بعينيها تلقائيا، بينما قالت مهجة و هي تمد ذراعيها
(تعالي لماما حبيبتي)
الا أن كريمة اتجهت الى أمجد الذي تلقاها بين ذراعيه ضاحكا وهو يرفعها ليقول مخاطبا مسك...
(هذه كريمة، القطعة الأغلى و الألذ و الأجمل في هذه الأسرة، ابنة مهجة الصغرى).

أومأت مسك برأسها دون أن تجيب، بينما كانت تراقبه بصمت و هو يدغدغ الطفلة بأنفه في بطنها...
لقد زادت وسامته أضعافا وهو يداعب تلك الطفلة، حتى ان غمازته اختلفت شكلا و كأنه يمتلك ابتسامة خاصة بالطفلة وحدها...
حين نطق اسمها لم ينطقه كما هو، بل نطقه بتشكيل مختلف مما جعله ككريم مخفوق يزين الحلوى...
أخذت الطفلة تضحك عاليا، و مسك تراقبهما بشرود، بينما تطوعت مهجة لتقول ببرود.

(كريمة هي الصغرى، لدي ثلاث أطفال غيرها)
لم ترد مسك على الفور، ثم قالت بفتور
(أعرف، والدتك أخبرتني في لقاء سابق)
مطت مهجة شفتيها ممتعضة من تلك المقاطعة الباردة من مسك و التي لا تحمل أي ود أو رغبة في تبادل الحديث...
تحركت كريمة لتنزل من بين ذراعي أمجد، و سارت تتعثر الى ان وصلت الى مسك ووقفت بالقرب من ركبتيها، فرفعت اصبعها الصغير لتطرق به على ركبة مسك كي تنبهها الى وجودها مبتسمة بعفوية...

لكن مسك تظاهرت بأنها لم ترها من الأساس و هي تقول بهدوء
(سيدتي، كنت أود الحديث معك على انفراد إن أمكن)
عقد أمجد حاجبيه، بينما توترت ملامح مهجة أكثر، و شحب وجه أمهما بشدة، الا أنها قالت بتردد
(بالطبع، بالطبع تفضلي معي الى غرفتي ان اردت)
ردت مسك بلا تردد
(نعم أود، شكرا لك)
نهضت أم أمجد من مكانها بصعوبة، فسارع امجد ليقول
(سأساعدك يا أمي).

الا أن مسك كانت هي من تكلمت و هي تنهض من مكانها لتمسك بيد والدته تلقائيا
(لا تتعب نفسك، أنا سأساعدها)
راقبهما أمجد متجهما و هما تدخلان الى غرفة والدته ليغلقا الباب خلفهما، بينما همست مهجة بغضب
(هل رأيت! هل تعجبك تصرفاتها المتعالية على الرغم من أنها)
رفع أمجد اصبعه وهو يقول محذرا
(و لا كلمة زائدة يا مهجة، اياك).

جلست مسك بجوار أم أمجد على حافة فراشها، فراقبتها، حيث كانت المرأة متوترة و الحزن مرتسم على شفتيها...
شتان، شتان بين منظرها الآن و منظرها في آخر لقاء لهما سويا...
حين كانت متوهجة السعادة، تتمنى موافقتها أكثر من أي شيء آخر، لكن كان هذا بالطبع قبل أن تعرف ب...
رفعت مسك وجهها و هي تقول باتزان هادىء.

(دون مقدمات سيدتي، لن آخذ من وقتك الكثير، كما ترين فإن أمجد متمسك بالزواج مني، و كما علمت مؤخرا أني لن أتمكن من منحك الحفيد الذي تتمنين، فهل أنت راضية عن هذه الزيجة؟)
أظلمت عينا والدة أمجد الغير مبصرتين، لكنها همست باختناق
(لماذا تؤلميني يا ابنتي أكثر؟، ما الداعي من هذا السؤال الآن؟)
قالت مسك بجمود.

(كانت أمي رحمها الله تقول مثلا لا أنساه مطلقا، وهو أن وجع ساعة و لا كل ساعة، قد أؤلمك الآن بصراحتي، الا أن وجع هذه الساعة، سيكون الصراحة التي نحتاجها لنرتاح فيما بعد، أما لو تركنا الأمور كما هي، فلن نجني سوى ايلام بعضنا طوال العمر، هل ترضين بالتنازل عن الحفيد و أن يظل ابنك دون ذرية؟)
أخفضت أم أمجد وجهها و كأنها تنظر الى أصابعها المرتعشة، ثم قالت بخفوت مختنق بعد فترة طويلة.

(اسمعيني يا ابنتي، لن أكذب عليك و أخبرك أن الأمر هين على، كما يقول أمجد، بل على العكس، أنا أعرف أنه يسير تجاه عذابه بقدميه، و ليس هناك أقسى على الأم من رؤية ابنها يتخذ الطريق المضني دون أن تملك منعه، لكن على الرغم من ذلك، فهناك ما هو اقسى، أن أراه محطم القلب، يحاسب نفسه كل يوم على تركه للفتاة التي أحبها، وهو يحبك، لذا لم يعد الأمر داخل نطاق سيطرتي، فلا سيطرة لي على قلب ابني، أنا فقط أريد قلبه آمنا، سعيدا، وهو لن يكون سعيدا الا بقربك).

كانت مسك تستمع اليها بصمت، فحانت منها التفاتة الى نفسها في مرآة الدولاب المذهب القديم، فهالها الحزن و الصدمة المرتسمة على وجهها...
عقدت مسك حاجبيها و هي ترى نفسها حزينة الى هذا القدر بفعل مجرد كلام عاطفي فارغ...
امجد يحبها؟، متى و كيف؟..
لم تأت الى هنا كي تسمع عن حبه شيئا! بل أتت كي تتأكد من موافقة والدته لا أكثر...
نظرت مسك الى وجه والدة أمجد، ثم قالت بجمود.

(أريد سماعها رجاءا، هل أنت موافقة؟، ألن تتراجعي بكلامك مطلقا؟)
ابتسمت أم أمجد بحزن بينما امتلأت عيناها بالدموع و هي تقول باختناق
(هل يعقل أن أتراجع فيما يخص قلب ابني؟)
نهضت مسك من مكانها و هي تقول بهدوء مبتسمة دون روح حقيقية
(أشكرك، أرحتني).

استندت مسك بذراعيها الى حاجز الشرفة ساعة المغيب، بينما أمجد يقف من خلفها، يراقبها بصمت، و على شفتيه ابتسامة حالمة قبل أن يقول بخفوت كي لا يفسد روعة تلك اللحظة
(تبدين شاردة تماما، هل تفكرين في التراجع؟ لأنه يؤسفني اخبارك أنني لن أسمح لك)
ظلت مسك على جمودها و شرودها دون أن تلتفت اليه، فظنها لم تسمعه...
اقترب أمجد منها خطوة ليقول بخفوت أكبر و كأنه يهمس لها، مستغلا شرودها.

(لم أعد أطيق الصبر يا مسك، أريدك زوجة لي، رؤيتك دون القرب منك عذاب)
ساد الصمت بينهما لحظات قبل أن تستقيم مسك ببطىء لتستدير اليه مستندة بظهرها و مرفقيها الى الحاجز قائلة بهدوء و هي تبعد شعرها المتطاير عن وجهها
(المنظر رائع من شرفتكم)
ابتسم امجد أكثر وهو ينظر اليها بنفس العمق الدافىء ليهمس بخفوت واضعا كفيه في جيبي بنطاله
(اكتشفت هذا الآن فقط).

ابتسمت مسك و هي تطرق بوجهها، تبعد شعرها مجددا، ثم قالت بهدوء و بمنتهى البساطة
(متى تود أن يتم عقد القران؟)
تسمر أمجد مكانه وهو ينظر اليها، متوهما سماع سؤال خطف قلبه و شل أوردته، فقال عابسا
(ماذا قلت للتو؟)
رفعت مسك حاجبيها و هي تقول ببراءة
(سألتك عن موعد عقد القران، أم تراك غيرت رأيك؟)
هز أمجد رأسه يائسا، وهو يقول بغيظ
(سؤالك عن تغيير رأيي أصبح مثيرا للغثيان، حقا)
قالت مسك بهدوء.

(اذن كف عن المماطلة و اخبرني بالموعد الذي تريده)
عقد أمجد حاجبيه وهو ينظر اليها بشك، الا أنه أجابها بعنف
(اريده اليوم قبل الغد، كيف يمكنك السؤال؟)
رفعت مسك وجهها و هي تتظاهر بالتفكير، ثم مطت شفتيها لتقول ببساطة
(لا، لن أستطيع تدبير نفسي خلال ساعات، ما رأيك أن يكون خلال ثلاث أيام؟)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو ينظر اليها بصمت، فقالت ببراءة.

(لماذا تنظر إلى بهذا الشكل؟، والله لن يسعفني الوقت كي نعقد قراننا اليوم)
قال أمجد بخشونة
(هل تتلاعبين بي يا مسك؟)
قالت مسك ببساطة و هي ترجع شعرها خلف أذنها
(مسك الرافعي لا تتلاعب مطلقا، كان يتوجب عليك معرفة ذلك، إن كنت تريد الزواج منها فعلا)
اقترب أمجد منها خطوة سريعة، الا أنه توقف ثم قال بجدية
(هل أنت صادقة في كلامك؟)
قالت مسك مبتسمة
(صادقة تماما)
قال أمجد بتوتر.

(لكن والدك لم يوافق بعد، لا استطيع فعل هذا بك يا مسك، لن نعقد القران قبل موافقته)
قالت مسك بهدوء
(والدي هو من سيسلمني لك مرغما، هذه مشكلتي و أنا سأحلها، )
بدا أمجد أكثر ذهولا، لكنه قال بصوت مصدوم
(و ماذا عن عائلتك؟)
هزت مسك كتفيها و هي تقول بلامبالاة
(لست مجبرة على اخبارهم حاليا، والدي هو كل ما يهم، ها، ماذا قلت؟)
بدا أمجد أكثر ذهولا، بينما تحرك لسانه ليقول.

(قلت، هلا درست مواعديك اليوم مجددا، ربما وجدت ساعة خالية).

زفرت ريماس بقوة و هي تنظر اليه...
منذ أيام وهو على نفس الحالة، مقيم عندهم في البيت، يلازم عمرو أكثر من ذي قبل و كأنه يخشى أن يفقده الآن أكثر من ذي قبل...
لا يتكلم، لا يقص شعره و لا يحلق لحيته، بدا بعيدا عن كل مظهر من مظاهر التحضر...
لم تكن هي من طلبت منه الإقامة عندهم، بل فتحت الباب ذات يوم، فوجدته يقف مطرق الرأس بمنظره الغريب، ليقول بخفوت
(أحتاج للإقامة معكما لبضعة أيام).

يومها كانت من السعادة بحيث جذبته اليها دون رادع، فأحاطت عنقه بذراعيها قبل أن تنتهك شفتاه، تغزوها بقبلات شرهة...
شجعها على تماديها أنه كان صامتا، لم يبعدها عنه كما يفعل دائما، بل بدا متخاذلا حتى كادت أن تفقد أعصابها من شدة اشتهائها له، لكن بعد لحظات أدركت أن هناك شيء خاطىء...
شيء جعلها ترفع وجهها لتنظر اليه، كان ميتا...

شخص ميت بعينين مفتوحتين دون روح، أخفضت وجهها مجددا و هي تحاول بث الحياة فيه، فهو رجل و يحتاج الى امرأة، الا أنه كان هامدا تماما، الى أن بدأ في الكلام، فقص عليها كل ما جرى بينه و بين تيماء بصوت لا يحمل روحا أو أي تعبير، و سرعان ما أغمض عينيه و راح في سبات عميق بين ذراعيها...
حينها نهضت من جواره جريا الى الحمام فأوصدت بابه خلفها لتنفجر في بكاء مرير، استمر حتى الصباح.

و حين أشرقت الشمس و استيقظ، اعتذر لها و كأنه لم يفعل أكثر من مجرد تعطيل وقتها...
تنهدت ريماس و هي تنظر اليه يلاعب عمرو بحنان، ينتهز الفرصة ليضمه الى صدره، في كل لحظة...
كم تمنت لو يوليها بعضا من هذا الحنان، صحيح أنه يلبي كل طلباتها، الا أنها تطلب نوعا آخر من الإهتمام، تحتاجه، و هما الأنسب لبعضهما كي يداوي كلا منهما احتياج الآخر...

اقتربت ريماس منه ببطىء الى أن جلست أمامه دون أن ترفع عينيها عنه، ثم قالت بهدوء خافت
(ما دمت تتألم الى هذه الدرجة، كيف لم تتصل بها حتى اليوم؟)
ظل قاصي على حاله يلاعب شعر عمرو و يبعثره، الى أن ضحك قليلا بقسوة وهو يقول بصوت خافت
شرس.

(إن سمعت صوتها، فلن أتمكن من إمساك نفسي عن الذهاب اليها و جرها من شعرها، لأعيدها الي، أنت لا تعلمين مدى تأثير تلك النغمة الحازمة الناعمة في صوتها، تحمل شقاوة مئة عفريت، داخل اطار متزن)
انحنت عينا ريماس حزنا، الا أنها قالت بفتور
(و لماذا ستسمح لها بالسفر اذن؟، كيف ستتمكن من مقاومة الإستماع الى صوت بلبلك الحزين؟).

أظلمت عينا قاصي وهو ينظر أمامه دون أن يرد، بينما أصابعه تشد على خصلات شعر عمرو حتى فر من بين يديه و جرى ليكمل لعبا في غرفته...
بينما ظل قاصي جالسا على الأريكة، مشبكا أصابعه، شاردا، بنفس العمق الأسود في عينيه ثم قال بخفوت قاس بشكل غريب
(لو رأيت نظرته اليها! لو رأيت كيف كانت أصابعه تتلهف للمسها!)
عقدت ريماس حاجبيها و هي تسمع منه تلك النبرة الخطيرة الخافتة، و هي ترى التعبير الذي ازداد توحشا في عينيه...

فشعرت بنار حارقة تدب بين أحشائها، الا أنها قالت بسخرية سوداء
(تقصد راجح؟، اعذرني يا قاصي، لكن مع كامل احترامي لبلبلك الصغير و كونك ترى بها ما لا يراه غيرك من الرجال، الا أن راجح لن تجذبه مثل فتاتك مطلقا، أنا أعرف ذوقه جيدا، تيمائك تلك بالكاد تعد امرأة، هي اقرب الى مراهقة خرقاء، أنت تبالغ فحسب)
نظر اليها قاصي نظرة صامتة، الا أنها أخافتها بشدة، ثم قال بصوت أجش.

(لم أدعوها بالمهلكة عبثا، إنها من النوع الذي يتسلل تحت جلد الإنسان، لن أخاف عليها ان كانت مجرد امرأة جميلة، فالجمال سيذوي في يوم ما، أما تيماء فجاذبيتها لا تذوي، بل تتسلل أكثر و أكثر لتستقر في النفس تاركة أثرا لا يبارحها مطلقا)
ارتفع حاجبي ريماس و هي تقول بجمود جليدي.

(و تظن أن راجح سيشعر مثلك؟، لا يا حبيبي، إنه مجرد رجل شهواني، لا يريد سوى جسد امرأة تسليه تحت اسم الحلال، لفترة و ثم يرميها بعيدا بعد أن يكون قد استهلكها حتى آخر ذرة صبا بها)
انقبض كف قاصي ببطىء ودون أن يشعر وهو يقول بصوت خافت
(لو كنت قد رأيت كيف ينظر اليها!)
قالت ريماس بعصبية و نفاذ صبر
(لأنه على الأرجح كان يقيمها كما يقيم اي شيء في تنورة، ثم لم تنل اعجابه على الإطلاق، هذا كل ما في الأمر).

شردت عينا قاصي وهو يقول بقوة و قلق
(اريدها أن تسافر اليوم قبل الغد)
تراجعت ريماس في مقعدها و هي تضع ساقا فوق أخرى لتقول بعصبية و قرف
(ستسافر، لا تقلق، فلقد نالت من والدها ما سيغنيها عنك و عنه)
نظر قاصي الى ريماس، ليقول بصوت ميت
(إنها تفعل هذا لتؤلمني فقط)
استقامت ريماس في مقعدها بعنف و هي تهتف من بين أسنانها.

(و ماذا عن اتفاقها معه كي يأخذ عمرو منا؟، هل تفعل هذا لتؤلمك أيضا؟، أم لأنها مجرد خائنة مخادعة، لا تهتم سوى لنفسها فقط)
انتفض قاصي من مكانه صارخا بقوة و غضب
(كفى)
الا أن ريماس لم تتوقف، بل صرخت به هي الأخرى
(لن أصمت يا قاصي، و إن نجح راجح في ضم عمرو اليه، ستكون هي المجرمة الأولى في هذا، لقد فعلت ما فعلت كي تستاثر بك و حين لم تجد فائدة مرجوة مما تفعله، قررت التمسك بآخر ورقة في يدها، وهي نقود والدها).

صرخ قاصي بعنف وهو يلتقط كوبا من الماء موضوع على الطاولة ليلقي به بكل قوته حتى تهشم تماما على الحائط، لكن ريماس نهضت من مقعدها و هي تقول باهمال ساخر
(هذه أنا ريماس، لست تيمائك كي أرتعب عليك من نوبات التحطيم و الغضب، نظف ما فعلت للتو و تمالك نفسك)
أغمض قاصي عينيه و هو يود لو سمع صوتها مرة واحدة أخيرة، و صوت نبضات قلب جنينه...

استيقظت من نومها قبل الفجر على صوت رنين هاتفها...
فاستقامت بفراشها بوجه شاحب ناعس و هي تشعل الضوء الجانبي لتنظر إلى الساعة...
همست تيماء و هي تبعد شعرها الكث عن وجهها
(من سيتصل الآن؟)
للحظات داعبها الأمل الخائن في أن يكون هو قاصي، أيام مرت دون أن يتصل بها كعادته...
و على الرغم من سفرها الذي تعد له، الا أنها كانت تتمنى لو تستمع الى صوته بضعة مرات أخيرة...

لذا أمسكت الهاتف بأصابع مرتجفة قبل أن ترد بخفوت
(نعم)
لم يأتيها صوت، لكنها سمعت صوت أنفاسه، كما يفعل دائما، فأغمضت عينيها و هي تحتضن الهاتف بصمت، و بقت على الخط معه، تستمع الى تلك الأنفاس الى أن همست دون أن تفتح عينيها...
(يوما ما، سأحكي لطفلك عن فتاة حمقاء، أحبت رجلا حد الجنون، و كان في استطاعتها أن تقاتل لأجله جيوشا)
لم يرد عليها، و لم تتوقع أصلا أن يرد، لكنها سمعت وجيب انفاسه أقوى و أسرع...

فتابعت بصوت مختنق...
(اشتقت اليك بغباء، اشتقت اليك حد الجنون)
صمتت للحظة و هي تبتلع غصة مؤلمة في حلقها، قبل أن تلتقط أنفاسها و تحاول السيطرة على نفسها، ثم قالت برزانة زائفة
(كن بخير، اتفقنا؟، فقط كن بخير و لا تتهور أكثر، و تذكر أنك ستكون والدا يوما ما، لا تدع طفلك يرث مرارة الكره و آلام الماضي)
للحظة ظنت أنها قد سمعت حشرجة استهجان منه، الا أنها لم تهتم، بل تابعت بصوت خافت و قوي.

(قد أسافر فعلا، الا أنك ستظل معي، دائما و أبدا، أنا لا أفعل هذا لأزيد من ألمك، لكنني أفعل هذا من أجل طفلنا، طفلنا الذي سيظل قطعة منك، تنبض تحت قلبي)
أسبلت تيماء جفنيها قليلا، ثم همست بخفوت
(لقد آذيتني بعدم ثقتك بعد كل ما فعلته لك يا قاصي لهذا كذبت عليك، لكنني لن أزيد في العتاب، فالوداع أقسى من أن نعاتب خلاله)
صمتت مجددا، ثم قالت بخفوت و تعقل و هي تومىء برأسها.

(لقد سامحتك على صفعتك، لا تعذب نفسك لأجلها طويلا، اتفقنا)
تنهدت بصمت، ثم قالت بخفوت
(الن تتكلم بعد كل ما قلت؟، ألن تتنازل عن بعض من قسوتك! قد يطول الزمن قبل أن نسمع بعضنا مجددا)
شعرت أنها على حافة البكاء، و لم تشأ أن يكون هذا هو الوداع فهمست بصوت مختنق
(أراك بخير، مهما طال الوقت).

أغلقت تيماء الهاتف، ثم ارتمت على سريرها بقوة و هي تطلق لدموعها العنان، لقد انتهت أجمل قصة عاشت من أجلها، و لم يتبقى منها سوى طفل، عليها أن تحميه بحياتها...

أغلق راجح الهاتف وهو مستلق على اريكته ينظر الى السقف بنظرات قاتمة...
بداخله براكين متناقضة، من كره و حقد و، حسد...
ما هذا الحب التي تملكه تلك القصيرة الى ابن الحرام!
كيف يمكن لمن هو مثله أن ينال حبا كهذا، بينما هو...
أعاد رفع هاتفه، ليفتح الصور بعد شرود طويل، يراقبها مجددا دون كلل، لم تكن صورا قديمة فحسب، بل كل ما استطاع التقاطه لها خلسة...

لم تمر زيارة أو اجتماع الا و التقط لها كل الصور الممكنة، و حين يسكن الى نفسه وحيدا آخر الليل، يقضي المتبقي منه معها، مع صورها، صور سوار.

لقد زاد وزنها خمسة كيلو جرامات منذ ان انتقلت للسكن وحدها في هذه الشقة...
نظرت ياسمين مليا الى مؤشر ميزان الوزن، ثم نزلت عنه قبل أن تعاود الصعود عليه مجددا، كي تتأكد من حقيقة تلك الفاجعة...
لكن للأسف، نفس القياس للمرة الثانية، لم يترك لها مجالا للشك، لقد زادت الخمس فعلا!

نزلت عن الميزان بملامح واجمة و هي تشعر و كأنها قد تحولت الى بقرة لا تستطيع جر قدميها من شدة ثقل وزنها، على الرغم من أنها ليست ممتلئة الى هذه الدرجة، لكن الحالة النفسية التي تنتابها مؤخرا زادت من قوة احساسها بالكره الذاتي لنفسها...
اتجهت ياسمين الى مرآتها و نظرت الى نفسها بصمت...
ليس هذا ما عزمت عليه بعد الطلاق مطلقا!
كانت تتخيل بداية منطلقة وردية، و أحلاما واسعة، لم تحقق منها شيئا على الإطلاق...

كانت تتخيل نفسها و قد التحقت بنادي رياضي و تحول جسدها الى جسد أشبه بعارضات الأزياء...
لكن لم تنجح سوى في دفع ثمن الإشتراك فقط كأكبر انجاز، بينما لم ينقص وزنها جراما واحدا، بل حقيقة الأمر أنها زادت خمسة كيلو جرامات...

كانت تنوي على بدء عمل خاص بها، مشروع صغير من تصميم و تنفيذ عرائس يدوية غالية الثمن، خاصة و أن الكثير من زميلاتها في العمل قد أثنين على مدى جمالها، الا أنها لم تبدأ حتى، و لا تزال حتى الآن أسيرة كرسي الحكومة في شركة المياه، تتعامل مع عشرات المواطنين الناقمين يوميا...

كانت قد ادخرت مبلغا معقولا لشراء سيارة صغيرة، الا أنها عدلت عن رأيها و قررت في لحظة تهور ان تستخدمه لإجراء جراحة تجميلية لشفط الدهون، و التعديل من شكل ذقنها...
لكن انتهى الأمر بأنها أنفقت ما يقرب من ربع المبلغ على أشياء لا قيمة لها، فلم تشتري السيارة و بالتأكيد لم تجري الجراحة...

رفعت نظرها الى عينيها البنيتين الصافيتين، كانت لها نظرة صافية حنونة بالفطرة، الا أنها تحمل لمحة تمرد نابعة من بقايا الأحلام العريضة التي كانت تتملكها...
نفس تلك الأحلام هي التي جعلتها تصر على الطلاق متحدية أسرتها و تفر بعيدا...
تم طلاقها منذ عام تقريبا، و ها هي الآن في التاسعة و العشرين من عمرها، لم تحقق أيا مما وعدت نفسها بتحقيقه...

لقد تزوجت على مضض في سن الثامنة و العشرين، بعد الحاح من أمها، تذكرها كل يوم أنها لو عبرت بوابة الثلاثين، فلن تجد رجلا تتزوجه، خاصة و أنها ليست تلك البارعة الجمال، كما أن أسرتهم مستورة الحال، لا تمتلك ما يغري أي شاب للتنازل و الزواج من فتاة تجاوزت حاجز الثلاثين المرعب في اسمه...

لذا في لحظة تعب و ارهاق من كل الضغط عليها من جميع النواحي، خاصة بعد زواج ابنة خالتها ذات الثمانية عشر عاما، رضخت ياسمين و قبلت بأحد الخاطبين، أؤلائك الذين يأتون بشروط محددة و أسئلة عن راتب العروس و عن جدية نيتها في تسليمه كاملا في يده أول كل شهر، كي يضمه الى راتبه و ينفق على البيت فتستمر الحياة...
منذ اليوم الأول، شعرت بصدمة...

لقد تكسرت كل أحلامها الوردية و المتطلبة لزوج شغوف محب على صخور الواقع مع علاء...
لم تشعر بأنوثتها معه للحظة، سواء في فترة خطبتهما القصيرة، أو خلال زواجهما القصير...
كان رجلا بارد المشاعر، لم يسمعها مرة كلمة تغذي بها شغفها الجائع أو أنوثتها الجافة...
و أول ليلة لهما معا كزوجين، كانت كارثة بكل المقاييس...

شعرت به مجرد آلة، تقوم بمهمة باردة، حتى أنه نهرها أكثر من مرة بسبب توترها، الى أن زال خجلها لا اثارة، بل جمودا و رغبة في الانتهاء بأي شكل كان...
و على هذا الحال استمرت حياتهما الحميمية، هذا إن صح تسميتها بهذا الإسم...
لقد كانت مجرد علاقة زوجية رتيبة، تحاول التهرب منها قدر الإمكان، دافنة الجانب الحسي منها تحت تراب الواقع الصادم...
لكن هذه لم تكن المشكلة الوحيدة، بل كان كل ما فيه، عكس ما تمنته يوما...

كان مادي و بخيل الى حد لا يطاق، صحيح أنه مواطن شريف و لم يقم بسرقتها مطلقا...
لكنه كان يسرق أحلامها كلها...
كان يأخذ راتبها كله، كي يضعه في الخطة التي قام بتسجيلها في جدول، كي يتم الانفاق على البيت و ايضا الإدخار في حساب مشترك بينهما...
كانت تتمنى شراء بعض أدوات الزينة، ملابس جديدة، الخروج الى مقهى راقي...
لكنه لم يكن ليسمح بهذا، مدعيا أنها رفاهيات تافهة، يرفض أن يضيع عليها قرشا واحدا، من راتبها!

و حين صدمته يوما برغبتها في الإستقالة من عملها، أوشك على الإصابة بنوبة قلبية، لدرجة أنها خافت عليه، و ما أن استعاد اتزانه حتى انفجر بها مقسما أغلظ الأيمان أن تكون طالقا ان فعلت...
فراتبها ليس هينا وهو تقريبا يعادل راتبه، و من تظن نفسها كي تبقى في البيت مدللة و يقم هو بالإنفاق عليها بشكل كامل!

يومها صرخت به أن أحد مدرائها يتحرش بها لفظيا كلما دخلت الى المكتب، و قد ضاقت ذرعا به، الا أن شعرة لم تهتز برأسه، بل قال لها بكل برود
أدخلي ما يقوله من أذن، و أخرجيه من الأذن الأخرى! يومها صمتت، و فغرت فمها بسكون و هي تنظر اليه و كأنها تراه للمرة الأولى...
و لا تعلم كم بقت من الوقت تنظر اليه، الى أن ردت عليه أخيرا بفتور
اذن سأقدم شكوى ضده، و هنا كانت الصدمة الثانية، حين تطلع اليها بحدة و هتف بها.

لن يمسه أحد بسوء، و لن تنالي الا الضغط عليك الى أن تتركي العمل بإرادتك. اياك أن تكوني غبية و تقومي بهذا، اتسعت عيناها بذهول و هي تهتف
يا رجل، أخبرتك للتو بأنه يتحرش بي قولا كلما تواجدنا وحدنا، الا تخشى إن يتمادى حين يجدني صامتة متنازلة، فيتحول من القول الى الفعل! ابتسم زوجها بسخرية، أو المدعو زوجها، و رمقها بسخرية من قمة رأسها حتى أخمص قدميها بنظرة مستهينة وهو يقول باستهزاء.

على ماذا سيتمادى؟، على بدانتك و جسدك الممتلىء الذي مللت من تنبيهك الى الإخفاض من وزنه قليلا! إنه على الارجح يستفزك فقط لا غير، لكن بالنسبة للتحرش، فلا تقلقي، أنت محصنة تجاهه طالما تأكلين و تأكلين دون شبع، لن تنسى مطلقا ما شعرت به في تلك اللحظة، فقد انعقد حاجباها بتقزز و هي تقر بأن هذا الرجل قد سقط من نظرها للأبد، و ما هي الا مسألة وقت و ستتركه للأبد...

لم تدرك ياسمين و هي تقف أمام المرآة أن عيناها قد انحيتا بألم، و هي تتذكر تلك الأيام التعيسة من حياتها، كم شعرت بالأسى و الكبت في تلك الأشهر القليلة التي بقت فيها زوجته...
و حين حصلت على الطلاق، كانت تتوهج من فرط السعادة، عيناها تتألقان بجنون الفرح و هي تعد نفسها بحياة من نوع آخر...
كانت قد قررت ترك عملها و التفرغ لهوايتها فقط. و الإبتعاد عن التعامل مع المواطنين...

و في نفس الوقت لم تتعقد و تكره الزواج، بل على العكس، شعرت بأن القدر قد كتب لها فرصة جديدة في الحصول على رجل آخر، فارس أحلامها على حق، يغار و يقمعها في البيت، من شدة حبه فيها...
رجل حار الدماء، لا يتوانى عن الدفاع عنها و بثها كلمات حبه و اعجابه بجمالها ليل نهار، خاصة بعد أن تفقد الكثير من الوزن كما قررت...

ألم تسمع أكثر من مرة أن المطلقات يتزوجن أسرع من الآنسات! لذا آمنت بهذه المقولة و صدقتها و انتظرت الفرصة الثانية...
نظرت الى المرآة و هي تكلم نفسها بحدة فاتحة ذرعيها.

(أين هي الفرص الأكثر للمطلقات! اين الحرية و الإنطلاق اللذان سمعت عنهما، أين هي البداية الجديدة و الطيران بجناحين محلقين! لقد خدعت و أنا أسمع تلك الشعارات ممن يساندون المرأة في حصولها على الطلاق قبل أن تضيع حياتها، لم أجد شيئا من هذا بعد!).

الحياة من بعد طلاقها لم تكن بمثل هذه الوردية التي توقعتها، فقد قاطعتها أمها بسبب الطلاق الذي اصرت عليه رغما عن الجميع، و زادت القطيعة، حين لم تتحمل البقاء في البيت أكثر، فقررت الحصول على شقة بالإيجار، لذا أخرها هذا عن ترك وظيفتها، نظرا لحاجتها للراتب...
و من بعدها بدأت الحياة حولها في القتامة شيئا فشيئا و هي تصطدم بمعاملة المجتمع لها كمطلقة، أسوأ من معاملته لها و هي تقترب من الثلاثين دون زواج...

شيء واحد فقط، هو المتبقي من حلمها الوردي الشاحب...
جارها، أمين...
استفاقت ياسمين من شرودها الكئيب على صوت هاتفها، فالتقطته بكسل و هي ترد متوقعة المزيد من اللوم و التقريع...
(مساء الخير يا أمي، كيف حالك؟ أمي أنا أحتاجك جدا في هذه اللحظة، فرجاءا لا تبدأي شجارا و شتائم، أمي أنا)
الا أن أمها قاطعتها بصوت مختنق مجهد، ذاهب الأنفاس
(ياسمين، تعالي بسرعة، أنا متعبة جدا، نوبة سكر مجددا. )
انتفضت ياسمين و هي تهتف.

(أمي، ماذا بك يا أمي.؟، ردي علي)
همست أمها بتعب
(أشعر بأنني لست على ما يرام، لقد خرجت أختك مع زوجها، و هاتفها مغلق)
كانت ياسمين قد جرت بالفعل لتبدل ملابس النوم و هي تهتف
(دقائق و سأكون عندك يا أمي، تماسكي حبيبتي، هل نسيت دوائك أم أسرفت في طعامك)
لكن أمها كانت قد بدأت تهمس بكلمات غير مفهومة، مما جعل ياسمين تغلق الخط و هي تبكي هامسة بقلق
(ياللهي، يا رب، احفظها يارب، ليس لي غيرها).

تعالى رنين جرس الباب، فخرجت والدة أمين من غرفتها عابسة بقلق و هي تقول
(بسم الله الحفيظ، من سيطرق بابنا في هذا الوقت، إنها الحادية عشر)
كان أمين قد تجاوزها وهو يقول بجدية
(انتظري أنت يا أمي، أنا سأفتح الباب)
فتح أمين الباب، الا أنه توقف وهو يرى جارته التي دب الخلاف بينه و بينها أكثر من مرة...

لكن هذه المرة، استوعبت عيناه المشهد بسرعة، فقد كانت متورمة العينين، تهز ساقها بسرعة و هي على وشك الإنهيار قلقا، تفرك أصابعها فوق حزام جقيبة كتفها البسيطة، بينما ارتدت ملابس عشوائية بسيطة، تتناسب مع شعرها المشعث، و قبل أن يتكلم، كانت هي قد سبقته قائلة، متجنبة النظر الى عينيه...
(السلام عليكم، أنا آسفة جدا أنني قد، طرقت بابكم في وقت، لم أكن، ف).

سكتت للحظة و هي تغمض عينيها محاولة السيطرة على بعثرة كلماتها، فتولى أمين الأمر وهو يقول بهدوء
(اهدئي أولا، أنت لست في حال متزنة، تعالي ادخلي، أمي مستيقظة و)
رفعت ياسمين كفها و هي تقول بسرعة و لهفة...
(لا، لا وقت لدي أنا)
صمتت للحظة و هي تلتقط نفسا عميقا، قبل أن تعاود الكلام بسيطرة أكبر هذه المرة.

(أمي اتصلت بي للتو، و هي متعبة جدا، و لا أحد معها، لذا كنت أتمنى، لو ساعدني ابن عمك الدكتور فريد في الدخول الى المشفى بأسرع وقت ما أن نصل الى هناك، لقد طلب مني أن ألجأ اليه إن احتجت اليه في مثل هذه الأمور، لكنني لم أعرف رقم هاتفه، و أرجو الا أكون قد ازدت من التطفل)
قال أمين بسرعة، وهو يبتعد عن الباب يوليها ظهره، (ادخلي، لحظة و سأحضر مفاتيح سيارتي لأقلك، و في الطريق سنهاتفه).

فغرت ياسمين شفتيها المتورمتين المرتعشتين و هي تراه يحضر المفاتيح بالفعل دون حتى أن يهتم بتبديل طاقمه الرياضي القطني الذي يرتديه، فقط وضع قدميه في حذاء رياضي بسيط بجوار الباب وهو يقول بسرعة
(أنا جاهز، هيا بنا)
كانت أمه قد خرجت و هي تقول بطيبة و قلق أمومي
(سلامة الوالدة يا ابنتي، عسى الله أن يشفيها و يحفظها لك من كل شر. ستكون بخير ان شاء الله).

ابتسمت ياسمين لها بارتجاف بينما امتلأت عيناها بالدموع مجددا، فأومأت لها برأسها غير قادرة على الكلام...
فهتفت والدة أمين بلهفة من خلفهما
(لا تنسى أن تتصل بي كي تطمئنني يا أمين)
التفت اليها قائلا بهدوء قبل أن يغلق الباب
(ان شاء الله يا أمي، لا تفتحا الباب لأحد)
كانت نورا قد خرجت من غرفتها قبل خروجهما بلحظة، فوقفت بجوار أمها تراقب ما يحدث، قبل أن تقول بتعجب.

(ولدك هذا غريب الطباع يا أمي، لا أصدق ما رأته عيناي للتو، هل خرج مع ياسمين فعلا بعد أن كان يتمنى لو طردها من البناية كلها؟)
نظرت اليها أمها بعتاب و هي تقول بصرامة
(أخاك لا يتأخر عن مساعدة أي محتاج يا نورا، عيب عليك أن تشكي بهذا)
ابتعدت أمها، بينما بقت نورا تنظر الى الباب المغلق بتفكير، قبل أن تحادث نفسها بخفوت
(لكن بمثل هذه السرعة و دون تردد!).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة