قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والأربعون

مضت باقي الأمسية بشكل أروع من بدايتها الكارثية بكل المقاييس...
فقد فقدت السيطرة على ضحكاتها الخافتة على الرغم من محاولاتها العنيفة في كبحها، لكن كل كلمة منه كانت تضحكها، حتى و ان لم يكن يقصد بها المزاح، لكن اسلوبه يضحكها دون مجهود...
لكن كانت هناك فترات صمت تمر بينهما، صمت قاتم كئيب...

كانت تفكر في تغيره بعد عقد القران مجددا، و مرات أخرى كانت تتسائل ان كان سيحضر لغدير احتفالا كهذا إن كانت تزوجته هو...
شعور غريب و غير مرغوب بالمرارة تخللها و هي تتخيل أن أمجد كان يخطط لهذه الجلسة مع غدير، الا أن القدر شاء أن تملأ هي مقعدها الخالي...

لم تتخيل مسك مطلقا أن يأتي اليوم الذي تقارن فيه نفسها بأخرى، خاصة تلك التي سرقت منها حبيبها الوحيد، فتركته لها مسك بكل ترفع دون لحظة ضعف أو تذلل، أو حتى التنازل و مقارنة نفسها بها...
الآن و غدير تثب الى حياتها عن بعد، تجد نفسها، تتسائل عن شكل حب أمجد لها...
حتى الآن لا تعرف أي تفاصيل عن الأمر...
لكن يكفي أن يكون الأمر خاصا بأمجد الحسيني لتتأكد بأنه يتعامل، بقلبه...
لقد أحب غدير في فترة ما...

أما الصمت الذي كان يسيطر على أمجد نفسه خلال جلستهما، فكان عودة الى اللحظة التي أعلنت عن رغبتها في اضافة الشرط...
علي الرغم من كل ما فعل، الا أنها قابلته كله بالشك و عدم الثقة...
إنها تتعامل معه و كأنه أمر طرأ على حياتها، فإن فلح كان هذا خير و بركة، و إن فشل، فلا بأس، ستنبذه من حياتها دون لحظة تردد...
و هذا ما كان يشعره بأنه قدم تضحيته الى انسانة لا تقدرها...

صحيح أنه لا ينوي أبدا التمنن عليها بتلك التضحية، لكنه كان يريد أن يشعرها بأنه قادر على التضحية لأجلها، يريد منها تصديق هذا في عمق قلبها...
لكن للأسف، بجملة بسيطة باردة، نسفت مسك كل آماله، و أشعرته بأنه لم يضح بأي شيء مطلقا...
مغرورة، نعم هي كذلك، لا يمكنه أن ينكر، لكنه يستطيع التفهم...
لكن الى متى؟
أوقف أمجد السيارة أمام بنايتها، بعد طريق صامت، تملأه أفكار كل منهما بصخب...

لكن لم يجد كلاهما القدرة على الكلام، فصمتا تماما في رحلة العودة...
التفتت مسك تنظر الى أمجد و هي تقول بنوع من التوتر الخفي
(أشكرك على هذا الإحتفال يا أمجد، كان لطيفا و لم أقدره حق تقديره)
لم يتحرك أمجد من مكانه و هو ينظر اليها بتأمل مربك، ثم قال بهدوء لطيف
(على الرحب دوما)
مستفز، لا تعلم كيف ستقضي معه المتبقي من حياتها...
لكنها تمالكت أعصابها و قالت مبتسمة بتهذيب و هي ترفع كفها الأيمن لتقول.

(و أشكرك على الشبكة، ذوقها رائع، صحيح كنت أتمنى اختيارها بنفسي، لكن لا بأس، أعجبتني)
كان أمجد في نهاية جلستهما، قد أخرج من جيب سترته علبة حمراء مربعة، فتحها لها، فشهقت دون صوت و هي ترى محبسي زواج، احدهما من الفضة، خاص به، و الآخر ذهبي عريض...
و معهما خاتم و محبس من الألماس، ذوقهما راقي لا يقبل المناقشة في ذلك...

و دون أن ينتظر ردها أمسك بيدها بين كفيه و ألبسها شبكتها بتملك، فشعرت أنه يكبلها بقيد عاطفي أكبر من قدرتها على التحمل، لكنها كتمت شعورها و هي تدس خاتمه الفضي في اصبعه باصابع مرتبكة...
رد أمجد بهدوء يقول
(يمكنك تغييرها إن لم يعجبك ذوقها، و اسم المحل مدون على العلبة، للتأكد من أنها أصلية و ليست مزيفة)
مطت مسك شفتيها بامتعاض و هي تقول.

(حسنا، حسنا، فهمت أنه لم يكن من اللائق قول أنني أرغب في اختيار شبكتي بنفسي، لكن هل يتوجب عليك أن تكون بمثل هذه الفظاظة و قلة الذوق دائما؟)
رفع أمجد كفيه وهو يقول بهدوء
(ما أنا الا رد فعل لقلة أدبك يا ألمظ)
رفعت مسك عينيها للسماء و هي تهمس من بين أسنانها...
استغفر الله العظيم، الصبر يا رب
ابتسم أمجد وهو يقول بخفوت
(بمناسبة الشبكة، ستأكل من أصابعك قطعة، ألم يخبرك أحد من قبل أن يديك شديدتي الجمال؟).

ابتسمت مسك قليلا بنوع من الرضا الأنثوي، لكنها قالت بهدوء
(نعم، سبق و سمعتها)
أظلمت عينا أمجد للحظة و لم يستطع التحكم في ملامح وجهه الهادئة عادة، لكنه قال بجدية
(هذا مزاح سخيف منك لأنك شخصية سخيفة بالفطرة، اليس كذلك؟)
ضحكت مسك بنعومة و هي تطرق برأسها تتأمل الخاتمين المتلألئين في اصبعها، ثم قالت بهدوء.

(لا ليست مزحة، كان هذا أنت يا منعدم الذاكرة، لقد سبق و قلتها بمنتهى الوقاحة، قبل أن يربط بيني و بينك أي رباط رسمي)
زال الغضب عن وجه أمجد و برق شيء خاطف في عينيه، الا أنه سيطر عليه وهو يقول رافعا حاجبيه بمرح
(لطالما كنت بعيد النظر و أتمتع بذوق رائع، اعذريني، فالقطعة الجميلة، تغري صاحب الذوق لمدح جمالها)
رفعت مسك عينيها اليه و قالت بنفاذ صبر
(أنا لست قطعة).

مر أمجد بعينيه على كل تفصيلة من جسدها بوقاحة لم تعرفها منه مسبقا، و كأن عقد القران قد حوله بين ليلة وضحاها الى شخص عابث، ثم قال بخفوت
(نعم أنت لست قطعة، بل مجموعة من القطع ال)
قالت مسك بحدة من بين أسنانها
(أمجد الحسيني، انا لا أقبل)
التقط كفها بسرعة و قبل أن تدرك كان قد رفعه الى فمه ليقبل ظاهره بقوة مغمضا عينيه وهو يتمتع بعطر كفها و نعومته...

لعقت مسك شفتها بتوتر و هي تبتلع ريقها، ناظرة من نافذة السيارة و كل كيانها مرتبك...
تبا لهذا، ماذا دهاها؟، من المفترض أن تكون تلك الجاذبية الجسدية تجاهه هادئة، نظرا الى أنها ليست مراهقة، وهو رجل ناضج...
رجل ناضج و مستفز، و يصنف ضمن قائمة المنطقة الغير مرغوب بها...
سحبت مسك كفها من شفتيه قبل أن يلتهمها...
و قالت بارتباك و هي تعدل من شعرها بأصابع مرتجفة...

(آآآ، أنا يجب أن أخرج الآن، لقد تأخرت على أبي جدا، كنت قد وعدته الا أتأخر)
مدت يدها تفتح مقبض الباب، الا أنها توقفت متسعة العينين و هي تراه يفتح بابه كذلك، فقالت بحدة
(ماذا تفعل؟، الى أين أنت ذاهب؟)
رد عليها امجد بصوت قاطع
(الى أين تتخيلين؟، سأرافقك حتى باب بيتك بالطبع)
خرجت مسك من السيارة و هي تقول بتلعثم
(لا داعي لهذا، المصعد لن يضل طريقه، عد الى مكانك من فضلك).

لكنه كان قد وصل اليها و أمسك بمرفقها قائلا
(هيا يا مسك و كفي قليلا عن الكلام، لقد أصبحت ثرثارة بشكل لا يطاق و لم نتم اليوم الاول من زواجنا بعد)
أثناء وجودهما في المصعد، كانت عيناها مثبتتين على الأرقام المضيئة و كل عصب في جسدها متشنج بتوتر...
حسنا هو يظنها زوجته الآن، و من المؤكد سيتطاول عليها و يقول ببعض حركات مد اليد الغير مهذبة، . عليها أن تكون مستعدة له، و تعرف جيدا كيف تدافع عن نفسها...

نظرت اليه بطرف عينيها، فرأته هادئا تماما، يضع يديه في جيبي بنطاله بحركة باتت تعرفها عنه و كأنه لا يحمل للدنيا أي هم...
من المؤكد أنه يعد الأرقام الآن حتى تصل الى طابقها، و هناك سينتهز الفرصة، حسنا إنه يمني نفسه و هذا ما لن يكون، وصل المصعد أخيرا بعد دهر، فأشار اليها أمجد مبتسما أن تتقدمه، رمقته مسك شزرا ثم تقدمته بحذر و عيناها على يده كي لا يتهور بأي حركة خارجة...

الا أنه كان يتميز بثبات انفعالي يحسد عليه...
وصلت مسك الى الباب، ففتحته بتوتر، لتجد أن الأنوار كلها مغلقة، فاستدارت الى أمجد و هي تقول بخفوت
(لقد نام والدي على الأرجح، ظننته سينتظرني و يفتح على أبواب النيران، لكنه على مايبدو نفض يديه مني)
نظر أمجد خلفها الى المكان المظلم، ثم نظر اليها مبتسما وهو يقول بخبث.

(رغم كل شيء، والدك يعرف جيدا معنى أن تكون ابنته في عمصة رجل، وهو تعمد النوم كي لا يحرج نفسه أكثر، فلقد أفلتت الأمور من سيطرته عقب عقد القران بشكل غير مقبول)
عقدت مسك حاجبيها و هي تقول بغلظة
(لا تتكلم عن أبي بتلك الطريقة، إنه لا يزال والدي)
لم يرد عليها أمجد، بل أطلت من عينيه نظرة غريبة، استنتجت أنها نظرة خاصة بقلة الأدب، فتراجعت خطوة للخلف و هي تقول
(يمكنك المغادرة الآن، شكرا لك).

ازداد الخبث في عيني أمجد وهو يقول لها رافعا حاجبا شريرا بتحدي
(هل هذا كل شيء؟)
وقفت مسك مكانها رافعة رأسها بشموخ و هي تقول بصوت ذو صرير حاد كي تردعه
(سأتصل بك غدا، الى اللقاء)
اقترب منها خطوة، الا أنها صرخت بقوة
(أمجد، إياك و الإقتراب مني، و لا تتخيل أن عقد القران سيمنحك الحق في التجاوز معي، لا مجال لأن تلمسني قبل الزفاف، هذا هو ما أنا مصرة عليه، و لا تحاول أن. ت، تقبلني).

توقف أمجد مكانه بحاجبين مرتفعين، ثم نظر حوله، قبل أن يعاود النظر اليها وهو يشير الى نفسه قائلا
(هل تكلمينني أنا؟)
زادها التوتر حدة فقالت من بين أسنانها
(و هل أكلم ظلك؟، طبعا أنت)
قال أمجد ببراءة و دهشة.

(من قال أنني أريد تقبيلك عند باب بيتك؟، هل تفكرين في الأمر كثيرا؟ أم أنك تبالغين في قراءة الروايات، نحن لسنا خارجين من فيلما أجنبيا و أنا عائد بك من موعد غرامي كي أقبلك عند باب البيت، لقد عقد قراننا يا امراة، اقصى ما يمكننا التفكير به هو لون ورق الحائط الذي تريدين فرشه في غرفة الجلوس، و أنواع الصنابير، و محابس الكهرباء)
تسمرت مسك مكانها و هي تشعر بأن برودة قد سرت في عمودها الفقري...

للحظة شعرت بخيبة الامل، خيبة امل رهيبة، صحيح أنها كانت لتردعه بأي حال، لكن عدم محاولته من الأساس أشعرتها بخيبة الأمل...
رفعت كفها، تحك بها عنقها و هي تشعر بحرج بالغ. غير قادرة على ايجاد رد مناسب، فقال لها أمجد يهز رأسه باسف
(التهور في الكلام يضع الإنسان في مواقف بالغة الحرج، حاولي العد الى العشرة بداخلك قبل ان تتفوهي بما قد تندمي عليه لاحقا)
رفع كفه الى جبهته محييا، ثم قال ببساطة.

(عمت مساءا يا ألمظ، نامي جيدا، فمنذ الغد سيكون لدينا الكثير من السعي لتجهيز المنزل)
ابتعد عدة خطوات، لكنه استدار اليها ليقول بهدوء جاد
(بالمناسبة، لقد اتفقت مع صاحب الشقة بالفعل و خلال أيام سننهي العقود، ثم نبدأ بتأثيثها)
رفعت مسك وجهها و هي تقول ببرود
(ليس قبل تشطيبها، أريد اختيار كل شيء كأي عروس).

ساد الصمت بينهما بضعة لحظات فعضت مسك على لسانها ما أن نطقت بالكلمة الاخيرة التي فضحتها و أظهرتها بمظهر الغير واثقة من قيمة نفسها...
الا أن أمجد قال ببساطة وهو لم يلاحظ ما ذكرته...
(لكن هذا سيطيل فترة عقد القران لاشهر)
رفعت مسك ذقنها و قالت
(أنا مصرة يا امجد، أبسط حقوقي أن أسكن في مكان من اختياري)
ظل أمجد ينظر اليها طويلا بصمت، قبل أن يقول بصوت خافت، هادىء
(عمت مساءا يا مسك).

وقفت مسك تنظر اليه وهو يرحل حتى أغلق المصعد أبوابه بالفعل، إنه حتى لم يرفع يده ليلوح لها من المصعد...
ظلت واقفة بضعة لحظات، قبل أن تدخل و تغلق الباب ببطىء و هدوء، ثم استندت اليه بظهرها و هي تنظر الى المكان المظلم بعينين فارغتين، قبل أن تهمس لنفسها بخفوت.

لقد جعلت من نفسك مدعاة للسخرية يا مسك، كوني واثقة من نفسك، لكن لا تتخيلي مكانا عاليا كي لا تكتشفي سريعا أنه كان أكبر منك، فتسقطين مجددا، لقد حدث ما تريدين و تزوجت عن طريق العقل و استغللت الفرصة الوحيدة المتاحة لك، فلا تسمحي لأحد بأن يسخر من غرورك، لكن ما لم تعرفه مسك الرافعي، أن هناك رجلين، صامتين، ينظر كلا منهما للظلام المحيط به، تفكيرها فيها...

والدها الذي لا يزال مستيقظا في فراشه، بجسد و عزيمة واهنة، بعد أن ضاعت منه آخر آماله...
و لا يملك القوة على النهوض و الصراخ في هذا الغريب، الذي وضعه في الإختبار الحقيقي أمام نفسه...
و الثاني كان أمجد، الذي ظل جالسا في سيارته، مستندا الى ظهر مقعد سيارته وهو ينظر الى الليل المحيط به و قد زال عنه قناع المزاح و الهزل و ظلت الذكرى الأكثر سوءا في اليوم بالنسبة له و الأكثر خيبة على الإطلاق.

صوتها و هي تنطق قائلة
. نعم، أريد وضع الشرط،
لم يلعن الزحام في حياته كما يلعنه الآن...
بدا و كأن كل الجهود قد تضافرت كي تبعده عنها، السيارات تكاد الا تتحرك، وهو يحاول تخللها بالدراجة البخارية التي استعارها بعد أن باع سيارته...
كان يطير بها كالمجنون على الطريق السريع الموصل للمطار، و على الرغم من كونه سريعا، الا أن سيارات النقل كانت تتكاثر و تزيد و تعرقل الطريق تماما...

الظلام قد بدأ يغطي الفضاء من حوله وهو لم يجتاز نصف الطريق بعد...
أوقف الدراجة أخيرا بعد أن توقفت السيارات مجددا بسبب حادث ارتطمت به ثلاث سيارات ببعض...
و بين الأدخنة و العويل، كان قاصي في عالم آخر تماما...
كان مع تيمائه، وحدها دون غيرها...

وجهها يلح عليه بطريقة باتت موجعة جسديا، عيناها الواسعتين و شعرها الأجعد، فمها الذي لم يمل يوما الصراخ بكلمة. أحبك يا قاصي، سمع فجأة صوت صراخ عال مجنون، كان صراخ رجل...
أمسك قاصي بخوذته يخلعها من رأسه فتناثر شعره حول وجهه وهو يستمع الى ما يحدث...
كانت صرخة رجل وحشية و نحيب رجولي...

شعر قاصي بقبضة تكاد تخنقه، فابتلع ريقه و أمسك بمرفق رجل عائد على قدميه الى حيث سيارته المتوقفه، يضرب كفا بكف، تكلم قاصي وهو يشدد من قبضته على مرفق الرجل قائلا بصوت أجش باهت
(ماذا يحدث؟، ما سر هذا الصراخ؟)
التفت اليه الرجل و قال متأثرا...

(صاحب السيارة الوسطى في التصادم، زوجته لفظت أنفاسها على الفور، لقد سحقت سيارة نقل جانبها من السيارة و لم تنج، و هم يحاولون تغطية الجثمان بكل ما يجدون، و زوجها مصاب و في حالة سيئة، الا أنه واعيا لوفاتها)
ترك قاصي مرفق الرجل وهو ينظر الى الطريق المشحون بنظرات ميتة...
لطالما مثل الموت بالنسبة له رهبة، الموت المفاجىء المقترن بصراخ مجنون و عدم تصديق...
يوم أن ذبحت أمه أمام عينيه، لم يجد صوته كي يصرخ...

و بعد كل هذه السنوات و العمر الذي انقضى، يشعر و كأن هناك صرخة محتجزة في صدره، يحتاج الى أن يخرجها، قبل أن تقضي عليه ببطىء...
لماذا تذكر أمه الآن؟، بينما كل ما يهفو اليه حاليا، هو نظرة الى وجه تيماء قبل ان ترحل...

عقد قاصي حاجبيه، قبل أن يرتدي خوذته، ليحرك الدراجة شيئا فشيئا محاولا تجاوز السيارات، حتى انه حك بعضها و سمع شتائم و صراخ من خلفه، لكنه لم يبالي، بل مر بالحادث و حانت منه نظرة الى الرجل الذي كان ينتحب، بينما هناك بجواره أرضا، جثمان مغطى بأوراق الجرائد و بعض الأغطية التي تم أخذها من السيارات لمن تواجدت معه...

أغمض قاصي عينيها لحظتين وهو يتابع طريقه، ثم فتحهما بعد ان نجح في تجاوز الموت، فهو لم يكن المقصود هذه المرة، و هذه فرصة له...
انطلق طائرا على الطريق مجددا، وهو لا يرى الا هي، تيماء و لا مخلوق غيرها...
مضت الدقائق بطيئة، بطيئة، بينما دقات قلبه تتسارع، تصرخ...
تصرخ بنفس وحشية الرجل الذي فقد زوجته للتو...

و بعد مرور وقت طويل، استطاع الوصول الى المطار، لكنه لم يستطع حتى الدخول، فما أن أبصره رجال الأمن. ، بحالته التي تبدو فوضوية و غير متزنة، حتى ارتابوا به و منعو دخوله على الفور...
حاول قاصي شرح الأمر، لكن لم يساعد هذا في أي شيء، حتى أنهم استدعو الضباط الأعلى رتبة...
فصار الشك يقينا و قاموا بحجزه، لحين التأكد من هويته و تفتيشه تفتيشا كاملا...
كان قاصي يصرخ بهم بقوة.

(زوجتي على وشك الرحيل، أنا في حاجة لإخبارها بشيء هام)
الا أن الضابط صرخ به
(اخفض صوتك و لا تتجرأ على الحركة من مكانك و الا قمنا بتقييدك)
كان قاصي قد خضع لتفتيشا ذاتيا كاملا و وقف أمام الضابط ممسكا بقميصه على ذراعه و بدا في حال مزري وهو يقول من بين أسنانه
(لقد قمتم بتفتيشي، و لم تجدوا ما يثير الشبهة، فهلا تركتموني الحق بزوجتي قبل أن تسافر؟)
نظر الضابط اليه بشك، ثم قال بصرامة.

(ليس قبل التحقق كاملا من سجلك و هويتك)
أغمض قاصي عينيه وهو يسحب نفسا طويلا، ثم فتح عينيه و قال بكل ذرة صبر يمتلكها
(حسنا، هلا اخذتم اسمها و منعتوها من السفر رجاءا)
ارتفع حاجبي الضابط وهو يبتسم بسخرية قبل أن يتراجع في مقعده ناظرا الى قاصي كمن ينظر الى مجنون وهو يقول
(بهذه البساطة؟، نستدعي سيدة محترمة و نتسبب في عدم لحاقها بطائرتها، لمجرد أن شخص له مثل هيئتك المخيفة، طلب منا هذا).

ضرب قاصي على صدره وهو يقول بعنف
(أنا زوجها، هذا من حقي)
مد الضابط كفيه وهو يقول مبتسما ببساطة
(حتى لو كان كلامك حقيقيا، فالأمور لا تتم بمثل هذه الغوغائية، كان عليك التصرف قبلا، )
أطرق قاصي برأسه وهو يتنفس بشدة، الدقائق تمر، تمر، و تساهم في ابعادها عنه...
أين كان عقله؟، أين كان عقله، حين طلب منها أن تبتعد...
استدار وهو يغمض عينيه شاعرا بالدوار، لقد ترك للحقد فرصة كي يتحكم به...

لقد تلاعبوا به، و نجحوا في سرقتها منه، و كان هو من سلمهم المفتاح كي يفعلو...
رفع قاصي رأسه وهو يقول
(تبا لي، تبا لي، لما فعلت هذا؟)
كان الضابط ينظر اليه بحاجبين مرتفعين، ثم قال وهو يهز رأسه...
(كان عليك اللجوء للحلول الودية، قرارات منع السفر و الفضائح على سلالم محاكم الأسرة لا تجدي أبدا).

استدار قاصي اليه، بعينين ضيقتين، وهو يعض على أسنانه غضبا من تلك الدقائق المهدورة، لكنه استغل لحظات الهدنة و ابتسم ابتسامة بائسة وهو يقول بصوت لطيف، لكن اللطف في قاموس قاصي خرج كصرير مزعج
(حسنا، هلا سمحت لي باستخدام هاتفي، سأتصل بها فقط)
قال الضابط بهدوء و برودة أعصاب
(يتم غلق الهواتف على متن الطائرة)
قال قاصي بنفس ذاهب وهو يمد كفيه
(فقط لو توقفت عن الكلام و وفرت بعض الوقت، لربما لحقت بها قبل أن تغلقه).

قال الضابط بحدة...
(لا تتجاوز حدودك، أنت لم تبتعد عن مرحلة الشبهة بعد)
رفع قاصي كفيه باستسلام وهو يغمض عينيه، ثم قال بتهذيب
(آسف، هلا سمحت لي بالمحاولة)
حين ساد الصمت فتح قاصي عينيه و نظر الى عيني الضابط و قال بصوت خافت
(أرجوك، لا أريد سوى فرصة، فقط فرصة)
استمر الضابط يتفحصه عدة لحظات، ثم ناوله هاتفه وهو يقول بهدوء
(هاك، اتصل بها أمامي).

أخذ قاصي نفسا عميقا، ثم اخذ هاتفه وهو يهدىء من نفسه كي لا يتهور، لكن ما أن أخذ الهاتف، حتى انتابته حالة من السكون وهو ينظر اليه بملامح غائمة...
مرت بضع لحظات و قاصي ينظر الى الهاتف بصمت، فرفع الضابط حاجبيه وهو يقول بهدوء
(أراك انت من تهدر الوقت الآن)
بدا قاصي و كأنه لم يسمعه، لكنه همس بعد لحظات
(لا أريد سماع صوتها، لا أريد)
الآن اتسعت عينا الضابط بذهول، قبل أن يقول بصوت عال نافذ الصبر.

(لا حول و لا قوة الا بالله، هل أنت مختل عقليا أو متعاطي شيئا؟، هل افتعلت كل هذه الفوضى لنا، و توسلت كي نمنعها من السفر و نحضرها اليك، و الآن لا تطيق حتى سماع صوتها!)
رمش قاصي بعينيه وهو ينظر الى الهاتف، ثم همس بخفوت
(لو سمعت صوتها الآن، و غادرت، كيف سأكون؟)
دلك الضابط جبهته وهو يزفر بعنف، ثم قال ملتزما الصبر لاقصى الحدود.

(ستكون بخير، ستكون بخير يا حبيبي، أنت رجل و بصحة جيدة، لا تقلق، هيا اتصل بها و لا ترفع ضغطي أكثر)
رفع قاصي الهاتف الى اذنه بعد أن اخذ قراره، بفك متشنج، يتحرك مصطكا، تعالى الرنين في أذنه و كأنه طوق النجاة، فوقف منتظرا، على الأقل الرقم مختلف، فربما لو رأت اسمه لتجاهلته عمدا...

كانت تيماء قد دخلت الى الطائرة للتو، و جلست الى مقعدها و استقرت تنظر من النافذة بصمت...
لا تعلم إن كانت نافذة الخلاص أم نافذة النفي، لقد كتبت على نفسها النفي من وطنها للأبد...
وضعت يدها على بطنها و ابتسمت بحزن...
علي الأقل لن تكون وحيدة، سترحل حاملة قطعة منه معها...
أخذت نفسا عميقا و هي تحاول تهدئة هذا القلب المعطوب بحبه، و همست لنفسها.

لا بأس، البداية مؤلمة، لكنها ليست المرة الأولى، مررت بها سابقا و سأفعل مجددا، ارتفع رنين هاتفها فجأة، فعقدت حاجبيها و هي تقول
(لقد نسيت غلق هاتفي، من سيطلبني الآن؟)
رفعت تيماء الهاتف الى أذنها و هي تقول بخفوت ناعم
(السلام عليكم)
حين تسلل صوتها الى أذنه أغمض عينيه و أفلت نفس مرتجفا من بين شفتيه...
نعم، صوتها، ذلك الصوت الذي ما أن يسمعه حتى يهون كل شيء...

عقدت تيماء حاجبيها بشدة و هي تسمع الصمت مجددا، هل عاد المتصل المجنون ليسمعها صمته مجددا من رقم مختلف كل مرة؟
كل الحق معه، طالما أنها بكل غباء منحته كل أسرار حياتها ظنا منها أنه قاصي...
تبا لهذا، لقد حولها قاصي الى أكثر أهل الأرض غباءا، بعيدة كل البعد عن الأستاذة الجامعية التي تنجح في اكتساب احترام كل طلابها...
أخذت تيماء نفسا عميقا، ثم قالت بصرامة.

(إن لم تتكلم هذه المرة فسأغلق الخط، احترم نفسك يا عديم الذوق و كف عن المعاكسة)
تكلم قاصي بنبرة قاتمة مندفعة
(هل هناك من يعاكسك؟، لماذا لم تخبريني؟، هل لديك الرقم؟)
فغرت تيماء فمها مذهولة، و هي تنظر يمينا و يسارا و كأنها تمني نفسها برؤيته مرة أخيرة قبل السفر...
لكنها استعادت و عيها و هي تهتف همسا واضعة يدها على فمها
(قاصي)
رد قاصي بخشونة
(و هل هناك رجل آخر يهاتفك؟، تكلمي من يكون هو المتصل بك؟).

أغمضت تيماء عينيها و هي تهزر رأسها قليلا، ثم فتحتهما و قالت بخفوت
(من أين تتصل يا قاصي؟، ظننت أننا أنهينا الأمر آخر مرة)
رد قاصي بصوت يرتجف انفعالا
(تيماء، الطيارة لم تقلع، اليس كذلك؟)
اتسعت عيناها بذهول و قالت بغباء
(كيف عرفت بموعد سفري؟، من أخبرك؟)
صمت فجأة، ثم لم تلبث أن هتفت بجنون.

(مسك، لا أصدق، لقد خانتني للمرة الثانية، هل هي تخصص وسائل مواصلات! كل مرة تخون ثقتي بها، لا أعلم إن كانت أختي فعلا أم عدوتي! تبا لهذا)
هتف بها قاصي فجأة يقاطعها.
(اصمتي قليلا و اسمعيني)
أجفلت تيماء و صمتت و هي تسمع تلك الزجرة منه و التي على الأغلب يتبعها سلسلة من الشتائم...
أخذ قاصي نفس عميق، ثم قال بصوت منفعل
(تيماء، انا هنا في المطار)
فغرت شفتيها و ردت بنبرة أكثر ذهولا
(ماذا؟)
رد قاصي بصوت يرتج.

(اسمعيني جيدا، لا تهدري الوقت، انزلي من الطائرة حالا قبل أن تقلع)
بهت وجه تيماء و هي تستمع الى صوته بملامح ممتقعة و قلب يخفق بعنف، لكنها رفعت أصابعها الى جبهتها و قالت بخفوت
(لقد فات الأوان يا قاصي، لقد اغلقت أبواب الطائرة و انتهى الأمر)
نظرت تيماء حولها، ثم قالت بصوت أكثر خفوتا
(قاصي إنهم يطلبون غلق الهواتف الآن، أريد أن أطلب منك شيئا قبل أن أغلق الخط)
قاطعها قاصي يهتف بصوت عنيف مكتوم.

(اسمعيني أنت أولا، و نفذي ما أمليه عليك، أريدك أن تدعي بأنك مصابة بنوبة قلبية أو شيء من هذا القبيل، و اصرخي ان تطلب الأمر هذا، اصرخي بأي كلمة مخيفة و سيقومون معك بالواجب و يلقون القبض عليك قبل اقلاع الطائرة، و حينها سيحضرونك عندي هنا)
اتسعت عينا الضابط بذهول، فقال بحدة
(هاي، أنت، ماذا تقول؟).

الا أن قاصي رفع اليه اصبعا مهددا دون أن ينظر اليه، كي يستطيع سماع تيماء، و التي لم تستطع تمالك نفسها، فأطرقت برأسها و ضحكت بمرارة و عشق...
و همست بألم
(قاصي)
أجفلت و هي تنظر بعيدا، مجددا، ثم قالت بقلق
(أنهم يعلنون عن غلق الهاتف مجددا، ستتحرك الطائرة قريبا، اسمعني)
الا أن قاصي هتف بها بقوة
(أنا آسف)
تسمرت تيماء مكانها، فاغرة شفتيها قليلا، ثم قالت بعدم فهم
(ماذا؟).

رد قاصي بصوت مشتعل وهو يعيد كلمته مشددا على كل حرف
(أنا آسف، سأعتذر و أكررها ألف، إن كانت عودتك تطلب هذا الإعتذار، كفى فراقا، الا يكفي فراقنا الأول، عودي الي)
أغمضت عينيها و هي تحاول التقاط أنفاسها هامسة
(قاصي أنا)
الا أنه قاطعها قائلا بلهفة.

(أدرك أنني أطلب منك الكثير، أدرك أنه كان يتوجب على تقدير مدى صدمتك بمعاشرة شخص مثلي، كل الحب الذي عشناه من قبل كان شيئا، لكن الزواج شيء آخر، و كان على مراعاة صدمتك بشخصي، قسوت عليك كثيرا من الأحيان، و ظلمتك، لكنهم هم السبب)
تنهدت تيماء و همست بخفوت دون أن تفتح عينيها
(من هم يا قاصي؟)
هتف قاصي بجنون وهو يدور حول نفسه غارسا أصابعه في خصلات شعره.

(سالم، راجح، عائلتك كلها، حتى مسك كانت متواطئة معهم، كلهم، أخبرتك أن راجح لن يهدأ قبل أن يضيعك من بين يداي، و سأكون ملعونا لو سمحت له بذلك)
أرجعت تيماء رأسها للخلف و هي تهمس
(قاصي، قاصي، توقف)
الا أنه هتف بقوة
(لا، لن أتوقف، لقد أثاروا جنوني، نجحوا في كسر حاجز القدرة على التحمل بداخلي، كانت خطة طويلة مدبرة)
فتحت تيماء عينيها و قالت بهدوء.

(ما كانت خطط العالم كلها لتفلح، لو لم تسمح لها بذلك، واجهت أنا أكثر مما واجهته أنت و على الرغم من ذلك لم يفلح شيء في ابعادك عني)
ارتجفت شفتي قاصي قليلا وهو يقول بصوت مختنق
(ها انت تفعلين)
أخذت تيماء نفس مرتجف، ثم قالت بخفوت.

(أنا لا أبعدك، و لا أعاقبك، لكني أحاول النجاة بطفلي، لقد أخذت الكثير من حبي و قلبي يا قاصي و آن الأوان كي يأخذ طفلك نصيبه، هذا حقه في الحصول على حياة مستقرة افضل من تلك التي عاشها كل منا)
ضحك قاصي ضحكة قاسية، دون أن تصل الى عينيه، ثم همس بعدم تصديق
(حين طلبت منك السفر، كان هذا لهدف ابعادك عما يحدث هنا، كي لا يطالك راجح، لا لتبتعدي بطفلي للأبد)
ارتفع حاجبي تيماء بألم و هي تهمس مكررة.

(يطالني؟، من هو ليطالني؟، من هو راجح أصلا، لم أعرف بحياتي سوى رجل واحد، هو من طالني بكل طريقة ممكنة، ألهذه الدرجة قررت بأنني معتوهة، فاقدة الأهلية، فحكمت على بالنفي؟)
ابتلع قاصي ريقه، ثم قال بصوت يرتجف وهو يحاول اقناعها بكل طريقة ممكنة
(اعذريني، اعذريني يا تيماء، جننت، جننت و لم أدري ما أفعل، تلك النظرة في عينيه أنت لا تعرفينها، أنا أعرفها جيدا)
أغمضت تيماء عينيها و هي تهمس بخفوت.

(أنت محق، تلك النظرة في عينيه أنا لا أعرفها، لأنني ببساطة أمية جاهلة في لغة عيني أي رجل غيرك حتى أبي و جدي و كل ذكر مر بحياتي مهما كانت هويته، و كان عليك ادراك ذلك، بيني و بينك لغة خاصة كان عليك الوثوق بها)
تسمر قاصي مكانه و همس بألم
(تيماء، لا تفعلي هذا، أرجوك)
رفعت تيماء، تشير الى المضيفة برجاء كي تتابع آخر كلماتها، فقالت بسرعة.

(قاصي، اسمعني، اعد عمرو الى أمه، لا يحق لك تعذيبها على هذا النحو، سيتم القاء القبض عليك، و تحاكم بتهمة خطيرة كالخطف، و لديك كل الدوافع لفعل هذا، و كل الأدلة ضدك، و في كل الاحوال راجح سيأخذ عمرو بحكم المحكمة من أول جلسة، القانون في صفه، و لن تحصل أنت سوى على بضع سنوات في السجن، و تدمير ما تبقى منك، ابنك الذي ينمو بين أحشائي).

كان قاصي يستمع اليها كالأعمى، و الأصم، لا يفهم سوى أنها قد اتخذت قرارها و ستسافر بالفعل...
همس لها بصوت ضائع
(لا تتركيني، لا وطن لي غيرك، لا عائلة الا أنت، لم أعرف أم سواك، امنحيني فرصة أخيرة)
ابتسمت بألم و هي تطبق جفنيها باكية بقهر و دون صوت، و مضت لحظتين قبل أن تهمس بإختناق
(لم أعد صالحة كي تعثر على نفسك بي، ابحث عنها بداخلك و أصلح ما تشوه منها، و ربما تجدني حينها).

فتحت عينيها المتورمتين الحمراوين، ثم همست متابعة بإختناق
(ربما لقاء قريب، الى اللقاء يا قاصي، أحبك و كن واثقا من هذا)
و دون أن تنتظر منه رد، كانت قد أغلقت الخط و هاتف و هي تدفن وجهها بين كفيها، لتبكي بصوت مختنق...
أما قاصي فقد أخفض الهاتف وهو ينظر أمامه بنظرات ميتة، و كأنه فقد النبضة الأخيرة من قلبه...
استدار ينظر الى الضابط من خلفه و الذي كان ينظر اليه بصمت، ثم لم يلبث ان قال بصوت خافت متنهد.

(يمكنك أن تأخذ أغراضك و تنصرف).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة