قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والأربعون

دخل قاصي الى الشقة الحديثة التي استأجرها حديثا وهو يحمل عمرو بين ذراعيه، و عشرات الأكياس
كان شديد الإرهاق بعد ساعات طويلة من اللف على المحلات، في أفخم المولات كي يشتري لعمرو كل ما يحتاجه من ملابس و أغراض جديدة كاملة...
كانت تلك الساعات، هي نفس الحياة بالنسبة اليه، بعد سفر تيماء...
بعد عودته من المطار، ميت المشاعر فاقد الروح، لا يرغب في شيء سوى القتل، أو ربما الموت.

فهو اكثر راحة من عذاب طويل لا ينتهي...
لكن نظرة واحدة الى عمرو المستند برأسه الى ذراعيه على طاولة قديمة في بيت احد الرجال ممن يعرفهم و يثق بهم، أطفال الرجل كانو يلعبون بصخب و جنون، بينما عمرو جالسا مكانه لا يتحرك، حزين الملامح، شارد العينين، الى أن ناداه قاصي فور دخوله...
حينها فقط رفع رأسه و هتف كلمة واحدة و كأنها اللهفة كلها
(أبي).

و دون تردد، جرى اليه و أحاط خصره بذراعيه، وقتها انحنى اليه قاصي يدفن وجهه في شعره الناعم وهو يضمه اليه بكل قوته، كان هو من يحتاج الى هذا العناق، لا عمرو...
كان يمتص منه كل المشاعر التي يحتاجها، و عطره الطفولي يهدىء قليلا من سعير صدره...
همس قاصي يومها في أذنه
(لقد تأخرت عليك)
و بعدها قرر أن يصطحبه لشراء كل ما يحتاجه، من ملابس و ألعاب...
و للتو عادا منهكين، و عمرو تقريبا نائم على ذراعه...

أنزله قاصي في غرفته و أوقفه على قدميه، فتأوه عمرو بخفوت
(أريد أن أنام يا أبي، هل يمكنني الدخول للسرير الآن)
رد قاصي بحزم. وهو يساعده على خلع ملابسه
(لا، يجب أن تغير ملابسك و تتنظف أولا)
قال عمرو أخيرا بصوت خافت
(أبي)
رد عليه قاصي، مشغولا بما يفعل...
(هممممم، ماذا تريد؟)
قال عمرو بصوت خافت متردد
(ألن نعود لأمي أبدا؟).

توقف قاصي عن اغلاق سترة منامة عمرو، ثم رفع وجهه القاتم، فاقد الحياة، لينظر الى عيني طفله، قبل أن يقول بهدوء
(من تختار يا عمرو، لو طلبت منك أن تختار بيني و بين أمك، فمن ستختار؟)
بدا عمرو مترددا أكثر و هو يفرك أصابعه، أعصابه متوترة، فقربه منه قاصي ليهمس له بخفوت
(يمكنك الإختيار بكل صراحة، لن أغضب منك مطلقا، اريد فقط أن أعرف).

ظل عمرو على صمته قليلا، ثم قال أخيرا بصوت هامس مثقل من شفتين مكتنزتين و كأنه يشعر بالذنب دون أن يدرك معنى هذا الشعور...
(أنت)
لم يبد الرضا على ملامح قاصي على الفور، بل قرب عمرو اليه أكثر وهو يقول له بخفوت
(من تحب أكثر، أنا أم ماما؟)
ازدادت ملامح عمرو ارتباكا، لكنه قال بصوت أكثر همسا و تردد
(أحبك أنت أكثر).

ابتسمت شفتي قاصي قليلا، رغم الألم الذي لا يزال يرسم بعينيه لوحات قاتمة، ثم رد على عمرو وهو يداعب خصلات شعره الناعمة
(و أنا أحبك اكثر يا عمرو)
ضمه اليه بقوة، حتى كاد الصغير أن ينطبع على صدره، بينما كان هو شاردا، و كأنه في عالم آخر...
ثم تابع بخفوت.

(حين كنت صغيرا بين ذراعي، كان الشعور الغالب على حين حملتك، هو النشوة، نشوة أن يكون لي طفل يحمل لقب عائلة الرافعي، و ليس أي طفل، بل حفيد عمران شخصيا، لم أفكر وقتها كيف سأستغل هذا و فيما سيفيدني، كل ما فكرت به، هو أنني أريد التلذذ بتلك النشوة لفترة أطول، و الشهر تحول الى عام، و العام أصبح خمس، فنسيت اسم الرافعي و كأنه قد انمحى من بعد اسمك في الاوراق، لم يعد له أي معنى، كلما مرضت، كلما بكيت و التوت شفتاك، لم تعد بالنسبة لي عمرو راجح الرافعي، بل نشأت عمرو قاصي الحكيم، ضحكتك تشبه ضحكتي، كلامك و حركات أصابعك مطابقة لحركات أصابعي أنا، فتحول اسم راجح الرافعي الى تفاهة).

صمت قاصي قليلا، ثم أمسك بوجه عمرو بين كفيه، ناظرا الى عينيه الغير مستوعبتين لمعظم ما يقوله قاصي، فتابع يقول بهدوء وهو يتحسس بشرة وجنتيه بنعومة
(هل تتخيل بعد كل ما كان منهم، أن يمتلكون الجرأة و الوقاحة، و يبلغ بهم الطغيان، ليسلبوني آخر من تبقى لي في هذا العالم، يريدون أخذك وأنت و تيماء)
صمت قليلا، ثم ضحك بوحشية وهو يقول بعدم تصديق.

(ما هذا الجبروت؟، كلا منكما كان مرميا منبوذا، و أنا، أنا من تلقفتما، أنا دون غيري، و الآن بعد كل هذه السنوات، يريدون استلام الأمانة بكل بساطة، معاتيه، اليس كذلك؟)
ظل عمرو يستمع الى قاصي بضع لحظات ثم قال أخيرا بصوت أكثر عجزا...
(أنا لا أفهم)
أفاق قاصي على كلمة عمرو المثيرة للشفقة، فانتبه الى كل ما فاض من صدره من قيح متراكم على مدى السنوات المؤلمة...

فرمش بعينيه و قال مستعيدا سيطرته على نفسه وهو يبتسم قائلا بمرح زائف
(كنت أقص عليك أحجية فقط، لا تشغل بالك)
أمسك قاصي بذقن عمرو الناعمة و رفع وجهه اليه، ثم قال بهدوء
(الا تشعر أنك تحتاج أمك؟)
قال عمرو بخفوت
(أحب البقاء معك، لأنك تلعب و تضحك معي، و تشتري لي أغراضا جديدة)
ابتسم قاصي بحنان، و كانت تلك هي الإبتسامة الأولى التي تجدى صدى لها في عينيه، فأمسك بكتفي عمرو و قال له ببطىء كي يفهم.

(اذن اسمعني جيدا، نحن لن نبقى بعيدا عن ماما لفترة طويلة، أنا و هي نقوم على حل مشكلة ما لفترة، و ما أن نتمكن من حلها، حتى تعود ماما لرؤيتك، لكنك ستظل معي في كل الأحوال، فما رأيك؟، هل تستطيع التحمل لفترة يا بطل؟)
أومأ عمرو برأسه الا أنه قال بحيرة
(ألن نعود لنبقى مع ماما في نفس البيت؟)
لم يرد قاصي على الفور، بل انتظر قليلا، ثم قال بهدوء.

(هذا سيكون غير ممكنا يا عمرو، لكنها ستكون دائما موجودة، و أن أردت البقاء معها، يوم أو اثنين، ستفعل، ثم تعود لوالدك في النهاية، سيكون لنا بيت جديد، سنسكن فيه أنا و أنت و تيماء، فما هو رأيك؟)
برقت عينا عمرو وهو يهتف بسعادة
(تيماء! هل ستسكن معنا في نفس البيت؟)
أومأ قاصي برأسه وهو يقول واعدا
(قريبا جدا، سرعان ما سآتي بها لتبقى معنا للأبد، هل تحبها؟)
رد عمرو بحماس.

(أحبها جدا، فهي تجيد اللعب و القفز، و تضحكني و تشتري الحلوى و المثلجات، انها مضحكة جدا)
ضحك قاصي ضحكة بدت كغصة مؤلمة في حلقه، و قال بصوت متحشرج
(نعم هي كذلك فعلا)
صمت للحظة ثم قال متابعا، (أتدري ماذا أيضا، تيماء تحمل طفلا صغيرا، ستأتيك بأخ لك، هل ستفرح به أم ستغار؟)
برقت عينا عمرو اكثر و اكثر وهو يهتف
(أخ؟، هل سيكون لي أخ؟، حقا؟)
أومأ قاصي برأسه قائلا بنفس النشوة القديمة، الا أنها نشوة ذات طابع خاص...

(نعم سيكون لك اخ، ابني، ستكبران معا يوما بعد يوم)
صقف عمرو بكفيه وهو يهتف بجذل
(هذا رائع، لم أظن أن بإمكاني الحصول على أخ مطلقا، هل يمكن أن أختارها فتاة؟)
ارتفع حاجبي قاصي وهو يقول بدهشة
(هل تريدها أن تكون فتاة؟)
رد عمرو بحماس اكبر...
(زيد صديقي لديه أخت صغيرة مضحكة مثل تيماء، تشبه الدمية، الا أنها تبكي حين نضربها)
عقد قاصي حاجبيه وهو يقول.

(هل تضربان أخت زيد الأصغر منكما؟، إنها على الأرجح في الصف الأول من الحضانة، لماذا هذا الظلم؟)
قال عمرو ببراءة
(لأنها تبكي بصوت غريب يشبه صوت العنزة، لذلك نحب أن نسمعها و هي تبكي فنضحك)
ازداد انعقاد حاجبي قاصي، ثم قال بصوت أجش...
(جيد أنك أخبرتني بسبب رغبتك في أخت، كي أكثف الدعاء فيأتيني الولد الذي أتمناه)
قال عمرو بحماس و بعينين براقتين
(و ماذا سيكون اسمه؟).

ابتسم قاصي بنفس الحنان وهو يداعب شعره، ثم قال بخفوت رقيق
(سليم، سليم قاصي الحكيم، كان هذا اسم أكثر من عرفتهم نقاءا في عائلة والدك، الا أنه رحل سريعا)
بدا عمرو و كأنه قد تيقظ تماما و طار النوم من عينيه، حتى بعد أن البسه قاصي المنامة كاملة و نظف له أسنانه و يديه ووجهه، ثم حمله عائدا الى الفراش، لكن عمرو سأله بفضول
(متى سيحدث كل هذا يا أبي؟).

وضعه قاصي في سريره و أحكم تغطيته، قبل أن يجثو بجواره وهو يقول بخفوت
(سيحدث يا عمرو، على بابا أن يصلح بعض الأشياء، ثم نلم شمل أسرتنا من جديد)
قال عمرو وهو يبعد غرته عن جبهته
(و لماذا لا أذهب للمدرسة اذن؟)
أسبل قاصي جفنيه، ثم قال بهدوء خافت
(قد يستغرق هذا فترة أطول يا عمرو، و ربما، ستضطر للتأخر هذا العام دون الذهاب للمدرسة و تعيد العام الدراسي في السنة المقبلة)
قال عمرو رغم عدم فهمه
(لماذا؟).

تنهد قاصي وهو يقول بوجوم
(لأنني سأنقلك الى مدرسة جديدة، أجمل و أكبر، و بها ملاعب أجمل، لكن هذا يحتاج الى والدتك، هي فقط من تستطيع نقلك، لذا سننتظر هذا العام)
لم يفهم عمرو تماما، الا أنه لم يهتم، فبالنسبة له كان عدم الذهاب للمدرسة أفضل...
انحنى قاصي يقبل جبهته وهو يقول بخفوت
(نام الآن، فقد تعبت اليوم)
أغمض عمرو عينيه، الا أنه عاد وفتحهما وهو يقول بصوت ناعس.

(أبي، الا يمكننا أن نأخذ ماما معنا في نفس البيت؟، أحب أن تحضنني أحيانا)
أظلمت عينا قاصي و لم يستطع الرد، و مضت فترة طويلة قبل أن يقول بخفوت، على الرغم من نوم عمرو
تصبح على خير، خرج قاصي من الغرفة أخيرا، بعد أن طال به النظر لدى الباب الى وجه عمرو النائم في سريره...
و ما أن أغلق الباب خلفه حتى أغمض عينيه وهو يهمس لنفسه.

لي فيك أكثر مما لها، و هي لا تستطيع الآنكار، صمت للحظة، ثم فتح عينيه و قال بصوت قاسي جامد
لم تكن الأم المثالية على كل حال، لقد استطاعت تيماء جذب اهتمامه في أشهر أكثر مما فعلت هي خلال خمس سنوات، تحرك قاصي مبتعدا عن الباب، و قد قسى قلبه تجاه عبارة عمرو الأخيرة، و التي ذكرته في لحظة خاطفة مجنونة، بلحظة موت أمه...

(هي لا تزال زوجتي، و إن أرادت، سيتعين على اصطحابها معنا، ففي النهاية هي ليس لها ذنب فيما حدث)
ارتفع حاجبي سوار، قبل أن تسحب يدها من كفيه ببطىء و، تتراجع خطوة...
لاحظ ليث تغيرها على الفور، فعقد حاجبيه وهو يقول بحذر
(سوار!)
رفعت سوار ذقنها و هي تقول دون تردد و بنبرة قاطعة
(لا، أرفض أن ترافقنا)
ارتفع حاجبي ليث وهو غير مصدق لما سمع للتو. ، فقال بحيرة.

(ترفضين؟، لكنها لا تزال زوجتي يا سوار، لا يمكنني أن أتركها هنا و أرحل معك، ستجبرني العائلة على طلاقها لو حدث هذا)
شعرت سوار بطعنة خفية في صدرها، فقالت بترفع و دون تردد
(و ما المشكلة؟، طلقها)
ارتفع حاجبي ليث أكثر، و اتسعت عيناه، وهو يقول بخفوت بعد فترة
(لا أصدق أنك تقولين هذا يا سوار!، )
ابتعدت عنه و هي تنظر الى المرآة، متشاغلة كذبا بتثبيت وشاحها الثابت أصلا، ثم قالت ببرود.

(و لماذا لا تصدق؟، ليست الزوجة التي تندم على طلاقها على كل حال)
بدا ليث مذهولا، في حال آخر كان ليشهر بجذوة السعادة للغيرة البادية في صوتها، لكن شيء ما كان يحل محل السعادة، فسوار تتكلم بنبرة شديدة القسوة و بطريقة تتناقض مع طبعها الذي يعرفه جيدا...
عقد ليث حاجبيه وهو يتحرك ببطىء خلفها، ثم قال بحذر.

(مهما كانت عيوبها، فالمسألة لا تحل بالهرب و الإنصياع لأمر العائلة بالطلاق، هذا ينقص من قدري، يجعلني جبانا، لن أنتهز موقف لا ذنب لها به، كي أدعي عقابها على عيوبها و أطلقها، هل لك أن تتخيلي كيف سيكون وضعها بعد هذا؟)
نظرت اليه سوار في المرآة و قالت بقسوة
(لا، ليس لي أن أتخيل و لا أريد من الأساس)
استدارت سوار اليه و هي تستند الى طاولة الزينة بكفيها متابعة بنبرة متزنة الا أنها قاطعة.

(أنا لن أرافق ميسرة الى أي مكان يا ليث، ربما تكون زوجتك، لكنها ليست زوجتي)
ضاقت عينا ليث قليلا وهو يتفحصها بدقة، ثم قال بغموض
(هل هذه غيرة؟)
التوت شفتي سوار مستهجنة و هي تقول بنفور
(أنا أغار من ميسرة؟، المقامات لا تزال محفوظة يا ليث، حتى ولو افتعلوا كل يوم فضيحة لتشويه سمعتي، ستظل المقامات محفوظة، الشعور الإيجابي الوحيد الذي قد أشعر به تجاهها هو الشفقة، و أحيانا تموت ايضا و لا يبقى سوى التقزز منها).

اتسعت عينا ليث وهو يهدر بغضب
(سوار، لا تنسي أنها زوجتي)
لم تجفل سوار و لم يرمش لها جفن و هي تهز كتفها قائلة بلامبالاة...
(هذا رأيي بها يا ليث و حقيقة شعوري تجاهها، و لا يمكنك ارهابي كي أغيره مطلقا، أنا لم اكن لأذكره، لولا أنك تريد اجباري الآن على تحمل مرافقتها لنا).

ظل ليث ينظر اليها بصمت طويلا، قبل أن يتحرك أخيرا بهدوء، مفكرا الى أن جلس على حافة سريرهما الضخم، ثم رفع وجهه اليها بعد فترة، ليربت على المكان الخالي بجواره وهو يقول بصوت حنون
(تعالي هنا بجواري)
رفعت سوار وجهها و هي تقول بهدوء ودون تردد
(لا)
قال ليث بعتاب يمس القلب
(لا، و بمنتهى البساطة؟، هل هنت عليك يا بنت وهدة الهلالي؟)
لم تهتز سوار و هي تقول بإباء.

(لأنك تريد تغيير رأيي، و هذا لن يحدث يا ليث، أنا أمقتها)
اتسعت عينا ليث مجددا وهو يرى أن سوار ليست طبيعية مطلقا، ربما كانت تشعر بالخزي مما مرت به و ما تعرضت له سمعتها، و تخجل من أن تبقى مع ميسرة في مكان واحد كي لا تكون بهذا المظهر الموجع أمامها!
ابتسم ليث لعينيها القاسيتين و قال مربتا بجواره مجددا و بصوت أكثر حنوا
(تعالي يا سوار، زوجك يريدك الى جواره، فهل تحرميه من قربك؟).

اهتزت حدقتاها لحظة، فأسبلت جفنيها و هي تشعر بالغضب منه، لهذا لا تريد قربه في تلك اللحظة كي لا يضعفها...
لكنه لم يسمح لها بالفرار، بل تابع بصوت أكثر هدوءا
(سوار، تعالي بنفسك، لن أجبرك على شيء)
رفعت سوار وجهها و هي تتعمد أن تزفر بصوت عال كي تظهر له رفضها مقدما، ثم تنازلت و هي تتقدم اليه بخيلاء الى أن نفضت عبائتها حول ساقيها و جلست بجواره صامتة، مشيحة بوجهها الأبي عنه...

لكنه أمسك بذقنها و أجبرها أن تنظر اليه، ثم قال مبتسما بخفوت
(أريد نزع وشاحك)
ارتبكت قليلا و هي تقول بتحفظ حذر
(لماذا؟، لقد تأخرنا، أم تراك غيرت رأيك)
لم يفقد ليث ابتسامته وهو يقول بصوت عميق هادىء
(لا يزال لدينا بعض الوقت)
و دون أن ينتظر رأيها رفع كفه كي ينزع وشاحهها عن رأسها بتمهل، و بدأ يفك طيات شعرها الملتفة حول بعضها في عقدة بمؤخرة رأسها...

استمرت تلك العملية المعقدة ما يقرب من الدقيقة، الى أن استرخى شعرها أخيرا على ظهرها، وهو يلا زال نديا كحبات المطر...
فأخذ يمشطه بأصابعه معجبا بجماله، بينما أطرقت برأسها مستلمة لسحر تلك الأصابع الرجولية الدافئة...
حسنا ها هو قد بدأ يستخدم أحد أساليبه الملتوية ليقنعها...

لكن أمسك بجانب وجهها يرفعه اليه مجددا، حتى رفعت جفنيها و قابلت عينيه بعينيها، فصدمتها تلك النظرة بعينيه، نظرة غريبة، حاولت تفسيرها لكنها لم تجد الوقت، فقد سبقها هو و قال بصوت عميق خافت دون أن يتردد
(أنا مهزوم يا سوار، لا تغرنك قوتي الظاهرة، فأنا مهزوم)
فغرت سوار شفتيها و هي تنظر اليه بذهول، ثم همست بنبرة قوية و هي تمد كفها لتمسك بكفه الحرة المستريحة على ساقها.

(ما عاش من يهزم ليث الهلالي، لا تكرر ما قلته مطلقا)
رد عليها ليث محدقا في عينيها بصدق
(لا أشعر بالحرج من نطقها أمامك أنت فقط، بخلاف العالم أجمع، فهذا ما أحتاجه و الا سقطت)
ارتجفت شفتي سوار قليلا، ثم همست بنبرة حارة
(بعيد الشر عنك، أنا السبب)
هز ليث رأسه نفيا وهو يغمض عينيه للحظة، ثم قال بجدية و قوة لا تقبل الجدل
(بل أنت من أحتاج للإحتماء بها، و هي تقف خلفي، تسندني من الوقوع).

لم تستطع سوار الرد و هي تشعر بغصة حادة، تؤلم حلقها، بينما حرر ليث كفه من تحت كفه كي يضعها على خصرها وهو يقربها منه ممسكا بيدها الأخرى، ثم قال بصوت هامس و كأنه يشي لها بسر
(الا تعرفين أن أقصى أحلامي سعادة هو اختطافك وحدك و السفر بك بعيدا كي نكون وحدنا بعيدا عن العالم بأسره، و أنت تطلبين مني نسيان الواقع و المسارعة لتنفيذ الحلم الذي حلمت به منذ سنوات بعيدة).

ارتجفت شفتها بشدة، بينما تابع ليث قائلا بهدوء
(لا تضعفيني يا سوار، لأنني على حافة الإستسلام لهذا الحلم، لكن سيترتب عليه المزيد من الهزيمة لزوجك، و أنا لم أعتد الهزيمة)
ساد الصمت بينهما لبضعة لحظات، ثم أمسكت سوار بقبضته، بقبضة أقوى من أنوثتها...
و أخذت نفسا عميقا قبل أن تقول بهدوء، و بنبرة مختنقة قليلا
(ما عاش من يهزم ليث الهلالي، أنا معك، اذهب و احضر زوجتك و أنا سأرافقكما).

أظلمت عينا ليث، و شدد على قبضتها، ثم قال بحرارة
(كنت الأولى، و ستظلين يا سوار، لا أملك قلبي رغم شعوري بذنب الإعتراف)
ابتسمت قليلا و هي تطرق برأسها دون أن تجيب، ثم همست بخفوت
(هيا اذهب لتحضرها، و أنا أنتظرك هنا)
بدا ليث غير قادرا، بل لا يريد المغادرة، يريد الإستسلام لحلمه البعيد، لكن الواجب أمره أن ينهض قبل أن يضعف...

اطبق على جانب وجهها يرفعه اليه، وهو يخفض وجهه لها، ينهل من رحيق شفتيها بقوة، حتى انخفض بها الى السرير وهو يميل عليها، كان غريبا في قبلاته، جادا جدا و كأنها تمثل حاجة ملحة له، لا مجرد تقارب عاطفي...
حاولت سوار ابعاده، الا أنه كان يقاوم و يقاوم حتى قالت بقوة تأمره
(هيا اذهب قبل أن أغير رأيي، لست وحدك من يريد الإستسلام الى الأحلام).

رفع ليث وجهه ينظر اليها مضطرب الأنفاس، ثم نهض من مكانه مندفعا، حتى خرج من الغرفة، مغلقا الباب خلفه بقوة أخبرتها كم عانى خلال الساعات الماضية...
نهضت سوار من مكانها ببطىء، تمشي بتثاقل حتى وصلت الى المرآة تنظر الى نفسها...
بعبائتها، و شعرها الأشعث الطويل متهدلا حولها بفوضوية، بينما كانت ملامحها ساكنة، ساكنة جدا بدرجة تتناقض جدا مع روحها الهاجعة...
همست سوار بخفوت.

(ليس هذا ما أستحقه، ليس هذا ما أستحقه مطلقا)
و انعقد حاجبيها بألم...

نزلت ميسرة جريا على السلالم ما أن وصلها خبر قدوم ليث، قبل حتى أن يدخل من باب الدار...
و ما أن أبصرته حتى هتفت بصوت ملتاع
(حبيبي، حبيبي و سيد الرجال، قلبي معك والله، علمت بما حدث)
كانت قد وصلت اليه فرمت نفسها عليه و هي تضمه اليه بكل قوتها بينما أساورها الذهبية السميكة و الرنانة، تصدر صخبا مزعج بات ثقيلا على قلبه...

وقف ليث مكانه صامتا، يشعر بالجمود المألوف رغم عنه، جمود يشعره بتأنيب الضمير أكثر و أكثر، لكنه نحى مشاعره جانبا وهو يقول مربتا على كتفها
(اهدئي يا مسيرة، هو اختبار من الله، و الحمد لله على كل حال)
رفعت ميسرة وجهها بنظرات حادة شريرة و هي تصرخ بعنف.

(لا، ليس اختبارا، بل هي نتيجة، نتيجة سوداء لإختيارك الأشد سوادا، أخبرتك ألف مرة أنها لا تليق بك و لا تليق بعائلتنا، و لم تسمع كلامي، و انظر الى النتيجة، لوثت سمعتنا التي لم يكن لمخلوق أن يمسها بحرف، لقد فضحتنا بنت ال)
هدر ليث بعنف وهو يقبض على ذراعها يبعدها عنه بقسوة
(كفى، كفى، حذرتك مرارا من ذكر اسمها بتلك الطريقة)
لمعت عينا ميسرة بذهول أشد شرا، ثم همست بعدم تصديق.

(الا زلت تدافع عنها؟، كيف؟، ألم تسمع سيرتها التي تتناقلها الألسنة؟، ماذا دهاك؟)
صمتت للحظة و هي تهز رأسها قبل أن تصرخ ببصوت مجنون و هي تقبض على قميصه بكلتا قبضتيها
(ماذا دهاك؟، لماذا تدافع عنها؟)
كان ليث ينظر الى نظارتها المسعورة و نفوره يزداد منها أكثر و أكثر، لكنه قال بجدية
(لن أحاسبك على هذا الآن يا ميسرة، لدي ما هو أهم، اصعدي لتعدي حقيبتك بأسرع وقت، سنغادر البلد على الفور).

تسمرت ميسرة و هي تضيق عينيها، ثم قالت بعدم فهم و هي تشير الى صدرها
(نحن من سنغادر؟، الى أين؟، و لماذا؟، طالما أن تلك لكارثة ستعود مخزية الى بيت عائلتها التي لم تعرف كي تربي نسائها)
هدر ليث مجددا من بين أسنانه شاعرا بالنقمة عليها
(اخرسي، اخرسي يا ميسرة قبل أن أتهور عليك، اذهبي الآن و حضري حقيبة ملابسك بسرعة)
هتفت ميسرة و هي تضرب الأرض بقدمها
(ليس قبل أن أفهم، لماذا علينا أن نغادر أنا و أنت؟).

قال ليث بنبرة باترة
(سنغادر ثلاثتنا، أنا و أنت و سوار، لقد أجبرتني العائلة على طلاقها و أنا رفضت، سأتنازل عن كل شيء و نغادر)
فغرت ميسرة شفتيها بشكل مضحك، حتى بدا فكها و كأنه سقط بغباء، بينما كان كل ما استطاعت الهمس به هو كلمة واحدة
(ماذا؟)
هز ليث رأسه بنفاذ صبر، ثم قال بحدة
(لا وقت لدينا يا ميسرة، أسرعي هيا).

لكن ميسرة لم تتحرك من مكانها، بل ظلت واقفة بنفس الإنطباع لبضعة ثوان الى أن وجدت صوتها و همست بعدم فهم
(تنازلت عن ماذا؟، ماذا تقول؟)
رد ليث بنبرة قاطعة
(قلت ما سمعته للتو يا ميسرة، فلا تحاولي الجدال رجاءا، لأن القرار كان على مسمع من الكبار، لقد انتهى الأمر)
ابتعدت ميسرة عنه و هي لا تزال فاغرة شفتيها، متسعة العينين و هي تلوح بكفيها و كأنها تكلم نفسها بهذيان.

(ما هو هذا الذي انتهى؟، ما هو هذا الذي تنازلت عنه؟، و لأجل من؟، بعد كل ما حدث؟)
استدارت اليه بكل قوتها و هي تشير الى نفسها هامسة بذهول
(تريد مني التخلي عن كل شيء مثلما فعلت أنت، و لأجل من؟، الساحرة المغوية؟)
ضاقت عينا ليث وهو يقول بنبرة متحدية.

(ليس لأجلها، بل لأجل زوجك، هي زوجتي و اتهمت زورا في شرفها، و أي رجل لديه نخوة و كرامة، سيدافع عن شرف زوجته حتى لو تنازل عما يملك، و أنت و بما أنك زوجتي، عليك أن تكوني بجواري)
أفلتت منها ضحكة ذاهلة، ثم همست تكرر كلامه
(على أن أكون بجوارك؟، كي أدافع عن شرف الفاجرة؟)
هدر ليث بصوت جهوري وهو يرفع قبضته عليا موشكا على صفعها، فصرخت و هي تستدير عنه مغطية وجنتيها بكفيها...

الا أنه تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة و أخفض كفه وهو يهمس من بين أسنانه بكبت مستديرا عنها
(لا حول و لا قوة الا بالله)
ظل كل منهما يولي الآخر ظهره، الى أن قال ليث أخيرا بجمود
(اتخذي قرارك حالا يا ميسرة، إما أن تأتي معنا أو تبقين هنا)
استدارت ميسرة بكل قوتها و هي تنظر الى ظهره المنتصب...
ثم قالت بنبرة خافتة و كأنها فقدت القدرة على الصراخ، فتكلمت بصوت كالفحيح، مزدري.

(قراري؟، هل تتخيل أن أترك مكانتي هنا و أهلي و مالي و أتبعك أنت و المغوية؟، هل تظنني بمثل هذا الغباء؟، والله لو مت أمامي فلن أفعل)
ساد الصمت بينهما طويلا، الى أن استدار اليها ليث ببطىء، ينظر اليها نظرة اخترقت عظامها...
ثم قال ببرود
(لا يا ميسرة، لم أظنك يوما بمثل هذا الغباء، بل صدق ظني تماما).

و دون أن ينتظر منها رد، كان قد استدار و خرج مندفعا خارج الدار، بينما كانت هي تنظر الى انصرافه بذهول، ثم لم تلبث أن صرخت عاليا بصوت رج جدران الدار
(لييييييييييث، عد الى هنا، ستندم، ستندم، أقسم بالله ستندم، سأحرقكما معا، ليييييييث)
و كانت نوبة جنونها هذه المرة أشد فظاعة من ذي قبل و هي تكسر و تهشم كل ما تطاله يداها...
قبل أن تسقط على ركبتيها، تلطم وجنتيها بكفيها حتى أدمتاهما صارخة.

(أحرقها، أحرقها، أحرقهاااااااااااااااااااا، لماذا لا تتصرف).

جالسة على أريكة شقتها و ساقيها تحتها، بينما رأسها مرتمي الى ظهره الأريكة و كأنما قد تحولت الى مجرد جثمان شديد الجفاف، لا روح به...
الشقة خاوية جدا، صامتة، شديدة البرودة...
فاغرة فمها قليلا تتنفس منه و كانت تلك هي اشارة الحياة الوحيدة التي تصدر عنها...
لا تدري كم يوم مر عليها و هي على هذه الحال...
كل ما تعرفه هو أنها قضت الأيام الأولى كلها جريا و بحثا عنهما في كل مكان ما بين المدينتين...

طرقت كل باب تواجد خلف قاصي أو تيماء يوما ما...
لم تترك أحد يعرفهما الا و سألته، و كانت صدمتها حين أخبرتها والدة تيماء بترفع أن تيماء قد سافرت و انتهى الأمر، و أن عليها البحث عن ابنها بعيدا عنها...
حينها تهاوى آخر أحلامها...
فارتمت في شقتها تنتظر الرحمة، عله يرأف بحالها و يعيد ابنها اليها، بعد أن يكتفي من عقابها و عذابها...
سمعت صوت صادرا من غرفة عمرو فجأة، فرفعت وجهها بسرعة ترهف السمع و هي تهمس بلهفة.

(عمرو!)
ثم نهضت تجري الى الغرفة. ، لكنها وقفت مكانها و هي ترى أنها النافذة فقط، ليس عمرو، و الغرفة على حالها، جميلة مرتبة و تنتظر عودته...
أطرقت ريماس رأسها حتى استندت بجبهتها الى اطار الباب و بكت بصمت هامسة باختناق
(لماذا، لماذا يا قاصي؟، لم تكن بمثل هذه القسوة من قبل)
صدح رنين جرس الباب بقاطع نحيبها المختنق، فرفعت وجهها و هي تستدير، لتجري الى الباب هاتفة بلهفة أشد
(عمرووووووو).

لكن حين فتحت الباب، لم تتوقع أن تراه أمامها، راجح الرافعي...
ابتلعت ريقها و هي تقول بصوت محتقن
(أنت، ماذا تريد؟، الا يكفي ما فعلته؟)
كانت ملامح راجح كما عهدتها دائما، قاسية، فظة، لكنها تفتقد شيء ما، تفتقد العبث و اللامبالاة...
تفتقد الإستهانة...
كانت ملامحة أقرب الى الشر وهو يدخل، بينما هي تتراجع الى أن أغلق الباب خلفه كما فعل تماما في المرة السابقة...
ثم تكلم قائلا بنبرة مخيفة.

(ما فعلته أنا؟، ضيعت الولد؟)
ابتلعت ريماس ريقها و قالت بصوت مختنق مرتجف
(كيف، كيف عرفت؟)
ارتفع حاجب راجح وهو يقول ببرود
(هل هذا هو كل ما يهمك؟، كيف عرفت؟، الا جواب لديك عن كيفية ضياع ابنك منك؟)
ردت ريماس بصوت مختنق أجش
(عمرو ليس ضائعا، إنه مع والده)
ابتسم راجح ابتسامة ساخرة قاسية، وهو يهز رأسه قليلا، ثم و دون أي مقدمات، رفع وجهه و صفعها فجأة بكل قوته، حتى أنها ارتمت للخلف مرتطمة بالجدار...

لمست ريماس وجنتها بكفها و هي تنظر اليه مذعورة صارخة، ثم حاولت الجري الى الباب كي تهرب منه، الا أنه قبض على ذراعها و دفعها للحائط مجددا، ثم وضع كلتا كفيه على جوار وجهها وهو يميل اليها قائلا بصوت شرير
(هذا ما يحدث، حين تقول امرأة لوالد ابنها، أن آخر هو أباه)
شهقت ريماس شهقة بكاء مختنقة و هي تنظر اليه بعجز، لكن راجح لم يهتم، بل سألها بقسوة
(لماذا لم تلجأي إلى في ايجاده؟).

لعقت ريماس شفتيها و قالت بصوت منتحب مختنق...
(منذ متى كان يهمك؟)
رد راجح ببرود
(منذ أن طالبت به، هذا الولد سيعود و لن يهدأ لي بال حتى أقضي على ابن الحرام الذي أطعمه من ماله، ثم خطفه، خطف ابن أسياده)
همست ريماس باكية بعذاب
(أرجوك لا تعذبني أكثر، الا ترى حالتي؟، هل تساومني على الولد قبل عودته؟، كفاكما ما فعلتما بي)
لم يهتم راجح لبكائها و حالتها المثيرة للشفقة، بل قال بنبرة مزدرية.

(أنت لا تهمينني أكثر من اهتمامي بسيجارة أنهيتها، ثم سحقتها بحذائي، فالتقطها، أحد جامعي أعقاب السجائر ليضعها في فمه العطن)
سقط وجه ريماس و هي تشهق باكية مغمضة عينيها بقوة، الا أن راجح قبض على فكها يرفع وجهها اليه بالقوة، حتى اضطرت الى رفع عينيها المتورمتين اليه، فقال بصوت خطير
(ستخبريني بكل تفصيلة أحتاجها عن ابن الحرام، ثم نتجه لنحرر محضرا ضده نتهمه بخطف الولد بصفتنا والديه، مفهوم؟).

ظلت ريماس تنظر اليه بنظرات خائفة، و ملامح ممتقعة، قبل أن توميء برأسها بصمت، متسائلة أين ذهب ضعفها الجسدي أمامه، فعلى الرغم من قربه منها، الا أن ضياع ابنها حولها الى جذع ميت، لا يعرف احساس...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة