قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والأربعون

أغمضت تيماء عينيها هي أيضا مستندة الى الجدار من خلفها، بساقين واهنتين...
و مضت بهما الدقائق طويلة حتى فقدا القدرة على عدها...
رأسها متراجع للخلف و هي تشعر بشفتيه الدافئتين على بطنها، فوق طفلها مباشرة...
لحيته تخدش بشرة تلك البطن المنتفخة التي تحمل جنينهما...
القلب يصرخ باسمه، في صدر يئن ألما...
بداخلها رعب من أن تفتح عينيها فتجد أن وجوده لم يكن سوى حلما، سراب...
حينها ستسقط صريعة الإشتياق...

يا رب لا تجعله حلما، لم تعد لي الطاقة على تحمل حلما جديدا استيقظ بعده على عذاب اختفاءه، فغرت شفتيها المرتعشتين قليلا و نفسها المتأوه يخرج من بينهما بلحن حزين...
بينما الشفتان الدافئتان تتحركان فوق بطنها ببطىء، و كأنه يقبل كل جزء منها...
يقبل رأس الجنين، كفيه، قدميه الصغيرتين...
يقبلها هي مع كل قبلة لإبنهما...
أما هي فكانت تحرك رأسها يمينا و يسارا، مغمضة العينين و كأنها لا تصدق...

الى أن سمعت صوته الهامس الأجش، يقول بإختناق و كأنه يكلم نفسه شاردا مبهورا...
ما أجملها، ما أجملكما، تخيلت كثيرا، لكنني لم أتخيل أن، احتبست الكلمات في حنجرته ذات الخدوش العميقة بفعل الزمن و المشاعر، فصمت...
أنفاسه الساخنة تدغدغ بطنها، فتجعلها ترتجف أكثر...
حينها فقط لم تجد بدا من أن تحرك كفيها الباردتين، و دن أن تفتح عينيها، تحسست بهما طريقهما كالعمياء الى وجدتا شعره...

عقدت تيماء حاجبيها بألم و عدم تصديق و هي تتخلل تلك الخصلات الناعمة الطويلة قليلا بين أصابعها المرتجفة...
نفس الشعر الناعم، نفس الرأس الصلبة التي يتوجب كسرها...
صدرت عنها أخيرا صرخة خافتة و هي تهتف مغمضة العينين
(قاصي!)
شعرت بالشفتين تبتعدان عن بطنها، و الخصلات عن أصابعها وهو ينهض واقف بقوة، ليهتف بصوت أجش خافت
(افتحي عينيك و تأكدي بنفسك).

لكنها لم تكد أن تفتح عينيها، الا ووجدت نفسها بين أحضانه بقوة كانت أن تحطم أضلعها وهو يغمر وجهها بالقبلات...
عينيها، أعلى أنفها، وجنتيها، شفتيها، و تلك الشامة الوردية، التي اشتاقت لقبلاته بالأخص...
أما هي فكانت تنظر اليه بذهول و لسانها يتحرك بذهول
(قاصي، قاصي)
اسمه يضيع بين قبلاته، يغرق، ثم يعود للصعود الى السطح مجددا...

و مرت بهما دقائق مجنونة، لم تستوعبها بعد و هي تلاحق قبلاته بحدقتيها الذاهلتين المهتزتين...
الى أن توقف بعد فترة طويلة وهو يبعد وجهه قليلا، ينظر الى ملامحها الطفولية المذهولة بعينين مشتعلتين، متألمتين، و كأنه يحاول جاهدا أن يحفظ هذه الصورة في مخيلته للأبد...
ثم همس أخيرا بصوت عنيف مختنق وهو يضع يده على بطنها، مذهولا...

(تيمائي المهلكة، يا أرض الهلاك، بت تحملين نبتة صغيرة، بذرتها مني أنا، ابني، أنت تحملين ابني يا طفلتي الصغيرة التي وجدتها على بابي ذات يوم، هل تتخيلين هذا؟).

فغرت تيماء شفتيها المرتجفتين أكثر و هي تهز رأسها بعدم تصديق، بينما الدموع تنساب بصمت على وجنتيها و قبل أن تتحركا هامستين باسمه مجددا، كانت هي أسرع، فقفزت على أطراف أصابع قدميها و هي تطوق عنقه بذراعيها بكل قوة تضمه اليها بكل ما تمتلك من ذرة حياة...
و حينها تحولت الدموع الصامتة الى شهقات بكاء عنيفة، أما هو فضمها اليه يؤرجحها قليلا، و هي لا تكاد أن تلامس الأرض بأصابعها...

عاقدا حاجبيه بألم، ألم ينتشر في كل جسده دون رحمة، خاصة و هي تهتف من بين شهقاتها
(ياللهي، أنت هنا، أنت هنا)
ابتسم بنفس الألم وهو يهمس فوق جبهتها بقوة
(نعم أنا هنا أخيرا، لم أكن لأتركك مطلقا، آسف لأنني استغرقت كل هذا الوقت)
أبعد وجهه عنها قليلا، ليمسك بوجهها بين كفيه، يرفعه الى عينيه وهو ينظر الى ملامح العذاب على تلك الملامح المجهدة من البكاء، فازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول متابعا.

(آسف لكل هذا الألم الذي أراه)
لكنها لم تسمع أسفه، كانت فقط تريد التأكد من أنه أمامها بخير...
فظلت تتحسس وجهه، و كتفيه، و صدره...
كالأم التي تتفحص طفلها بعد سقوطه في الطريق، بينما لسانها يهمس بعدم تصديق
(أنت بخير، أنت بخير، مرت بي أوقات، ظننت فيها أنك)
لم تستطع المتابعة، فأطبقت جفنيها و شهقت ببكاء عنيف، الا أنه ضم رأسها الى كتفه وهو يهمس لها بعذاب مماثل مختنق.

(اهدئي، اهدئي، كل هذا الألم، ليس مناسبا لك و للطفل)
التقطتت أنفاسها مرة، ثم مرتين، قبل أن تفتح عينيها بعنف فجأة كقطة شرسة، و دون مقدمات
ضربته على صدره بكل قوتها و هي تصرخ بوحشية
(الآن فقط تذكرت أن الألم ليس مناسبا لي و للطفل؟)
انعقد حاجبي قاصي وهو يمسك قبضتها هاتفا بدهشة
(ما الذي أصابك فجأة يا مجنونة؟)
الا أن تيماء كانت كمن تلبسها مارد من الجان و هي تصرخ بجنون.

(أين كنت مختفيا طوال هذه الأشهر؟، لقد ظننت أنك)
لم تستطع المتابعة مجددا، فتحشرج صوتها و هي تصرخ، لتضربه بقبضتها الأخرى
(تبا لك يا قاصي، تبا لك أيها النذل الجبان، بماذا أدعو عليك؟، أخبرني فقد عجز اللسان عن الكلام؟، بماذا أدعو عليك، بينما كل العبر فيك!)
أمسك قاصي قبضتها الأخرى بسرعة قبل أن تصل الى فكه...
فنظر الى تلك القبضة الصغيرة بذهول، قبل أن ينظر الى وجهها قائلا بعدم تصديق
(هل كنت تنوين لكمي للتو؟).

لم تتراجع تيماء بل أخذت تقاومه بشراسة و هي تصرخ
(و هل رأيت لكما بعد؟، ستجد كل ما يسرك من لكم و ركل و شتائم أيها الحقير)
اتسعت عيناه أكثر و قد ظهر الغضب، فصرخ فيها بعنف
(و تملكين الجرأة على الإلقاء اللوم علي؟، من الذي سافر و ابتعد أيتها المجنونة؟، يبدو أنك قد نسيت نفسك و تحتاجين الى صفعتين علهما تساعدان في افاقتك من الوهم الذي تعيشينه)
الا أن تيماء لم تخف بل ظلت تقاومه بجنون و هي تصرخ.

(اتركني، اتركني، لأمزق وجهك بأظافري، سوف، سوف)
بدت و كأنها تهذي من شدة الجنون فصرخ بها قاصي وهو يهزها قليلا برفق
(توقفي عن هذا الجنون حالا، أنت تؤذين الطفل)
برقت عيناها أكثر و كأنما المارد الذي يتلبسها يلعب كرة قدم بعقلها، فصمتت للحظة، قبل أن تهمس بنبرة شرسة من بين أسنانها
(أنت من ينصحني فيما يخص طفلي؟، طفلي الذي حملته وحدي طوال سبعة أشهر، بينما كنت أسأل عنك كل قريب و غريب، و أتذلل لمن لا يسوى!).

انعقد حاجبي قاصي وهو يقول بنبرة غريبة عنيفة
(لمن تذللت و كيف؟)
صرخت به تيماء بعنف و هي تحاول تحرير قبضتيها من كفيه عبثا
(لا يحق لك أن تسأل، لا يحق لك أي شيء بعد اختفائك طوال سبعة أشهر كاملة دون خبر واحد لتطمئنني به عليك أيها المتخلف)
ظل قاصي ممسكا بها قليلا، وهو ينظر اليها عاقدا حاجبيه، كانت ترتجف من شدة الغضب، لدرجة أنها بدأت تنتفض بين يديه في نبضات لا ارادية...

حينها فقط لانت عيناه وهو يخفف من قبضتيه حول كفيها، فسارعت لدفعه عنها، الا أنه لم يسمح لها، بل ضمها الى صدره بكل قوته ليكبل حركتها العنيفة، و ما أن استكانت بتعب بعد فترة، حتى همس في أذنها بخفوت
(كنت مرغما يا مهلكتي، كنت أسعى الى انقاذ أسرتي الصغيرة و انهاء كل خيوط الماضي لأرتاح، و قد فعلت، الآن لن يبعدنا شيء مطلقا، أربعتنا).

أربعتنا! من هم الأربعة؟، هو و هي و سليم و، تسمرت تيماء مكانها فجأة و هي ترفع وجهها الشاحب لتنظر اليه بذعر قبل أن تهتف
(عمرو! أين تركته؟، مع من تركته؟، كيف تسافر و تتركه مع أحد غيرك؟)
ضاقت عينا قاصي قليلا، ثم فتح فمه ليرد، الا أن تيماء رمشت بعينيها و هي تهز رأسها رافعة كفيها الى جبهتها قائلة بعدم استيعاب
(لحظة، لحظة، كيف سافرت أصلا؟)
رفعت وجهها اليه مجددا، ثم فغرت شفتيها و هي تقول بصوت يرتعد.

(هل تعلم أن ريماس قدمت بلاغا ضدك تتهمك فيه بخطف عمرو؟)
ابتسم قاصي بسخرية دون مرح، ثم هز كتفيه ليقول بلامبالاة
(كان هذا شيئا متوقعا بالنسبة لي، الا أنني عرفت بالتأكيد من مصادر مقربة)
رمشت تيماء بعينيها مجددا، قبل أن تهمس بعدم اطمئنان
(اذن كيف سافرت؟، من المؤكد أنهم قد استصدروا قرارا بمنعك من السفر)
ابتسم قاصي وهو يقول ببساطة
(كانت رحلة طويلة)
هتفت تيماء بنفاذ صبر و غضب.

(لم أسألك عن عدد الساعات التي استغرقتها الطائرة، لا تتغابى يا قاصي و أجبني مباشرة)
ارتفع حاجبيه و قال مبتسما و كأنه يكلم طفلة صغيرة
(لم آتي بطائرة من الأساس، كانت رحلة طويلة حيث أنني أتيت بحرا قبل ستة أشهر، أي قبل أن يتقدموا بالبلاغ من الأساس)
فغرت تيماء شفتيها و هي تهمس بذهول
(قبل ستة أشهر! أنت هنا منذ ستة أشهر؟)
رفع قاصي يده ليضعها على وجنتها قبل أن يقول بجدية.

(هل يعقل أن أكون هنا منذ ستة أشهر و أمنع نفسي عنك و أحرم نفسي من رؤية طفلي الذي ينمو يوما بعد يوم بين أضلاعك!)
كانت تيماء تنظر اليه بيأس و هي تحرك وجهها الشاحب قليلا، ثم قالت بضياع
(أنا لا أفهم، لا أفهم شيئا)
تنهد قاصي وهو يمسك بكفيها بين قبضتيه مجددا، لكن برفق و حنان هذه المرة، قبل أن يقول بهدوء.

(تعلمين أن سفر من هم مثلي يكون صعب من الأساس، حتى دون أي بلاغ، بسبب الهوية و التأشيرة و خلافه، لكن كان لها طريقة، و قد سبق لي المجيء الى هنا منذ سنوات حين أتيت الى مسك، لحسن الحظ أنك اخترت نفس البلد، أو فلنقل أن سالم الرافعي هو من اختار، و دفع).

قسا صوته في الكلمات الأخيرة و تحول وجهه الى نفس القناع المخيف، و كان من المفترض أن تخاف من عينيه المرعبتين اللتين لم تسامحاها بعد على ما يبدو، الا انها لم تهتم، بل قالت بشدة
(تابع، لا تتوقف)
ظلت نظرته على قسوتها لعدة لحظات، قبل أن يتابع بجفاء
(أوراق هوية تم تجهيزها، و عن طريق البحر يكون الأمر أسهل، لكن الى بلد صغيرة مجاورة، و لابد من البقاء بها لفترة لا تقل عن ستة أشهر قبل التحرك الى هنا برا).

لم تسمع تيماء معظم ما نطق به، فأول ثلاث كلمات كانت بالنسبة لها كانت أكثر من كافية...
فغرت شفتيها و همست بصدمة و ارتياع
(قمت بتزوير أوراق هوية؟، ياللمصيبة!)
ابتسم قاصي بسخرية وهو يدلك كفيها قائلا بنعومة
(لا مصائب، هذا أمر عادي يحدث كل يوم، لا تبالغي في وصف الأمر)
ازداد اتساع عينيها قبل أن تهتف فيه بذهول.

(هل بات الإجرام بالنسبة لك أمرا عاديا يحدث كل يوم؟، هل جننت؟ ماذا لو كان قد تم ضبطك؟ ألم تفكر بهذا مطلقا؟)
قال قاصي بهدوء
(تيماء، هذا لم يحدث، لقد قمت بالأمر من قبل، و نجح، لو كان لدي شك لما قمت به، على الأقل كي أستطيع الوصول اليك بطريقة أو باخرى)
كانت تيماء تهز رأسها بعدم تصديق و هي تهمس لنفسها
(لا أصدق، لا أصدق)
رد قاصي عليها بقاطعها بصوت عنيف.

(هل كنت تفضلين أن أتركك هنا وحدك الى أن تتمي دراستك التي قد تستغرق أربع سنوات أو أكثر؟، ربما كنت تنتظرين مني أن أصبر على رؤية ابني الى أن يصل لسن المدرسة! هل أنت حقا بهذا الغباء؟، والله لولا أنني كنت أريد ابعادك عن البلد في هذه الفترة تحديدا لما سمحت لك بالسفر أو الخروج من باب البيت حتى يعود اليك عقلك).

ظلت تيماء تنظر اليه بذهول، و كأنه مجرم معتاد الإجرام، بينما هو يقابل نظراتها بعينين مهددتين. تخبرانها دون الحاجة للنطق بأنه على وشك ازهاق روحها إن اعترضت...
الا أن تيماء همست مصدومة
(و عمرو! كيف لك أن تتركه مع، الله العالم مع من تركته؟، كيف لك أن تخطفه من أمه، ثم تتركه مع غريب أي كان لستة أشهر كاملة!)
لم يرد قاصي على الفور، بل ظل ينظر اليها نظرة غير مريحة، الى أن قال أخيرا بهدوء جليدي.

(و هل يعقل أن أترك ابني وحيدا و أسافر لفترة طويلة؟، بعد كل العناء الذي تكبدته كي أحافظ عليه؟، أنت تظنين في ظنونا سيئة للغاية!)
فغرت تيماء شفتيها أكثر، و همست بفك متدلي بغباء
(ماذا تقصد بالضبط؟)
ابتسم قاصي وهو يقول ببساطة
(عمرو معي هنا، لكنني تركته في احد نوادي الإستضافة الخاصة بالأطفال اليوم، لأنني أردت الإختلاء بك في أول لقاء لنا بعد سبعة أشهر طويلة).

فمها لم ينغلق فعليا منذ دقائق، كل صدمة تجعله يفتح أكثر...
الى أن همست بإعياء
(عمرو، سافر، معك؟، كيف وهو ليس ابنك و أنت لا تحمل أي توكيل أو وصاية خاصة به)
ابتسم قاصي مجددا وهو يقول بخفوت
(سجلت له شهادة ميلاد جديدة، باسمي)
عند هذه الصدمة الأخيرة، رفعت كفها لتلطم بها وجنتها و هي تهتف
(ياللمصيبة، ياللمصيبة، ياللمصيبة السوداء فوق رأسك الغبي أيها المتخلف، عديم التفكير).

انتزعت نفسها منها بقوة و ابتعدت عنه وأخذت تمشي في الشقة بلا هدى و هي تلطم نفسها هاتفة
(ياللمصيبة، لقد ضعت للأبد، انتهى أمرك، خسرتك للأبد، خسرتك للأبد و خسرك طفلك قبل حتى أن يراك، منك لله، حسبي الله، حسبي الله)
عقد قاصي حاجبيه وهو يهدر بها قائلا
(توقفي عن هذا الجنون، ستؤذين نفسك و تؤذين طفلك بهذه الطريقة)
استدارت تيماء على عقبيها و هي تنظر اليه بشراسة صارخة بجنون.

(و أنت! ألم تؤذنا بما يكفي؟، الا تفكر في غيرك مطلقا قبل أن تتصرف؟، الا يوجد بحياتك أي محاور أخرى سوى محور واحد تدور من حوله وهو، قاصي الحكيم، فقط لا غير، بمنتهى الأنانية و الصلف و الغباء)
هتف قاصي منفعلا بغضب.

(ماذا كنت تتوقعين مني؟، أن أتخلى عنك و أتركك لدراستك ووالدك الذي اكتشفت حديثا معنى الأبوة على يديه؟، أم أتخلى عن ابني الذي احتضنته أكثر من ستة أعوام، و كأنه كان مجرد طردا بريديا، أحتفظ به لحين اعادته للقذر الذي لم يقدم له يوما سوى مجرد اسم في شهادة ميلاد بالية، قمت بعمل واحدة مثلها خلال أيام و بثمن بخس، ماذا كنت تتوقعين؟، أخبريني، عن من أتخلى عنك أم عن عمرو؟)
صرخت به تيماء و هي تلوح بكفيها بجنون.

(و هل تظن أنك لم تخسر ثلاثتنا الآن؟، سرعان ما سيتم القبض عليك بعدة تهم، كفيلة بإبقائك في السجن لسنوات طويلة)
صمتت تلتقط أنفاسها، و هي تنظر اليه بيأس، و يدها على جبهتها بعذاب، . ثم لم تلبث أن قالت بأسى.

(كنت دائما تملك وصمة، وصمة من الماضي تعذبك و تؤثر على حياتك و نظرة الجميع لك، لكنها على الأقل لم تكن بيديك، كنت مظلوما لا دخل لك بها، لذا كنت ادافع عنك بحياتي أمام الجميع، أما الآن فأنت تحمل وصمة أخرى، لكن الفرق أنها بيديك، اختطفت و زورت و ستسجن)
كان قاصي ينظر اليها بعينين مظلمتين، بان فيهما الألم، و طال بهما الصمت الى أن قال في النهاية بهدوء
(لقد آلمتني، و تعلمين أنك فعلت).

شعرت تيماء بقرصة في قلبها، نعم لقد فعلت...
لكنها استدارت توليه ظهرها و هي تطرق برأسها رافضة الخضوع لضعف قلبها تجاهه، الا أن قاصي تابع بصوت خافت
(لكنني أقبل بهذا، فلقد آلمتك أكثر، لذا نحن متساويين. )
استدارت تيماء اليه بسرعة و هي تشير بإصبعها بينهما هاتفة
(متساويان! أنا و أنت؟، هل تساوي بين بضعة كلمات مؤلمة مني و بين سنوات من العذاب لم تنتهي حتى يومنا هذا منك!).

كانت تصرخ بكلماتها الأخيرة بكل عنف وشراسة، مما جعل رأس قاصي يتراجع للخلف قليلا وهو ينظر الى وجهها الشاحب و عينيها الحمراوين...
ساد الصمت طويلا بينهما الى أن قال أخيرا بصوت خافت.

(كل ألم تألمته بسببي، لاقى بداخلى صدى أعنف و أفظع، لم تصرخي صرخة في حياتك، الا و صرخها صدري قبلك، لكن هذا هو شكلي و تلك هي طباعي، لا يظهر عليها سوى القسوة و الأنانية، ربما لا أملك غيرهما، أخبرتك أنني شخص لم تعرف روحه سوى القسوة و السواد، فأخبرتني بأنك لا تخشين الظلام)
وقفت تيماء تنظر اليه بحزن يائس، ثم لم تلبث أن فتحت ذراعيها بوهن قبل أن تسقطهما هامسة بعذاب.

(و ما الفائدة الآن؟، سأخسرك في النهاية، سنخسرك كلنا، أنا و سليم و عمرو)
برقت عينا قاصي فجأة، بلمعان غريب، و ظهرت حولهما خطوط جديدة، لم تراها من قبل...
بينما التوت شفتيها بصعوبة، ثم همس بصوت خافت
(كنت متأكدا من أنه صبي، بل أنك لم تنسي الإسم الذي اخترته له منذ سبعة أشهر)
ارتجفت شفتي تيماء بصدمة...
الم يكن قد سألها عن نوع الجنين حتى الآن؟
تلك النظرة في عينيه، كانت تتمنى رؤيتها منذ حوالي أربعة اشهر...

حين كانت تقوم بفحصها الدوري، فأخبرتها الطبيبة أن الجنين صبي، حينها لم تتمالك نفسها من البكاء بقوة أمامها...
البكاء على تلك اللحظة التي أضاعها قاصي، و كانت تعرف كم تعني بالنسبة له...
كانت تتخيل أنها أضاعتها للأبد، لم تظن أن تراها الآن، وهو يسمع للمرة الأولى أن الجنين صبيا...
سليم قاصي الحكيم، كما تمنى دائما...
همست تيماء بحزن و هي تلوح بكفيها.

(نعم إنه صبي يا قاصي، لكنه سيكبر دون أب، مثلي تماما، سيعيد نفس مأساتي)
برقت عينا قاصي بغضب وهو يهتف منفعلا
(إياك و مقارنتي بسالم الرافعي، انظري إلى، لقد قطعت نصف العالم كي أصل اليك، جازفت بكل شيء كي أكون بجوارك أنت و طفلي، حيث تريدين)
هتفت به تيماء بجنون
(و ما الفائدة؟، أخبرني ما الفائدة إن كنت ستسجن في كل الأحوال؟)
اقترب منها قاصي بسرعة، فأمسك بكتفيها بكل قوته، و نظر في عينيها قائلا.

(لن أسجن، و لن أعود، سنبقى هنا معك، ستتابعين دراستك و نحن الى جوارك، سنكون أسرة واحدة، و لن يفرقنا مخلوق)
كانت تيماء تنظر اليه بذهول و كأنها تنظر الى مجنون، ثم قالت بعدم استيعاب
(قاصي أفق، أفق من تلك الغيبوبة، هل أنت واع لما تقول؟، لقد خطفت طفلا و تنوي الإبقاءعليه معك هنا الى الأبد بعيدا عن أمه؟، من تظن نفسك؟ رئيس عصابة؟)
أخذ قاصي نفسا عميقا، قبل أن يقول بثبات.

(سأتدبر أمر ريماس، سأحضرها لتعيش هنا في الوقت المناسب، حين أتأكد من اختيارها لنا و نبذ راجح للأبد، بداخلها لعنة اسمها راجح الرافعي، يتحكم بها كلما رآها و كأنها جارية لديه، حسنا ها أنا تركتها له كي يخلو الجو لهما، لكن الوقت سيمر و بعد حين، ستشعر بأن طفلها لديها أهم من مجرد رجل قذر، حينها سآتي بها الى هنا).

فغرت تيماء شفتيها بذهول و هي تنظر اليه كمن ينظر الى بطل مسرحية ساخرة سوداوية، و ما أن انتهى من كلامه حتى هزت رأسها قليلا، و سعلت كي تنقي حلقها، ثم قالت بصوت أجش ميت
(هل تنوي اعادتها الى عصمتك؟)
ابتسم قاصي ببطىء وهو ينظر الى عينيها القاتمتين، و ضغط كفيه يزداد على كتفيها، ثم قال بهدوء مؤكدا
(لن تكون في عصمتي امرأة أخرى غيرك حتى آخر يوم بعمري، ثقي بهذا).

لم ترتجف روحها هذه المرة و لم يدق قلبها، بل شعرت و كأنها مجرد تمثال حجري عديم الإحساس خاصة و هي تقول بفتور
(طالما أنك لن تعيدها الى عصمتك، فما الذي يجبرها على الموافقة على هذا الإبتزاز؟)
اتسعت عينا قاصي و كأنه ينظر الى فتاة غبية، ثم قال ساخرا بتعجب.

(ما الذي يجبرها؟، انظري حولك يا تيماء، انظري الى البلد هنا، سأحضرها لتحيا حياة منعمة، و نفقاتها كلها مضمونة و شقة لم تكن تحلم بها، و ستكون وصاية عمرو مقسمة بيننا كأي زوجين منفصلين. حينها لن يكون بلاغ الخطف من جهة الأم على الأقل، ستحيا حياة نظيفة راقية، بينما مع راجح أقصى ما ستحصل عليه، هو عقد عرفي ثالث و علاقة حميمية ميتة بقرف، قبل أن يلقي بها و يأخذ ابنها منها، و على الأغلب ستعود للإدمان من جديد، لماذا تظنين أنها كانت متمسكة بزواجنا الصوري اذن كل هذه السنوات؟، لأنني كنت الوحيد الذي قام بحمايتها و معي كانت آمنة تماما).

ساد صمت غريب و تيماء تنظر اليه فاغرة شفتيها، شاحبة الوجه كالأموات، ثم تلوت ببطىء حتى انتزعت نفسها من كفيه الممسكين بكتفيها...
شدد عليها قليلا، الا أنه تركها في النهاية عاقدا حاجبيه وهو ينظر الى وجهها الشاحب و كنزتها التي انزلقت عن كتفيها و سقطت حتى مرفقيها...

لم تدرك كم بدت جميلة في تلك اللحظة، بكل التناقض في صورتها من شعرها الفوضوي المتناثر حول الطوق المسنن، و كتفيها الصغيرتين و عظامهما الهشة البارزة...
و بطنها، تلك التي كانت أجمل ما فيها في هيه اللحظة تحديدا...
لكن عيناها كانتا قصة أخرى، كانتا فاقدتي الروح، لهيبهما منطفىء على غير العادة، و هذا هو ما جعله يفقد الشعور بالراحة...

رفعت تيماء الكنزة لتغطي بها كتفيها ببطىء ثم ضمت جانبيها الى صدرها و كأنها قد شعرت بالبرد فجأة...
و ظلت تحدق في الأرض قليلا، قبل أن ترفع وجهها الشاحب اليه و تسأله بخفوت غامض
(و ماذا عني؟)
اتسعت عينا قاصي ببريق خاطف، ثم لم يلبث أن ضحك بعصبية، وهو يقول.

(ماذا عنك؟، ألم تسمعي كلمة واحدة مما قلت للتو يا مهلكة؟، أنا أسعى لنقل الجميع الى هنا تحديدا كي تتمكني من متابعة دراستك، لن تكوني في حاجة لسالم أو لغيره بعد الآن، أنا فقط من سينفق على دراستك و كل متطلباتك)
ضاقت عينا تيماء قليلا و هي تراقبه من قمة رأسه و حتى أخمص قدميه، و كأنها تلحظ شكله للمرة الأولى منذ دخوله الى الشقة، فضمت الكنزة أكثر و أكثر و كأنها تشعر ببرد جليدي يتسرب الى عظامها الهشة...

لا يزال شعره أطول من المعتاد، و اللحية المهملة، أصبحت لحية منمقة...
لكن لم يكن هذا هو المهم، المهم هو طبيعة ملابسه التي بدت أكثر أناقة و غلوا...
بدا مختلفا تماما، و كأنه رجل يمتلك الكثير...
رجل قادر على الإنفاق على بيتين، و تعليم طفلين، و دراستها هي، و كل هذا في بلاد الغربة...
و قبل أن يرتسم السؤال المبهم في ذهنها، انطبع مباشرة على شفتيها فقالت بصوت ميت
(من أين لك بكل هذا؟).

ساد صمت غريب بينهما و بدا و كأنه قد أجفل قليلا، الا أنه لم يلبث أن قال مبتسما بهدوء خافت
(هذا من فضل ربي)
ارتفع حاجبيها قليلا، ثم قالت بنفس الصوت الميت
(هل تظن نفسك ظريفا؟)
قال قاصي ببساطة وهو يهز كتفيه
(أنا أتكلم بجد، هذا رزق من عند الله، فمن أكون لأرفضه!)
ضمت تيماء شفتيها و هي تعض عليهما، ثم قالت بجمود
(و نعم بالله، اذن ليس هذا نتيجة سرقتك لراجح الرافعي مثلا؟).

عند هذه الكلمات الهادئة منها، تسمر قاصي مكانه، و أسقط قناعه الهادىء، و استمر الصمت الخطير بينهما و كلا منهما ينظر للآخر بنظرات ذات معنى مختلف...
كانت تيماء هادئة، لكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، أما قاصي فكان ينظر اليها نظرات تنذر بالشر...
الى أن قال أخيرا بصوت خافت حذر
(من أين حصلت على هذه المعلومات؟)
شعرت بقلبها يهوي بين قدميها، الا أنها تمالكت نفسها و سألته بصوت يرتجف قليلا
(هل يعني هذا أنها صحيحة؟).

صرخ بها قاصي بنبرة جعلتها تقفز مكانها...
(سألتك من أين لك بمثل هذه المعلومات؟)
هتفت به تيماء بجنون مفاجيء بعد أن فقدت كل أمل به
(حصلت عليها من صاحب الشأن نفسه، من راجح، أتريد أن تعرف كيف؟، لأنه في أثناء اختفائك الماهر، كنت انا أتصل به لأتذلل كي يتنازل عن البلاغ المقدم ضدك، و سمعت منه ما لا يسر).

اتسعت عينا قاصي قليلا، و تحولت ملامحه الى ملامح مجرم، وهو يقترب منها خطوة، فاهتزت قليلا و هي تضع كفها على بطنها و كأنها تحمي طفلها منه...
الا أنها تماسكت ووقفت مكانها بشجاعة، ثم رفعت وجهها لتقول بصوت يرتجف غضبا
(حسنا، قم بإحدى نوبات جنونك، لن أتراجع و لن أمنعك، حطم المكان، اصفعني أيضا كي تشعر بارتياح و اتهمني أنني متآمرة معه، بل أنني متآمرة مع العالم كله ضدك، هيا أنا لا أخافك).

توقف قاصي مكانه وهو يتنفس بسرعة و صعوبة، و نظرت الى قبضتيه اللتين انقبضتا بشدة حتى ابيضت مفاصل أصابعه، الا أنها لم تتراجع و لم تشفق عليه، بل قالت بحدة أكبر
(على الأقل أنت محتجز هنا، لا يمكنك الذهاب لقتله مثلا، لذا سأكون سعيدة جدا و أنا أخبرك بعدد المرات التي تكلمنا فيها)
صرخ قاصي فجأة وهو يندفع اليها رافعا قبضته
(تيماااااااااااء).

حينها فقط انتابها الخوف، فاستدارت على عقبيها و هي تنحني جاثية أرضا، رافعة ذراعها كي تحمي نفسها من بطشه...
هذه الحركة كانت كفيلة بأن تسمره مكانه تماما، و كفه مرتفعة قليلا...
كان كالمجنون في نظراته، و سرعة تنفسه، لكن منظرها أعاد اليه بعض التعقل وهو ينظر الى كفه متسائلا عما يفعل!
أسقط قاصي كفه بذهول وهو يقف مكانه ناظرا اليها، صوت تنفسه المتحشرج كان يصل أذنيها بوضوح، للحظات طويلة بدت دهرا...

الى أن استدار عنها أخيرا وهو يقول بصوت مرتجف
(لن احطم شيئا، لن أقتلك على الرغم من أن كل ذرة في جسدي تأمرني بذلك في هذه اللحظة تحديدا. )
صمت قليلا وهو يلتقط أنفاسه المتحشرجة، ثم قال متابعا بصوت خفيض يرتجف من شدة شراسته
(هل تعلمين كم عانيت كي أبعدك عن هذا الشخص؟)
صمت مجددا وأصابعه تنقبض أكثر و أكثر، ثم قال بصوت اكثر خفوتا و أشد وحشية.

(هل تعلمين مدى رغبته في حرق قلبي؟، وهو يدرك بأن هذا لن يكون الا عن طريقك أنت أولا، ثم عمرو؟)
حينها رفعت تيماء وجهها الشاحب تنظر اليه. ثم نهضت على قدميها ببطىء و نظرت الى ظهره طويلا قبل أن تنفجر مشيرة بعذاب.

(و أنت هل تعلم كم تذللت له كي لا يؤذيك؟، هل تعلم أنني لم أكن يوما لأخضع لسلطان أي رجل سواك؟، و أنني ما كلمته يوما كلمة الا كنت أنت سببها، كل رجاء، كل توسل، له و لغيره، كنت أنت سببه دائما، لم أخفض من رأسي أبدا لمخلوق الا بسببك)
استدار قليلا ينظر اليها بعينين معذبتين، خطيرتين، عيني مجرم، في أعماقهما طفل عاجز...
الى أن قال أخيرا بخفوت.

(هل تعلمين كم كوبا كسرت في غيابك؟، كم جدارا لكمت، و كم مرة تقطعت راحة يداي و أنا أقبض على سكين حاد، محاولا الصبر على فراقك، ملتزما كل ذرة سيطرة أمتلكها كي لا أذهب اليه و أنحر عنقه لأنه كان السبب في سفرك)
كانت تيماء تنظر اليه مرتجفة و دون ارادة منها أخفضت عينيها تنظر الى كفيه، كي تطمئن عليه في حركة غبية...
الا أنها تماسكت و رفعت وجهها اليه و همست بخفوت.

(هل من المفترض أن أكون شاكرة؟، حتى هذه اللحظة أنت لا تفهم، لا تفهم أنني لم أبتعد كي أعاقبك، أو امتثالا لأوامرك، لقد ابتعدت كي تنقذ نفسك مما أنت فيه، دون أن أهب أنا لمساعدتك و الدفاع عنك ككل مرة، دون أن أمسك بك قبل أن تهوي أكثر عن حافة تلك الهوة السوداء بداخلك)
صمتت للحظة بإنفعال، ثم تابعت بإختناق و هي تضغط بطنها بكفها.

(و كي أنجو بطفلي، الشيء الوحيد النقي و الذي لم يتلوث بعد بكل مررت به و ترفض أن تتطهر منه)
تأوه قاصي وهو يحاول الإقتراب منها
(تيماء)
الا أنها رفعت كفها و قالت بصوت أقسى و أكثر صلابة توقفه
(سؤال واحد، هل سرقت راجح فعلا؟)
توقف قاصي مكانه وهو ينظر الى ملامحها الميتة، و عينيها المترجيتين، و شفتيها المرتعشتين رغما عنها...
فقال أخيرا بصوت قاس
(إن كنت قد سرقته، فلماذا لم يقدم بلاغا جديدا ضدي خاصا بهذه الواقعة؟).

ضاقت عينا تيماء بشك و هي تنظر اليه بعدم ارتياح، صحيح، كلامه منطقي...
لماذا لم يقدم راجح شكوى ضده خاصة بهذا الأمر كما فعل بخصوص خطف عمرو؟
بدا الإرتباك و الحيرة عليها...
لكن...
رفعت تيماء وجهها اليه و قالت بصرامة حادة
(فلنعد اذن للسؤال الأول، من أين لك بهذا المال كله؟)
بدا قاصي غريبا وهو ينظر اليها، ثم قال ببساطة
(فلنقل أنني كنت أستحق تعويضا مناسبا لما حدث لي و لأمي، فأخذته من عمران الرافعي).

عقدت تيماء حاجبيها بتوتر، ثم قالت بخفوت
(هل أعطاك تعويضا؟، كيف؟، و متى قابلته من الأساس؟، هل كان هذا برضا منه أم)
ساد صمت طويل بينهما و كل منهما ينظر الى الآخر بتدقيق الى أن فغرت تيماء شفتيها و اتسعت عيناها بذهول، حتى هذه اللحظة كانت تتخيل أن يجيبها ضاحكا بأن كل هذا ما هو الا هراء...
خلال ساعة واحدة، أكتشفت بأنه مزور، خاطف، و سارق، و ماذا بعد؟
رفعت تيماء كفيها الى جبهتها و هي تهمس بارتياع.

(ياللهي! ياللهي!)
اقترب منها قاصي خطوتين وهو يقول بخفوت
(تيماء اهدئي، الأمر ليس بهذا السوء)
الا أنها انتفضت ما أن شعرت بكفه يلامس كتفها فاستدارت قافزة بعيدا عنه و هي تصرخ بجنون
(ابتعد عني، اياك أن تلمسني، اياك، أن تلمسني مطلقا)
و دون أن تنتظر منه ردا، كانت قد اندفعت تجري الى باب الشقة و هي تصرخ...
(أخرج، أخرج من هنا، لا أريد أن أراك).

الا أن قاصي ظل واقفا مكانه وهو ينظر اليها و هي تفتح الباب كي تطرده، ثم قال أخيرا بصوت أجش
(أنت لا تقصدين هذا، و أنا لن أنفعل، سأتحمل ما تمرين به حاليا و أقدر)
صرخت به بعذاب
(و أنا سئمتك، سئمت جنونك و تشوه روحك، أخرج من حياتي للأبد، لا أريدك فيها).

الا أن قاصي كان يقترب منها ببطىء و عيناه على عينيها الباكيتين، الى أن وصل اليها فابعدت وجهها عنه و هي تغمض عينيها المتورمتين، و استمر الصمت بضعة لحظات قبل ان يقول بخفوت
(لا تفعلي هذا بنفسك، أنت ترتجفين و تنتفضين)
لكن تيماء لم ترد عليه، بل ظلت مشيحة بوجهها و هي تبكي بصمت، متشبثة بحافة الباب، ثم قالت أخيرا بصوت آمر عنيف دون أن تنظر اليه
(اخرج)
لم يتحرك قاصي، بل قال بخفوت.

(و ماذا إن لم أفعل؟، هل ستطلبين لي الشرطة؟)
حينها رفعت وجهها اليه، تنظر اليه بعينين متقرحتين، نظرة القهر بهما أبلغ جواب، الا أنها قالت بصوت ميت
(يكفي أن أذكرك بأنها شقة سالم الرافعي، ووجودك هنا غير مرحب به)
أظلمت عينا قاصي أكثر، فعلمت أنها قد أصابت الهدف، لكنه قال في النهاية بصوت غريب وهو يمد كفه اليها.

(تعالي معي، لقد استأجرت لنا شقة رائعة، ربما ليست بفخامة هذه الشقة، الا أنها لطيفة و يكفي أنها بمالي، لقد انتهت صلتنا بسالم الرافعي للأبد منذ هذه اللحظة و لست في حاجة اليه بعد اليوم)
رفعت تيماء عينيها الى عينيه القويتين، ثم قالت بقوة
(بل لست في حاجة لمالك الحرام)
اجفل قاصي قليلا و كأنها قد صفعته، الا أنه تمالك نفسه و قال بخفوت
(مالي الحرام؟)
أطرقت تيماء بوجهها، و هي تنظر بعيدا عنه، ثم قالت بصوت عاجز.

(أخرج)
نظر قاصي اليها طويلا ثم قال بصوت مرتجف
(سأخرج، لكنني لن أتركك، الشقة التي استأجرتها هنا بالقرب منك، و سأكون كظلك الى أن ترضخي و تنتقلي اليها، معي للأبد، لن أحاول غصبك على شيء الآن، كي لا ترهقي أكثر، فأنا عاهدت نفسي الا أؤذيك مجددا)
أفلتت منها ضحكة ساخرة تحمل مرارة العالم، قبل أن تهمس بإختناق
(أخرج)
ابتلع قاصي غصة في حلقه، و رأت عنقه يتحرج بصعوبة حتى شعرت بالشفقة عليه، الا أنه قال بصوت غريب خافت.

(لو تعلمين مدى اشتياقي اليك، لما تجرأت على طردي بعد رحلتي الطويلة اليك)
ثم تحرك بعدها ليخرج، قبل أن يفقد البقية الباقية من سيطرته على نفسه، و رأته يتجاوزها ليخرج أمام عينيها الضائعتين...
شعرت و كأنه سيرحل للأبد، و لن تراه مجددا، على الرغم من تأكيده لها بأنه سيلازمها كظلها...
لكن أشهر الفراق كانت مؤلمة، موجعة كمرض خبيث يسري في الجسد، ينهش كل ما يطاله...
و فجأة و كأنها تشاهد امرأة أخرى، تتحرك بجسدها...

وجدت نفسها تمسك بذراعه، لتجذبه اليها و هي تهتف بعذاب
(قاصي، لا تتركني، لن أستطيع فعل هذا مجددا)
و قبل أن يستوعب ما يحدث كانت قد استطالت على أطراف أصابعها، تودعه كل حياتها في قبلة ذات نشيج حاد...
قبلة الحياة، و التي لم يستغرق منه الأمر أكثر من لحظة كي يتقبلها بكرم وهو يتأوه ليضمها اليه، يرفعها عن الأرض...
و بقدمه، يغلق باب الشقة بعنف...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة