قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والأربعون

فور الإنتهاء من عقد القران، ابتعدت بنفسها عن الجمع الذي تجمهر للتهنئة من حوله، زوجها أمجد الحسيني...
حتى الآن لا تكاد أن تصدق اللقب...
و على الرغم من كونها هي العروس، الا أنها فضلت أن تبتعد الى احدى الزوايا تنشد الوحدة لبعض الوقت و هي تراقب هذا العدد المحدود وهم يبتسمون و يتداخل كلامهم و تنهنئاتهم، بينما يبدو وجه أمجد واضحا من بينهم وضوح الشمس...

لا تعلم إن كان ملحوظا بالفطرة بين البشر، أم أنها باتت تستمتع بالنظر اليه مؤخرا...
لكن لم يكن هذا ما يجعلها تنظر اليه، بل شيء ما في تغير ملامحه، كان يوترها و يشعرها بالقنوط...
وهو ذلك الجمود الذي ارتسم على وجهه منذ أن صدقت على رغبتها في تسجيل الشرط بعقد الزواج...
لم تخدعها عيناها...
لقد تغيرت ملامحه تماما، منذ تلك اللحظة و بدا و كأن بريق الفرح في عينيه قد خبا...

ترى هل تعجلت في قرار الزواج منه!، إن كان قد تغير منذ أول شرط بينهما...
أثناء تأملها الصامت له عند بعد، رفع رأسه فجأة يبحث عنها الى أن التقت أعينهما...
و لعدة لحظات وقف كل منهما ينظر الى الآخر دون ابتسام...
كانت تشعر بعينيه تحاوطانها، تحاصرانها، و كأنهما تطلبان منها التسليم...
أجفلت مسك فجأة و هي تشعر بكف وضعت على كتفها، فنظرت بسرعة، الى والدها الذي كان قد اقترب منها دون أن تشعر ليمس كتفها بصمت...

تكلمت مسك أولا فقالت بخفوت
(أبي)
الا أن سالم كان ينظر اليها بملامح قاتمة كئيبة، كان محني الكتفين، مثقل النظرات، ثم تابع قائلا بنفس النبرة الخافتة البطيئة
(و كنت تغضبين إن سمعت أحدهم يقول أن انجاب البنات يكسر الظهر! فهل صدقت الآن؟، كسرتما ظهري أنت و أختك يا ابنتي سالم)
أغمضت مسك عينيها و هي تزفر بخفوت هامسة بصوت متعب
(أبي، لا تفعل أرجوك، ليس الآن).

الا أنها فتحت عينيها، لتجد نظرة الأسى المظلمة في عينيه، زادت وهو يشير بكفه الى الجمع المتجمهر حول أمجد عن بعد قائلا
(انظري، انظري، الى عقد قران مسك الرافعي، ابنة سالم الرافعي، فارسة عائلة الرافعي و التي كانت تأسر قلب كل فرد فيها و تثير زهوهم، دار الزمن و حضرت عقد قرانها و الذي خلا من أفراد عائلتنا بأكملها، و كأنها يتيمة، مقطوعة الجذور، كيف تتخيلين شعوري الآن؟).

تصلبت شفتاها في خط مشتد و هي تنظر الى ملامح العجز الذي زادته سنا فجأة، ثم قالت بصوت جامد...
(لماذا غيرت رأيك و أتيت معي في النهاية اذن؟)
ابتسم سالم بسخرية حزينة وهو يقول بأسى
(الا تعرفين؟، وضعتني في محل اختيار، إما أن أشارك المرض في ايلامك أكثر، أو أصر على ما كان يجب أن يكون بقلب قوي، كيف لي أن أسمح بكسرك لثالث مرة؟، مال الدنيا و أراضيها، لن يساعداني على ظلمك أكثر).

شعرت مسك بوجع مؤلم في صدرها، الا انها قالت بهدوء خافت...
(أنا لم يكسرني المرض يا أبي، و بالتأكيد لم تكسرني خيانة أشرف، لذا، من الطبيعي ألا يكسرني شيء آخر، فلا أعتقد أن هناك ما هو أصعب)
تنهد سالم وهو يبعد كفه عنها، ليفتح راحتيه قائلا بعجز
(و الآن ماذا؟، حققت ما تريدين و تزوجت، كيف سنحلها يا ابنة سالم؟)
مدت مسك يدها فجأة لتطبق على احدى كفيه المفرودتين بعجز، و قالت تقاطعه بصدق
(أشكرك يا أبي).

صمت سالم فجأة و تراجع رأسه للخلف، ثم قال بتوتر
(علام تشكرينني؟)
قالت مسك بجدية و دون أن تترك كفه
(لأنك معي هنا، اليوم، للحظة شككت في الأمر)
رأته يبتلع غصة في حلقه، وهو يبعد عينيه عنها، ثم قال بصوت أجش متعنت
(متى كان يوما لم أحقق لك فيه شيئا يا مسك؟، كنت أميرة تأمر فتطاع منذ طفولتها)
شدت مسك من قبضتها على كف والدها و هي تقول بنبرة أكثر صلابة.

(لكن هذه المرة مختلفة، لقد قدمت لي تضحية لن أنساها مطلقا يا أبي)
أطرق سالم برأسه، وهو يقول بنبرة مختنقة
(لقد خسرت كل شيء، لكن، أيقنت أخيرا أن الخسارة، لم تكن غباءا مني أو سوء تقدير، بل قال القدر كلمته في النهاية، مهما حاربت، فالخسارة مكتوبة لي كحليفة منذ البداية)
شدت مسك على أصابعه أكثر و أكثر و هي تقول بحرارة، بها لمحة غضب.

(أنت لم تخسر شيئا، الأرض ليست كل شيء، و العائلة التي تتحكم في مصير ابنائها دون تقدير لأوجاعهم، فراقها أفضل)
رفع سالم وجهه وهو يقول بنبرة حازمة قوية
(كفى يا مسك، لا تزيدي)
لكن و قبل أن تجيبه، انبعث صوت رجولي هادىء من خلفها، يقول بنغمته التي باتت تحتل مكانة مألوفة في أذنها...
(أنت تستأثر بزوجتي يا سيد سالم، فهل أشارككما قليلا، أم أختطفها فورا).

شعرت مسك بالتوتر للحظة، قبل أن تلتفت برأسها تنظر الى أمجد الذي كان واقفا خلفها مباشرة و عينيه عليها، فتلقفتا عينيها بكل سلاسة و استبقاهما...
الآن كان يبتسم لها و قد خفت بعضا من ملامح قنوطه التي ظهرت عليه فور انتهاء عقد القران...
ثم قال لها متابعا برقة و ابتسامة ازدادت عمقا
(لقد ابتعدت سريعا، قبل حتى أن أستطيع تهنئتك)
رمشت مسك بعينيها، قبل أن تجيبه باتزان و هي تشير الى أفراد عائلته بطريقة واهية.

(لقد أحاطت بك عائلتك بسرعة، ففضلت ترك بعض الوقت لكم)
لم يجيبها أمجد على الفور، بل ظل ينظر اليها نفس تلك النظرة الخاصة و الإبتسامة على شفتيه تزداد عمقا و كأنه قد بدأ يستوعب للتو أنها أصبحت زوجته أخيرا...
ارتبكت مسك للحظة، و هي تراه يقترب منها، ليضع كفه برفق على ظهرها فجأة، وهو يميل اليها ليقول بنعومة
(أما أنا فكنت أفضل أن أهنئك قبلا، لذا، هل تسمحين لي؟).

و قبل أن تسأل عن المطلوب منها كي تسمح به، كان أمجد قد انحنى اليها بالفعل و طبع شفتيه على جبهتها...
تصلب جسد مسك بقوة و انتفضت انتفاضة خفية غير ملحوظة، بينما تنحنح والدها بصوت عال، فانتبهت الى أن كفها لا تزال بكف والدها...
شعرت أن أمجد لا نيلة له في انهاء تلك التهنئة مطلقا في وقت قريب، و بدأ عطره يتخلل الى رئتيها، محتلا أنفاسها، فأخذت هي المبادرة، ورفعت كفها الحرة لتضعتها على صدره، وتدفعه بتهذيب...

للحظة شعرت به يقاوم كفها فاستعدت لأن تنطحه بجبهتها في أنفه كي يبتعد، فهو يحرجها أمام والدها...
الا أنه لحسن الحظ، استسلم و تحلى ببعض الذوق، فابتعد مبتسما و عيناه تتألقان ببريق شبيه بذلك الذي يظهر في عيني طفل نال حلواه التي تاق لها، و سيحتفظ بالباقي منها في ورقتها لحين أكلها بأكملها حين يكون وحيدا...
زمت مسك شفتيها و هي تهز رأسها قليلا كي تبعد عن ذهنها هذا التخيل الساذج، بينما همس لها أمجد برقة.

(مبارك لي يا عروسي)
ابتسمت مسك بحرج، و هي تنظر الى والدها بطرف عينيها دون أن تترك كفه بعد، ثم قالت بتوتر
(لفظ عروسي هذا، يشعرني و كأنني دمية!)
نظر أمجد اليها من قمة شعرها المصفف بأناقة، نزولا الى فستانها الوردي الرقيق دون بهرجة، ثم ارتفعت عيناه اخيرا الى عينيها المتحفظتين، فقال بنبرة شاردة
(بل أجمل من أي دمية والله).

زمت مسك شفتيها أكثر، بينما التفت أمجد الى سالم الرافعي و مد يده قائلا بنبرة جادة، محاولا السيطرة على مشاعره التي بدأت تخونه و تظهر للعلن في تلك اللحظات المحتدمة...
(مبارك يا سيد سالم)
حاولت مسك ابعاد يدها عن كف والدها كي يصافح أمجد، الا أن سالم لم يترك يدها، بل ظل واقفا مكانه ينظر الى يده الممدودة و المنتظرة الهدنة و السلام...

ازداد ارتباك مسك أضعافا و هي ترى أن والدها لا نية له في مصافحة أمجد، فقالت بقلق
(أبي، أرجوك)
نظر سالم الى عينيها القلقتين، و كان في عمقهما خوف خفي، من أن تحرج علنا مجددا...
لذا تنهد وهو يشعر بطعم الصدأ في حلقه، قبل أن يتنازل و يرفع كفه ليصافح أمجد قائلا بصوت خال من المشاعر
(مبارك لك أنت يا أمجد، لقد فزت بأغلى فتيات عائلة الرافعي)
شعرت مسك بحرج مؤلم من عبارة والدها الساذجة...

فأخفضت وجهها، و هي تلعن هذا الموقف الغبي، والدها يحاول أن يمنحها قيمة أمام أمجد ليتعالى عليه، لكن بالنسبة الى رجل غريب، تنازل و قبل بالزواج منها، فمن الطبيعي أي يتميز غيظا بداخله الآن و يتهكم قائلا.

كان هذا منذ زمن فات يا سيد سالم، لم تعد مسك الرافعي تساوي شيئا في سوق الزواج، و عليك أن تكون شاكرا، و فيما هي تتخيل هذا الحوار الوهمي، أجفلت و هي تشعر بقبضة أمجد تحت ذقنها، ترفع وجهها اليه، حتى نظرت الى عينيه...
كان مبتسما، و لم يظهر في عينيه أي سخرية وهو يقول بجدية خافتة، مزهوة
(أعرف هذا، لقد فزت للتو بأغلى امرأة)
ارتجفت شفتي مسك للحظة، قبل أن تبعد وجهها عن كفه و مجال عينيه و هي تقول بهدوء متصلب.

(لقد أطلنا الوقوف هنا، على ما اظن أن هناك عقد قران يلي عقدنا، و من المفترض أن نغادر)
لم يرد أمجد عليها، بل ظل ينظر الى عينيها المتهربتين منه لبضعة لحظات، الى أن بادر والدها قائلا بصرامة
(هيا بنا يا مسك لنغادر)
أوشكت مسك على التحرك، الا أن قبضة أمجد أطبقت على ساعدها، و قال بهدوء جاد.

(عذرا سيد سالم، ربما قد تم كل شيء سريعا، لكنني لن أقبل أن تمر هذه الأمسية دون أن أحتفل بمسك، لذا هل سمحت لها بالخروج معي الليلة)
رفع سالم عينيه الرافضتين الى أمجد وهو يقول بصوت متشنج
(لقد ذكرت بنفسك أن كل شيء قد تم بسرعة، لذا الوقت ليس مناسبا لأي احتفال، فلتؤجل هذا لما بعد، هيا بنا يا مسك)
أوشكت مسك على التحرك، الا أن قبضة أمجد لم تسمح لها بالتحرك مجددا، بل قال بصوت أكثر حزما.

(مسك ستقضي الأمسية معي يا سيد سالم، أنا مصر، بعد اذنك)
ازداد انعقاد حاجبي سالم وهو ينظر اليه و الشرر يتطاير من عينيه، ثم قال بغضب
(و هل تركت مجالا لأخذ الإذن؟، أنت تتحداني بأنها أصبحت زوجتك)
توتر الجو بين ثلاثتهم، الا أن أمجد قال بثبات
(أنا لم أتحداك، لكنها زوجتي بالفعل و من أبسط حقوقي أن)
ارتفع حاجبي سالم وهو يقول بحدة، حتى ان صوته كان مسموعا و التفتت بعض الرؤوس اليه
(حقوقك!).

تسمرت مسك مكانها و هي تنظر حولها الى بعض الوجوه التي تراقب ما يحدث، و كان منها وجه أخت أمجد، التي كان تنظر اليهم مستنكرة، بالرغم من الدموع التي لم تجف في عينيها حتى الآن...
فقالت بتوتر و رجاء
(أبي)
لكن على ما يبدو أن أي منهما، لم يسمعها، خاصة و أن أمجد قال في نفس اللحظة بصوت أكثر جدية.
(أن أحتفل بها كما تستحق)
فتح سالم شفتيه ينوي الهجوم، الا أن مسك سارعت بالقول بكل حزم، و عيناها تلمعان بعنفوان.

(كفى، الا تلاحظان أنكما تحرجاني أمام الناس)
زم سالم شفتيه، وهو ينظر الى أمجد بنظرات من هزم، بينما التفتت مسك الى أمجد تقول بتهذيب
(هلا غادرت أنت الآن، و سنتفق فيما بعد على يوم آخر كي)
قاطعها أمجد يقول بصوت صلب لم تسمعه منه من قبل و عيناه تخترقان عينيها بلا رحمة
(لن أغادر الآن بدونك، و هذا أمر لا جدال به).

فغرت مسك شفتيها قليلا و ارتفع حاجبيها و هي تنظر الى تلك الحدة في عينيه، الى أن تابع بصوت اكثر هدوءا لكن لم يفقد سطوته
(لن تحرميني من هذه الأمسية يا مسك، ستكون ذكرى غير محببة لنفسي)
ابتلعت مسك غصة تشنج في حلقها و هي تطرق برأسها قليلا، ثم نظرت الى والدها و قالت بخفوت
(أبي، هلا سمحت لي، رجاءا، لن نتأخر)
انعقد حاجبي سالم بشدة بينما صدر صوت تهكم من أمجد قبل أن يستطيع منعه، فالتفت اليه سالم محتدا وهو يقول.

(ماذا تعني تلك الضحكة؟)
لم يحاول أمجد التظاهر بعدم الفهم، بل قال بكل جدية و دون تردد و قبضته تزداد شدة على معصم مسك
(تعني أنك تتعنت جدا يا سيد سالم، لقد تزوجنا و انتهى الأمر، عليك تقبل هذه الحقيقة، و مضايقتي فيما يخص حقوقي بمسك كل مرة لن تجلب لنا سوى زيادة الصدع بيننا)
نظر سالم الى مسك وقال بحدة وهو يشير الى امجد
(هل رأيت، هل رأيت و سمعت بنفسك؟).

زمت مسك شفتيها و أغمضت عينيها و هي تدرك بأن جميع الأنظار تراقب حدة الحوار عن بعد رغم أنه ليس مسموعا تماما، لكن كان خلاف أمجد و سالم واضحا بلا شك
فتحت عينيها بعد لحظة و خاطبت والدها قائلة بخفوت متزن
(أبي، أنا في حاجة للكلام مع أمجد لبعض الوقت، لم تتح لنا الفرصة للكلام بحرية قبلا، أنا، سأغادر معه و لن أتأخر، أعدك بهذا، أرجوك الا تزيد من الخلاف الآن، فالجميع ينظرون الينا).

نقل سالم عينيه بينهما، ثم رفع رأسه قائلا بعجز
(لا تتأخري)
أومأت مسك برأسها، دون أن تجد ما ترد به، فاستدار سالم و غادر، متجاهلا تحية أي من المتواجدين، فوقفت مكانها تشعر بالحرج و الوحدة، بينما كان أمجد ينظر اليها، و معصمها لا يزال في قبضته...
حرك كفه على معصمها ببطىء حتى التقط كفها و تخلل أصابعها بأصابعه فرفعت وجهها تنظر اليه بصمت قبل أن تقول بجمود.

(كان عليك أن تكون أكثر تساهلا معه، فلقد قدم اليوم تضحية كبرى)
ارتفع حاجبي أمجد وهو يقول بجمود مماثل
(تضحية في قبوله بزواجك مني؟، لم أكن أعلم أنه تنازل ضخم الى هذه الدرجة)
استدارت مسك اليه بكليتها و هي تقول بجدية دون أي تردد.

(بلى هو كذلك، لقد قدم تنازلا أكبر من أن تستطيع ادراكه، أنت لا تعلم كيف سيكون موقفه ما أن تعلم عائلتي، سيكون منبوذا و لن يحصل على من يرث أرضه اطلاقا، فالإناث لا ترث أراض ما أن تتزوج من غريب، أرضه ستعود للعائلة بالأمر)
قال أمجد ببرود
(كانت ستؤل للعائلة في كل الأحوال)
انعقد حاجبي مسك قليلا و هي تنظر الى عينيه الصارمتين، ثم قالت بشك
(هل تحاول ايذائي؟)
قال أمجد بعد فترة صمت، بنبرة غريبة.

(ربما، فقد تدمع عيناك، و أوهم نفسي حينها انها دموع التأثر بعقد القران)
مطت مسك شفتيها و هي تقول ببرود
(أمجد، لا تبالغ في طلب المسرحيات العاطفية، فهي لا تغريني، و أنا لن أقدم لعائلتك عرضا مؤثرا كي يقتنع أفرادها بأنك تزوجت من فتاة حساسة تليق بك)
ازداد انقباضه على أصابعها، قبل أن يقول بنفس النبرة التي بدت اكثر غموضا
(تعالي لنسلم على أفراد عائلتي، عوضا عن مغادرة والدك دون مراعاة كرامة أي منهم).

حاولت مسك مقاومة جرها خلفه باتجاه عائلته، الا أنها استسلمت في النهاية و هي تقنع نفسها بأنها ليست تلك الغبية التي تتخذ من العناد الأحمق سلاحا...
وصل أمجد الى أمه تتبعه مسك، فقال لها بحنان وهو يقدم مسك لها ممسكا كتفيها مما جعلها تتوتر و تتشنج أكثر
(مسك أمامك يا أم أمجد كي تهنئينها بنفسك)
رفعت أمه وجهها المتورم من البكاء و هي تهمس بصوت متحشرج
(اقتربي يا مسك، تعالي الي).

زمت مسك شفتيها قليلا، لكنها انحنت الى والدته و هي تستسلم الى أحضانها الدافئة، كانت تضمها بقوة، و استطاعت مسك سماع صوت نحيبها الخافت، فأغمضت عينيها بقوة و هي تهمس لنفسها
كفى، كفوا عن تعذيبي بتلك الطريقة، لم أضربه على يده كي يتزوجني، لكنها التزمت الصمت الى أن تنتهي تلك اللحظات، لكن أم أمجد كانت تحتضنها بقوة و هي تربت على ظهرها، ثم همست في أذنها.

(اعتني به يا ابنتي، فأنا لست باقية له العمر بكامله، اجعليه ابنك و لا تحرميه شيئا)
ازداد انطباق جفني مسك بقوة و الصرخة بداخلها تزداد وحشية
كفوا، كفوا، ارحموني، لكنها سيطرت على نفسها بكل ارادة الى أن أبعدتها والدة أمجد أخيرا و هي تقول بصوت مختنق، تحاول الإبتسام
(مبارك، مبارك يا ابنتي، عسى أن تكون زيجة العمر)
التفتت مسك الى أمجد الذي كان يراقبهما بصمت، فدفعها شيطان غبي الى القول مبتسمة بنبرة ذات مغزى.

(الأمر يعود لأمجد في هذه النقطة، إن أراد أن تكون زيجة العمر بأكمله، فليلتزم بشرطي و لا يفكر في الزواج من أخرى)
انعقد حاجبيه قليلا بينما قست عيناه وهو يبادلها النظر، فماتت الكلمات الوقحة من على شفتيها و هي تدرك بأنها قد تجاوزت حدودها كثيرا، خاصة بعد الشرط المفاجىء للجميع و الذي لم ينساه أفراد عائلته بعد...

تدبرت ضحكة خرجت من بين شفتيها بعصبية كي تخفف من وطأة الجو، لكن أي منهم لم يشاركها الضحك، بل انخفض وجه أمه بصمت، بينما تقدمت أخته اليها و هي تمد كفها قائلة ببرود دون أن تحاول معانقتها
(مبارك يا مسك، كنت أريد تهنئة والدك، الا أنه على ما يبدو كان مشغولا جدا فرحل قبل أن يحيي أي منا)
مطت مسك شفتيها بإبتسامة أكثر برودا على الرغم من أناقتها و قالت بهدوء.

(لا داعي لإلقاء الكلمات ذات المعنيين يا مهجة، الأمر لا يزال معقدا، لذا لن أحاول محاكمة والدي حاليا، هناك بعض الأمور خافية عليكم لذا لا تفكروا في تصرفاته كثيرا، فأنتم تضيعون وقتكم بهذا. )
نظرت مهجة بعيدا و قد تحولت ملامحها الى ملامح جليدية، قبل أن يقول أمجد بنبرة حاسم مقاطعا الجميع
(أرى أن وجودنا هنا قد طال، أنا و مسك سنغادرمعا و أنتما ستغادران مع وفاء و زوجها).

و دون أن ينتظر ردا من أحد، كان قد انحنى الى والدته وطبع شفتيه على جبهتها هامسا لها برقة
(لن أتأخر هذه الليلة يا غالية، سأعيد مسك لبيتها و أعود اليك سريعا)
ربتت أمه على وجنته و هي تهمس بنبرة مختنقة
(لا تشغل بالك بي، اذهبا و افرحا بأجمل أيام حياتكما، لقد باتت زوجتك الآن كما تمنيت)
التفت أمجد ينظر الى مسك بطرف عينيه، ثم قال بصوت واضح كي تسمعه
(أسمعيها هذا يا أمي، علها تقتنع).

ابتسمت مسك بسخرية و هي تقول بنبرة ممازحة
(اقتنعت عزيزي، الا يجدر بنا المغادرة الآن).

أثناء جلوسها بجواره في السيارة، كانت تراقبه بين الحين و الآخر...
محاولة فك شفرة معالم وجهه الجانبية، هل هو سعيد حقا كما يدعي أم أنه غاضب من شيء ما...
تكلمت مسك تقطع الصمت بينهما
(لا داعي للعشاء، هلا جلسنا في أي مكان بسيط لشرب شيء)
القى عليها أمجد نظرة عابرة وهو يسألها ببساطة
(هل ستجلسين في مقهى لشرب شي ما و أنت ترتدين مثل هذا الفستان؟).

اخفضت مسك عينيها تنظر الى الفستان الوردي الشاحب ذو التطريز الراقي، ثم رفعت وجهها اليه و قالت بجدية
(اذن دعنا نتكلم في السيارة و لتعدني للبيت مباشرة، لا أريد التأخر الليلة تحديدا)
قال أمجد بنبرة قاطعة
(هذه الليلة تمر كما خططت اليها تماما يا مسك، لذا اهدئي و استريحي في مقعدك لحين وصولنا)
زفرت مسك بضيق و هي تنظر من نافذتها بصمت، بينما كانت أصابع كفيها تتشابك و تتلامس ببطىء...

كانت شاردة حين قال أمجد بهدوء يحادثها
(هل يمكنك التظاهر بالسعادة لأجلي؟)
التفتت تنظر اليه، ثم قالت بجمود
(اعذرني إن كنت غير مبهجة لك الليلة، لكن الكثير من الأمور تشغلني)
قال أمجد دون ان ينظر اليها، بل كان مركزا عينيه على الطريق
(و ماذا لو كنت أريد ذهنك صافيا، لا يشغله شيء، سوى تلك الرجفة التي تلي عقد القران عادة لأي زوجين)
ظلت مسك صامتة بضعة لحظات ثم قالت بحذر
(لا أشعر بأي رجفة).

ابتسم أمجد دون أن يرد، ثم قال أخيرا
(الا تشعرين بأي شعور خاص؟)
رفعت مسك حاجبيها و هي تحاول انتقاء كلماتها كي تبدو مهذبة، فقالت بهدوء
(أشعر أنني راضية حتى الآن، فقد تم الأم بالفعل دون أي كوارث متوقعة، فلو كان والدي قد)
لم تستطع مسك المتابعة حين مد أمجد يده فجأة و أمسك بكفها برفق، و قال بهدوء يقاطعها دون أن ينظر اليها
(اصمتي يا مسك، اصمتي حبيبتي).

انعقد حاجبيها و هي تنظر اليه بعدم فهم، الا أن امساكه لكفها و لفظ حبيبتي، جعلاها تتوتر بمشاعر غير مرغوب فيها، مشتتة للذهن، لذا أخذت نفسا عميقا و هي تحاول فك أصابعها من بين أصابعه قائلة بنبرة آمرة
(هلا تركت يدي)
قال أمجد بنفس البساطة و الهدوء
(لا)
أطرقت مسك برأسها تنظر الى كفيهما الذين اتحدا و كأنهما جسم واحد، كانت أصابعه تتخلل أصابعها بتناسب غريب، و كأنه أعتاد هذا منذ سنوات طويلة...

تبا لهذا، هي ليست صغيرة السن كي تتوتر من مجرد إمساكه ليدها...
ساد الصمت بينهما الدقائق المتبقية و هي تراقب كفه بحذر كي لا تتمادى، الا أن تماديها ما كان سوى تحرك أصابعه فوق كفها ببطىء، دون أن ينظر اليها و كأنه يستمتع بتلك اللحظة مع نفسه فقط، كي لا تفسدها هي...
قال أمجد أخيرا وهو يترك أصابعها على مضض
(لقد وصلنا).

رفعت مسك وجهها، تنظر الى المكان الراقي الذي تعرفه اسما لكنها لم تجربه قبلا، فالتفتت الى أمجد تقول باستياء
(إن المكان رسمي أكثر من اللازم، حقا لم يكن هناك داع الى هذا)
أوقف السيارة بصمت، ثم نظر اليها في الظلام بملامح قاتمة و قال بهدوء
(لماذا ارتديت هذا الفستان اذن؟)
ارتبكت قليلا و هي تقول بعدم فهم
(مما يشكو الفستان؟)
قال أمجد بجدية.

(يشكو من أنه فستان عروس تستحق السعادة و الإحتفال و الفرح، لا هذا البرود الغريب)
زفرت مسك و هي ترفع اصابعها الى جبهتها قائلة بتوتر
(الأمر تم بسرعة و أنا)
قال أمجد بقوة.

(لا، لم يتم بسرعة، و حتى و إن كان كذلك، فهذا ليس سببا كافيا يمنعك من أن تكوني عروس تم عقد قرانها، لذا إن كنت أنت لا تشعرين بأنها ليست مناسبة خاصة تستحق الإحتفال، فاعذريني لأنك ستشاركينني بها مرغمة، فأنا أنوي الإحتفال بهذا العقد كما يجب، و بطريقة تجعلني أحفظها كذكرى تستحق التذكر لسنوات طويلة مقبلة)
كانت مسك تنظر الى حدته في الكلام متسعة العينين قليلا، الى ان انتهى، فقالت بدهشة.

(ليس هناك داع لمثل هذه الحدة، كنت فقط أقترح)
قاطعها أمجد قائلا بصرامة
(أخرجي)
و دون أن يسمح لها بحرية القبول، كان قد خرج من السيارة بالفعل و دار حولها كي يفتح لها الباب، ثم أمسك بكفها يجذبها كي تخرج، فكادت أن تتعثر لولا أنها استقامت في اللحظة الأخيرة
رفعت مسك وجهها الثائر اليه و قالت بغضب
(على مهلك، كدت أن أقع على وجههي)
ابتسم لها أمجد وهو يقول بنبرة مستفزة
(بل كنت ستقعين على صدري، لذا الخسارة خسارتي).

زفرت مسك بضيق، بينما سمحت له أن يدخلها الى هذا المكان الراقي...
كانت طاولاته كلها مغطاة بأغطية من المخمل النبيذي اللون، و اضاءاته جانبيه، تشاركها الشموع على الطاولات...
ألوان الجدران و المقاعد، تنحصر في الذهبي و النبيذي مما جعلها تشعر بأنها عادت الى زمن قديم...
سارت بجوار أمجد و هي تتأمل هدوء و جمال المكان، ثم اشارت الى طاولة قريبة و قالت ببساطة
(فلنجلس هنا).

الا أن أمجد تجاهلها تماما، و وقف مكانه منتظرا حتى وصل اليه النادل، فأبلغه بأسميهما...
ابتسم النادل و أشار اليهما أن يتبعاه بتهذيب، فعقدت مسك حاجبيها و هي تسير مع أمجد الذي كان ممسكا بكفها يرفض تحريرها، الى أن عبرا القاعة و خرجا من باب زجاجي، الى ممر قصير في الهواء الطلق، حتى دخلا في حديقة صغيرة...
لا يمكن وصفها بالحديقة، كان مكانا منعزلا، مربعا يحتوي على طاولة واحدة بمقعدين...

و أسواره من الاشجار المنسقة، تعزلهما عما حولهما، بينما السماء السوداء كانت هي السقف...
كانت مسك تراقب المكان المظلم نسبيا، الا أن هذا لم يمنع جماله...
انصرف النادل مبتسما بينما شكره أمجد بعد أن أشعل الشمعة في القارورة الذهبية الشفافة فوق الطاولة، التفت أمجد الى مسك و أمسك بكلتا كفيها الآن...
رفعت وجهها اليه مترددة، فابتسم اكثر وهو يقول بخفوت
(مبارك لنا يا مسك سالم الرافعي).

فتحت فمها تنوي الرد عليه بهدوء، الا أن الكلمات ماتت في حلقها و هي ترى السور الأخضر من الأشجار، يضيء بآلاف النجمات...
فغرت شفتيها اكثر و هي تنظر حولها...
كانت الأشجار تحتوي على مصابيح صغيرة جدا و كثيفة العدد بشكل جعلها تتوهج كالنجوم الذهبية مما أشعل المكان الصغير...
حاولت مسك الكلام الا أنها لم تستطع، فارتفع حاجبيها و هي تتأكد مما يحدث، فقد ابعثت موسيقى هادئة لتكتمل الصورة...

هزت رأسها قليلا كي تجلي ذهنها، ثم نظرت اليه و هي تقول بدهشة
(متى استطعت فعل كل هذا؟)
ابتسم أمجد لها و قال بهدوء خافت
(كنت اتمنى لو جهزت كل شيء بيدي، فهذا أكثر عاطفية، لكن للأسف، لم يكن على سوى اختيار احدى طرق الإحتفال الهادىء و الخاص بالمكان).

زمت مسك شفتيها قليلا و هي تطرق برأسها، كانت تشعر بمشاعر غير مرغوب بها، كانت تشعر بالدلال و العاطفية التي تقطر من كل لحظة تمر، من امساكه بكفيها، من نظرة عينيه العميقتين لها و كأنها المرأة الوحيدة في هذا الكون...
فتحت فمها المتصلب، ثم قالت ببطىء و رسمية مهذبة قدر الإمكان.

(أمجد، أنا، أشكرك على كل ما تحاول فعله، لكن الا ترى أن الأمر أكثر عاطفية مما يبدو في الواقع؟، أنا لا أحب المبالغة في اظهار المشاعر، خاصة و إن كان هذا)
صمتت للحظات و هي تحاول انتقاء كلماتها، ثم رفعت وجهها و نظرت اليه قائلة بهدوء
(تعلم أننا لم تحيا قصة حب أو ما شبه، و أنا أقدر الصراحة في كل شيء، لا أفضل اعطاء الأشياء اكبر من حجمها، فهذا يرفع من، سقف التوقعات، و أنا).

صمتت و هي لا تدري كيف تشرح له اكثر، فقد كان هناك غضب يتفاعل بداخلها، غضب من هذا الاستعراض...
هل يقصد ايقاعها في حبه بتلك التصرفات؟..
تكلم أمجد قائلا ببساطة دون أن يفقد ابتسامته
(أنت من تعطين الأمور أكبر من حجمها، لقد حضرت الى هذا المكان منذ فترة و أعجبتني أفكاره، وعقدت العزم على الإحتفال بعروسي هنا يوما ما، و لم أكن قد قابلتك وقتها).

شعرت مسك بأن دلوا من الماء البارد قد سقط فوق رأسها، فظلت صامتة لبضعة لحظات و هي تنظر اليه بملامح جامدة، ثم قالت أخيرا بفتور
(هل تعني أنك كنت ستعد كل هذا لأي امرأة ستتزوج منها؟)
أجابها أمجد بابتسامة عريضة و دون تردد
(بالطبع، أنا انسان عاطفي و أتوق الى اشعار المرأة التي سأتزوجها بهذا)
أسبلت مسك جفنيها قليلا و هي تقول بنبرة جامدة
(جيد)
قال أمجد مبتسما ببساطة
(هلا جلسنا).

تركته يقودها الى أن أبعد لها المقعد فجلست بصمت، بينما دار ليجلس أمامها و الإبتسامة العريضة لا تزال تظلل شفتيه...
كان الجو شديد التوتر، على الأقل من جهتها هي، أما هو فقد كان في غاية الهدوء، غاية السعادة...
غاية الوسامة، على ضوء تلك الشمعة السخيفة و التي جعلت شعره و لحيته يشتعلان بلون ذهبي و كأنه مخلوق من عالم سحري...
رفعت مسك وجهها البارد و نظرت اليه قائلة بجمود، تريد كسر هذا الجو الخيالي بأي طريقة.

(من ينظر اليك الآن، لا يصدق أنك أنت نفسه من كان غاضبا متوترا عقب انتهاء عقد القران، و لا تحاول ادعاء العكس لأنني لن أصدق)
قال امجد بهدوء دون أن ينظر اليها وهو منشغلا بترتيب المحرمة الصغيرة الذهبية فوق الطاولة ذات الغطاء النبيذي...
(لن أفعل)
انعقد حاجبي مسك و هي تشعر بشعور مفاجىء من القلق و القنوط، لكنها تكلمت رافعة وجهها بشجاعة
(هل ندمت؟، أرجوك تكلم الآن دون حرج، فنحن لا نزال على البر).

رفع أجد عينيه اليها و قال بجدية قاطعة
(أنا لا أندم، آن لك أن تبدأي بتصديق ذلك)
توترت مسك اكثر و تراجعت في مقعدها و هي تراقبه بصمت، ثم قالت مباشرة
(اذن لما تغيرت؟، أبسبب الشرط؟ كنت أنت من عرضته، أم ظننت أنك ستقوم بعمل بطولي أمام الناس كي يستحسنوه منك، و أجبر أنا على الرفض تقديرا لعرضك، و حينها تخرج بصورة رائعة و دون خسائر!).

كان أمجد قد تراجع في مقعده هو الآخر و هو يستمع الى كلامها دون أن يقاطعها، و ما أن انتهت حتى قال بهدوء
(أنت شابة مفعمة بالمرارة)
ازداد الغضب بداخلها و هي تقول بحدة...
(لا أحتاج الى تحليل نفسي)
قال أمجد بهدوء
(هل خضت لمساعدة نفسية بعد اصابتك بالمرض؟)
كان يتكلم بصورة طبيعية جدا، مما جعل مسك ترمش بعينيها و هي تحاول استيعاب ما قاله، هل فعلا يتكلم عن مرضها بمثل هذا الهدوء، الا يمتلك بعض الشعور و المراعاة...

أمالت مسك رأسها و هي تهزه غير مصدقة، ثم نظرت اليه نظرة جليدية و قالت من بين أسنانها
(هل تظنني مجنونة؟)
قال أمجد بنفس الهدوء دون أن يفقد أعصابه
(هذا سؤال يصدر من امرأة جاهلة، لا منك أنت)
عضت مسك على باطن شفتها بغيظ، الا أنها قالت ببرود
(أنت الوحيد في هذا الكون الذي سألني مثل هذا السؤال، كل من يعرفني، يذهله مدى قوتي و قدرتي على تجاوز المحن)
قال أمجد ببساطة
(لأنهم حمقى، لا أكثر).

ظلت صامتة تنظر اليه و هي تتنفس بسرعة و ألم، الا أنها تمكنت من الضحك بسخرية و هي تقول
(و أنت الأدرى بكل شيء، اليس كذلك؟ )
رد عليها أمجد بهدوء
(فيما يخصك، نعم، أعتقد أنني كذلك)
مالت مسك الى الأمام فجأة مندفعة فجأة و هي تقول من بين اسنانها
(انت اكثر انسان متغطرس قابلته في حياتي)
ارتفع حاجبي أمجد وهو يقول بدهشة
(أنا؟، و ماذا تكونين أنت يا ألمظ؟)
رفعت مسك كفيها و هي تقول.

(هذا يكفي، لقد اكتفيت، أنا سأغادر، هل ستقلني أم أذهب وحدي؟)
ظل امجد مكانه، مسترخيا في مقعده وهو يضع يديه في جيبي بنطاله، مادا ساقيه باسترخاء من تحت الطاولة، ثم قال بهدوء
(لن يحدث هذا)
رفعت مسك حاجبها و قد اشتعل كل عصب في جسدها بنار الرفض، فقالت بتحدي
(هل تظنني أمزح؟)
و دون أن تنتظر منه ردا، نهضت من مكانها و قالت بحدة
(سأرحل وحدي).

دخل النادل مستئذنا في تلك اللحظة كي يسلمهما قائمتي الطعام، الا انه نظر الى مسك الواقفة في مكانها و عيناها تقدحان شررا، فقال بسرعة و تهذيب
(هل هناك من مشكلة آنستي؟)
بدت مسك فجأة شديدة الحماقة و هي تستسلم لنوبة من الغضب بطريقة لم تعرفها من قبل و لسبب لا يذكر...
لكن ربما لأنه آلمها، آلمها بشدة...
تطوع أمجد كي ينقذها من هذا الموقف الحرج، فقال بهدوء لطيف
(اجلسي يا مسك، الأمسية لا تزال في بدايتها).

كانت عيناها تقدحان شررا، الا أنها جلست بقوة و هي تحاول جاهدة أن تلجم الشر بداخلها، فناولهما النادل قائمتي طعام، غلافيهما من المخمل أيضا ككل شيء في هذا المكان، باستثنائها، فهي مصنوعة من الألماس الخام، قاسية و شديدة الروعة.

هكذا كان يفكر أمجد وهو ينظر اليها دون حرج، لقد نجح في اثارة عصبيتها، لدرجة أنه يشعر باهتزاز ساقها تحت الطاولة، و أصابعها تقلب أوراق القائمة بحركات حادة غاضبة، بينما عيناها لا تبصران كلمة مما تقرأ...
شعرها القصير، تمرد على ربطته الأنيقة فانسدلت منه خصلتان ناعمتان على جانبي وجهها، حتى لامستا حد فكها، وهما أقصر من باقي شعرها، فهو يعرف طوله و يحفظ طوله عن ظهر قلب...

بل أنه يكاد أن يسجل مقدار استطالته كل شهر، حين تكون في بيته و تحت سقفه، سيفعل ذلك حتما...
رفعت مسك وجهها الغاضب اليه و هتفت بفظاظة
(هل اخترت؟)
لم يكلف أمجد نفسه بالنظر الى قائمة الطعام، بل ابتسم ببطىء و قال بصوت هادىء
(نعم اخترت، اخترتك أنت، صعبة الهضم، الا أنك شهية بلا شك يا زوجتي).

سحبت مسك نفسا يائسا و هي تنظر اليه بقنوط، ثم لم تستطع تمالك ضحكة خائنة أفلتت من بين شفتيها، فسارعت بتغطية فمها بكفها، و هي تتعمد عقد حاجبيها، كي لا يرى ضحكتها...
لكن هيهات، فلقد رآها و عيناه لا تغادران هاتين الشفتين مطلقا منذ أن أصبحت حلاله...
فضحك هو الآخر بخفوت، قبل أن يقول بهدوء
(كل ضحكة منك، انتصار مني عليك يا مسك الرافعي).

زمت مسك شفتيها بغضب و هي تتابع تقليب الصفحات بطريقة خرقاء اكثر، بينما همست لنفسها من بين أسنانها
تبا لك، سيظن الآن انني أقع في حبه، و هذا سيخوله فعل ما يريد، هذه ليست البداية السليمة أبدا للحياة التي أريدها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة