قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأربعون

(لا داعي يا فريد أن تأتي بنفسك، فقط قم باتصالاتك كي ندخل اي قسم دون انتظار)
راقبت ياسمين وجه أمين الجانبي الحازم، وهو يملي أوامره بقوة و كأن الجميع يعملون لديه، لكن على الرغم من هذا شعرت بإحساس غريب من الأمان...
لقد اعتادت على فعل كل شيء بمفردها، معتمدة على نفسها في كل كبيرة و صغيرة و اي اجراء...
سواء قبل زواجها أو خلاله، أو حاليا في طلاقها...

لذا كانت المرة الأولى التي تشعر فيها بالراحة و الطمأنينة، مسلمة كل قلقها و خوفها الى الرجل الذي يقود السيارة بجوارها و كأنه قد استلم مقاليد أمورها كلها...
تكلم مجددا قائلا بهدوء
(حسنا كما تريد)
أغلق الهاتف ليضعه بإهمال بجوار المقود قائلا بجدية
(دقائق و سنصل، لا تقلقي)
أومأت ياسمين برأسها دون أن ترد، الا أنه لم يكن ينظر اليها من الأساس وهو يستدير بالسيارة...
ثم قال فجأة
(هل ستسطيع أمك فتح الباب؟).

قالت ياسمين بسرعة و هي تدرك أنه يحادثها مجددا...
(معي المفتاح، إنها شقتنا، بيت والدي رحمه الله)
عبس أمين قليلا، ثم قال بتردد و بصوت أجش
(هل تسكن والدتك وحدها حاليا؟)
راقبته ياسمين مليا و هي تعرف دون شك فيما يفكر حاليا، مما أشعرها يقنوط غريب، الا أنها قالت بخفوت
(لا، بل تسكن معها أختي و زوجها، لكنهما خرجا و هاتفها مغلق، لذا اتصلت بي أمي ما أن شعرت بالتعب).

أومأ أمين برأسه و قد بدا التفكير على وجهه بصمت، تفكير عميق، حتى أنها بدأت تظن في أنه قد شرد عنها و يفكر في أمور تخصه...
فنظرت أمامها بصمت كئيب و هي ترى الطريق المظلم أمامها يكاد يطبق على أنفاسها المتهدجة...
لم تدري أن أنفاسها كانت مسموعة في شهقات خافتة، بل لم تدري أنها قد عاودت البكاء بصوت خافت...
فالتفت اليها أمين عابسا، ثم قال عاقدا حاجبيه.

(لما البكاء الآن؟، ستكون بخير ان شاء الله، من المؤكد أنها ليست المرة الأولى، يجب أن تكوني قد اعتدت التعامل مع الأمر بسرعة و دون انهيار)
رمشت ياسمين بعينيها و هي تقول بصوت متداعي
(ولو تكرر ألف مرة، سيظل الخوف يسيطر على إن أصابها مكروه، لم يعد لي سواها بعد وفاة والدي، خاصة و أن أختي قد انحصرت كل حياتها في زوجها و أطفالها)
ألقى عليها أمين نظرة جانبية، قبل أن يقول بصوت مقتضب كاره.

(لكنك على الرغم من هذا تركتها و قمت بالسكن وحيدة، تصرف غريب)
انعقد حاجبي ياسمين، بينما انحنت عيناها بألم و كأنه قد صفعها للتو، على الرغم من صوته الهادىء الذي ألقى به كلماته الحادة كالشظايا دون احساس أو مراعاة لحالها...
فأطرقت برأسها دون حتى أن تتكفل عناء الرد، فحالها لا يسمح الآن...
تكلم أمين ليقول بصوت حازم.
(ها قد وصلنا).

انتفضت ياسمين و هي ترفع وجهها، ناظرة حولها، فهي لم تكن تدرك أنهما قد وصلا بمثل هذه السرعة بالفعل...
أوقف أمين السيارة فسارعت لفتح الباب و هي تقول بتعثر و اختناق
(سأخرج الآن، لن أتاخر، دقيقة واحدة فقط ان شاء الله)
، لكنها لم تتوقع أن تلتفت فتراه يخرج قبلها وهو يقول بحزم
(سأصعد معك، فمن المؤكد تحتاج الى مساندة).

حين سمعت هذه العبارة البسيطة، شعرت بشيء ما أكبر، شيء أوشك على فضح الإعجاب المدفون بداخلها منذ أشهر طويلة...

في المشفى...
جلست ياسمين بجوار أمها على حافة سريرها ممسكة بكفها تقبله بقوة و هي تضم رأسها بقوة الى صدرها قائلة بإختناق
(سلامتك يا أمي، كدت أموت خوفا عليك، بعيد الشر عنك)
كانت أمها مجهدة الملامح، و قد برزت عروق كفها أكثر، الا أنها همست بعتاب رافض...
(خفت على أمك حقا!)
رفعت ياسمين وجهها و هي تهتف بقوة
(بالطبع يا أمي، كيف يمكنك أن تسألي سؤال كهذا! ارتعبت حين سمعت صوتك في الهاتف).

قالت أمها بغضب و عدم رضا
(إن كنت مهتمة بأمك، لكنت فعلت ما يرضيها، أنت السبب في مرضي و تعبي، لطالما كنت مصدر شقائي)
أغمضت ياسمين عينيها و هي تحاول أن تلتمس الصبر، رغم الغضب الذي بدأ يتسلل اليها مجددا ثم قالت بفتور
(رجاءا يا أمي، لا تبدأي بهذا الكلام مجددا، سيتعبك و لن نصل الى أي طريق)
التفتت اليها أمها و هي تهتف بصوتها المتعثر المختنق.

(أنت مصممة على قتلي، لازلت لا أصدق أننا وجدنا لك زوجا أخيرا، كي تصرين على الطلاق منه بعد أشهر قليلة من زواجكما دون سبب مقنع، لا هو مجرم أو خائن، ليس به عيب واحد جدي كي تصرين على الطلاق منه بهذا الدلال التافه و الأنانية الغير مسبوقة، لا زلت لا أصدق).

شعرت ياسمين بأن كلام أمها يطبق على أنفاسها ككل مرة، يكاد أن يخنقها و كأنها تغرق ببطىء، فتركت كف أمها برفق قبل أن تنهض من مكانها و هي تقول بصوت جامد لا شعور فيه.

(لم أستطع الحياة معه يا أمي، كنت كارهة له و لطباعه و كان زواجي منه خطأ من البداية، أنت من ضغطت على كي أقبل به غصبا، و أنت تملين على مسامعي أنني لن أجد فرصة أفضل للزواج، لكن بضعة أشهر معه كانت أكثر من كافية كي أهرب بالمتبقي من حياتي قبل أن أفنيها مع شخص أنفر منه)
هتفت أمها بغضب و استياء.

(الرجل لم يكن يعيبه شيء، رجل محترم، و مناسب لك، من كنت تتمنين؟ و من تتمنينه لماذا ينظر اليك و أنت عادية الجمال، ظروفك المادية بالكاد تكفيك، و سنك)
استدارت ياسمين على عقبيها و هي تهتف فجأة بأسى.

(ماذا به سني يا أمي؟، ماذا به سني، لم أكن كبيرة الى هذا الحد حين ألححت على في الزواج منه! كنت في السابعة و العشرين فقط! و حتى إن تجاوزت الثلاثين أو أكثر، و حتى إن تجاوزت الأربعين، لما لا أختار من يرضي روحي، هذه أبسط حقوقي في الحياة، أتدرين ماذا، أنا الآن أقترب من التاسعة و العشرين و مع ذلك أشعر بنفسي لازلت صغيرة، و لو عاد بي الزمن و تجاوزت الثلاثين لم أكن لاتزوجه مطلقا)
هتفت أمها بها بأسى.

(ابنة خالتك التي أتمت العشرين، لديها طفل و حامل في الآخر)
رفعت ياسمين كفيها الى جبهتها و هي تهتف بغضب و ألم
(ياللهي، كفى، كفى، لم أعد أريد السماع مجددا، حتى و أنت مريضة رقيدة فراش في المشفى لا تفكرين الا بنفس الشيء، أرجوك كفى)
رفعت أمها كفها الى فمها و هي تنشج باكية هامسة
(تصرخين بي و أنا مريضة يا ياسمين! هل هذه هي ثمرة تربيتي لك؟ هذا إن كنت قد ربيتك من الأساس!).

اغمضت ياسمين عينيها و هي تطرق برأسها بكبت و رغبة في رمي نفسها من النافذة كي ترتاح، الا أنها تماسكت، ثم رفعت وجهها الباهت و هي تنظر الى أمها قائلة بخفوت، محاولة أن تبتسم
(أنا آسفة، آسفة حبيبتي، دعينا فقط الا نفتح مواضيعا مؤلمة مجددا، تزيد من الهوة بيننا)
هتفت أمها بغضب
(كيف لا نفتحها و أنت لم تكتفي بطلاقك، بل ذهبت للسكن بمفردك و أنت مطلقة دون اعتبار لأقاويل الناس؟)
هتفت ياسمين بها بقوة.

(لم أعد أطيق السكن مع زوج أختي يا أمي، أردت الحرية في بيتي، ألبس ما أريد و أتحرك كيفما أشاء، لم أعد اتحمل الكلام المبطن منهما عن ضيقهما بعودتي للبيت، بيت أبي، الذي كان من المفترض أن يسكنه المحترم زوج اختي لفترة قصيرة قبل أن يتدبر مسكن خاص لهما، لكنه تراخى و ارتاح و مرت السنوات وهو يسكن معنا، يخنق أنفاسنا، و اضافة الى هذا يتذمر من عودتي لبيت والدي، الأستاذ المبجل المحترم)
هتفت أمها بها...

(هل تريدين مني طرد اختك كي تتطلق هي الأخرى و تصبح النكبة اثنتين!)
زفرت ياسمين بجنون و هي تهز ساقها بعصبية، ثم نظرت الى أمها قائلة بجمود
(لا يا أمي، لا تطرديها، لكن تعالي للسكن معي، في مسكني الخاص، براتبي، كي أقوم على خدمتك و رعايتك بنفسي)
قالت أمها باستياء و استنكار
(و أترك بيتي! لن يحدث، الا بمماتي)
نظرت ياسمين اليها طويلا قبل أن تقول بخفوت
(الصحة و طول العمر لك يا أمي).

هزت أمها رأسها و هي تقول بصوت مختنق
(أنت السبب في كل هذا، لو كنت قد ارتضيت بحياتك، لما كنت الآن قد تسببت لنا في كل هذه الفوضى و الفضائح، أنت السبب، قلبي ليس راضيا عنك يا ياسمين، أبدا)
لمعت الدموع في عيني ياسمين بغزارة، الا أنها عضت على شفتيها، كي تمنع نفسها من البكاء، ثم قالت بهدوء
(ارتاحي الآن يا أمي و لا ترهقي نفسك أكثر، سأذهب للطبيب كي أتابع حالتك).

اندفعت ياسمين كي تخرج من الغرفة و هي تشعر بالإختناق يزيد و يزيد، و كل حياتها باتت مظلمة، كئيبة، لا بصيص للنور بها مطلقا...
الا أنها ما أن خرجت و أغلقت الباب خلفها، تاركة لدموعها العنان، حتى صدمها وجود أمين الذي كانت قد نسيته تماما في خضم ما حدث، ليس هذا فحسب، بل معه ابن عمه فريد أيضا!
متى جاء؟، و بهذه السرعة!

اثنين من الشباب كالورد على باب غرفتها، فرصة لم تحدث من قبل و لن تحدث مجددا مهما راق لها الزمن و صفا...
و عوضا عن أن تكون في قمة زينتها، كان منظرها كمن تستعد لمسح السلالم من أمام باب بيتها...
فبنطالها الجينز مهترىء و قديم، و ترتدي عليه كنزة خفيفة فضفاضة ملتمة قرب ركبتيها مما زاد من حجمها و جعلها تشبه ثمرة البطيخ الناضجة، خاصة و أن الكنزة خضراء اللون...

أما شعرها، فلم يكن من الممكن أن يكون أسوأ من حاله الآن...
بكل أمانة كان في أقذر حالاته من التشعث، خاصة و أنها كانت قد غسلته، و خرجت دون أن تمشطه، فبدا كلوحة فنية شبيهة بلوحة الصرخة...
ارتبكت ياسمين وودت لو تراجعت للغرفة و أغلقت بابها أمامهما...
خاصة أمين...
الذي لم تمكنها حالتها قبلا من التفكير بشكلها أمامه...
لكن الآن، لو اهتم و نظر اليها، فسيكون هذا لسبب واحد فقط، وهو أن يبصق عليها و يغادر...

تكلم فريد مبتسما وهو يقول مرحبا
(و ها قد التقينا ثانية، بل ثالثة، كيف حالك الآن يا فتاة البيتزا؟)
مطت ياسمين شفتيها و هي تستمع منه الى آخر لقب قد تتمناه امرأة في الوجود
فتاة البيتزا!
بالطبع من حقه، فبهذه الكنزة المستديرة، تبدو كعجينة بيتزا متخمرة، كإحتمال ثان إن كان لم يراها أحد كثمرة بطيخ...
تمالكت ياسمين نفسها و قالت بحرج و بصوت خافت.

(أنا آسفة جدا لكل ما تسببت فيه لكما، الساعة تقترب من الثانية صباحا و أنتما لديكما عملا غدا، أو اليوم بالأصح)
قال فريد دون أن يفقد ابتسامته وهو يقترب منها...
(أنا مرابط في المشفيات، هذا هو عملي، لذا قدومي الى هنا يعد كالعودة للبيت)
صمت للحظة وهو يتأملها ثم قال بخفوت
(كيف حالك؟)
ارتبكت ياسمين قليلا، ثم قالت و هي تختلس النظر الى أمين الذي كان ينظر اليها في المقابل عن بعد...
(لست أنا المريضة، إنها امي).

قال فريد بهدوء
(لقد اطئننت على استقرار حالة والدتك من الطبيب الذي أسعفها، أما الآن)
صمت للحظة، ثم أعاد بتأكيد
(كيف حالك؟)
ابتسمت قليلا و هي تنظر الى ملامحه الفتية الجذابة، بامتنان، قبل أن تقول بصوت هادىء
(أنا بخير الآن، الحمد لله، و أشعر بالحرج لما تسببت فيه من كل قلبي، لقد شلني الرعب، فجعلتكما تأتيان الى هنا، بينما كان بإمكاني التصرف وحدي)
قال فريد بجدية.

(أخبرتك من قبل أن تتصلي بي لأي سبب خاص بوالدتك، مهما كان بسيطا، بإمكاني تقديم بعض المساعدة تيسر لك الأمور)
ابتسمت ياسمين أكثر و هي تقول بعرفان للجميل
(و هذا ما حدث، خلال دقائق كانت أمي في غرفة و الطبيب يسعفها، لا أعرف كيف أشكرك حقا)
قال فريد يتأملها بتفحص
(ربما يوما ما)
تقدم أمين أخيرا بخطوات متمهلة و ملامح متحفظة ليقول بصوته الجاد دائما...
(حمد لله على سلامة والدتك).

شعرت ياسمين بدقات قلبها تتسارع بشكل لم تتوقعه مطلقا، كلما خاطبها هذا الكائن تجد نفسها ترتبك و تتلجلج كفتاة خرقاء، و عادت اليها كل أحلامها الوردية القديمة، لمجرد سماع صوته فقط...
أومأت برأسها و هي تنظر اليه من أعلى عينيها
هكذا يكون الرجال الأشداء، هكذا يتحول حلمها الى حقيقة، هكذا يجب أن...
قاطعها بصوته وهو يقول بتشديد
(سيدة ياسمين، هل أنت بخير؟ أنت لا تردين و تبدين على وشك الإصابة بالإغماء!).

حسنا هذا ما ينقصها بالإضافة للكنزة الخضراء الحقيرة، أن تكون فاغرة الفم و هي تنظر اليه بعدم استيعاب حتى ظن الرجل أنها ستسقط عند قدميه، لذا ابتلعت ريقها و هي تقول
(نعم، أقصد لا بالطبع أنا بخير، شكرا لك، سلامتك أنت)
سلامتك أنت! عقدت ياسمين حاجبيها و هي تعض لسانها بغضب، تبا لهذا الغباء
سلامتك أنت! زفرت بعنف قبل أن تعاود النظر اليه لتقول بخفوت
(رجاءا عد الى بيتك الآن، فلقد أتعبتك معي بما يكفي).

قال أمين بجدية و دون أن يظهر أي نوع من المشاعر الإنسانية
(سأنتظر لأقلك معي كما أحضرتك)
برقت عيناها كقلبين أحمقين، و همست روحها بجنون
سلم لي سيد الرجال، أنت أكيد من كوكب آخر، الا أنها تمالكت نفسها و قالت مسرعة
(لا بالتأكيد، لن يصلح هذا، فأنا سأقضي الليلة هنا مع أمي حتى الصباح، و أنت لا يمكنك ترك أمك و أختك وحدهما، رجاءا اذهب و لا تؤخر نفسك أكثر)
بدا أمين مترددا قليلا، فربت أمين على ذراعه وهو يقول بجدية.

(اذهب أنت، فأنا سأبقى، و لا تقلق)
نظر أمين اليهما، ثم هز كتفيه ببساطة وهو يقول مومئا برأسه الى ياسمين
(حسنا، حمد لله على سلامة الوالدة مجددا)
ثم ربت على كتف فريد وهو يتكلم بصورة طبيعية، (سننتظرك على الغذاء بعد غد، لا تتأخر)
فتح فريد كفيه وهو يقول
(هل سبق و تأخرت عن طعام الحاجة والدتك! أنا ابنها المتبنى غذائيا)
رحل أمين أمام عينيها و هي تكاد أن تصرخ خلفه.

بهذه السرعة؟، أما صدقت أن قلت لك انصرف؟، انتظر لحظة، كلمة، نظرة أخيرة، بقت ياسمين واقفة في مكانها تشيع مغادرته بعينيها البائستين، فاقترب منها فريد ليقول بخفوت
(ياسمين)
نظرت اليه مجفلة و هي تقول
(ها، نعم)
ابتسم لها بحنان محبب وهو يقول بصوته الشقي و الذي يصبح رائعا في جديته
(ستكون بخير، لا تقلقي).

ابتسمت بحرج، ربما هي لا تشعر بالخزي لأنها تفكر في أمين في تلك اللحظة، فتفكيرها فيه، كان رغبة منها في الحصول على أقصى درجات الدعم و الحماية التي افتقدتها طويلا، حتى بدت أشبه بالرجال في تعاملاتها و اعتمادها على نفسها...
لذا قالت بخفوت
(شكرا، ان شاء الله ستكون بخير)
أخذت نفسا عميقا ثم قالت بجدية
(رجاءا اذهب الآن دكتور فريد، أنا بخير حقا و لا أحتاج لأي مساعدة، ما قدمته كان أكثر من كافيا).

فتح فريد ذراعيه وهو يقول ببراءة
(أنا لا أخوات و لا أمهات لدي، لذا يمكنك اعتباري، مرافقك الخاص الليلة)
ابتسمت قليلا و هي تقول بخفوت
(الا أخوات لديك حقا!)
حك فريد شعره وهو يقول بحرج
(حسنا في الحقيقة لدي أخت أكبر، لكنها متزوجة حديثا و تعيش أجمل لحظات حياتها في البلد)
ارتفع حاجبيها و قالت باهتمام
(مبارك، الف مبروك).

بدت مهتمة اكثر من اللازم بالموضوع، فتراجعت و جلست الى احد المقاعد و هي تنظر اليه بحيرة، وهو لم ينتظر دعوة، بل اتجه اليها و جلس بجوارها وهو ينظر اليها مبتسما دون حرج...
ملامحها غريبة جدا، لا يستطيع التحديد إن كانت قريبة للقلب لجمالها أم لشكلها الصافي الأقرب للدهشة دائما...
بدت ياسمين مترددة ثم قالت فجأة بجنون
(اعذرني سأسألك سؤال، لكنه بصراحة سؤال فضولي و في منتهى قلة الأدب).

اتسعت ابتسامة فريد دون ان يرد، بينما همس لسان حاله
فلتحيا قلة الأدب، الا أن ياسمين قالت مترددة بحرج، مرتبكة من وقاحتها
(أختك التي تزوجت حديثا، أكبر منك، أي أنها على الأرجح تقارب الثلاثين الآن، اليس كذلك؟)
مط فريد شفتيه وهو يقول
(لقد أتمت التاسعة و العشرين منذ شهرين)
ارتفع حاجبي ياسمين، ثم قالت بخفوت.

(لكن نظرا الى أنكما من بلدة في الجنوب، كيف تمكنت من البقاء الى هذا السن دون زواج؟، ظننت أن هذا يحدث عندنا هنا فقط، هل عانت من تلك النقطة و من كلام الناس قبل أن تتزوج؟)
نظر اليها فريد طويلا بنظرة متفحصة، فأبعدت وجهها و هي تغمض عينيها هاتفة بحرج
(ياللهي، لا تجب، أنا آسفة جدا على وقاحتي و تطفلي، فعلا آسفة)
الا أن فريد قال ببساطة
(كيف عرفت أنني من الجنوب، فعلى حد علمي، لهجتي لا تدل على ذلك بحكم النشأة).

ازداد ارتباكها و هي تقول بغباء
(لأن أمين من الجنوب، أقصد، أن نورا و أخاها، أنا صديقة نورا و أعرف أسرتها)
اتسعت ابتسامة فريد أكثر، بينما ازدادت خفقات قلبها جنونا و هي تهمس لنفسها
ركزي و الجمي لسانك، ستفضحينا، تكلم فريد أخيرا ليعفيها من الحرج الذي ظهر على وجهها بمنتهى الحماقة، فقال ببساطة.

(حسنا لأكون صادقا معك، لا فتاة تبقى في البلد دون زواج الى مثل هذا السن، أو سينتهي أملها في الزواج بنسبة كبيرة، لكن لأختي وضع خاص، فلقد سبق و تزوجت، لكن زوجها توفي رحمه الله، و تزوجت من بعده بحكم من العائلة)
فغرت ياسمين فمها و هي تهمس متعاطفة
(آآه، المسكينة، هل كانت تحب زوجها؟، أقصد الذي توفي رحمه الله، و هل أرغموها على الزواج من آخر دون ارادتها؟).

تنهد فريد وهو يتراجع في مقعده، واضعا كفيه في جيبي بنطاله قائلا بصوت شارد حزين
(لم يكن هناك من لم يحب سليم رحمه الله، و بالتأكيد سوار كانت تحبه جدا، لقد أوشكت على الإنهيار حزنا بعد وفاته، ولولا قوتها الجبارة، لما احتملت الألم...

بالنسبة لأنهم أجبروها، فهم بالتأكيد أجبروها، لكن يمكنك القول أنه اجبار برضا الطرفين، فسوار أحبت قوانين العائلة، و منذ مراهقتها، قررت أن تبقى في البلد، و تتبع العادات و تحترم الأعراف، لذا وافقت على الزواج مرة أخرى حين رأته في صالح العائلة)
كانت ياسمين تستمع اليه بملامح مرتاعة حزينة، ثم همست.

(لكن هذا، ظلم؟، لماذا يجبرها أي قانون في العالم على حياة لا تريدها، على الأقل لتأخذ وقتها في الحزن على زوجها المتوفي و تنعي حبهما)
ابتسم فريد بحزن وهو يقول
(ربما، لكن لكل عملة وجهان، فليث الذي تزوجته فيما بعد، كان يتمناها منذ الصغر، و هو يهيم بها عشقا، على الرغم من الشعر الأبيض الذي غزا لحيته و جانبي شعره، و هي إن كانت حرة أمرها منذ سنوات طويلة و فكرت قليلا، لاختارت ليث، لكن كل شيء نصيب).

ابتسمت ياسمين قليلا منبهرة و هي تهمس
(هل يحبها على الرغم من كونها أرملة؟)
نظر اليها فريد و قال بثقة
(أكثر من أي عروس بكر لم تتم العشرين حتى، عشقه يكاد أن يراه الأعمى)
هزت ياسمين رأسها و هي تبتسم بذهول و بارقة الأمل لديها تتوهج من جديد فهمست
(لا أعلم إن كانت قصة محزنة أم مبهرة، لقد وجدت فرصة حب ثانية بعد أن أغلقت الحياة أبوابها في وجهها، كدت أفقد الأمل)
لمعت عينا فريد للحظة، قبل أن يقول باهتمام.

(ما الذي كدت أن تفقدين الأمل به؟)
ارتبكت و احمرت وجنتاها، فنظرت أمامها و هي تقول بتعلثم
(ال، الأمل، الأمل بحياة جديدة مفرحة، رغم كل شيء)
ابتسم ابتسامة أعرض دون أن يرد، فمالت ياسمين تستند بمرفقيها الى ركبتيها تنظر للأرض بشرود، فحذا حذوها وهو ينظر للأرض مبتسما قبل أن يقول بمرح
(ياسمين، أدرك أنك كنت قلقة على والدتك فلم تجدي الوقت كي تختاري ملابسك بعناية، لكن، هل تدركين أنك ترتدين حذائين غير متطابقين؟).

لم ترفع ياسمين وجهها عن الأرض و هي تقول بفتور
(أعرف، لم أجد الحذاء المتطابق لأي منهما، فأنا أرمي بأحذيتي تحت السرير و لم يكن لدي الوقت الكافي لأبحث)
رفع فريد حاجبيه قائلا
(لو كنت ارتديت خف الحمام لكان هذا أكرم لك، على الأقل سيكون متطابق)
هزت ياسمين رأسها نفيا دون أن تضحك و هي تقول بجمود
(حتى خف الحمام غير متطابق، فهو بوردة، و قد فقد احداهما وردته و لم أعثر عليها حتى الآن)
عقد فريد حاجبيه قائلا.

(حتى إن لم يفقده، فلشكر الظروف التي منعتك من ارتداء خف بوردة، تكفينا الكنزة اللطيفة)
رفعت وجهها و هي تقول بحدة
(هل هي بشعة تماما؟)
قال فريد دون تردد
(جدا، ينقصها رباط عند العنق و ستشبهين سرة دنانير)
ازداد انعقاد حاجبيها بغضب و حرج، قبل أن تزفر و هي تستسلم للضحك الذي لم تستطع كبته أمام ملامحه الشقية الطيبة...
فلم ترى كيف تحولت ابتسامته أمام ضحكاتها الى، شيء آخر...

انتفض من نومه وهو يشعر باختناق مفاجيء و قبضة جليدية فوق صدره جعلته يمسك بأول ما طالته يداه، الا أن التأوه الخافت، جعله يستفيق مباشرة وهو يرى نفسه ممسكا بذراع عمرو بقسوة بينما هو يهتف بخوف
(أبي، أبي، انك تؤلم ذراعي).

نظر قاصي اليه بعينين حادتين مخيفتين في الظلام، الى أن استوعب هويته فخفف قبضته مباشرة وهو يستقيم ليجلس ناظرا الى غرفة الجلوس المظلمة من حوله، قبل أن يعاود النظر الى عمرو فقربه منه وهو يقول بصوت أجش
(من أغلق الضوء الجانبي؟)
مط عمر شفته السفلى وهو يقول بخفوت
(لا أعلم)
رفع قاصي كفه يدلك به عنقه من وضعية النوم المتعبة فوق الأريكة، ثم نظر الى عمر و سأله بصوت أجش أكثر خفوتا.

(لماذا خرجت من سريرك في مثل هذه الساعة؟)
بدت وجنتي عمرو مكتنزتين بشدة وهو يبدو شديد القنوط ثم همس بصوت مضطرب
(أمي تبكي)
عقد قاصي حاجبيه وهو يقول بخفوت
(ربما كانت ترى كابوس، كاللذي أفزعك منذ يومين، ألم نتفق أن هناك أحلاما مزعجة و ما هي الا مجرد أحلام و لن تتحقق في الواقع أبدا)
هز عمرو رأسه نفيا، ثم اقترب من قاصي أكثر و همس بصوت سري
(هي لا ترى حلما، بل تكلم الرجل الشرير في الهاتف).

سكن جسد قاصي تماما وهو ينظر الى عمرو بصمت، كمن تحول الى تمثال، ثم لم يلبث أن ضم عمرو اليه أكثر، هامسا في أذنه بنبرة غريبة
(أي رجل يا عمرو؟)
بكى عمرو فجأة بصوت مختنق وهو يغطي عينيه بقبضتيه، فضمه قاصي مطبقا عليه بين ذراعيه بقوة وهو يهمس بقوة و عنف في أذنه
(هششششش، لا رجل يبكي، ابن قاصي الحكيم لا يبكي مطلقا، أخبرني عما تعرفه، بالتفصيل).

أخذ عمرو يشهق باختناق، الا أن قاصي وضع كفه على فمه بصلابة وهو يهمس مجددا
(هشششش، أخبرني بسرك، و لن تعلمه أمك)
التقط عمرو أنفاسه بصعوبة، ثم همس بصوت خائف
(الرجل الذي يريد اختطافي، أتى الى البيت و كانت أمي تبكي، لكنه ضمها و).

انقبضت أصابع قاصي على ذراع عمرو فجأة، بينما بدت عيناه و كأنهما تحولتا الى عيني شيطان هارب من الجحيم، لكن بسبب الظلام، لم تظهر عيناه الى عمرو فترعباه اكثر، الا أنه تأوه من قسوة أصابع قاصي...
انتبه قاصي الى تأوه عمرو فخفف قبضته على الفور، ثم نظر الى غرفة ريماس المغلقة البعيدة، و همس بصوت أجش
(هل هي تكلمه الآن؟).

أومأ عمرو برأسه دون أن يرد، حينها فقط، نهض قاصي من مكانه ببطىء، ممسكا بكف عمرو بقوة، وهو يجره خلفه دون أن يحدثا صوت، الى أن أدخله غرفته و انحنى على عقبيه أمامه ليهمس له بصوته الأجش الخطير...
(سنلعب لعبة معا، ادخل فراشك، و اختبىء تحت غطائك و مهما حث لا تخرج الا بعد أن آتي اليك و أخرجك بنفسي، اتفقنا؟)
أومأ عمرو برأسه، فأشار قاصي اليه أن يذهب و لم يغلق الباب الا بعد أن تأكد من اختباء عمرو تحت غطائه...

أحكم قاصي غلق الباب و نظر أمامه بعينين مظلمتين، لا تعرفان الثقة، و لا تأمنان لحبيب...
كان يتحرك بقدميه الحافيتين، دون صوت الى باب غرفتها، حتى وضع كفيه على سطح الباب و أقترب بأذنه يرهف السمع...
كانت تبكي بالفعل و أكثر كلماتها غير مفهومة، الا أنه استطاع التقاط بعضها، حين كان يعلو صوتها درجة واحدة فقط...

(أرجوك كفى، لا، أنت مصمم على خراب بيتي، قاصي هو الزوج الوحيد الذي أعرف، أنت تتصل باستمرار، حتى أنه بدأ يتسائل عن سبب اغلاقي المستمر للهاتف، وهو لا يغادر البيت مطلقا في الأيام الأخيرة، سيقتلك لو عرف أنك تحاول التواصل معي، فضلا عن محاولة أخذ ابنه)
صمتت للحظة قبل أن تهتف همسا بنشيج مختنق
(لا تصرخ، لا تصرخ، أنت من رماه قبل حتى أن يرى نور الشمس، بينما قاصي رباه، لم يعرف والدا غيره و أنت المتسبب في هذا).

عادت لتصمت مجددا، الا أن قاصي سمع صوت نحيبها الخافت، ثم قالت باختناق.

(قاصي لو عرف بمحاولاتك للقدوم في غيابه سيقتلك، يكفي أن التافهة زوجته جائت الى هنا، و هددتني بعد أن عرفت من عمرو بتماديك معي المرة السابقة، أنت السبب في وقوفي أمامها صاغرة و هي تلقي على محاضرة في الحفاظ على اسم زوجها و الا تصرفت بنفسها، انت السبب في أنني لم أستطع اسماعها ما يليق بها، أنا لست حمقاء، أنت تريد أن تسلبه كل ما يملك، أنا و هي، هو أخبرني عن محاولاتك في استدراجها).

صمتت للحظة قبل أن تهتف بصوت أعلى قليلا.
(لا تضحك، تبا لك، لا تضحك، لقد أفسدت حياتي كلها و لم تكتفي بعد، أي عذاب ستكبدنا أنا و ابني مجددا!، أرجوك تحلى ببعض الرحمة)
مد قاصي يده ليفتح الباب بهدوء و بطىء، ليقف في اطاره، و في الظلام بدا مخيفا بشكل يثير الفزع مما جعل ريماس تشهق بصوت عال و الهاتف يسقط من يدها...

الا أن قاصي لم يتحرك على الفور، بل ظل واقفا مكانه ينظر اليها في الظلام دون أن تتبين ملامحه و عينيه، ثم تحرك...
سار بقدميه الحافيتين ببطىء و ثقة حتى وصل الى الهاتف الملقى أرضا، فرفعه الى أذنه...
بينما تراجعت ريماس بذعر الى مؤخرة السرير تضم ركبتيها الى صدرها، و هي تشهق منتحبة...
أما قاصي فتكلم بهدوء دون أن يفقد أعصابه...
(سأتلذذ بقتلك، أعدك بهذا).

و قبل أن يسمع ردا كان يلقي بالهاتف بكل قوته حتى ارتطم بالحائط و تهشم تماما، الى عدة أجزاء، كما سبق و فعل مع هاتف تيماء من قبل...
ثم استدار ينظر الى ريماس، في الظلام الذي يغرقهما، بدا الوضع مخيفا أكثر، بينما هي تشهق بأنفاس ذاهبة
(كنت أحاول اقناعه، أقسم أنني أجبت اتصاله فقط لإحاول اثنائه عما يريد فعله).

لم يتكلم قاصي على الفور، بل وقف مكانه صامتا، مما جعلها تخفض وجهها بين ركبتيها و تنتحب أكثر محاولة السيطرة على رعبها منه، و الذي لا تدري له سببا...
فهو لم يؤذها مطلقا من قبل، و على الرغم من هذا فهي تعرف أنه ليس متزنا تماما في غضبه و إن حدث و مسه أحد بسوء، في عرضه او شرفه أو كرامته، ألم تخبرها تيماء أنه سبق و قطع لسان شخص ما تجاوز معه من قبل!
ازدادت رعبا و هي ترتجف باكية بشدة...

لم يحاول قاصي أن يطمئنها، بل نظر اليها بصمت، الى أن قال أخيرا بصوت لا تعبير به
(لقد سمحت له بلمسك)
تسمرت ريماس تماما، حتى أن ارتجافها توقف من الوصول الى أكبر درجات الذعر، و ما أن تمكنت من الحركة حتى رفعت وجهها اليه مصدومة...
لم يكن يسألها، بل كان يقر أمرا واقعا...
حاولت الكذب، حتى أنها فتحت فمها لتجيب، الا أنه قال بصوت قاطع، أجفلها
(لا تحاولي الكذب، أنا اعرفك جيدا، إياك و المحاولة حتى).

كانت تنظر إلى هيئته المظلمة و كأنها ترى ملامحه تماما، بينما سكنت تماما، و لم تشعر بنفسها الا و هي تقول بخفوت.

(تعرفني جيدا، اليس كذلك! يمكنني تخيل مدى معرفتك بي، معرفتك بتلك المرأة المثيرة للشفقة و التي تحاول جاهدة منذ سنوات، أن تجذبك اليها، كي ترضي بعضا من أنوثتها الجائعة، لكن دون جدوى، بكل غرور و عنجهية ترفضني و كأنني مجرد بقايا متفضلة من رجل آخر في حياتك، حتى أنك تزوجت و أرضيت رغباتك، بينما من المفترض أن أبقى أنا أسيرة هذا الإحتياج البارد الموجع الى الأبد).

لم يرد على الفور، بل قال بعد عدة لحظات بصوت غير مفهوم.

(كنت صريحا معك منذ البداية و أنت قبلت، حتى أنني خيرتك بالطلاق فرفضت، أردت الحماية و البيت و الأب لابنك أكثر من أي رغبات أخرى، و صدقتك، لكن من يعاني طبعا عطنا، لن يغادره مطلقا، و ما أن ظهر أمامك حتى تحكمت بك كل رغباتك و سمحت له بتدنيس اسمي الذي تحملينه، لو كنت تحليت بالشجاعة و طلبت الطلاق لما رفضت، لكنك تريدين كل شيء، إما أن أمنحك ما لا أقدر عليه، و إما أن ترتمين تحت قدميه عند أول مرة يظهر بها بعد سنوات من احتقاره لك).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة